نظرات في سير النساء

نظرات في سير النساء

 كتابة الذات وسردها لا ينحصران في فن السيرة الذاتية، وإنما يتوزعان على أشكال متنوعة، تختلف درجة قربها من فعل السرد بمعناه القريب وهو تحويل الموقف إلى لغة حكاية، أو بمعناه الفني وهو الحكاية وقد صارت قصة ذات مكونات، وعناصر خطاب، ومن هذه الأشكال:

 

الرسائل،‭ ‬ومثالها‭: ‬رسائل‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ (‬إلى‭ ‬الأديب‭ ‬عيسى‭ ‬الناعوري،‭ ‬ت‭. ‬1985‭)‬،‭ ‬صدر‭ ‬2002‭.‬

المذكرات،‭ ‬ومثالها‭: ‬مذكرات‭ ‬هدى‭ ‬شعراوي،‭ ‬صدر‭ ‬1981‭ - ‬مذكراتي‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬النساء‭ ‬لنوال‭ ‬السعداوي،‭ ‬صدر‭ ‬1984‭.‬

الحوارات،‭ ‬ومثالها‭: ‬القبيلة‭ ‬تستجوب‭ ‬القتيلة‭ ‬لغادة‭ ‬السمان،‭ ‬صدر‭ ‬1981‭.‬

اليوميات،‭ ‬ومثالها‭: ‬يوميات‭ ‬فتاة‭ ‬لمي‭ ‬زيادة،‭ ‬جريدة‭ ‬المحروسة‭ ‬1914‭ - ‬1915‭.‬

المقالات،‭ ‬ومثالها‭: ‬بلا‭ ‬قيود‭ ‬دعوني‭ ‬أتكلم‭ ‬لليلى‭ ‬العثمان،‭ ‬صدر‭ ‬1999‭.‬

بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬هناك‭ ‬قصيدة‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬وهي‭ ‬مبثوثة‭ ‬في‭ ‬دواوين‭ ‬المعاصرات‭ ‬من‭ ‬الشواعر،‭ ‬ورواية‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬وإن‭ ‬طافت‭ ‬شكوك‭ - ‬مُقدّرة‭ - ‬حول‭ ‬مدى‭ ‬تمثيل‭ ‬هذين‭ ‬الشكلين‭ ‬للعلامات‭ ‬الصريحة‭ ‬للميثاق‭ ‬الأتوبيوغرافي‭ ‬Autobigraphie،‭ ‬وهي‭ ‬علامات‭ ‬لازمة‭ ‬لإدراج‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬السرد‭ ‬الذاتي‭ ‬الحقيقي،‭ ‬وليس‭ ‬السرد‭ ‬التخييلي‭.‬

من‭ ‬البيّن،‭ ‬أن‭ ‬الأمثلة‭ ‬السابقة‭ ‬سيقت‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الكتابة‭ ‬النسائية،‭ ‬للاتساق‭ ‬مع‭ ‬توجه‭ ‬المقالة‭ ‬ومحتواها؛‭ ‬وتطلّب‭ ‬العثور‭ ‬عليها‭ ‬مراجعات‭ ‬كثيرة،‭ ‬فإسهام‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬وأخواتها‭ ‬أمر‭ ‬محدود،‭ ‬وعزيز‭ ‬المنال،‭ ‬ومن‭ ‬آيات‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أدب‭ ‬المرأة‭ ‬السعودي‭ ‬المعاصر‭ ‬مثلا‭ ‬يخلو‭ - ‬أو‭ ‬يكاد‭ - ‬من‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬الكتابي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ألجأ‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭ ‬إلى‭ ‬التماس‭ ‬تعالق‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية‭ ‬مع‭ ‬فنون‭ ‬أخرى،‭ ‬لا‭ ‬تلتزم‭ ‬بالميثاق‭ ‬السير‭ ‬ذاتي،‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬رواية‭ ‬رجاء‭ ‬عالم‭ ‬‮«‬طريق‭ ‬الحرير‮»‬‭ ‬1995،‭ ‬ومذكرات‭ ‬مرام‭ ‬مكاوي‭ ‬‮«‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬بحيرة‭ ‬الهايدبارك‮»‬‭ ‬2007،‭ ‬ويدلنا‭ ‬التأويل‭ ‬الظاهر‭ ‬لعتبة‭ ‬العنوان‭ ‬الأخير‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬فعل‭ ‬الكتابة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬داخل‭ ‬الوطن،‭ ‬بل‭ ‬هنالك‭ ‬حيث‭ ‬يستنهض‭ ‬المكان‭ ‬الغربي‭ ‬ذلك‭ ‬الفعل‭ ‬بأريحية‭.‬

ومما‭ ‬ينبغي‭ ‬الاحتراز‭ ‬منه،‭ ‬أن‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية‭ ‬ليست‭ ‬شكلا‭ ‬مستقلا‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬السير‭ ‬التي‭ ‬يكتبها‭ ‬الرجال،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬للسيرة‭ ‬النسائية‭ ‬خصوصية،‭ ‬وسمتا‭ ‬تنماز‭ ‬به‭ ‬عن‭ ‬غيرها،‭ ‬يتكئ‭ ‬على‭ ‬محتوى‭ ‬مختلف،‭ ‬وتجربة‭ ‬مغايرة،‭ ‬لهما‭ ‬تأثير‭ ‬بيّن‭ ‬على‭ ‬الأداء‭ ‬الأسلوبي‭ ‬والسردي‭. ‬يبتدئ‭ ‬الاختلاف‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬الكتابة‭ ‬ذاتها،‭ ‬ومدى‭ ‬تمكين‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬الكتابة،‭ ‬والإفضاء‭ ‬بما‭ ‬مرت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬التطور‭ ‬الروحي‭ ‬والفكري،‭ ‬والكشف‭ ‬عما‭ ‬يملأ‭ ‬شعاب‭ ‬النفس‭ ‬من‭ ‬أحاسيس،‭ ‬والتعبير‭ ‬عما‭ ‬يرد‭ ‬في‭ ‬الذهن‭ ‬من‭ ‬أفكار،‭ ‬والصعوبات‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بهذه‭ ‬الإمكانية‭ ‬تدفع‭ ‬بالفعل‭ ‬الطبيعي‭ ‬لدى‭ ‬الرجل،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فعل‭ ‬مواجهة،‭ ‬ومقاومة‭ ‬ضد‭ ‬المنع‭ ‬والحظر‭ ‬المفروضين‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬شتى‭ ‬لدى‭ ‬المرأة‭.‬

فلا‭ ‬تظهر‭ - ‬عادة‭ - ‬الكتابات‭ ‬الأولى‭ ‬للنور،‭ ‬وبعض‭ ‬الكتابات‭ ‬تخرج‭ ‬مهربة‭ ‬تحت‭ ‬أسماء‭ ‬مستعارة،‭ ‬ومن‭ ‬الأديبات‭ ‬اللاتي‭ ‬اتخذن‭ ‬أسماء‭ ‬مستعارة،‭ ‬أو‭ ‬رموزا‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حياتهن‭ ‬الأدبية‭: ‬زينب‭ ‬فواز‭ (‬درة‭ ‬المشرق‭)‬،‭ ‬لبيبة‭ ‬هاشم‭ ‬ماضي‭ (‬باحثة‭ ‬الحاضرة‭)‬،‭ ‬ناهد‭ ‬طه‭ ‬عبد‭ ‬البر‭ (‬ن‭. ‬ط‭. ‬ع‭)‬،‭ ‬عائشة‭ ‬عبدالرحمن‭ (‬بنت‭ ‬الشاطئ‭)‬،‭ ‬فدوى‭ ‬طوقان‭ (‬دنانير‭ ‬والمطوقة‭). ‬ومن‭ ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬ماري‭ ‬زيادة‭ ‬التي‭ ‬حظيت‭ ‬بقدر‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬مقارنة‭ ‬بمعاصراتها‭ ‬من‭ ‬الكاتبات،‭ ‬لجأت‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسماء‭ ‬مستعارة،‭ ‬ووقعت‭ ‬بها‭ ‬بعض‭ ‬مقالاتها،‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬إيزيس‭ ‬كوبيا‮»‬،‭ ‬و«أنا‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬اسم‭ ‬ذكوري‭ ‬هو‭ ‬‮«‬خالد‭ ‬رأفت‮»‬،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬مي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬اشتهرت‭ ‬به‭. (‬يراجع‭: ‬د‭. ‬جوزيف‭ ‬زيدان‭: ‬الأعمال‭ ‬المجهولة‭ ‬لمي‭ ‬زيادة‭. ‬ص‭ ‬16‭)‬،‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬أكرم‭ ‬المرأة،‭ ‬وأعطاها‭ ‬حقها‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬بوسائله،‭ ‬كما‭ ‬تبين‭ ‬ذلك‭ ‬بنت‭ ‬الشاطئ‭ ‬في‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬الشاعرة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة»؛‭ ‬لكنه‭ ‬إرث‭ ‬اجتماعي‭ ‬نجده‭ ‬ماثلا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬عنوان‭ ‬مخطوطة‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬الثناء‭ ‬‮«‬الإصابة‭ ‬في‭ ‬منع‭ ‬النساء‭ ‬من‭ ‬الكتابة‮»‬‭.‬

    ‬ينسحب‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬المتربص‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬النسائية‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬أيًا‭ ‬كان‭ ‬نوعها،‭ ‬ولكنه‭ ‬يكون‭ ‬أشد‭ ‬وطأة‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬فهل‭ ‬أدى‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬إلى‭ ‬ندرة‭ ‬وجود‭ ‬سيرة‭ ‬نسائية‭ ‬كتبت‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬مبكرة؟‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬نجد‭ ‬له‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مثال‭ ‬لدى‭ ‬الكاتب‭ /‬الرجل‭: ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬شكري‭ (‬1886‭ - ‬1958‭)‬،‭ ‬أصدر‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الاعتراف‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الثلاثين‭ (‬1916)،‭ ‬وإبراهيم‭ ‬عبدالحليم‭ (‬1920 ‭- ‬1986‭) ‬أصدر‭ ‬‮«‬أيام‭ ‬الطفولة‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬والثلاثين‭ (‬1955)،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬نفسه‭ ‬يستحيل‭ ‬إلى‭ ‬مكون‭ ‬بارز‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬سير‭ ‬النساء،‭ ‬يضاف‭ ‬إليه‭ ‬ما‭ ‬تعانيه‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬تهميش‭ ‬اجتماعي،‭ ‬وتعسف‭ ‬أسري،‭ ‬وقمع‭ ‬للرأي،‭ ‬وما‭ ‬تواجهه‭ ‬من‭ ‬عقبات‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬اختيار‭ ‬التعليم،‭ ‬والزواج‭ ‬والعمل،‭ ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬الإجمال‭ ‬يكون‭ ‬نتاج‭ ‬حاصل‭ ‬هذه‭ ‬التفاعلات‭ ‬الحيوية،‭ ‬أدبا‭ ‬مناظرا‭ ‬لواقع‭ ‬الافتقاد‭ ‬والألم،‭ ‬حيث‭ ‬تفتقد‭ ‬الحرية،‭ ‬ويغيب‭ ‬الاستقلال،‭ ‬وتحضر‭ ‬الآلام‭.‬

وتأخذ‭ ‬الاستجابة‭ - ‬بدورها‭ - ‬مسارات‭ ‬تتسق‭ ‬وطبيعة‭ ‬الكائن‭ ‬السيري‭ ‬نفسه‭ (‬المرأة‭)‬،‭ ‬ليس‭ ‬انعكاسا‭ ‬للاختلاف‭ ‬البيولوجي‭ ‬فحسب؛‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬انعكاس‭ ‬أيضا‭ ‬للتكوين‭ ‬النفسي‭ ‬والعاطفي،‭ ‬وللمهام‭ ‬المنوطة‭ ‬بالمرأة،‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭ ‬وخارجه،‭ ‬مع‭ ‬الجنس‭ ‬الآخر‭ (‬الرجل‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬الأبناء‭ ‬في‭ ‬مؤسسة‭ ‬الأسرة‭.‬

وعند‭ ‬ذاك،‭ ‬يتراجع‭ ‬الموضوعي‭ ‬في‭ ‬سرد‭ ‬الكاتبة‭ ‬إلى‭ ‬الهامش،‭ ‬وفي‭ ‬أكثر‭ ‬الحالات‭ ‬توهجا‭ ‬يمتزج‭ ‬الموضوعيّ‭ ‬بالشخصي،‭ ‬وتضحى‭ ‬قضايا‭ ‬الوطن،‭ ‬والتحرر‭ ‬والاستبداد‭ ‬السياسي،‭ ‬بل‭ ‬قضايا‭ ‬النساء‭ ‬عامة،‭ ‬جزءا‭ ‬مشتبكا‭ ‬بالذات،‭ ‬وتطلعاتها‭ ‬وهواجسها‭. ‬وعند‭ ‬ذاك‭ ‬أيضا،‭ ‬تتولّد‭ ‬الخصوصية،‭ ‬حين‭ ‬تجنح‭ ‬سير‭ ‬الرجال‭ ‬إلى‭ ‬معالجة‭ ‬مشكلات‭ ‬المجتمع،‭ ‬وقضاياه‭ ‬الكبرى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجاربهم،‭ ‬وليس‭ ‬العكس‭.‬

وليس‭ ‬معنى‭ ‬ذلك،‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬كتابة‭ ‬اجترارية‭ ‬للذات‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الأنا‮»‬‭ ‬الضيقة،‭ ‬المنفصلة‭ ‬عن‭ ‬الخارج،‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬‮«‬التوحد‮»‬‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬المنقضي،‭ ‬لكن‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية،‭ ‬ستغدو‭ ‬نموذجا‭ ‬للذات‭ ‬الأنثوية،‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬معاناتها‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬وفي‭ ‬أشكال‭ ‬اشتباكها‭ ‬مع‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الإمكان‭ ‬الانفصال‭ ‬عنه‭. ‬

تستمر‭ ‬الخصوصية‭ ‬في‭ ‬التشكل‭ ‬إذن،‭ ‬محتوى‭ ‬ولغة،‭ ‬وتتأكد‭ ‬بملمح‭ ‬النوع‭ ‬أو‭ ‬الجنس‭ ‬نفسه،‭ ‬الذي‭ ‬يستحيل‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬أنثى‭ ‬إلى‭ ‬موضوع‭ ‬من‭ ‬موضوعات‭ ‬الكتابة،‭ ‬فهي‭ ‬المؤلفة‭ ‬وفقا‭ ‬للميثاق‭ ‬السيري‭ ‬المعلن،‭ ‬وهي‭ ‬موضوع‭ ‬السرد‭ ‬نفسه‭.‬

يسهم‭ ‬هذا‭ ‬المحتوى‭ ‬الخاص‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬عناصر‭ ‬الحكاية،‭ ‬وفي‭ ‬توجه‭ ‬الخطاب‭ ‬السردي‭ ‬وهو‭ ‬ينحت‭ ‬لغته‭ ‬المائزة،‭ ‬وفي‭ ‬ملتقى‭ ‬خصوصية‭ ‬الجناحين‭ ‬المحتوى‭ ‬والخطاب،‭ ‬يتحقق‭ ‬المسعى‭ ‬الذي‭ ‬تتغياه‭ ‬كل‭ ‬كتابة‭ ‬سردية‭ ‬ذاتية،‭ ‬إنها‭ ‬تحقق‭ ‬ما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬النغمة‭ ‬المميزة‮»‬‭ ‬Distinctive‭ ‬tone‭ ‬وتعني‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭ ‬‮«‬مبلغ‭ ‬ما‭ ‬حازه‭ ‬المبدع‭ ‬من‭ ‬توفيق‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬بصمته‭ ‬على‭ ‬النص،‭ ‬وتأكيد‭ ‬فرادة‭ ‬صوته‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يماثل‭ ‬أصوات‭ ‬الآخرين‮»‬‭ (‬حسام‭ ‬عقل‭: ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬83‭).‬

وقسمة‭ ‬التميز‭ ‬ستكون‭ ‬مضاعفة،‭ ‬إذا‭ ‬اتجهت‭ ‬الكتابة‭ ‬نحو‭ ‬سرد‭ ‬الاعتراف‭ - ‬هذا‭ ‬المجرى‭ ‬الدقيق‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬جنس‭ ‬منشئها‭ - ‬وقد‭ ‬صَعُب‭ ‬الاعتراف‭ ‬على‭ ‬الكاتب‭/ ‬الرجل‭ (‬محمود‭ ‬تيمور‭ ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬يعفيه‭ ‬من‭ ‬الاعترافات‭ ‬التي‭ ‬‮«‬تسري‭ ‬فيها‭ ‬الشوائب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب‮»‬،‭ ‬وعباس‭ ‬العقاد‭ ‬يقصر‭ ‬اعترافه‭ ‬على‭ ‬الخصائص‭ ‬النفسية،‭ ‬أما‭ ‬الخطايا‭ ‬والعيوب‭ ‬فيتشابه‭ ‬فيها‭ ‬أبناء‭ ‬آدم‭ ‬وحواء،‭ ‬ويقول‭: ‬حسبي‭ ‬اعترافا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬أن‭ ‬أحدا‭ ‬لم‭ ‬يسلم‭ ‬من‭ ‬عيوبي‭ ‬وخطاياي،‭ ‬فهل‭ ‬في‭ ‬وسعهم‭ ‬جميعا‭ ‬أن‭ ‬يدّعوا‭ ‬مساواتي‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬فضائلي‭ ‬ومزاياي؟‭!).‬

ألا‭ ‬يكون‭ ‬البوح‭ ‬بالمسكوت‭ ‬عنه‭ ‬عادة،‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬دخائل‭ ‬النفس‭ ‬أشد‭ ‬صعوبة‭ ‬على‭ ‬المرأة‭ ‬الكاتبة؟‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الاعتراف‭ ‬محاطا‭ ‬بسياج‭ ‬من‭ ‬المحاذير‭ ‬والعوائق‭ ‬لدى‭ ‬الرجل‭ ‬الكاتب،‭ ‬فمن‭ ‬البديهي‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬هذا‭ ‬السياج‭ ‬عند‭ ‬المرأة‭ ‬الكاتبة‭ ‬إلى‭ ‬جدار‭ ‬سميك،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬القيد‭ ‬الذي‭ ‬يكبّل‭ ‬الكلمة‭ ‬الأدبية‭ ‬الصريحة‭ ‬شديد‭ ‬الإحكام‭.‬

يطول‭ ‬هذا‭ ‬التحولُ‭ ‬العتبةَ‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬عتبات‭ ‬السير‭ ‬النسائية،‭ ‬وهي‭ ‬العنوان،‭ ‬فيأتي‭ ‬مقرونا‭ ‬بجملة‭ ‬من‭ ‬الدلالات‭: ‬القسوة‭ ‬والصعوبة‭ ‬والحجب‭ ‬والمنع،‭ ‬والقهر‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي،‭ ‬والموت،‭ ‬وانفراد‭ ‬الذات‭ ‬بالمواجهة‭ ‬والصعود،‭ ‬وانكسار‭ ‬القيد‭ ‬والصمت‭. ‬

تفصح‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الدلالات‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭ ‬أمثلة‭ ‬مختارة‭ ‬من‭ ‬عناوين‭ ‬السير‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية،‭ ‬من‭ ‬أجيال‭ ‬مختلفة‭:‬

1 ‭- ‬على‭ ‬الجسر‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭: ‬عائشة‭ ‬
عبد‭ ‬الرحمن،‭ ‬تاريخ‭ ‬الصدور،‭ ‬1967‭.‬

2 ‭- ‬رحلة‭ ‬جبلية‭.. ‬رحلة‭ ‬صعبة‭: ‬فدوى‭ ‬طوقان،‭ ‬1985‭.‬

3 ‭- ‬حملة‭ ‬تفتيش‭.. ‬أوراق‭ ‬شخصية‭: ‬لطيفة‭ ‬الزيات،‭ ‬1992‭.‬

4 ‭- ‬الرحلة‭ ‬الأصعب‭: ‬فدوى‭ ‬طوقان،‭ ‬1993‭.‬

5 ‭- ‬بلا‭ ‬قيود‭.. ‬دعوني‭ ‬أتكلم‭: ‬ليلى‭ ‬العثمان،‭ ‬1999‭.‬

6 ‭- ‬المحاكمة‭.. ‬مقطع‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬الواقع‭: ‬ليلى‭ ‬العثمان،‭ ‬2000‭.‬

7 ‭- ‬أمواج‭ ‬العمر‭: ‬فوزية‭ ‬العشماوي،‭ ‬2012‭.‬

8 ‭- ‬أثقل‭ ‬من‭ ‬رضوى‭: ‬رضوى‭ ‬عاشور،‭ ‬2013‭.‬

في‭ ‬موازاة‭ ‬ذلك،‭ ‬تتابعت‭ ‬سير‭ ‬الكتّاب‭ ‬المعروفين‭ ‬من‭ ‬الرجال،‭ ‬بعناوين‭ ‬محددة‭ ‬للنوع‭ ‬الأدبي،‭ ‬رامية‭ ‬إلى‭ ‬تلمس‭ ‬العبرة،‭ ‬والبطولة‭ ‬والزهو،‭ ‬والبراءة،‭ ‬مبدية‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬القدوة‭ ‬أو‭ ‬النموذج،‭ ‬والاستفاضة‭ ‬في‭ ‬روافد‭ ‬التكوين،‭ ‬والحمد‭ ‬والفائدة،‭ ‬وتقدير‭ ‬الذات،‭ ‬والناظر‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العناوين‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬التباين‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬عناوين‭ ‬السير‭ ‬النسائية‭:‬

‭(‬حياتي‭ ‬لأحمد‭ ‬أمين‭ - ‬أنا،‭ ‬حياة‭ ‬قلم‭ ‬للعقاد‭ - ‬طفل‭ ‬من‭ ‬القرية‭ ‬لسيد‭ ‬قطب‭ - ‬سبعون‭ ‬لميخائيل‭ ‬نعيمة‭ - ‬البئر‭ ‬الأولى،‭ ‬شارع‭ ‬الأميرات‭ ‬فصول‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬لجبرا‭ ‬إبراهيم‭ ‬جبرا‭ - ‬قصة‭ ‬نفس،‭ ‬قصة‭ ‬عقل،‭ ‬حصاد‭ ‬السنين‭ ‬لزكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ - ‬أوراق‭ ‬العمر‭ ‬سنوات‭ ‬التكوين‭ ‬للويس‭ ‬عوض‭ ‬
‭- ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬هذه‭ ‬حياتي‭ ‬لعبدالحليم‭ ‬محمود‭...).‬

تتحرك‭ ‬هذه‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬شتى‭ ‬
‭- ‬هذه‭ ‬حقيقة‭ - ‬لكنها‭ ‬تلتقي‭ ‬عند‭ ‬نقطة‭ ‬ارتكاز‭ ‬واحدة،‭ ‬تسطع‭ ‬عندها‭ ‬دلالتان‭ ‬هما‭ ‬الزهو‭ ‬أو‭ ‬الشكوى،‭ ‬وبعضها‭ ‬يكاد‭ ‬يلتزم‭ ‬المعنى‭ ‬التأريخي‭ ‬أو‭ ‬البيوغرافي‭ ‬للسيرة،‭ ‬فيسجل‭ ‬المواقف‭ ‬والأخبار،‭ ‬ويستقصي‭ ‬الأعمال‭ ‬والآثار،‭ ‬ويتتبع‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬خطي،‭ ‬مراعيا‭ ‬الأطوار‭ ‬الزمنية‭ ‬التي‭ ‬مرّ‭ ‬بها،‭ ‬وراميا‭ ‬إلى‭ ‬بث‭ ‬العبرة‭ ‬والاعتبار،‭ ‬ويتمثل‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬ــ‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يتمثل‭ ‬ــ‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالحليم‭ ‬محمود‭: ‬‮«‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬هذه‭ ‬حياتي‮»‬‭.‬

وعلى‭ ‬أساس‭ ‬هذا‭ ‬التباين‭ ‬الذي‭ ‬دعت‭ ‬إليه‭ ‬مواضعات‭ ‬تعارف‭ ‬عليها‭ ‬الناس،‭ ‬اجتماعية‭ ‬ونفسية‭ ‬ودينية،‭ ‬جنحت‭ ‬سير‭ ‬نسائية‭ ‬عديدة‭ ‬إلى‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الألم‭ ‬مكونا‭ ‬بارزا‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬السرد‭ ‬السيري،‭ ‬وتشعبت‭ ‬صنوف‭ ‬الألم‭: ‬ألم‭ ‬الفقد‭ ‬والموت‭ (‬على‭ ‬الجسر‭)‬،‭ ‬وألم‭ ‬القيود‭ ‬الاجتماعية‭ (‬رحلة‭ ‬جبلية‭)‬،‭ ‬وألم‭ ‬الاحتلال‭ (‬الرحلة‭ ‬الأصعب‭)‬،‭ ‬وألم‭ ‬السجن‭ (‬حملة‭ ‬تفتيش‭)‬،‭ ‬وألم‭ ‬المرض‭ (‬أثقل‭ ‬من‭ ‬رضوى‭)‬،‭ ‬وألم‭ ‬حرية‭ ‬الإبداع‭ (‬ليلى‭ ‬العثمان‭).‬

وهكذا‭ ‬تتنوع‭ ‬الآلام،‭ ‬وتتجذر‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬السير‭ ‬الذاتية‭ ‬النسائية،‭ ‬ومن‭ ‬خلالها‭ ‬أفضت‭ ‬المرأة‭ ‬بجوانب‭ ‬نفسية‭ ‬وفكرية‭ ‬من‭ ‬حياتها،‭ ‬وكشفت‭ ‬عن‭ ‬الغامض‭ ‬في‭ ‬علاقتها‭ ‬بالآخرين،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمهم‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬حظي‭ - ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ - ‬بسيرة‭ ‬رثائية‭ ‬كاملة،‭ ‬هي‭ ‬سيرة‭ ‬‮«‬على‭ ‬الجسر‮»‬‭ ‬وفيها‭ ‬سردت‭ ‬عائشة‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬علاقتها‭ ‬مع‭ ‬زوجها،‭ ‬من‭ ‬الميلاد‭ ‬حتى‭ ‬أسدل‭ ‬الموت‭ ‬قناعه‭ ‬الحزين‭ ‬على‭ ‬زوجها‭ ‬الراحل‭ ‬‭■‬