إشكالات قصيدة النثر العربية بين التنظير الغربي والنقد العربي

إشكالات قصيدة النثر العربية  بين التنظير الغربي والنقد العربي

من المعروف أن الشعر العربي، منذ العصر الجاهلي إلى يومنا هذا، قد لحقته تغيرات وتطورات اختلفت حدتها وأشكالها من فترة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر، وهي تطورات لم تخرج بشكل عام عن جوانب ثلاثة في القصيدة؛ هي: الشكل والمضمون والإيقاع. 

 

وفق‭ ‬هذه‭ ‬التطورات،‭ ‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الحدود‭ ‬التاريخية‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬مراحل‭ ‬تطور‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬وسياقاتها‭ ‬الثقافية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬ظهور‭ ‬شكل‭ ‬شعري‭ ‬جديد‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬هدم‭ ‬الشكل‭ ‬السابق‭ ‬له،‭ ‬يمكن‭ ‬تصنيف‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬أشكال‭ ‬ثلاثة‭ ‬تتمايز‭ ‬حدودها‭ ‬وخصائصها‭ ‬بشكل‭ ‬واضح؛‭ ‬هي‭: ‬القصيدة‭ ‬العمودية،‭ ‬وقصيدة‭ ‬التفعيلة،‭ ‬وقصيدة‭ ‬النثر‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬بعد‭ ‬مستقراً‭ ‬لها،‭ ‬ولم‭ ‬تتخذ‭ ‬لنفسها‭ ‬سبيلاً‭ ‬يُمَكّنها‭ ‬من‭ ‬الاستمرار‭ ‬وفرض‭ ‬ذاتها‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬بالخصوص،‭ ‬فهي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬هائمة‭ ‬على‭ ‬وجهها،‭ ‬تترامى‭ ‬بين‭ ‬حرية‭ ‬الإبداع‭ ‬وصرامة‭ ‬النقد‭. ‬

فما‭ ‬حدود‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬الكتابة؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬إمكاناته‭ ‬الشعرية؟‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬الإشكالات‭ ‬التي‭ ‬
مازال‭ ‬يتخبط‭ ‬فيها؟

ظهر‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬مع‭ ‬بودلير‭ ‬ومالارميه،‭ ‬وتم‭ ‬تحديده‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الناقدة‭ ‬الفرنسية‭ ‬سوزان‭ ‬بيرنار‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬كتابها‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‭: ‬من‭ ‬بودلير‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1978،‭ ‬والذي‭ ‬يعد‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬نظّر‭ ‬‮«‬لقصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬ووضع‭ ‬أسسها‭. ‬

وبرغم‭ ‬أن‭ ‬كاتبته‭ ‬قد‭ ‬اقتصرت‭ ‬في‭ ‬دراستها‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬الفرنسي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬يعد‭ ‬مرجعاً‭ ‬أساسياً‭ ‬لدراسة‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬نثر‮»‬‭ ‬إبداعاً‭ ‬ونقداً‭.‬

ومن‭ ‬البديهي‭ ‬أن‭ ‬يستلهم‭ ‬الشعراء‭ ‬العرب‭ ‬ثم‭ ‬النقاد‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬بفضل‭ ‬الترجمة‭ ‬والانفتاح‭ ‬الثقافي،‭ ‬ويحاولون‭ ‬استثماره‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬إبداعاً‭ ‬ونقداً،‭ ‬والبحث‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬أسس‭ ‬نظرية‭ ‬وإبداعية‭ ‬في‭ ‬الموروث‭ ‬الشعري‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ظهور‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الأدبية‭ ‬والنقدية‭ ‬سيطاله‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬اللبس‭ ‬والغموض،‭ ‬وتطرح‭ ‬إشكالات‭ ‬مصطلحية‭ ‬وفنية‭.‬

 

إشكال‭ ‬المصطلح

إن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يطرحه‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬التناقض‭ ‬الدلالي‭ ‬الصريح‭ ‬الذي‭ ‬أحدثته‭ ‬إضافة‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬قصيدة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬نثر‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬من‭ ‬العسير‭ ‬فهمه‭ ‬واستيعابه،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الذائقة‭ ‬العربية‭ ‬اعتادت‭ ‬الفصل‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬خصوصيات‭ ‬كل‭ ‬جنس‭ ‬تم‭ ‬الاتفاق‭ ‬عليها‭ ‬مسبقاً،‭ ‬والتي‭ ‬قام‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬بهتك‭ ‬حدودها‭. ‬

ويعد‭ ‬أدونيس‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬استعمل‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬له‭ ‬نشر‭ ‬بمجلة‭ ‬‮«‬شعر‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬1960‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬،‭ ‬والذي‭ ‬أخذه‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬والنقاد‭ ‬الغربيين،‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬عند‭ ‬سوزان‭ ‬بيرنار‭.‬

ويرى‭ ‬نجيب‭ ‬العوفي‭ ‬أن‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الأنسب‭ ‬لهذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬الشعرية،‭ ‬فهو‭ ‬يجمع‭ ‬في‭ ‬صيغته‭ ‬الإضافية‭ (‬قصيدة‭ ‬النثر‭) ‬بين‭ ‬أهم‭ ‬خاصيتين،‭ ‬الخاصية‭ ‬الأولى‭ ‬أنها‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ (‬قصيدة‭)‬،‭ ‬والثانية‭ ‬أنها‭ ‬مصوغة‭ ‬بلغة‭ ‬شعرية‭ ‬متحررة‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭ (‬نثر‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬دامت‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬جامعة‭ ‬بين‭ ‬‮«‬وهج‭ ‬الشعر‭ ‬وسيولة‭ ‬النثر‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬تسميتها‭ ‬المتداولة‭ ‬تبقى‭ ‬الأدل‭ ‬عليها‭ ‬والأنسب‭ ‬لها‭.‬

والإشكال‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬يُطرح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬هو‭ ‬تعدد‭ ‬المصطلحات‭ ‬الشعرية‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬النقدية،‭ ‬التي‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬الأشكال‭ ‬الشعرية‭ ‬الحديثة،‭ ‬والتباس‭ ‬مفاهيمها‭ ‬مع‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر»؛‭ ‬وهي‭ ‬مصطلحات‭ ‬كثيرة،‭ ‬مثل‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور،‭ ‬النثر‭ ‬الفني،‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬القصيدة‭ ‬الحرة،‭ ‬النثر‭ ‬الشعري،‭ ‬الشعر‭ ‬المطلق،‭ ‬الشعر‭ ‬المرسل،‭ ‬وغيرها‭.‬

وبرغم‭ ‬أن‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬يظل‭ ‬أكثر‭ ‬استعمالا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬اختلافاً‭ ‬بين‭ ‬الشعراء‭ ‬والنقاد‭ ‬حول‭ ‬استعمال‭ ‬المصطلح‭ ‬الشعري‭ ‬وتوحيده‭. ‬فـ‭ ‬‮«‬التصنيف‭ ‬الأجناسي‭ ‬للقصيدة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة،‭ ‬طرح‭ ‬مشاكل‭ ‬متعددة‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬النقدية‭ ‬لتعدد‭ ‬المصطلحات‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحيله‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬المنثور،‭ ‬كالنثر‭ ‬الشعري‭ ‬والشعر‭ ‬المرسل،‭ ‬والشعر‭ ‬الحر،‭ ‬وقصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭.‬

والأمر‭ ‬الثالث‭ ‬الذي‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه،‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تخلقه‭ ‬ترجمة‭ ‬المصطلحات‭ ‬الشعرية‭ ‬من‭ ‬لغات‭ ‬أجنبية‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬اختلافاً‭ ‬واضحاً‭ ‬بين‭ ‬ترجمات‭ ‬الكتاب‭ ‬العرب‭ ‬للمصطلحات‭ ‬الأجنبية‭. ‬فنجد‭ ‬للمصطلح‭ ‬الواحد‭ ‬ترجمات‭ ‬عديدة‭ ‬ومختلفة‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭. ‬فأمين‭ ‬الريحاني‭ ‬مثلاً‭ ‬يوظف‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬المنثور‮»‬‭ ‬ترجمة‭ ‬لـ‭ ‬free‭ ‬verse،‭ ‬وتترجمه‭ ‬حورية‭ ‬الخمليشي‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬الحر‭ ‬الطليق‮»‬،‭ ‬وغيرهما‭ ‬يترجمه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬الحر‮»‬‭. ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬مصطلح‭ ‬poeme‭ ‬en‭ ‬prose‭ ‬مترجماً‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬عند‭ ‬أدونيس‭ ‬وزهير‭ ‬مجيد‭ ‬مغامس،‭ ‬بينما‭ ‬ترجمته‭ ‬حورية‭ ‬الخمليشي‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬المنثور‮»‬‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬أول،‭ ‬وإلى‭ ‬‮«‬نثر‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬ثانٍ‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬نفسه‭.‬

 

إشكال‭ ‬التجنيس

أثارت‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬جدلاً‭ ‬حاداً‭ ‬بين‭ ‬النقاد‭ ‬والشعراء‭ ‬العرب‭ ‬فيما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬أم‭ ‬إلى‭ ‬النثر،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬نثر‮»‬‭ ‬يُبيّن‭ ‬تناقضاً‭ ‬صارخاً،‭ ‬إذ‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لنص‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬يجمع،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬بين‭ ‬جنسين‭ ‬أدبيين‭ ‬اعتاد‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬يجعلوا‭ ‬أحدهما‭ ‬نقيض‭ ‬الآخر،‭ ‬ووجود‭ ‬الأول‭ ‬رهين‭ ‬بغياب‭ ‬الثاني‭ ‬والعكس‭ ‬وارد‭. ‬فما‭ ‬حدود‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر؟‭ ‬وما‭ ‬موضع‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬بينهما؟

إن‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭ ‬ووضع‭ ‬حدود‭ ‬صارمة‭ ‬بينهما‭ ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬بالأمر‭ ‬الهيّن،‭ ‬فقد‭ ‬قام‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬والغربيون،‭ ‬كل‭ ‬حسب‭ ‬تصوره،‭ ‬بوضع‭ ‬تعريفات‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭ ‬حاولوا‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬التمييز‭ ‬بينهما،‭ ‬لكنها‭ ‬تبقى‭ ‬تحديدات‭ ‬متباينة‭ ‬بل‭ ‬ومتناقضة‭ ‬أحياناً،‭ ‬لاختلاف‭ ‬المعايير‭ ‬التي‭ ‬انطلق‭ ‬منها‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭.‬

ففي‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬نجد‭ ‬أغلب‭ ‬نقاد‭ ‬الشعر‭ ‬كابن‭ ‬طباطبا‭ ‬وحازم‭ ‬القرطاجني‭ ‬وقدامة‭ ‬بن‭ ‬جعفر‭ ‬وابن‭ ‬رشيق‭ ‬وغيرهم،‭ ‬يربطون‭ ‬الشعر‭ ‬بالوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬ونورد‭ ‬كمثال‭ ‬تعريف‭ ‬قدامة‭ ‬بن‭ ‬جعفر‭ ‬للشعر‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬كلام‭ ‬موزون‭ ‬مقفى‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬معنى‮»‬،‭ ‬ويميّزه‭ ‬بذلك‭ ‬عن‭ ‬النثر‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬سمات،‭ ‬هي‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬والمعنى،‭ ‬فكل‭ ‬كلام‭ ‬خالٍ‭ ‬من‭ ‬عنصر‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬يبقى‭ ‬خارجاً‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭. ‬وهو‭ ‬نفس‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬ابن‭ ‬رشيق‭ ‬حين‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الوزن‭ ‬أعظم‭ ‬أركان‭ ‬حد‭ ‬الشعر‭ ‬وأولاها‭ ‬به‭ ‬خصوصية‮»‬‭. ‬وبهذا‭ ‬يبقى‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬أهم‭ ‬مقومات‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬القدامى‭.‬

ويعلق‭ ‬محمد‭ ‬بنيس‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬الذي‭ ‬أولاه‭ ‬القدماء‭ ‬للوزن،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬المغربي‭ ‬الحديث‭ ‬بنياته‭ ‬وإبدالاته‮»‬‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬أفاض‭ ‬الشاعريون‭ ‬العرب‭ ‬القدماء‭ ‬في‭ ‬حديثهم‭ ‬عن‭ ‬الأوزان،‭ ‬كما‭ ‬أبدعوا‭ ‬في‭ ‬تقطيعها‭ ‬وتصنيفها،‭ ‬والخليل‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬كان‭ ‬عبقري‭ ‬هذه‭ ‬الصناعة‭ ‬بلا‭ ‬ريب‭. ‬ولكنهم‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تأملوا‭ ‬وظائف‭ ‬الأوزان‭ ‬كما‭ ‬تأملوا‭ ‬بنياتها،‭ ‬ومن‭ ‬الوظائف‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬التركيز‭ ‬عليها‭ ‬هي‭ ‬الوظيفة‭ ‬التزيينية‭ ‬والنفسية‮»‬‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬والنقاد‭ ‬المعاصرين،‭ ‬رفضوا‭ ‬اعتبار‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬مقوِّمين‭ ‬أساسيّين‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬الشعر‭ ‬إلا‭ ‬عليهما‭. ‬فهذا‭ ‬أدونيس‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬تعريف‭ ‬قدامة‭ ‬بن‭ ‬جعفر‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬الكلام‭ ‬الموزون‭ ‬المقفى،‭ ‬عبارة‭ ‬تشوه‭ ‬الشعر‭. ‬فهي‭ ‬العلامة‭ ‬والشاهد‭ ‬على‭ ‬المحدودية‭ ‬والانغلاق‭. ‬وهي،‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬معيار‭ ‬يناقض‭ ‬الطبيعة‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬ذاتها‭. ‬فهذه‭ ‬الطبيعة‭ ‬عفوية،‭ ‬فطرية،‭ ‬انبثاقية‭. ‬وذلك‭ ‬حكم‭ ‬عقلي‭ ‬منطقي‮»‬‭. ‬فالوزن‭ ‬والقافية‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬عنصران‭ ‬يقتلان‭ ‬جوهر‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تقييد‭ ‬معانيه‭ ‬وجعلها‭ ‬منغلقة‭ ‬محدودة‭. ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬أمين‭ ‬الريحاني‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬إذ‭ ‬جعل‭ ‬للصيغ‭ ‬أوزاناً‭ ‬وقياسات‭ ‬تقيدها،‭ ‬تتقيد‭ ‬معها‭ ‬الأفكار‭ ‬والعواطف،‭ ‬فتجيء‭ ‬غالباً‭ ‬فيها‭ ‬نقص‭ ‬أو‭ ‬حشو‭ ‬أو‭ ‬تبذل‭ ‬أو‭ ‬تشوه‭ ‬أو‭ ‬إبهام‮»‬‭. ‬

وفي‭ ‬النقد‭ ‬الغربي‭ ‬أيضاً‭ ‬وضع‭ ‬النقاد‭ ‬تحديدات‭ ‬تميّز‭ ‬الشعر‭ ‬عن‭ ‬النثر،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬معاييرهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬معايير‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭. ‬وسنكتفي‭ ‬بإيراد‭ ‬ما‭ ‬قدمه‭ ‬جون‭ ‬كوهن‭ ‬Jean‭ ‬Cohen‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬بنية‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬انطلق‭ ‬من‭ ‬السمات‭ ‬الشعرية‭ ‬للّغة‭ ‬للتمييز‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر،‭ ‬فاعتبر‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬لغة‭ ‬تحتفظ‭ ‬بمستويين‭ ‬أساسيين‭ ‬من‭ ‬المقومات‭ ‬الشعرية،‭ ‬يتمثلان‭ ‬في‭ ‬المستوى‭ ‬الدلالي‭ ‬والمستوى‭ ‬الصوتي‭.‬

وانطلاقاً‭ ‬من‭ ‬هذين‭ ‬المستويين،‭ ‬ميّز‭ ‬كوهن‭ ‬بين‭ ‬ثلاثة‭ ‬أصناف‭ ‬من‭ ‬الشعر؛‭ ‬الأول‭ ‬سمّاه‭ ‬‮«‬القصائد‭ ‬الدلالية‮»‬،‭ ‬ويقصد‭ ‬به‭ ‬بالضبط‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬،‭ ‬والثاني‭ ‬سمّاه‭ ‬‮«‬القصائد‭ ‬الصوتية‮»‬،‭ ‬ويمثل‭ ‬له‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬النثر‭ ‬المنظوم‮»‬،‭ ‬والثالث‭ ‬سمّاه‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬الصوتي‭ - ‬الدلالي‮»‬‭ ‬أو‭ ‬الشعر‭ ‬الكامل‭. ‬

الصنف‭ ‬الأول‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الدلالي‭ ‬للغة‭ ‬فقط‭ ‬دون‭ ‬جانبها‭ ‬الصوتي،‭ ‬وهذه‭ ‬العناصر‭ ‬الدلالية‭ ‬وحدها‭ ‬تكفي‭ ‬لخلق‭ ‬الجمال‭ ‬المطلوب‭. ‬بينما‭ ‬لا‭ ‬يعتمد‭ ‬الصنف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬عناصرها‭ ‬الصوتية،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ندرج‭ ‬فيه‭ ‬أي‭ ‬عمل‭ ‬مهم‭ ‬أدبياً‭. ‬والصنف‭ ‬الثالث‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬السمات‭ ‬الصوتية‭ ‬والدلالية‭ ‬للغة‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه،‭ ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬كاملاً‭ ‬شعرياً‭. ‬

وأضاف‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الأصناف‭ ‬الثلاثة‭ ‬تصنيفاً‭ ‬رابعاً‭ ‬اعتبره‭ ‬‮«‬النثر‭ ‬الكامل‮»‬،‭ ‬ويرى‭ ‬أنه‭ ‬وحده‭ ‬يستحق‭ ‬اسم‭ ‬النثر،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يعتمد‭ ‬السمات‭ ‬الصوتية‭ ‬ولا‭ ‬الدلالية‭ ‬في‭ ‬اللغة،‭ ‬ويمثّل‭ ‬له‭ ‬بالخطاب‭ ‬العلمي‭.‬

فقصيدة‭ ‬النثر‭ ‬تطرح‭ ‬صعوبة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬تجنيسها‭ ‬على‭ ‬مستويات‭ ‬عدة،‭ ‬أولها‭ ‬اختلاف‭ ‬أشكال‭ ‬كتابتها،‭ ‬ثانيها‭ ‬تخليها‭ ‬عن‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬وثالثها‭ ‬غموض‭ ‬تسميتها‭. ‬فعلى‭ ‬مستوى‭ ‬الشكل‭ ‬نجد‭ ‬اختلافاً‭ ‬بين‭ ‬كتّاب‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬يجعلها‭ ‬فقرات‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬النثرية‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬أدونيس‮»‬،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬يكتبها‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬أسطر‭ ‬مثل‭ ‬قصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬كمحمد‭ ‬الماغوط‭. ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬تحتفظ‭ ‬في‭ ‬إيقاعها‭ ‬بعنصرين‭ ‬ظلا‭ ‬لعهد‭ ‬طويل‭ ‬يشكلان‭ ‬عمود‭ ‬الشعر‭ ‬وأساسه،‭ ‬والميزتان‭ ‬اللتان‭ ‬يَفضُل‭ ‬بهما‭ ‬النثر،‭ ‬وهما‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬فتحرر‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬منهما‭ ‬جعل‭ ‬أمر‭ ‬تصنيفها‭ ‬شعراً‭ ‬أم‭ ‬نثراً‭ ‬شبه‭ ‬مستحيل‭.‬

ثم‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التسمية،‭ ‬حيث‭ ‬أشرنا‭ ‬فيما‭ ‬سبق‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬تطرح‭ ‬تناقضاً‭ ‬دلالياً‭ ‬واضحاً‭ ‬في‭ ‬تسميتها،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬تصنيفها‭ ‬تحت‭ ‬جنس‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬النثر‭ ‬أمراً‭ ‬معقداً،‭ ‬فبرغم‭ ‬محاولة‭ ‬النقاد‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الجنسين‭ ‬وتحديد‭ ‬سمات‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهما،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬معاييرهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يطبعها‭ ‬الخلاف،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬تجنيس‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬يشوبه‭ ‬الخلاف‭ ‬نفسه،‭ ‬وتتعدد‭ ‬معايير‭ ‬تصنيفها‭ ‬نثراً‭ ‬أم‭ ‬شعراً‭ ‬أم‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭.‬

فجون‭ ‬كوهن،‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر،‭ ‬اعتبر‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‮»‬‭ ‬شعراً‭ ‬دلالياً،‭ ‬فعل‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬غياب‭ ‬السمات‭ ‬الصوتية‭ ‬فيها،‭ ‬فإن‭ ‬اعتمادها‭ ‬على‭ ‬السمات‭ ‬الدلالية‭ ‬وحدها‭ ‬كافٍ‭ ‬لعدّها‭ ‬شعراً‭. ‬يقول‭: ‬‮«‬فالقصيدة‭ ‬النثرية‭ ‬تحتوي‭ ‬عموماً‭ ‬على‭ ‬سمات‭ ‬دلالية‭ ‬كالتي‭ ‬تستعملها‭ ‬القصيدة‭ ‬المنظومة‮»‬‭.‬

ويذهب‭ ‬أدونيس‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬حيث‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬الجديدة‭ ‬‮«‬لن‭ ‬تسكن‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شكل،‭ ‬وهي‭ ‬جاهدة‭ ‬أبداً‭ ‬في‭ ‬الهرب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬الانحباس‭ ‬في‭ ‬أوزان‭ ‬أو‭ ‬إيقاعات‭ ‬محدودة،‭ ‬بحيث‭ ‬يتاح‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬توحي‭ ‬بالإحساس‭ ‬بجوهر‭ ‬متموج‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬إدراكاً‭ ‬كلياً‭ ‬ونهائياً‮»‬‭. ‬ففي‭ ‬نظره‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬كل‭ ‬التحديدات‭ ‬الأجناسية‭ ‬الضيّقة‭ ‬التي‭ ‬تقيّد‭ ‬الإبداع‭ ‬وتحد‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬المبدع،‭ ‬ويقول‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬مقدمة‭ ‬للشعر‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬يعرض‭ ‬أهداف‭ ‬دراسته،‭ ‬إنها‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تجاوز‭ ‬الأنواع‭ ‬الأدبية‭ (‬النثر،‭ ‬الشعر،‭ ‬القصة،‭ ‬المسرحية‭... ‬إلخ‭) ‬وصهرها‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬الكتابة‮»‬‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬والشعراء‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬يعارض‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬الشعري‭ ‬الجديد،‭ ‬ويرفض‭ ‬تجنيسه‭ ‬ضمن‭ ‬الإبداع‭ ‬الشعري،‭ ‬متمسكين‭ ‬برأيهم‭ ‬بأهمية‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬عمل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شعرياً،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬نجد‭ ‬أحمد‭ ‬عبد‭ ‬المعطي‭ ‬حجازي،‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬كتاباً‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬أو‭ ‬القصيدة‭ ‬الخرساء‮»‬،‭ ‬خصصه‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬مساوئ‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يستطع،‭ ‬في‭ ‬نظره،‭ ‬أن‭ ‬يثبت‭ ‬ذاته‭ ‬ويقنع‭ ‬الآخرين‭ ‬بأنه‭ ‬شعر‭. ‬ويقول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭: ‬‮«‬إن‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬على‭ ‬ظهورها‭ ‬أن‭ ‬تقنعنا‭ ‬بأنها‭ ‬قصيدة،‭ ‬أو‭ ‬بأنها‭ ‬شعر‭ ‬بالمعنى‭ ‬الاصطلاحي‭ ‬للكلام،‭ ‬أو‭ ‬بأنها‭ ‬شعر‭ ‬آخر‭ ‬يكافئ‭ ‬الشعر‭ ‬كما‭ ‬نعرفه‭ ‬أو‭ ‬يساويه‮»‬‭.‬

 

إشكال‭ ‬المعايير‭ ‬الفنية

لقد‭ ‬وضعت‭ ‬سوزان‭ ‬بيرنار‭ ‬ثلاثة‭ ‬مبادئ‭ ‬تنبني‭ ‬عليها‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر،‭ ‬وهي‭: ‬مبدأ‭ ‬الوحدة‭ ‬العضوية،‭ ‬وتقصد‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬القصيدة‭ ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬إرادة‭ ‬بناء‭ ‬وتنظيم‭ ‬واعية،‭ ‬تتسم‭ ‬بالاستقلال‭ ‬والانغلاق‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تفقد‭ ‬صفتها‭ ‬كقصيدة‭. ‬مبدأ‭ ‬المجانية،‭ ‬وتقصد‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬لا‭ ‬غاية‭ ‬لها‭ ‬خارج‭ ‬ذاتها،‭ ‬فلا‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬عرض‭ ‬أحداث‭ ‬أو‭ ‬أفكار،‭ ‬وما‭ ‬يحقق‭ ‬هذه‭ ‬المجانية‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬هو‭ ‬عنصر‭ ‬اللازمنية،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬بودلير‭ ‬مبدأ‭ ‬‮«‬الانقطاع‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تختلف‭ ‬به‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬عن‭ ‬النص‭ ‬النثري‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬فيه‭ ‬عنصر‭ ‬التسلسل‭ ‬الزمني‭ ‬عنصراً‭ ‬ضرورياً‭. ‬ومبدأ‭ ‬الإيجاز،‭ ‬وتعني‭ ‬به‭ ‬أن‭ ‬تعتمد‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬على‭ ‬التكثيف‭ ‬الدلالي‭ ‬والإيحاء‭ ‬الرمزي،‭ ‬وتتجنب‭ ‬كل‭ ‬التفاصيل‭ ‬والتفسيرات‭ ‬والاستطرادات‭ ‬والشروحات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تقودها‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬عن‭ ‬وحدتها‭ ‬وانفتاحها‭ ‬على‭ ‬عناصر‭ ‬النثر‭ ‬الأخرى‭. ‬

لكن‭ ‬هذه‭ ‬المعايير‭ ‬التي‭ ‬حددتها‭ ‬سوزان‭ ‬بيرنار‭ ‬تظل‭ ‬غامضة‭ ‬ونسبية،‭ ‬لا‭ ‬تتسم‭ ‬بالصرامة‭ ‬والقوة‭ ‬لفرض‭ ‬‮«‬شعرية‮»‬‭ ‬القصيدة‭ ‬النثرية‭ ‬العربية‭ ‬واستقلاليتها،‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬القصيدة‭ ‬التقليدية‭ ‬وقصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬التي‭ ‬تخضع‭ ‬لصرامة‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭. ‬وربما‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يفسر‭ ‬تعدد‭ ‬أشكالها‭ ‬وصعوبة‭ ‬تحديد‭ ‬معالمها‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬النصوص‭ ‬الأخرى‭.‬

وأول‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬ملاحظته‭ ‬عند‭ ‬الاطّلاع‭ ‬على‭ ‬نماذج‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬النثر‭ ‬العربية،‭ ‬أنها‭ ‬انزاحت‭ ‬عن‭ ‬الشكل‭ ‬المألوف‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬التقليدية‭ ‬وقصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬كذلك،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬هاتين‭ ‬الأخيرتين‭ ‬تبنيان‭ ‬شكليهما‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أوزان‭ ‬شعرية‭ ‬وقافية‭ ‬متفق‭ ‬عليها‭ ‬مسبقاً،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تحررت‭ ‬منه‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭. ‬لهذا‭ ‬نجد‭ ‬أشكال‭ ‬كتابتها‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬شاعر‭ ‬لآخر،‭ ‬بل‭ ‬وتختلف‭ ‬أشكالها‭ ‬عند‭ ‬الشاعر‭ ‬نفسه؛‭ ‬كما‭ ‬نجده‭ ‬عند‭ ‬الشاعر‭ ‬المغربي‭ ‬محمد‭ ‬بنيس‭.‬

فتحرّر‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬من‭ ‬عروض‭ ‬الخليل‭ ‬مكن‭ ‬أصحابها‭ ‬من‭ ‬كتابتها‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬الذي‭ ‬يرغبون،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الشكل‭ ‬الشعري‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬عنصراً‭ ‬ثابتاً‭ ‬فيها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يوضحه‭ ‬قول‭ ‬سوزان‭ ‬بيرنار‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬الشروط‭ ‬العضوية‭ ‬لقصيدة‭ ‬النثر‭ ‬مضاعفة‭: ‬فهي‭ ‬الشكل‭ ‬الشعري‭ ‬لفوضوية‭ ‬محررة‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬مع‭ ‬القيود‭ ‬الشكلية،‭ ‬وكذلك‭ ‬نتيجة‭ ‬لإرادة‭ ‬تنظيم‭ ‬فني‭ ‬يسمح‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تتخذ‭ ‬شكلاً‭ ‬وتصبح‭ ‬كائناً‭ ‬موضوعاً‭ ‬فنياً‮»‬‭. ‬

ويكفينا‭ ‬أن‭ ‬نقارن‭ ‬بين‭ ‬نموذجين‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬للشاعر‭ ‬المغربي‭ ‬محمد‭ ‬بنيس،‭ ‬الأولى‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬حديقة‭ ‬الألواح‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬قصيدة‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬سبع‭ ‬صفحات،‭ ‬بمجلة‭ ‬‮«‬البيت‮»‬‭ ‬سنة‭ ‬2003،‭ ‬والثانية‭ ‬بعنوان‭: ‬‮«‬رأسي‭ ‬التي‭ ‬اكتملت‭ ‬أخيرا‮»‬،‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬صفحة‭ ‬واحدة،‭ ‬بمجلة‭ ‬‮«‬آفاق‮»‬‭ ‬المغربية،‭ ‬سنة‭ ‬2007‭. ‬لنرى‭ ‬شدة‭ ‬الاختلاف‭ ‬الموجودة‭ ‬بين‭ ‬النموذجين‭ ‬نفسيهما،‭ ‬وبينهما‭ ‬وبين‭ ‬القصيدة‭ ‬التقليدية‭ ‬وقصيدة‭ ‬التفعيلة‭.‬

أما‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الإيقاعي،‭ ‬فقد‭ ‬اختلفت‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬الأشكال‭ ‬الأولى‭ ‬للشعر‭ ‬العربي‭ ‬بتمردها‭ ‬على‭ ‬عروض‭ ‬الخليل،‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعد‭ ‬عمود‭ ‬القصيدة‭ ‬التقليدية‭ ‬وقصيدة‭ ‬التفعيلة‭ ‬وأساس‭ ‬إيقاعهما،‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأوزان‭ ‬والقوافي‭ ‬ضرورة‭ ‬لبناء‭ ‬شعريتها‭ ‬وإيقاعها،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬فهي‭ ‬تعتبرها‭ ‬تقييداً‭ ‬لحريتها‭ ‬وانطلاقها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬أدونيس‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬إن‭ ‬قوانين‭ ‬العروض‭ ‬الخليلي‭ ‬إلزامات‭ ‬كيفية‭ ‬تقتل‭ ‬دفقة‭ ‬الخلق،‭ ‬أو‭ ‬تعرقلها،‭ ‬أو‭ ‬تقسرها‭. ‬فهي‭ ‬تجبر‭ ‬الشاعر‭ ‬أحيانا‭ ‬أن‭ ‬يضحي‭ ‬بأعمق‭ ‬حدوسه‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬مواضعات‭ ‬وزنية‭ ‬كعدد‭ ‬التفعيلات‭ ‬والقافية‮»‬‭. ‬

لكن‭ ‬هل‭ ‬تحرُّر‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬من‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية‭ ‬يعني‭ ‬خلوها‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬بنية‭ ‬إيقاعية؟‭ ‬كلا،‭ ‬فمَع‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭ ‬قد‭ ‬تغيّر‭ ‬مفهوم‭ ‬الإيقاع،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬محصوراً‭ ‬في‭ ‬الأوزان‭ ‬والقوافي‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬القديمة‭. ‬وإنما‭ ‬تجاوز‭ ‬كل‭ ‬المظاهر‭ ‬النغمية‭ ‬الخارجية‭ ‬من‭ ‬قافية‭ ‬وجناس‭ ‬وتزاوج‭ ‬الحروف،‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الإيقاع‭ ‬يتجاوز‭ ‬هذه‭ ‬المظاهر‭ ‬إلى‭ ‬الأسرار‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬فيما‭ ‬بين‭ ‬النفس‭ ‬والكلمة،‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والحياة‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬حدد‭ ‬محمد‭ ‬الضبع،‭ ‬مكونات‭ ‬الإيقاع‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬في‭ ‬ستة‭ ‬عناصر،‭ ‬هي‭: ‬النبر‭ ‬والتنغيم،‭ ‬المدى‭ ‬الزمني‭ ‬أو‭ ‬التقطيع‭ ‬الزمني،‭ ‬الحركة‭ ‬والسكون‭ (‬الصوت‭/‬الصمت‭)‬،‭ ‬الفترة‭ ‬وتتابع‭ ‬الفترات،‭ ‬التركيب‭ ‬الصوتي‭ ‬للغة‭ ‬النص،‭ ‬والأبعاد‭ ‬الدلالية‭ ‬للنظم‭.‬

إن‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬العربية‭ ‬ذ‭ ‬كأي‭ ‬تجربة‭ ‬جديدة‭ - ‬لم‭ ‬تسلم‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬مطبّات‭ ‬متعددة‭ ‬الأشكال؛‭ ‬كاختلاط‭ ‬في‭ ‬التسميات‭ ‬والمفاهيم،‭ ‬وانفلات‭ ‬في‭ ‬المعايير‭ ‬والمقاييس‭ ‬الشعرية‭ ‬إن‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإبداع‭ ‬أو‭ ‬التلقي،‭ ‬وتشوه‭ ‬في‭ ‬الحدود‭ ‬الأجناسية‭ ‬المألوفة‭. ‬ووسط‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬يضيع‭ ‬الميثاق‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬والقارئ،‭ ‬وتهيم‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭ ‬على‭ ‬وجهها‭ ‬متخبطة‭ ‬في‭ ‬غياهب‭ ‬الإبداع،‭ ‬فتُقرأ‭ ‬تارة‭ ‬نثراً‭ ‬وتارة‭ ‬شعراً،‭ ‬وتُنسف‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬الأجناس‭ ‬والأنواع‭ ‬الأدبية،‭ ‬وتختلط‭ ‬أوراق‭ ‬النقد‭ ‬والإبداع،‭ ‬فتبقى‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬مشجباً‭ ‬يعلق‭ ‬عليه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ظن‭ ‬نفسه‭ ‬شاعراً‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬الشعر،‭ ‬بدعوى‭ ‬الحرية‭ ‬الإبداعية‭. ‬أفلا‭ ‬يمكن‭ ‬إذن‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬النثر‭ ‬كنوع‭ ‬شعري‭ ‬جديد،‭ ‬لا‭ ‬كبديل‭ ‬شعري‭ ‬يأخذ‭ ‬مكان‭ ‬القصيدة‭ ‬المعتادة،‭ ‬ويرث‭ ‬تاريخها‭ ‬وأسرارها؟‭ ‬‭■‬