مجلة العربي منارة الفكر والثقافة العربية

وإذ أتحدث، وأنا من الجيل الذي بدأ مع «العربي الصغير» في منتصف ستينيات القرن الماضي الذين عايشوا مجلة العربي في رحلتها عبر عقود من الزمان، والذين ساهمت «العربي» في إثراء ثقافتهم وهم من يدينون لها بالكثير من خزين أفكارهم وتوجهات فكرهم، جاءت فكرة ملف شهادات في ستينية العربي لتدفعني للتأمل في رحلتي معها عبر الزمان والمكان، ومر شريط الأحداث يتهادى، مشاهد وذكريات، فأتذكر محطاتي وانطباعاتي عن هذه الرحلة واقفاً على ضفاف موانئها، متأملاً في امتداد أفقها البعيد، فجاء هذا المقال ليحكي هذه الشهادة.
ظلت مجلة العربي، عبر ستة عقود من عمرها المديد، حاضرة بقوة على امتداد الوطن العربي، وهي - أجزم - أنها المجلة الوحيدة في الوطن العربي، التي لها جمهورها المواظب على اقتنائها بشغف، ليقرأ موسوعة «العربي» الشهرية، من الغلاف إلى الغلاف، ثم لتأخذ مكانها مع شقيقاتها في ركن عزيز من مكتبته، ليعود إليها كمصدر معرفي موثوق وسجلّ حيّ لحقبة مهمة من الزمن العربي المعاصر.
وأعتقد أن أي بيت على امتداد الوطن العربي فيه من يقرأ، لم يخلُ من عدد أو أعداد منها مهما كانت ثقافاتهم، وقد لاحظت أنها دومًا لها ركن في عشرات الأكشاك والمكتبات على امتداد عواصم ومدن العالم العربي تتراكم عليه منها، عشرات المجلات، وإذا تأخرنا في اقتنائها فإنها تنفد، لإحساس مقتنيها بأنها ركن أساس من أركان الثقافة العربية والعالمية الرصينة والراقية.
أصبحت «العربي» جزءاً من الذوق والوجدان، لشريحة كبيرة من الوطن العربي لا يستغنون عن زاد ثقافي شهري، ويتشوقون إليه، يحبونه، ويأنسون إليه كغناء أم كلثوم وتغريد فيروز. رافقوا رحلتها شبابًا، ثم آباءً، فأساتذة ومثقفين، ونقلوا ذلك إلى أجيال من أبنائهم وطلبتهم، لا بل إن الجيل الجديد الذي يعاصر «الميديا» اليوم، يقبل عليها بشغف، ولا يتأتى ذلك إلا من كونها تعبّر وتلمس بحق أعماق الوجدان العربي، ولم تكن يومًا، أبدًا، موضة لتضيء ثم لتنطفئ، بل استمرت منارة يهتدي بها جمهور عريض من العرب، عاشت معه وشكّلت وجدانه، بزاد من الثقافة الرصينة تناغم مع الوجدان العربي، الأصيل العميق الامتداد في النفس العربية، برسالة صادقة؛ أن يكون حاضرها امتدادًا لماضيها التليد، ولتحيي الطموح في النفس العربية من خلال عرض نفائس ثقافة الماضي برؤية معاصرة، ومن خلال إضاءات خيرة مفكري وكتّاب وعلماء الوطن العربي في الحاضر، لتصنع مستقبلاً زاهرًا لها بسلاح الثقافة والفكر.
ورغم التغيرات التي عصفت بالعالم، والعالم العربي، وما أصاب وسائل الإعلام المكتوبة من تراجع، أمام الانتشار الواسع للقنوات الفضائية، ثم الإنترنت وغيرها من أدوات التواصل المباشر، فإن مجلة العربي احتفظت بمكانة خاصة في نفوس كثيرين من أبناء الأمة العربية. في هذه الشهادة محاولة للتفسير؛ كيف بقيت أثيرة لدى جمهورها طوال تلك العقود، ولعل في قلب الحقيقة أنها رسالة تنوير وإيمان بأن الثقافة والفكر هما تذوق رائع لجماليات الحياة، ورقيّ بالإنسان، وأعظم استثمار للأمة به، وهكذا تصنع حضارة الأمم، وهذا ما أحسته جماهير هذه المجلة، فالتصقت بها.
رسالة المجلة
منذ بدايتها، كانت رسالة المجلة أن الفكر والثقافة أهم أسباب نهضة الأمم، وسر نجاحها، لتكون أمة متحضرة، بكل المعايير، علميًا وصناعًيا واجتماعيًا.
إن الإيمان بأن الثقافة والفكر هما روح النهضة، كان نظرة ثاقبة تستشرف أفق المستقبل، ورأينا أمامنا من تجارب العالم المتقدم أن دولًا انهارت تمامًا، بعد أن خسرت كل شيء، بفعل تبني ثقافة خاطئة، كألمانيا واليابان. وكيف أعادت بناء نفسها، عندما غيّرت فكرها وثقافتها لتصبح مثالاً للأمم الناجحة.
وعلى صعيد الفرد، الذي هو لبنة المجتمع الأساسية، فقد اختلفت المدارس النفسية عن الدافع الرئيس المحرك لسلوك الإنسان، وبعد جدال طويل استمر عقودًا، تشير آخر الدراسات النفسية إلى أن الفكر والثقافة، هما محرك الإنسان الأساس يسير به نحو القمة، أو يهبط به إلى القاع.
واختصر ذلك بمبدأ وقانون عام يقول: «أنتَ ما أنتَ تفكر فيه». هكذا يكون الفكر والثقافة محور بناء الفرد والمجتمع.
في ملف ذكرى التأسيس كتب كثيرون عن ظروف التأسيس، وفي المقال الرائع للأستاذ سعود عبدالعزيز البابطين، في العدد 717 )أغسطس 2018) أنارنا الشاعر والمفكر الكبير عن ظروف تأسيس المجلة ممن عاصر ذلك الحدث والجهود الكبيرة التي بذلت لتحقيق ذلك، ثم يشير المقال الذي يشرح إرهاصات التأسيس إلى اختيار هيئة تحرير المجلة، والعاملين فيها من البارزين من الدول العربية، واختيار د. أحمد زكي ليكون أول رئيس تحرير لها، وكان اختيارًا موفقًا تمامًا ليحقق أهداف تأسيس المجلة.
المرحوم د. أحمد زكي
حددنا أن من أسباب استمرار مجلة العربي، وكونها في نظرنا منارة الفكر والثقافة في الوطن العربي وطوال عقود، وانتشارها على امتداد الوطن العربي، عظمة رسالة المجلة، والرؤية الواضحة، والجهد الصادق للقائمين على تأسيسها، ثم حُسن اختيار العاملين، وعلى رأسهم، د. أحمد زكي.
د. زكي واحد من أكبر القامات العلمية والأدبية في الوطن العربي، إضافة إلى أنه أحد معاصري النهضة المصرية، منذ بداية القرن العشرين، وزامل روادها وساهم فيها بفعالية، وقد جاء للمجلة حاملاً كل تاريخه الحافل بعظيم الإنجازات، مرحبًا بالفرصة التاريخية التي جاءته على موعد، وهو من بلغ من العلم ما بلغ، ليوصل الفكر والثقافة على امتداد الوطن العربي، وهو أكثر العارفين بقيمتها، وهنا لابد من وقفة قصيرة مع تاريخه وإنجازاته.
ولد د. أحمد زكي عام 1894 في مدينة السويس، وكان من الأوائل على القطر المصري في الشهادة الإعدادية )المتوسطة)، ثم تخرّج في مدرسة المعلمين عام 1914 وعيّن في المدرسة السعيدية، ليزامل من سيصبحون كبار مفكري مصر، العقاد والمازني وأحمد حسن الزيات، لتصقل مواهبه الأدبية.
ولم يكتف بالأدب، بل اتجه ليدرس الكيمياء في إنجلترا عام 1919، وهناك زامل من سيصبح واحداً من أكبر علماء مصر والعالم، وهو د. علي مصطفى مشرّفة، وارتبط معه بصداقة قوية، ليتعاونا مستقبلاً في بناء كثير من أوائل المشاريع العلمية في مصر والوطن العربي.
موسوعة ثقافية
لم تمض إلا خمس سنوات، حتى حصل على البكالوريوس، ودكتوراه الفلسفة في الكيمياء )في وقت قياسي( عام 1924، ثم حصل على دكتوراه العلوم في الكيمياء )أعلى شهادة علمية في أي اختصاص( عام 1929، ليعود إلى مصر ويعمل في الجامعة، وليحصل على درجة الأستاذية عام 1930، ولعل أهم أعماله الكبرى تأسيس المجمع المصري للثقافة العلمية 1929، والجمعية الكيميائية المصرية عام 1938، والمركز القومي للبحوث عام 1947.
علمًا بأنه ظل يتابع ما أسسه لفترات طويلة، حتى أصبحت مؤسسات يشار إليها بالبنان، واستمرت إلى اليوم. كما عيّن رئيسًا لجامعة القاهرة بعد ثورة يوليو 1952 حتى تقاعده، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة العربي عام 1958 حتى وفاته - رحمه الله - عام 1975.
كان إضافة إلى كل ذلك عضوًا في مجامع اللغة العربية في القاهرة وبغداد ودمشق.
من هنا نرى أنه صاغ المستقبل العلمي لمصر، الدولة الرائدة عربيًا، وبالتأكيد نعرف جميعًا أن الدول العربية جميعها قدّرت الريادة المصرية، وسارت على نهجها في المناحي العلمية، فيكون تأثيره قد امتد إلى المساهمة في صياغة وبناء الجانب العلمي العربي، كما أنه - رحمه الله - كان له باع طويل في الإنتاج الأدبي، إضافة إلى موسوعيته الثقافية العامة.
إمكانات هائلة
بهذه الإمكانات الهائلة لهذا الرجل، اختارت دولة الكويت هذا العملاق ليدير ويصوغ رسالة محبة واعتزاز وتنوير إلى الوطن العربي على صفحات مجلة العربي، التي ظل سناها متوهجًا إلى اليوم، رغم تبدّل الأحوال وتغيّر الأجيال، علمًا بأن هذا الرجل سبق أن رأس تحرير مجلة الهلال العريقة (1946 - 1950). لم يبحث يومًا عن الشهرة، كما تميز باعتدال مواقفه ومبدئيتها. وكان وفيًّا للعروبة والإسلام، وعمل الكثير في خدمتهما.
ولعل كثيرين في الوطن العربي ممن تابعوا مسلسل «رجل من هذا الزمان» للمخرجة المتميزة والمبدعة إنعام محمد علي، الذي تناول سيرة حياة العالِم المصري العالمي الكبير علي مشرفة، حيث يرينا المسلسل أن صديقه القريب كان د. أحمد زكي. وبالتأكيد لم ينتبه كثيرون إلى أن هذا الصديق هو بعينه د. أحمد زكي صاحب الإنجازات العلمية الكبرى، حيث شاهدنا نحن العارفين بهذا الرجل، في لقطات قليلة، مدى وفاء هذا الرجل لصديقه، وكم كانت كبيرة هي دماثة أخلاقه، وحكمته، وبُعد نظره.
ومن منبر مجلة العربي الغراء أدعو وأتمنى أن تتناول المخرجة المبدعة إنعام محمد علي سيرة د. أحمد زكي في مسلسل تلفزيوني، فمن الضروري أن يطلع المشاهد العربي على إنجازاته وحياته المبدعة بالتأكيد، ليرى حياة ومنجزات غاية في الثراء لرجل من أعظم رجال الأمة وأكثرهم تأثيرًا في جوانبها العلمية والثقافية.
منارة الثقافة والفكر العربي
بعد توافر الإمكانات والخبرة التي تحدثنا عنها، من إمكانات مادية وكادر على أعلى درجة من الخبرة، أظهرت مجلة العربي كأرقى مجلة عربية ظهرت في الوطن العربي، سواء في المحتوى الفكري والثقافي الذي أخذ الطابع الموسوعي، أو الجانب الفني، حتى أنها تناظر، لا بل تتفوق بمحتواها الفكري وأسلوب إخراجها على المجلات الأجنبية العالمية، كالريدر دايجست، أو الإيكونومست لايف، أو التايمز.
وتلقت المجلة أكبر احترام وتقدير ومحبة من قرائها، الذين فتحت المجال لهم ليدلوا بآرائهم، أو ما يسمى الـ «فيد باك» )التغذية الراجعة).
جلبت المجلة انتباه القرّاء بطريقة إخراجها وألوانها الطبيعية، باستخدام أرقى مكائن الطباعة الملونة والطباعة على الورق المشمع، مع الاحتفاظ بسعر لا يتجاوز ثمن أبسط وجبة لأي مواطن في أي بلد عربي.
وثبتت الأسعار لكل الدول العربية على الغلاف الخارجي للمجلة، الذي كان دومًا جذابًا ومعبّرًا وحضاريًا حسب الاستطلاع الشهري للمجلة.
وهكذا وصلت المجلة إلى كل أصقاع الوطن العربي. وفي خلال بضع سنوات اجتاز توزيع المجلة 120 ألف نسخة.
وإذا عرفنا أن المجلة كانت تتداول من صغير الأسرة إلى كبيرها وفي المكتبات والمدارس، فإن قراءها سيعدون بالملايين.
من ناحية الفهرسة والتبويب، كان رائعًا ورياديًا لموسوعية مواد المجلة، فاتبعت المجلة نظامًا يشبه نظام التبويب في المجلات العلمية، حيث يجد القارئ ضالته، ويعطي لطيف واسع من الكتّاب مساحات تدعوهم وتشجعهم على الكتابة.
أرقى ألوان المعرفة
لم تقتصر المجلة على كتّاب معينين، كما يفعل كثير من المجلات. وفي رأيي أن هذه نقطة في منتهى الأهمية، بحيث أصبح لها آلاف من الكتّاب، وبالذات من الأكاديميين، ليرفدوا المجلة بكتاباتهم لتوسّع الطيف العلمي والفكري والثقافي للمجلة.
وهكذا قدمت المجلة الفرصة لعدد يتزايد من الكتّاب جيلاً بعد جيل. إن ولادة الكاتب في حد ذاتها إضافة غنية وتطور فكري لأي أمة.
لم تهتم المجلة بالأحداث العابرة، بل اهتمت بإيصال أرقى ألوان الفكر والفلسفة والتاريخ والاجتماع وعلم النفس والأدب والمعرفة العلمية والتراث العربي والإسلامي بكل الثراء الهائل الذي يمثّله من خلال الكتّاب العرب الملتزمين بأمانة القلم وشرف الكلمة والموقف.
كذلك اهتمت بشتى العلوم الطبيعية والطب والأسرة والمجتمع، والآداب العربية والعالمية من شعر وقصة ونقد، وفتحت الأبواب لكل المثقفين، لكن كان الشرط الموضوعية بأعلى درجاتها، مع سلامة اللغة والأسلوب، حيث تصل فكرة المقال إلى المثقف المتوسط، كما تصل إلى ذوي الثقافة العالية. واشترطت أصالة الفكرة ومدى خدمتها للمشروع الثقافي.
جامعة مفتوحة
إن الإلمام بكل ما قدمته «العربي» لا يمكن أن يحصر، فحجمه كبير جدًا، فهو انعكاس لفكر وثقافة أمة، وهذا هو أعظم ما أنجزته «العربي» كمنارة للفكر والثقافة، ولكن أختصر القول بأنها كانت لجمهورها العريض جامعة مفتوحة رفعت من المستوى الثقافي والعلمي لملايين القرّاء العرب، وساهمت بجدية في خلق مثقف عربي وكاتب عربي أثرت في حياته واختياراته المقبلة، واستحقت بجدارة أن تعترف بها «اليونسكو» مصدرًا أساسيًا للفكر والثقافة العربية.
وكانت من أسباب توجّه طائفة كبيرة من الطيف العربي نحو متابعة دراساتهم الأكاديمية، بما منحتهم من قاعدة ثقافية أساسية، شكلت نقطة انطلاق لهم نحو مستقبل واعد.
لقد شجعت المجلة المثقف العربي على الالتحاق بركب العلم المعاصر، منورة فكره، ومعززة فيه اعتزازه بتراثه مع الاهتمام بالمعاصرة والانفتاح على العالم. ومن خلال الموسوعة التي تراكمت عددًا فوق عدد، أصبحت مرجعًا لقرّائها في كل ما يعنّ لهم، بل استمر تأثيرها في أجيال العرب إلى اليوم مصدرًا ثريًا للفكر والثقافة.
واستطاعت أن تطور كل مواضيعها لتكون معاصرة تبعًا لما تتطور إليه الحياة، ووقفت ناقدة لكل الظواهر السلبية التي طفت كالزبد على الأمة من أيديولوجيات مسمومة من خلال ضمير كتّابها العرب.
لقد كان د. أحمد زكي ومن تبعه من رؤساء التحرير الأفاضل، الذين تعاقبوا على مجلة العربي، من قامات الوطن العربي الكبرى في الفكر والثقافة، مدركين عِظَم الأمانة التي يحملونها، عاشوا هواجس أمتهم ونصحوا لها. وأعطوا وقتهم وحياتهم كلها حتى آخر لحظة، كي تستمر المجلة في أداء رسالتها التنويرية، ولتبقى منارة للفكر والثقافة العربية ■