داود عبدالسيـد حكيم السينما العربية

داود عبدالسيـد حكيم السينما العربية

   يتميز المخرج السينمائي داود عبدالسيد بحساسية فنية خاصة، جعلته واحدًا من كبار المخرجين، وعلاّمة من علامات السينما المصرية، بما تطرحه أعماله من رؤى شديدة الخصوصية؛ لاسيما في إبداع الصورة البصرية ومكوناتها التشكيلية من ناحية؛ والأفكار والرؤى الفلسفية التي تحملها شخصياته الفيلمية من ناحية أخرى. وهو يتكئ على هذين البعدين في التعبير عن هواجس وأفكار فنية غير مسبوقة في الفن السابع، ويبدو الفيلم السينمائي لديه كرواية أدبية رصينة أو لوحة تشكيلية فريدة، لا تتكشف من المطالعة الأولى.

  لفتَ داود عبدالسيد الأنظار بفيلمه الأول «الصعاليك» (1985)، وحاز عنه جوائز عدة من «جمعية الفيلم» بالقاهرة، ويعتبر فيلمه الثاني «الكيت كات» (1991) علامة فارقة في مسيرته الفنية، حيث استطاع أن يغوص داخل حياة رجل «ضرير» يعشق الحياة ويتمسك بالبساطة والتلقائية مثل طفل صغير، وقد ارتبط الجمهور بشخصية «الشيخ حسني»، التي أصبحت أيقونة من أيقونات السينما المصرية، وحقق الفيلم 15 جائزة محلية ودولية. وقد تم اختيار ثلاثة من أفلامه ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في ذاكرة السينما العربية، التي أعلنت في دبي عام 2013، وهي: «الكيت كات»، و«أرض الخوف»، و«رسائل البحر»، وحازت أفلامه عديدًا من الجوائز والتكريمات في المهرجانات الدولية. وكان قد أخرج في السبعينيات عدة أفلام تسجيلية، منها «وصية رجل حكيم» (1976)، و«العمل في الحقل» (1979) قبل أن يتفرغ لكتابة وإخراج الأفلام الروائية الطويلة، التي ارتكزت بشكل كبير على الخلاص، أو التوق إلى حياة مغايرة. 
   وداود عبدالسيد حكيم السينما العربية بلا منازع، فأفلامه تغوص في نفوس الناس من خلال التأمل الفلسفي للبشر، والتركيز على توْقهم لحياة أخرى، عبر رحلة ما يقومون بها، ثم التركيز عليهم خلال رحلتهم/ حياتهم، التي تاقوا إليها، وهي عادة تكون مغايرة للنمط الذي كانوا يعيشونه، وهو يقوم بكتابة أفلامه بنفسه، عدا «الكيت كات»، و«سارق الفرح» الذي كتب لهما السيناريو، وهما عن رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان، وقصة «سارق الفرح» لخيري شلبي، و«أرض الأحلام» من تأليف هاني فوزي. 
   منذ فيلم «الكيت كات»، أصبح جمهور السينما ينتظر أفلام داود عبدالسيد، الذي عُرف بقلة أعماله، إذ لم يقدم طوال 35 عامًا سوى تسعة أفلام فقط، تميز أغلبها باختلافٍ واضح مع السينما السائدة، فجاءت معبّرة عن رؤية متعمقة في الطرح، وتوظيف خاص للغة السينمائية، فهو يعتمد على الصورة والموسيقى التصويرية وتكثيف اللغة المنطوقة في الحوار، ويحقق تشكيلًا بصريًا مختلفًا لا نلمسه إلا بأعماله، حيث تُعرف أفلامه من الصورة، والتشكيل، والتكوين، الذي يصنعه بتجليات مختلفة، وبفرادة فنية مغايرة، من خلال التركيز على رموز، ودلالات، ومفردات، وعلاقات إنسانية خاصة بشخصياته، ما يجعل المشاهد يدرك أنه مخرج العمل إذا لم يذكر اسمه على التتر؛ فحرصه على التجديد والإبداع جعله صاحب رؤية لها خصوصيتها في التعبير حتى بالكلمة المنطوقة.
 
حياة مختلفة
  ليس هذا ما يميز أعمال داود عبدالسيد عن سواها؛ فهناك مزيج عفوي تتسم به شخصيات أفلامه، مثل العلاقة بالآخر، والحنين، والطموح أو التوق الذي يشكل رغبة ملحّة إلى حياة أخرى مختلفة، تكون أكثر فاعلية؛ ذلك أن شخصياته تبحث دائمًا عن ذواتها وكينونتها، وعن علاقات أكثر دفئًا وألفة، بعيدًا عن تلك الحياة المرسومة لها، أيْ حياة تختارها هي بوعيها وحدسها، فتعيشها بكل ما بها، وتتفاعل معها وتصبح حياتها الحقيقية وليست الاستثناء. 
   ربما لذلك تبدو شخصياته متمردة على واقعها الشخصي... لم يعشْ «الشيخ حسني» حياته اليومية بتفاصيلها كرجل ضرير، فيتعامل في أغلب المواقف كمبصر، منتصرًا على عجزه، وليس أدل على ذلك من المشهد الذي يجرّ فيه عربة عليها جثمان عم مجاهد، وفي فيلم «رسائل البحر» (2010) يسمع «يحيى» نكتة عن رجل متلعثم بلا أدنى مشكلة، بعد أن ترك المدينة كلها بسبب حالة التلعثم التي تصيبه وتجعل بعضهم يتهكم عليه، ويرفض صديقه (محمد لطفي) إجراء العملية لأنها ستؤثر على ذاكرته، وهكذا نرى أغلب الشخصيات تهزم اليأس والإحباط والعجز، وتنتصر للحياة.      
   هذا التمرّد هو ما يدفع الشخصيات إلى السفر والترحال للبحث عن الحياة التي تطمح إليها، ويأخذ «السفر» معنى أعمق في هذا السياق، فلا يكون بالضرورة انتقالًا إلى مكان آخر، كما في «رسائل البحر»، و«قدرات غير عادية»؛ إنما يكون «سفرًا» داخل النفس، أو داخل عوالم أخرى كما في «أرض الأحلام»، و«أرض الخوف»، و«مواطن ومخبر وحرامي»، و«الكيت كات»، وأيضًا «البحث عن سيد مرزوق» (1991) الذي عبّر عن رحلة رمزية وموضوعية لاكتشاف العالم واكتشاف الآخر، واكتشاف حالة التشتت التي يواجهها الإنسان أمام ركام غريب من النماذج والصراعات.

رحلة الشخصيات وتحولاتها الإنسانية
   تقوم الشخصيات بهذه الرحلة، بحثًا عن حياة أكثر فاعلية وألفة، من خلال تحولات إنسانية تمر بها الشخصيات المحورية، غالبًا، كما في أفلام «الصعاليك»، و«الكيت كات»، و«أرض الأحلام»، وغيرها، ففي «الصعاليك»، يقرر الصديقان مرسي وصلاح (نور الشريف، ومحمود عبدالعزيز)، مغادرة حياة التشرد، مُتكئين على عملية واحدة في تجارة المخدرات، ينتقلان بعدها إلى حياة الثراء كرجال أعمال، وفي «أرض الأحلام» (1993) تسعى نرجس (فاتن حمامة) إلى الهجرة، أي إلى رحلة تتبدل فيها حياتها، لكنها تتعرف على الساحر (يحيى الفخراني) وتدخل إلى عالمه ليكون هذا العالم هو رحلتها الحقيقية، بينما تكون الرحلة في «سارق الفرح» (1995) تقليدية، وفي «أرض الخوف» تكون الرحلة نفسية، فتتحول شخصية الضابط - رجل القانون - إلى شخصية تاجر مخدرات خارج على القانون. 
   واذا توقفنا ــ على سبيل المثال ــ عند الأفلام الأربعة الأخيرة لعبدالسيد، وهي: «أرض الخوف»، و«مواطن ومخبر وحرامي»، و«رسائل البحر»، و«قدرات غير عادية»، سنجد وضوحًا لفكرة «الرحلة» بمفهومها الأعمق لدى كثير من الشخصيات، ففي الرحلة قد يكون خلاصها، ويتضح ذلك في الفيلمين الأخيرين، حيث يقوم آسر ياسين في «رسائل البحر»، وخالد أبو النجا في «قدرات غير عادية»، برحلة إلى الإسكندرية، الأول بدافع الحنين، والآخر للاستجمام والبحث عن القدرات غير العادية، لكنهما يستمران في رحلتهما ويعيشان حياتهما بصورة أعمق. 
   يقوم ضابط الشرطة أبو دبورة (أحمد زكي) في فيلم «أرض الخوف» (2000) برحلة إلى عالم الجريمة بناء على تعليمات رئيسه في العمل، فيتخفّى في شخصية تاجر مخدرات من أجل الوصول إلى الكبار المؤثرين في هذا العالم، وتكون رحلته إلى حياة مغايرة، من أجل خدمة الوطن؛ فيمارس كل متطلبات شخصية زعيم العصابة من قتل ونهب وتجارة، وتنقله هذه المأمورية/الرحلة إلى عالم آخر مختلف. الرحلة في «أرض الخوف»، و«البحث عن سيد مرزوق» وفي كثير من أفلام عبدالسيد، هي رحلة لاكتشاف النفس، واكتشاف الآخر وعالمه.
   في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» (2001)، تتحرك حياة سليم (خالد أبوالنجا) من السكون والرتابة إلى التفاعل والدفء والحيوية مع معرفته بالمخبر فتحي عبدالغفور (صلاح عبدالله)، والحرامي شريف المرجوشي (شعبان عبدالرحيم)، والخادمة (هند صبري) لتتجلى حياة أخرى، أكثر دفئًا وإيجابية، يعيشها كل منهم بمعرفة الآخر. بما يشير إلى معنى التكامل الإنساني الذي يفضي إلى السعادة وينتج عن علاقات حقيقية، بعيدًا عن الصراعات والكراهية، وهي معاني تحضر بقوة في كثير من الأفلام. 
   
تكامل وتسامح
وعلى الرغم من أن أحداث الفيلم ارتكزت حول السرقة، والمال، والحب، والمرأة، والصداقة،... إلخ، فلا نجد أية صراعات أو كراهية بين الشخصيات، بل تتحول العلاقة بينهم إلى تفاهم وصداقة، ذلك أن رؤية عبدالسيد تنادي دائمًا بالتكامل والتسامح، فالمرجوشي الذي فقأت عينه، استطاع أن يتسامح مع سليم، وتنشأ بينهما صداقة حقيقية، ويحفل الفيلم بكثير من المواقف المتشابكة التي تفضي بالضرورة إلى مزيد من الصراعات، لكنها في الفيلم تؤدي إلى مزيد من الارتباط.     
   لم يألف آسر ياسين في «رسائل البحر» الحياة والعلاقات في القاهرة، فيذهب إلى الإسكندرية ويستعيد بعض علاقاته القديمة، وينجح في تكوين علاقات جديدة، وتتحقق له في هذه الرحلة حياة أخرى لم يعشها، فيستقر وتصبح حياته الجديدة هي الأساس. كذلك قابيل (محمد لطفي) الذي يفضل العيش بمرض يهدد حياته على أن يعيش بلا ذاكرة، فالذاكرة بالنسبة له هي الحياة. وأيضًا نورا (بسمة)، التي تعيش في الهامش حياة أخرى مختلفة. وفي فيلم «قدرات غير عادية» (2015) يقوم خالد أبو النجا بإجازة/ رحلة إلى الإسكندرية، للاستجمام والبحث عن أصحاب القدرات غير العادية، فيستمر ويسعد في حياته الجديدة وتصبح هي حياته الأساسية، ولا يطيق الابتعاد عنها. 
   وتبدو فكرة القدرات غير العادية في حب الحياة والتمسك بها، بدءًا من الطفلة فريدة (مريم تامر) وحتى جميع أفراد البنسيون (محمود الجندي، حسن كامي، أحمد كمال، أكرم الشرقاوي، وغيرهم)، فنجدهم جميعا يرتبطون بالفن والإبداع، وتتوافر القدرات غير العادية في الجميع بحبهم للحياة وارتباطهم ببعضهم البعض. وحتى بعد غلق البنسيون، وعودة «يحيى» مرة أخرى ليجد الجميع وكأنهم على موعد مع الحياة مجددًا، أي الحياة بتفاعلاتها وعلاقاتها ودفئها الإنساني فالجميع يملكون نفس الإحساس بحب الحياة.

إشكالية الصراعات المكرّسة     
   لا يهتم داود عبدالسيد في أفلامه بالصراعات المألوفة، كصراع المال، أو السياسة، أو الكراهية والانتقام... مثلًا؛ فهواجس الشخصيات مختلفة والطموح غير تقليدي، والصراع دائمًا مع النفس وليس مع الآخر، لأن جميع الشخصيات تتجاوز كافة أشكال الصراع مع الآخر ولا تهجس إلا بواقعها هي وما تحياه في اللحظة الراهنة، أي أنها لا تعبأ إلا بالحياة التي تبحث عنها وعن كينونتها فيها، وهي حياة مختلفة عن حياة البشر العاديين، التي تزدحم بالضغوط والأعباء والصراعات، وذلك باستثناء فيلم «الصعاليك» الذي يقوم على قصة صعود، و«أرض الخوف»، لأنه يدور في فلك مختلف، ويرصد العالم السري لأباطرة المخدرات.  
  الشخصيات الرئيسة لا تدخل - غالبًا - في تحديات مع الآخر، أيا كان هذا الآخر، الشيخ حسني أو الرجل الضرير (محمود عبدالعزيز) في فيلم «الكيت كات» لا يدخل في تحدٍ أو صراع مع المعلم صاحب البيت، الذي يريد الحصول على الدكان، فيتعمد مضايقته وتهديده، ولا يكون للشيخ حسني رد فعل سوى الموافقة والتنازل، بينما يظل محتفظًا بصدقه الطفولي وعبثه المستمر في الركض بالدراجة النارية في الحارة الضيقة رغم افتقاده للبصر، والثرثرة بجوار الميكروفون والبوح بأسرار ناس الحارة وإعلان فضائحهم. 
   الشخصيات متصالحة مع نفسها ومع العالم، ومتسامحة إلى أبعد مدى، فعلى الرغم من الاختلافات العديدة بين يحيى (خالد أبو النجا) وبين المسؤول «عمر البنهاوي» (عباس أبو الحسن) وزواج الأخير من نجلاء بدر في آخر أفلامه، فإن خالد أبو النجا لم يقاطعه واستمر في علاقته به، كذلك التنكيل والتعذيب الذي ذاقته الخادمة (هند صبري) على يد عبدالغفور (صلاح عبدالله) في «مواطن ومخبر وحرامي»، ذهب أثره من ذاكرتها.
   وفكرة السلطة الغاشمة، موجودة في كثير من الأفلام، بما يكشف عن توجه فني بالغ الخصوصية، يعبّر عن طبيعة المرحلة وتجلياتها، فما حدث مع «سليم» بمخفر الشرطة في «مواطن ومخبر وحرامي»، وما تعرضت له الخادمة (هند صبري) على يد المخبر من تعذيب وضرب وحرق في الفيلم نفسه، يكشف عن مدى الفساد والجبروت الذي يعانيه المواطن على يد السلطة، وفي فيلم «قدرات غير عادية» يؤدي استخدام الضابط (عمر البنهاوي) للطفلة واستفادته من قدراتها في استجوابٍ المتهمين، إلى إصابتها بمرض نفسي، وفي فيلم «البحث عن سيد مرزوق» يكيل الضابط بمكيالين بدلاً من أن ينحاز إلى الحق، وفي «أرض الخوف» يرفض الضابط (عزت أبو عوف) الوقوف مع الحق وإنقاذ زميله وينحاز إلى إحساسه الحاقد.
   هناك معانٍ أساسية لا تغيب عن أفلام داود عبدالسيد، وتشكل عالمه الأثير الذي تقوم عليه أغلب أعماله الفنية، أهمها: المكان، البحر، الشخصيات، الأسماء ورموزها الدلالية، الارتباط بالأدب والفن، نتوقف سريعًا عندها لنستوضح أثرها الفني في معمار الفيلم الروائي لديه، وأثرها على التطور الدرامي وبناء الشخصيات. 

السينما... وفن «المكان» عند عبدالسيد 
   إذا كانت «السينما هي فن المكان» كما عبّر موريس شيرر، الذي أوضح أن «المكان» هو الشكل العام الجوهري للحساسية في السينما، باعتبارها فنًا بصريًا، فإن المكان في أفلام عبدالسيد يتميز بحضور خاص وسمات مختلفة، حيث تتطور «الأحداث» عندما يتضافر «المكان» مع تطور «الشخصية»، لاسيما عندما يكون المكان هو البحر المتوسط ومدينة الإسكندرية، كما في أفلام «الصعاليك»، و«رسائل البحر»، و«قدرات غير عادية»، فيتغير الإيقاع الدرامي وتتبدل أحوال الشخصيات كلما انتقل الحدث إلى الإسكندرية وإلى البحر المتوسط. 
   أحيانًا يكون المكان «نهر النيل» والأحياء القاهرية القريبة، كما في فيلم «الكيت كات»، ويكون الفراغ أو البراح في الميناء كما في «الصعاليك» أو سطح البيت في الحي الشعبي في «سارق الفرح»، إلا أن الإسكندرية تشكل السمة المكانية الأبرز، ولا يوجد في أعماله المكان الضيق المحدد الأبعاد كـ «البيت» مثلًا، فهو مكان هامشي، لا يلجأ إليه إلا للضرورة. والبحر، يعني الحياة، والحب، والعلاقات العميقة، والحنين، ويعني المكان والمرأة، ولذلك فإن «رسائل البحر» هي فكرة رمزية ودعوة للحياة والحب، كذلك فيلم «قدرات غير عادية» الذي يتمحور حول القدرة على حب الحياة، وحب الناس والارتباط بهم، والدليل أن جميع النزلاء عادوا إلى البنسيون/ المكان مجددًا واستعادوا الحياة التي جمعتهم من قبل، وسؤال (خالد أبو النجا) عن أنهم ربما يملكون القدرات نفسها، دلالة على أنهم يملكون قدرات على الحب والحياة.
  تحفل أفلام عبدالسيد بمعاني الحب، والحياة، والعلاقات الإنسانية، وهي معاني لا تمثل قضايا أو إشكاليات تعترض الإنسان أو تضعه في مآزق أو في أزمات؛ فالحب، والحياة، والعلاقات الإنسانية، لا تحتاج إلا الإقدام فقط، هكذا يبدو «الشيخ حسني» وغيره من شخصيات «الكيت كات»، و«مواطن ومخبر وحرامي»، و«أرض الأحلام»، وغيرها.   
   تتسم الشخصيات الرئيسة بسعيها إلى حياة إنسانية رحبة، وتعبر عن حيوية ما، وعلى مستوى الأسماء فقد يعبر اسم الشخصية عن أولى عتبات الشخصية بالتطابق أو المفارقة الدرامية، وعند مخرجنا نجد اسمي «يحيى»، و«حياة» يسيطران بشكل كبير على بعض أفلامه، فـ «يحيى»، هو الطبيب (آسر ياسين) في «رسائل البحر»، الذي يترك القاهرة ويسافر إلى الإسكندرية ويلتقي فيها (نورا) المرأة التي ترمز إلى المكان وإلى الحياة نفسها. و«يحيى» (خالد أبو النجا) في «قدرات غير عادية»، و«يحيى» الضابط (أحمد زكي) في «أرض الخوف»، أما «حياة» (هند صبري) في «مواطن ومخبر وحرامي» فهي المرأة التي أعادت صياغة حياة «سليم»، و«حياة» (نجلاء بدر) في «قدرات غير عادية» هي المرأة التي جعلت «يحيى» يكتشف القدرات الخاصة، وكذلك ابنتها، «ابنة حياة». 
   يلاحظ أن العلاقة بين الرجل والمرأة تبدأ بصداقة وراحة نفسية، لأن المرأة/الحبيبة، والأصدقاء، هم محور أساسي في أعماله، وكلها شخصيات محبة للحياة، والحياة عنده بالمعنى الأعمق هي المكان الذي يفيض حيوية، وتشكل المرأة والأصدقاء هذا المكان، كما يلاحظ أيضًا أنه يوظف في أفلامه نماذج إنسانية لفنانين ومحبين للفن والأدب، لأنهم يتسمون بحساسية أكبر تجاه المكان وتجاه العلاقة بالآخر/ المرأة، البحر، والأصدقاء، فمن بين شخصيات «مواطن ومخبر وحرامي» كاتب روائي، ومطرب شعبي، وظابط فيلسوف، وفي «رسائل البحر» متذوق للموسيقى إلى حد الجنون، ذلك أن الارتباط بالفن والأدب هو حياة أخرى، فشخصيات «قدرات غير عادية» يرتبطون بالفن: عاشق الموسيقى، مخرج أفلام قصيرة، مغني الأوبرا، محب الطرب الأصيل، الرسام والرسامة... وغيرها. ورحلتهم إلى الإسكندرية، حيث البحر والطبيعة والتصوف، وحيث الصفاء وحب الحياة والتفاعل معها، وحيث يكون خلاصها. 
   هذه الحياة التي تنشدها الشخصيات هي حياة أشبه باليوتوبيا، حياة المدينة الفاضلة، ولذلك نجد تصرفات (يحيى) في رسائل البحر يمارس حريته دون أن يخشى أحدًا، يستمع إلى كونشرتو البيانو القادم من داخل بيت راقٍ دون أن يضايق أحدًا، لكن التصفيق يزعج العازف مما يدفعه إلى إبلاغ الشرطة. أهالي المدينة الفاضلة المحبة للحياة، المثاليون إلى أبعد مدى، كما يراها أو كما يريدها (يحيى) في سكان البنسيون ومجموعة السيرك المتجول الذين يحبون عملهم في إسعاد الآخرين، هي حيوات تخصب بعضها بعضًا. وابنة «حياة» هي تعبير عن بنت الحياة، لأن حياة/ المرأة تعبر عن الحياة كجوهر وكينونة وحيوية وجمال. هذه هي الحياة ببساطتها كما اختارتها شخصياته من دون رتوش، تمامًا كما فعل «مارسو» بطل رواية «الغريب» لألبير كامو، في رحلته إلى دار المسنين، وكل شخصيات عبدالسيد المحورية تقوم برحلة، لكن هل كل الرحلات موفقة؟ >