فيلم «حرب باردة» جاذبية من قلب الصراع

فيلم «حرب باردة» جاذبية من قلب الصراع

يعتبر فيلم حرب باردة cold war أحد أهم الأعمال السينمائية العالمية لعام 2018، خاصة أنه يعج في تركيبته الفنية بأساليب جمالية أصيلة ولمحات احتفالية وطقوسية كلاسيكية. الفيلم من إخراج المبدع البولوني بافل بافليكوفسكي، تدور أحداثه بين بولونيا وفرنسا من فترة الأربعينيات إلى بداية الستينيات. رشح الفيلم لجائزة الأوسكار هذا العام في صنف أفضل فيلم أجنبي، وأفضل مخرج، وأفضل تصوير، كما فاز بجائزة أحسن مخرج في مهرجان كان السينمائي.

عنوان الفيلم «حرب باردة» في علاقته بمضمونه، كثيف بالمتناقضات الدلالية والرمزية، باعتبار أن قصة هذا العمل الفني تدور حول علاقة حب عميقة بين شخصين، بينما عنوانه يشير إلى الفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث (الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي)، ولعلنا بتأملنا الرصين للأبعاد الرمزية التي يلمح إليها مخرج الفيلم، سنكتشف بأن وراء هذا التناقض الظاهر بين الحب والحرب، علاقة ترابط وارتباط مضمر بين العنوان والمضمون، خاصة حينما سيبوح الفيلم بأسراره ويكشف طبيعة العلاقة الرومانسية - بين البطلين - التي تعرضت لتقلبات وتجاذبات باردة أحيانًا وحارة أحيانًا أخرى (نفور العاشقين وفتورة العلاقة تارة/ لهب الشوق والعشق المشتعل تارة أخرى)، وما عنوان الفيلم «حرب باردة» إلا انعكاس وإحالة لهذه الاضطرابات العاطفية، وكأن المخرج يريد أن يصل لنا بين قصة الفيلم المهتزة وظروفه التاريخية غير المستقرة.
تحكي أحداث الفيلم قصة مؤلف موسيقي بولوني (فيكتور) يرغب في تكوين فرقة موسيقية من خلال عملية بحث وتنقيب يقوم بها في أرياف وقرى بولونيا من أجل اكتشاف المواهب الموسيقية في هذه الثخوم الباردة. وأثناء إنجازه لاختبارات الأداء الخاصة بمواهب الغناء والعزف في الفلكلور الشعبي البولوني، سيعجب بصوت فتاة أتت من محنة اجتماعية (السجن)، كان سببها جريمة قتل لأبيها وفقرها الشديد. وسيتحول إعجاب الملحن مع مرور الوقت إلى حب عميق سيترك صداه لحنًا ونغمًا في باقي اللحظات، حيث سيقع اختيار الملحن على هذا الصوت الأنثوي الجذّاب للمشاركة في العديد من المحافل والحفلات الفنية التي ستقام في الوطن وخارجه. بل سيضطر إلى الهروب من بلده واللجوء إلى باريس في سبيل تحفيز عاطفته الغارقة في شجن العشق والغرام، وتوطيد علاقته بمحبوبة قلبه، بعد اتفاقهما على اللقاء هناك بسبب الأوضاع السياسية المكهربة داخل بولونيا.

عشق الفؤاد
 لكن زولا (اسم حبيبته) ستخلف الميعاد وتتراجع عن الوعد في البداية، وسرعان ما ستعدل عن هذا الرأي فيما بعد وتلتحق برفيق أحلامها إلى فرنسا من أجل إحياء حفلاتها وحبها الأعمى. ورغم ذلك ستتعرض العلاقة إلى الفتور والتوتر والتقلب الفجائي الذي سيحول مسار الحب من الجذب إلى التجاذب، من التوحد إلى الوحدة، من الانصهار إلى السهر. فإذ بمشاعر الغيرة والنفور والحقد ترن من أوتار الوجدان، وإذ بأحاسيس البرود والخمود والانطفاء تنجلي من منبع العاطفة، خاصة بعد هبوب رياح الشك والغدر، واستيلاء فكرة الخيانة والكذب على مخيلة الطرفين (الشك في خيانة فيكتور مع كاتبة كلماته/ الشك في علاقة زولا مع مقيم للحفلات الفنية في باريس).
 ثم يقرر الحبيبان، متابعة السير مرة أخرى، ومواصلة مسار الحب، وتوحيد علاقة الروح، رغم مرور الزمان ورغم بعد المكان. لأن هوى الأسر ظل حاضرًا برباطه الروحي، وعشق الفؤاد استمر مقررا حتى في غياب الجسد. حيث سيتحدى فيكتور الظروف السياسية المتوترة بين المعسكرين الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة، ليتسلل إلى وطنه بحثًا عن فاطرة قلبه وسارقة كيانه. 
وبالرغم من إيداعه السجن، وفشل محاولته في العودة للوطن، بسبب شبهة التجسس للمعسكر الغربي، إلا أن نوى الهوى ستشع أملاً مرة أخرى وتشفع لزلات الطرفين. حينما ستتمكن زولا من إخراج حبيبها من ظلمات السجن، فتحيى بذرة الحب من جديد، ولكن هذه المرة بخلود واستمرار واتصال، حيث سيعقد العشيقان قرانهما في أطلال كنيسة بنيت في خلاء الطبيعة، منبع الصفاء والسكينة ومصدر الروح الفطرية الطاهرة. وترمز هذه الأطلال الصامدة أمام قوى الطبيعة إلى تموجات العلاقة العاطفية المضطربة والمتقلبة بين فيكتور وزولا، كونهما سيقاومان معا حالة التوتر والنفور والاحتضار التي كانت تهدد علاقتهما، ليقام زواجهما المبارك هناك بتسليم  رباني غفر كل الذنوب والأخطاء السابقة، بعد صمود الطرفين ومقاومتهما لصدمات الفراق وأخطار النفاق وأهوال الشقاق. 
تعرض الحبيبان إذًا لعديد من النكسات والإخفاقات، وأفرغت الأحاسيس من دفء اللقاء وحرارة العناق، فانتقلت زولا للغناء في باريس، بلغة فرنسية مغايرة عن لهجتها الشرقية، كدليل على تغير أوضاعها وحالتها، وانعدام ثقتها بملحن أغانيها وملهم مشاعرها، كما أن أداءها الغنائي أصبح أكثر برودة وخمولاً بعد أن فقدت الثقة والإحساس والروح الفنية التي كانت تستلهمها من دفقات قلبها الولهان، وقد ظهر ذلك واضحًا من خلال الجملة الحوارية التي تلفظت بها المغنية الشابة في وجه حبيبها، حينما استفسرها عن سبب هذا الخمول: «أنا أثق بنفسي، لكن لا أثق بك».
وقد واجه العشيقان مجموعة من العوائق والظروف والموانع التي هددت استمرار علاقتهما العاطفية، أهمها: 
- حواجز سياسية: التوتر السياسي في الحرب الباردة، الرقابة السياسية على الحب والفن، سجن زولا، سجن فيكتور.
- حواجز اجتماعية طبقية: حيث ينتمي الملحن إلى طبقة مدنية أرستقراطية، بينما تنتمي المغنية لعائلة ريفية فقيرة.
- حواجز نفسية: الشك، النفور، برودة المشاعر والأحاسيس، الغيرة، الحقد.
- حواجز عاطفية: توتر العلاقة نتيجة التقلبات المستمرة في مسارها، زواج زولا من شخص آخر، انجذاب فيكتور للشاعرة.
- حواجز زمنية: مرور الزمن، الكبر في السن.
- حواجز مكانية: المنفى، البعد المكاني بين الحبيبين في كثير من اللحظات (بين بولونيا وفرنسا)، تحدي السلطة والتسلل من الحدود المراقبة.
إلا إن هذه الحواجز ستذوب وتنمحي بعد أن انصهرت القلوب في بوتقة الحب الخالدة، والتي كابد عناءها العشيقان تحديًا وصمودًا، فحوّلا معًا كل هذه العقبات إلى خيوط موثوقة الرباط، تصل البين وتقرب الهجر وتمزج الفؤاد. لتظهر آثار هذا الحب العنيف في لقطة مثيرة حينما ستأتي زولا مسرعة وهي متلهفة لعناق حبيبها فيكتور، متخلية عن زوجها السابق الذي كان يقف بجانب البطل، غير آبهة بطفلها المحمول، في مشهد صادم للمتفرج طغت فيه عاطفة الحب على عاطفة الأمومة.

الرقابة السياسية
ومن القضايا المحورية التي يلمح إليها الفيلم، كذلك، قضية الرقابة السياسية التي شملت كل مناحي الحياة في فترة الحرب الباردة، ويبصم الفيلم هذا الطابع السياسي في المشهد الذي يرصد العروض الفنية التي أقامتها الفرقة الفلكلورية البولونية في الكرملين، تخليدًا للزعيم السوفييتي ستالين قائد الجبهة الاشتراكية الشرقية. وهناك سنلحظ - في التقاط فني بارع - أن صورة الزعيم ستغطي المساحة الشاسعة من مكان العرض، باسطة مساحتها على مكان وجود الفرقة الموسيقية كتعبير أيقوني على الرقابة السياسية التي كان يخضع لها الفن آنذاك (الرقابة على الفن). ضف إلى ذلك التهديد السياسي، الذي كان يتعرض له العشيقان في وطنهما، والذي ألزمهما التواري عن الأنظار والهروب بعيدًا عن الوطن (الرقابة على الحب).

موسيقى كلاسيكية
فنيا تناسق الفيلم مع الموجة الغنائية - الرومانسية التي سادت أخيراً في عديد الأعمال السينمائية الحديثة، فجاء احتفاء واحتفالاً بالموسيقى الفلكلورية السائدة في أرياف بولونيا الشرقية، حيث غابت الموسيقى التصويرية في الفيلم وعوضتها عروض غنائية شعبية متعددة (غناء جماعي - رقص - طقوس احتفالية فوق الخشبة...)، رسمتها فرق فلكلورية قادمة من مختلف المناطق الشرقية. ورافق هذه العروض التقليدية اهتمام آخر بالموسيقى الكلاسيكية حينما ستسافر المغنية زولا إلى باريس لإحياء حفلاتها على أنغام البيانو والسكسفون المسايرة لحالة الحزن والاكتئاب التي رافقت فتور العلاقة الرومانسية. وأحيانًا أخرى تتسلل موسيقى الروك الصاخبة في الفيلم، معلنة عن تمرد زولا ورقصها العنيف المعلن عن توترها وأزمتها العاطفية. وعمومًا فقد جاءت كلمات أغلب الأغاني الواردة في الفيلم منسجمة مع النسق المضموني للحكاية، كونها تعبر عن تناقضات الحالة الوجدانية للإنسان وتقلبها بين الحب والعشق والاتصال أحيانًا، والرفض والنفور والفراق أحيانًا أخرى.
أما الصورة فقد طغت عليها البصمة التقليدية، كون الفيلم صور باللونين الأبيض والأسود على الطريقة السينمائية الكلاسيكية، هذه الطريقة راجت أخيراً وانجذب إليها عديد المخرجين العالميين (على نحو ألفونص كوران في فيلمه الأخير روما)، لأنها تضفي نوعا من الحميمية التي تحيي الذاكرة وتؤصل لنوستالجيا الفن وتسترجع لحظات الإبداع والجمال. ضف إلى ذلك اعتماد الفيلم على إنارة طبيعية اتسقت مع الرؤية الكلاسيكية للفيلم، فارتكزت على خلق التباين والانعكاس بين ثنائية الظلال والنور، وسعت إلى التركيز على اللحظة الحميمية في عمق انصهارها مع الزمن والمكان: إنارة ساطعة في ضوء النهار الطبيعي في أرياف بولونيا الجامدة كرمز على استقرار الجو العاطفي في العلاقة، وسيادة الحب والصدق والصفاء، ظلال سوداوية وضعف في قوة الإنارة في سهرات باريس الليلية دلالة على اهتزاز العلاقة وتوترها.
ومن العلامات الأخرى الدالة على ارتباط المخرج بالرؤية السينمائية الكلاسيكية، توظيفه لطريقة الكليشيهات في تتابع الصور وتعاقبها، حيث جاء الفيلم على شكل مجموعة من اللقطات المنقطعة، حيث تختفي اللقطة بعد انتهاء مضمونها، لتعوضها لقطة أخرى، بمضمون آخر، مع احترام التعاقب الزمني والاتصال الحكائي، وكأننا أمام فصول مسرحية منفصلة، تفتتح وتنتهي بإغلاق الستار. في حين جاءت لقطات الفيلم متنوعة بين اللقطات المتوسطة أثناء تصوير المخرج للعروض الغنائية فوق الخشبة، واللقطات المقربة التي ترسم ملامح العاشقين وهيئتهما الخارجية المتأثرة بجراح الداخل.
وبالنسبة للزمان والمكان، فقد جاءا متوافقين في الدلالة على حالة التصادم والصراع السياسي التي يعيشها العالم في تلك الفترة. فالزمان إحالة صريحة لفترة الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وعنوان الفيلم مؤشر واضح على هذه الإحالة، كما أن أحداث الفيلم تجري ما بين فترة الأربعينيات والستينيات، المرحلة التي ستعرف تكهرُّب الأجواء السياسية بين المعسكرين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي والغربي بقيادة و.م.أ. أما المكان فإن انقسامه خاضع لانقسام العالم إلى القطبين، فبولونيا هي قطاع أوربي شرقي مرهون بتبعيته للاشتراكيين، وفرنسا هي مجال أوربي غربي مطبوع بالأيديولوجية الرأسمالية. ومن هنا ستكون أحداث الفيلم تشخيصًا لصراع القطبين عبر مجموعة من الأساليب الفنية التي تبرز هذه الاضطرابات والتقلبات، وما عاطفة الحبيبين إلا نموذج لهذا الاضطراب.
يبقى أن نشير في ختام هذا المقال أن الفيلم مرشح بقوة للظفر بأحد جوائز الأوسكار، مستفيدا من التقييمات الإيجابية التي لاقاها من طرف النقاد، ليكون هذا العمل الإبداعي المميز فرصة أخرى أمام المخرج العبقري بافل بافليكوفسكي للحصول على جائزة ثانية من طرف أكاديمية الفنون، بعد الأولى التي تحصل عليها عن فيلمه «إيدا» سنة 2013 في صنف أفضل فيلم أجنبي.

جاء الفيلم احتفاء واحتفالا بالموسيقى الفلكلورية وغنياً بالعروض الغنائية الشعبية