عروس المجلات وارثة تقاليد فن «أدب الرحلات»

إنه لعمرٌ طويلٌ أن ترتبط بمطبوعة ثقافيةٍ لأكثر من أربعين عامًا، حيث ترافقها من المرحلة الابتدائية حتى تشارف على نهاية مشوار عملك في بلاط صاحبة الجلالة.
كان أول لقاءٍ بهذه الرفيقة في مكتبة نادي المنارتين بمنطقة البلاد القديم، على بعد ثلاثة كيلومترات غرب العاصمة البحرينية المنامة.
كنت يومها في المدرسة الابتدائية أوائل سبعينيات القرن الماضي، طالبًا عاشقًا لدروس التاريخ والجغرافيا، ووجدت ضالّتي وما يروي شغفي على صفحات هذه المجلة الجميلة، حيث الاستطلاعات المصوّرة، التي تشحذ في النفس حبّ السفر والاستطلاع، وتجوب بنا أقطار الأرض شرقًا وغربًا، على خطى رحّالتنا المغربي الكبير محمد بن عبدالله اللواتي الشهير بـ «ابن بطوطة»، الذي انطلق من مدينة طنجة قبل ثمانية قرون، والتي زارتها «العربي» أوائل السبعينيات، وانطبع في ذاكرتي التعليق الطريف الذي نقله المحرّر على لسان أحد الأزواج عن اللثام الذي يغطّي أفواه النساء، فقال إنها تكثر من الكلام، فوضعنا هذا اللثام لنسكتها!
لم تقتصر استطلاعات «العربي» على دول المركز العربي، بل ذهبت إلى الأطراف النائية، ونشرت كثيرًا من الاستطلاعات عن السودان والصومال وإريتريا وجزر القمر وموريتانيا، وصولًا إلى دول غرب إفريقيا، حيث تعرّفنا من خلالها إلى تاريخ هذه المنطقة وموقعها من العالم الإسلامي.
كما ذهبت إلى أصقاع آسيا شرقًا وجنوبًا، وإلى أقطار أوربا والعالم الجديد، تنقلنا إلى حيث يعيش العرب والمسلمون، وتعرّفنا على أوضاعهم وتمد بيننا جسور التعارف.
كانت «العربي» تذهب لتأتينا بالعالم إلى بيوتنا ومكتباتنا، في وقتٍ لم تتيسّر فيه سبل السفر والسياحة، فضلًا عن وسائل التواصل الاجتماعي التي ربطت العالم، كما هي الآن.
مسيرة طويلة
من المدرسة رافقتني «العربي» حتى الجامعة، حيث انقطعت عنها قسرًا في فترة الغربة خمس سنين، وكانت عودتي إليها ولقائي بها حارّين مع عدد يناير 1986، الذي كان بحقٍّ عددًا ممتازًا، حيث تضمّن استطلاعًا شاملًا عن مملكة نيبال المعلّقة فوق جبال الهملايا، بما فيها من غموض وأسرار وعجائب، إحداها طريقة اختيار الملك وتنصيبه على العرش، والاحتفال بموت كلّ إنسانٍ عندما يبلغ الثمانين، حتى لو كان على قيد الحياة، حيث يحملونه على محفة فوق الأكتاف! كما تضمّن العدد لقاءً مع الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، تكلّم فيه عن تجربته الصحفية الملهِمة لكثير من الصحفيين الشباب آنذاك، بما فيها من دروس وخلاصات.
عَبْر هذه المسيرة الطويلة رسخت في قلوبنا وعقولنا أسماء المحرّرين، فبإضافة إلى رؤساء التحرير الذين مثّل كلٌّ منهم أسلوبًا خاصًا، بدءًا بالراحل الكبير العالِم د.أحمد زكي ومن تلاه من أساتذة كبار، فإن القارئ العربي تعرّف إلى كثير من الأسماء، مفكرّين وفلاسفة وكتّابًا وشعراء واقتصاديين ووزراء، إلى جانب الرعيل الأول من المحرّرين والمصوّرين الخالدين، مثل سليم زبال وأوسكار متري، والكتّاب المتميّزين، مثل شاكر مصطفى والمنسي قنديل وفهمي هويدي، الذي قام بسلسلةٍ مهمةٍ جدًا من الاستطلاعات في دول شبه القارة الهندية وغرب إفريقيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه بسنوات، أتمنى أن تُجمع وتُطبع في كتبٍ مستقلةٍ، حيث أصبحت جزءًا من التاريخ.
أدب الرحلات
لم تكن استطلاعات «العربي» مجرد جولات سياحية تعريفية، وإنّما كانت في جوهرها امتدادًا لـ «أدب الرحلات»، هذا الفنّ الذي ازدهر في العالم الإسلامي إبان نهضته الحضارية منذ القرن الثالث الهجري، وبرزت خلاله أسماء المقدسي والقزويني والإدريسي وابن فضلان وابن جبير، حتى مطالع العصر الحديث مع أحمد فارس الشدياق وشكيب أرسلان ورفاعة الطهطاوي وأمين الريحاني.
فـ «العربي» إنّما كانت إحياء لهذا الفن العريق الذي أعادت تقديمه بلباس عصري قشيب، مدعّمًا بالصور الملوّنة المنتقاة بعناية.
استمرت علاقتي مع «العربي» منذ سنوات الصبا لأكثر من أربعين عامًا، ونحن لا ندرك تأثيرات قراءاتنا الأولى إلا حينما يتقدّم بنا العمر. وهو ما اكتشفته تدريجيًا حين خطوت خطواتي الأولى في عالم الصحافة قبل ربع قرن، وترسّمتها لا شعوريًا حين كنت أذهب في جولةٍ أو زيارةٍ إلى بلد عربي أو أجنبي، فأعود لكتابة مواد صحافية وتقارير واستطلاعات مصوّرة عن تلك المدن والبلدان.
لقد كان تأثير «العربي» كبيرًا وعميقًا، حيث كوّنت استطلاعاتها المصوّرة جزءًا كبيرًا ومهمًا من مخزون الذاكرة بالنسبة إليّ، خصوصًا في مجال الجغرافيا والتاريخ ومعرفة البلدان.
ردّ الجميل
وحتى بعد انتقال العمل من المجلات الشهرية إلى الصحافة اليومية، لم أنقطع عن متابعة االعربيب شهرًا بشهر، وعامًا بعد عام، وبقيت طوال هذه السنوات أتطلّع إلى المساهمة في الكتابة فيها يومًا؛ وكنت كلّما قرأت كتابًا يعجبني أهمّ بتلخيصه لعرضه على صفحاتها لأشارك القرّاء متعة المعرفة، وجاءت هذه الفرصة مع عرض كتاب «العرب وأستراليا» في عدد يوليو 2017.
إلى جانب حُلم الكتابة في «العربي»، الذي كان في جانبٍ منه ردًا للجميل، كان يراودني حلمٌ قديمٌ بزيارة مبناها، وهو ما تحقّق بعد اختتام «القمة العربية الاقتصادية» التي استضافتها الكويت للملمة شمل الأمة العربية في يناير 2009، حيث تلقيت دعوةً رسميةً للتغطية، فطلبت سيارةً صبيحة اليوم التالي لختام المؤتمر( 21يناير( لتقلّني إلى مبنى «العربي»، هذه المنارة الثقافية الشامخة التي ظلّت تبثّ رسائل المحبة وتضيء مشاعل المعرفة وتنسج خيوط الوحدة العربية، ولتحمل رسالتها النبيلة التي دشّنتها بشعار «اعرف وطنك أيها العربي» بداية انطلاقتها، وانطلقت به نحو آفاق أرحب مع الانفتاح الواسع على دنيا الله... مع شعار االعربي عيونك على العالمب، الذي أطلقته في الثمانينيات.
«العربي» ليست مجلةً عابرةً في سماء الثقافة، وإنّما هي عروس المجلات... ووارثة تقاليد فن« أدب الرحلات»■