الأنثروبولوجيا ومناهضة الاستعمار أنثروبولوجيا جاك بيرك أنموذجًا

ولد جاك بيرك في الجزائر سنة 1910، أي قبيل فرض الحماية على المغرب. عمل في الإدارة الاستعمارية وتقلد منصب مراقب مدني بمدينة فاس المغربية، وتمكن بذلك من تحصيل معرفة مباشرة بالعالم العربي، وهو ما عبر عنه قائلا "لقد كانت فترة مهمة من حياتي، إذ بفضل هذا الاحتكاك الأول بمدينة إسلامية شرعت في تعميق معرفتي باللغة العربية، وبالتشريع الإسلامي، عن طريق أساتذة من الداخل"، حتى ذهب إلى القول إنه لم يعد "يستطيع أن يفصل في ذاته بين ماضيه اللاتيني وماضيه الذي يرجع إلى المغرب الكبير" على حد تعبير الأستاذ محمد وقيدي في كتابه "العلوم الإنسانية والأيديولوجيا".
يضيف وقيدي أن جاك بيرك أعلن انتماءه إلى الميدان المعرفي المعروف بالعلوم الإنسانية بكل فروعه، فهو يسعى كما يقول إلى أن يكون «عالما أنثروبولوجيا ومؤرخًا وعالمًا للاجتماع»، فالتكامل بين العلوم الإنسانية في تحليل واحد، يُمَكن - حسبه - من معرفة الأبعاد المختلفة للظواهر المدروسة، ويمكن من معرفة الواقع الإسلامي من الداخل لا من الخارج.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه خلف أعمالا مهمة من قبيل:
- البنية الاجتماعية بالأطلس الكبير.
- القرآن، محاولة في الترجمة.
- العرب ما بعد الأندلس.
- العرب: الإسلام ونحن.
- اللغة العربية في الحاضر.
- مصر، الإمبريالية والثورة.
- المغرب بين حربين.
ذكر بيرك كيف أن العمل الذي يقوم به لا يدخل في دائرة الاستشراق، الذي يعرفه عامر عبد زيد الوائلي ضمن «موسوعة الاستشراق» بكونه تعبيرا يدل على الاتجاه نحو الشرق، يطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم، وهو تيار ثقافي أجرى ممثلوه دراسات مختلفة عن الشرق الإسلامي، تشمل حضارته وأديانه وآدابه ولغاته وثقافته، وقد يعود سبب التسمية إلى الاهتمام الذي خُصت به الشعوب الشرقية، كالهند وشرق آسيا والصين واليابان وكوريا، وقد أسهم هذا التيار في صوغ التصورات الغربية عن الشرق عامة والعالم الإسلامي خاصة، معبرًا عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما، ويمكن أن نقول بعبارة حسن حنفي إنه رؤية الأنا الذي هو الشرق بأعين الآخر الذي هو الغرب الأوربي. فجاك بيرك يعتبر أن الاستشراق انتهى مع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون المتوفى سنة 1962، الذي خلف مجموعة من الأعمال المهمة من قبيل:
- انفعالات الحلاج.
- دراسة لأصول المعجم التقني عند متصوفة الإسلام.
- كتابات في الذاكرة.
إذ يمثل التقابل بين عمله الأنثروبولوجي والاستشراق تقابلا بين الأيديولوجية والعلم، نظرًا لوجود بعد استعماري للاستشراق، وهو بعد تكشف عنه طبيعة الأبحاث والفترة الزمنية قبيل وفي أثناء الحملة الاستعمارية.
بيرك ومناهضة الاستعمار
يعترف جاك بيرك بكونه عاش على أرض عانت جرحا مزدوجا: الاستعمار والاستلاب، ويقول إن ذلك ساعده على فهم التراث العربي بصورة أوضح، وإنه يتفهم وضعية دفاع المستعمرات ضد كل ما يمكن أن يُفقدها الهوية.
ويقول وقيدي إن «أثر هذه التجربة على وعيه جعله يدرك سلبية ظاهرة الاستعمار وضرورة أن تُمحى»، فقد عبر عن مدى وعيه بالاستغلال الذي تعرضت له المستعمرات، مُبينا أن ذلك أدى إلى تفكيك البنية المجتمعية، وانفصام وحدة الثقافة بهذه المجتمعات.
زينة زائفة
لذلك نجده يقول في كتابه Dépossession du Monde كما هو مبين لدى جيرار لكليرك في كتاب الأنثروبولوجيا والاستعمار «إن هدف علم اجتماع الاستعمار كان السيطرة على الدوام، وكل المقولات التي تشدق بها حول أثر احتكاك الثقافات لم تكن أكثر من زينة زائفة لبحث هدفه في الدرجة الأولى وتبرير الفساد الذي يحدثه».
ويضيف لكليرك «لا تعني إزالة الاستعمار لمؤلفين أمثال جاك بيرك، تفتح الثقافة الغربية على أسس جديدة )نهاية السيطرة السياسية المباشرة)، بقدر ما تعني انبثاق ثقافات مجتمعات حكم عليها في أثناء الفترة الاستعمارية بالموت، أو كانت قد ماتت فعلا»، فكل ذلك دفع بيرك إلى مناهضة ظاهرة الاستعمار والعمل على تجاوزها، وأراد أن يمثل «مرحلة جديدة من الاهتمام بالتراث الثقافي لهذا الجزء الشاسع من العالم»، المعروف بالشرق، على حد تعبير وقيدي.
بيرك واستعمار من نوع جديد
يقول محمد وقيدي إنه لم يكن لظاهرة الاستعمار أن تستمر في شكلها المباشر بسبب ظهور حركات التحرر الوطني في مختلف البلدان، وهو ما عبر عنه لكليرك قائلا «إن إزالة الاستعمار لا تكتفي بإدانة المناهضة الغربية، وإنما هو شيء تبنته )المجتمعات المستعمَرة(بذاتها»، وقد أقام الأوربيون، حسب وقيدي، بدلا من علاقة الاستعمار المباشر علاقة تبادل اقتصادي وثقافي غير متكافئة تضمن استمرار هيمنتهم.
هذا التغير لم يكن من الممكن أن يقع من دون أن يصاحبه تغير على المستوى الأيديولوجي، لذلك يقول وقيدي إنه لم يعد بالإمكان تبرير علاقات الهيمنة في صورتها الجديدة بالعناصر الأيديولوجية القديمة نفسها، فظهرت رؤية أيديولوجية جديدة حاولت استغلال التقنيات التي وفرها تطور العلوم الإنسانية لكي تغير فقط صورة تعبيرها عن نظرتها.
نزعة مركزية
لقد عبرت أعمال بيرك عن طبيعة فترة التحول تلك، فهو يمثل نموذجًا عاش فترة الانتقال من الاستعمار في صورته القديمة إلى الهيمنة الاستعمارية في صورتها الجديدة، وظل فكره كما هو واضح في كتاب من «التراث إلى الثورة» لطيب تزيني، يدور في فلك النزعة المركزية الأوربية.
إن جاك بيرك، وفق وقيدي، يؤكد دائما أنه بحكم انتمائه المشترك صار يدرك حقيقتين، أن العرب راغبون في استعادة دورهم، وأن الغرب يريد أن يفرض نفسه نموذجًا لا محيد عنه، سواء باتباع الطريق البورجوازية أو الاشتراكية «وفي هاتين الفرضيتين معًا تُهمَل الهوية بوصفها بدائية أو بوصفها رجعية»، ومن ثمة شكر بيرك التجربة الاستعمارية في المغرب لأنها حافظت بموجب بعض الإجراءات على الهوية الأصلية، فهو يقول بصدد ليوطي «لقد صان المدن الإسلامية من عدوى المدن الجديدة، كما حافظ ميله إلى السلطة غير المباشرة على الهوية السياسية للشعب المستعمر».
لكن التحليل التاريخي، حسب وقيدي، يكشف أن الاستعمار كان هدمًا للهوية الاقتصادية والاجتماعية، فقد أبقى ليوطي على بعض البنيات التقليدية، لأنه لم يكن «يُحدث تغيرًا إلا حيث يخدم ذلك التغير مصلحته».
إن السياسة التي كان يطبقها ليوطي، بما فيها الحفاظ على الأصالة الذي حدثنا عنه بيرك، لم تكن في نهاية التحليل إلا تمهيدًا لقيام الاستعمار الجديد، فبيرك كان مؤيدا لهذه الأصالة نظريًا وتطبيقيًا، بحكم أنه كان موظفًا في الإدارة الاستعمارية، وهو يعترف بذلك عندما يقول إنه حافظ على الصناعة التقليدية في مدينة فاس، فالصانع التقليدي مظهر للأصالة، لا يجعل الشعب مستعمرًا على الصعيد الواقعي.
وطور جاك بيرك بعد ذلك سياسة جديدة أفكاره حول الاستعمار في مقاله «من أجل سياسة جديدة للاستعمار في المغرب»، إذ نجده يقول «لن يستتب النظام في المغرب إلا بغيابنا عنه»، وهو ما ستعمل به الإدارة الاستعمارية، فإذا كان استتباب الأمن يضمن بقاء مصالحها فذلك أفضل لها.
لقد واكب تطور فكر جاك بيرك، وفق وقيدي، «مراحل معينة من تطور النظرة الاستعمارية، بينما كان بيرك يقدم لنا التطور الحاصل في فكره على أنه تطور حاصل في مجال المعرفة». في إطار نظريته في الحفاظ على الهوية، يقول بيرك إن البلاد العربية تُهمل مظاهر الغنى التي تخصها، فهو يؤكد في كتابه «العرب من الأمس إلى الغد»، أن العربي ميّال «إلى التخلي عن شخصيته الأصلية، في محاولته للتكيف مع العالم الذي يندد به ويخضع له في آن واحد، وبفقدانه طبيعته الذاتية، لن يكتسب في المقابل مكانًا كبيرًا تحت شمس الآخرين». هذه البلدان ليست متخلفة، وفقا لبيرك، بل هي غير واعية بإمكاناتها، فنحن لا ينقصنا سوى اعتماد التكنولوجيا الغربية، وإذا قمنا بذلك فإننا سنمثل الحداثة في أعقد صورها، ولذلك ينبغي علينا ألا ننظر إلى الحداثة المؤسسة على اعتماد التكنولوجيا الغربية خضوعًا للإمبريالية، فهو يقول إن «الشرق العربي في جهده للاتجاه نحو المجال الاقتصادي والتقنية اللذين يسيران العالم يبقى هو ذاته»، فبإمكان العالم الإسلامي أن ينمو من خلال ربط الصلة بماضيه، وكذلك بقبوله بسمة العصر المتمثلة في التكنولوجيا.
هنا نود أن نُسائل بيرك حول طبيعة هذه الصلة وهذه العودة إلى الماضي التي يدعونا إليها، هل هي عودة حنينية غير مُوجَهة؟، فهذه العودة حسب وقيدي ينبغي أن تكون قائمة على تفحص نتائجه وأخذ ما هو عقلاني فيها وما يمكنه أن يكون دعامة للاستمرار، ومعيار عقلانية القيم هو متطلبات اللحظة الراهنة.
كما أن بيرك لم يشرح الكيفية التي ينبغي أن يتمثل بها العرب التقدم التقني، فهل التملك يكون عن طريق الاستعمال والاستيراد فقط؟، فهو يعطينا السمك، لكن لا يعلمنا كيف نصطاد.
إن أفكار بيرك، وفق وقيدي، «تنسجم مع خطة الاستعمار الجديد في تقسيم العمل بين الدول النامية والدول الساعية إلى النمو، بصورة تضمن هيمنة الدول النامية»، فأصالة العالم المتقدم هي العصر التكنولوجي، أما أصالة العالم الساعي إلى النمو فتكمن في طاقته البشرية وفي قيمه.
في سبيل التخلص من الاستعمارين
إن الغرب هو منشئ العلوم الإنسانية، لكن ذلك لا يعني أنه وحده الذي يمكن أن يكون مصدرًا للموضوعية، فقد رأينا كيف أن تحول الصيغة الأيديولوجية للاستعمار، من استعمار مباشر إلى استعمار غير مباشر، أدى إلى تحول أولوية العلوم الإنسانية على حساب بعضها البعض، فقد تم التحول من الاهتمام بالتاريخ والاستشراق، إلى علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وهو تحول واكب تحول الاهتمام الغربي من ماضي العالم الإسلامي إلى حاضره، باعتماد المناهج البنيوية والوصفية، وهذه التحولات، وفق وقيدي، تمثل اختيارات أيديولوجية.
يقول جاك بيرك ردًا على انتقادات عبدالكبير الخطيبي «جرَّ علي الظمأ إلى النكهات الشرقية صخبًا أثاره مثقف مغربي ناطق بالفرنسية، يريد أن يمنعني من دراسة الشرق، لأن عيبي الأساسي هو أني أجنبي، حسنا، إننا ننتظر المساهمات العلمية التي هي في مستوى ما هو أهل له». فهو برأيه غير قادر على تقديم البديل العلمي لهذه المعرفة الإنسانية التي يقدمها هو.
إن بيرك يقدم أعماله على أنها علمية لعالم يشتغل بالعلوم الاجتماعية، لكنه لا يدرك أن سبب عدم التوازن في الدراسة بين الغرب والشرق لا يرجع إلى القدرة الشخصية للباحث، بل إلى معطيات خارجية، فالغربيون هم الذين يعطون لأنفسهم حق القيام بالدور الأساس، فهم يستحوذون حتى اليوم على الوثائق والمخطوطات فـ «أكثر من مئة وأربعين ألف مخطوط تهم التراث العربي توجد خارج متناول الباحثين العرب»، فالعرب قادرون على تحقيق قدر كبير من الموضوعية لو تحصلوا على وسائل إنتاج العلوم الإنسانية، ورغم عدم امتلاكهم لها تبقى دراساتهم على قدر كبير من الموضوعية، مقارنة مع الغرب المالك لهذه الوسائل، فإسهامات الغرب ينبغي أن تكون إضافة إلى علم موجود، لا أن تنوب عن قيام هذا العلم.
استشعر جرار لكليرك بوادر هذا الأمر قائلا إن «بلدان العالم الثالث لم تحصل بتخلصها من الاستعمار على السيادة الاقتصادية والسياسية الخالصة، لكنها بدأت تتكلم لغتها، وصار بإمكانها أن تستبدل لغة الغرب النرجسية»، ونتمنى أن يتحقق بقية الاستقلال قريبا، لنخرج من إطار الهيمنة التي تكتسب صورة الدفاع، على شاكلة الرجل الذي يترافع عن حقوق المرأة مجسدًا بذلك مظهرا آخر من مظاهر السلطوية عليها، بعدم إعطائها حتى فرصة المرافعة عن نفسها.
كلمة ختامية
إن ما يمكن أن نخلص إليه لا يمكن أن يكون شيئًا آخر غير بسط أمل للمطالبة بمزيد من ترسيخ الحرية، بما هي انفلات من كل هيمنة ممكنة، حتى تلك التي تلبس لباس نقض الهيمنة نفسها، فالأنثروبولوجيا اصطبغت بصبغة استعمارية، جسدها في البداية أشخاص ينتمون إلى مجالات مختلفة، عملت على تيسير سبل الاختراقين السياسي والعسكري، وما أفضى إليه ذلك من اختراقات متعددة على المستوى الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي بصفة عامة.
هذه الأنثروبولوجيا هي التي ستحاول أن تحاسب نفسها فيما بعد، متسلحة بأدوات البحث في العلوم الإنسانية التي ظهرت أخيرا، إلا أن هذه المحاسبة، كما يقول وقيدي، لا تعدو كونها سبيلا لاختراق من نوع جديد، يصنف في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، وهو الأمر الذي استفحل أخيرا مع ظهور ثورة تقنيات الإعلام والاتصال، فقد بات بالإمكان فعل ما لم يستطع الاستعمار المباشر فعله من دون أن نسمع دوي رصاصة واحدة. هكذا لا يسعنا - كما قلنا - إلا أن نأمل في بسط وضع جديد يحترم التعدد الثقافي، ويدافع عنه، لا لشيء سوى لإرادة الدفاع عنه بما هو قيمة إنسانية، تضمن تعايش بني البشر فيما بينهم، لا على حساب بعضهم البعض■