الأنثروبولوجيا ومناهضة الاستعمار أنثروبولوجيا جاك بيرك أنموذجًا

الأنثروبولوجيا ومناهضة الاستعمار أنثروبولوجيا جاك بيرك أنموذجًا

ولد‭ ‬جاك‭ ‬بيرك‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭  ‬سنة‭  ‬1910،‭ ‬أي‭ ‬قبيل‭ ‬فرض‭ ‬الحماية‭ ‬على‭ ‬المغرب‭. ‬عمل‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬وتقلد‭ ‬منصب‭ ‬مراقب‭ ‬مدني‭ ‬بمدينة‭ ‬فاس‭ ‬المغربية،‭ ‬وتمكن‭ ‬بذلك‭ ‬من‭ ‬تحصيل‭ ‬معرفة‭ ‬مباشرة‭ ‬بالعالم‭ ‬العربي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عبر‭  ‬عنه‭ ‬قائلا‭ ‬"لقد‭ ‬كانت‭ ‬فترة‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬حياتي،‭ ‬إذ‭ ‬بفضل‭ ‬هذا‭ ‬الاحتكاك‭ ‬الأول‭ ‬بمدينة‭ ‬إسلامية‭ ‬شرعت‭ ‬في‭ ‬تعميق‭ ‬معرفتي‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وبالتشريع‭ ‬الإسلامي،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬أساتذة‭ ‬من‭ ‬الداخل"،‭ ‬حتى‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬"يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يفصل‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬بين‭ ‬ماضيه‭ ‬اللاتيني‭ ‬وماضيه‭ ‬الذي‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬المغرب‭ ‬الكبير"‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭  ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬وقيدي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬"العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والأيديولوجيا"‭.‬

 

يضيف‭ ‬وقيدي‭ ‬أن‭ ‬جاك‭ ‬بيرك‭ ‬أعلن‭ ‬انتماءه‭ ‬إلى‭ ‬الميدان‭ ‬المعرفي‭ ‬المعروف‭ ‬بالعلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬بكل‭ ‬فروعه،‭ ‬فهو‭ ‬يسعى‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬«عالما‭ ‬أنثروبولوجيا‭ ‬ومؤرخًا‭ ‬وعالمًا‭ ‬للاجتماع»،‭ ‬فالتكامل‭ ‬بين‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬واحد،‭ ‬يُمَكن‭ - ‬حسبه‭ - ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬الأبعاد‭ ‬المختلفة‭ ‬للظواهر‭ ‬المدروسة،‭ ‬ويمكن‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬الواقع‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬الداخل‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬الخارج‭.‬

تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬خلف‭ ‬أعمالا‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭:‬

‭- ‬البنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بالأطلس‭ ‬الكبير‭.‬

‭- ‬القرآن،‭ ‬محاولة‭ ‬في‭ ‬الترجمة‭.‬

‭- ‬العرب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الأندلس‭.‬

‭- ‬العرب‭: ‬الإسلام‭ ‬ونحن‭.‬

‭- ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭.‬

‭- ‬مصر،‭ ‬الإمبريالية‭ ‬والثورة‭.‬

‭- ‬المغرب‭ ‬بين‭ ‬حربين‭.‬

ذكر‭ ‬بيرك‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬لا‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الاستشراق،‭ ‬الذي‭ ‬يعرفه‭ ‬عامر‭ ‬عبد‭ ‬زيد‭ ‬الوائلي‭ ‬ضمن‭ ‬«موسوعة‭ ‬الاستشراق»‭ ‬بكونه‭ ‬تعبيرا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬الاتجاه‭ ‬نحو‭ ‬الشرق،‭ ‬يطلق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يبحث‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬الشرقيين‭ ‬وثقافتهم‭ ‬وتاريخهم،‭ ‬وهو‭ ‬تيار‭ ‬ثقافي‭ ‬أجرى‭ ‬ممثلوه‭ ‬دراسات‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬الشرق‭ ‬الإسلامي،‭ ‬تشمل‭ ‬حضارته‭ ‬وأديانه‭ ‬وآدابه‭ ‬ولغاته‭ ‬وثقافته،‭ ‬وقد‭ ‬يعود‭ ‬سبب‭ ‬التسمية‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬الذي‭ ‬خُصت‭ ‬به‭ ‬الشعوب‭ ‬الشرقية،‭ ‬كالهند‭ ‬وشرق‭ ‬آسيا‭ ‬والصين‭ ‬واليابان‭ ‬وكوريا،‭ ‬وقد‭ ‬أسهم‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬في‭ ‬صوغ‭ ‬التصورات‭ ‬الغربية‭ ‬عن‭ ‬الشرق‭ ‬عامة‭ ‬والعالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬خاصة،‭ ‬معبرًا‭ ‬عن‭ ‬الخلفية‭ ‬الفكرية‭ ‬للصراع‭ ‬الحضاري‭ ‬بينهما،‭ ‬‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬بعبارة‭ ‬حسن‭ ‬حنفي‭ ‬إنه‭ ‬رؤية‭ ‬الأنا‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الشرق‭ ‬بأعين‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الغرب‭ ‬الأوربي‭. ‬فجاك‭ ‬بيرك‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬الاستشراق‭ ‬انتهى‭ ‬مع‭ ‬المستشرق‭ ‬الفرنسي‭ ‬لويس‭ ‬ماسينيون‭ ‬المتوفى‭ ‬سنة‭ ‬1962،‭ ‬الذي‭ ‬خلف‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬المهمة‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬

‭- ‬انفعالات‭ ‬الحلاج‭.‬

‭- ‬دراسة‭ ‬لأصول‭ ‬المعجم‭ ‬التقني‭ ‬عند‭ ‬متصوفة‭ ‬الإسلام‭.‬

‭- ‬كتابات‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭.‬

‭ ‬إذ‭ ‬يمثل‭ ‬التقابل‭ ‬بين‭ ‬عمله‭ ‬الأنثروبولوجي‭ ‬والاستشراق‭ ‬تقابلا‭ ‬بين‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والعلم،‭ ‬نظرًا‭ ‬لوجود‭ ‬بعد‭ ‬استعماري‭ ‬للاستشراق،‭ ‬وهو‭ ‬بعد‭ ‬تكشف‭ ‬عنه‭ ‬طبيعة‭ ‬الأبحاث‭ ‬والفترة‭ ‬الزمنية‭ ‬قبيل‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬الحملة‭ ‬الاستعمارية‭.‬

 

بيرك‭ ‬ومناهضة‭ ‬الاستعمار‭ ‬

يعترف‭ ‬جاك‭ ‬بيرك‭ ‬بكونه‭ ‬عاش‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬عانت‭ ‬جرحا‭ ‬مزدوجا‭: ‬الاستعمار‭ ‬والاستلاب،‭ ‬ويقول‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬ساعده‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬بصورة‭ ‬أوضح،‭ ‬وإنه‭ ‬يتفهم‭ ‬وضعية‭ ‬دفاع‭ ‬المستعمرات‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُفقدها‭ ‬الهوية‭.‬

‭ ‬ويقول‭ ‬وقيدي‭ ‬إن‭ ‬«أثر‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬على‭ ‬وعيه‭ ‬جعله‭ ‬يدرك‭ ‬سلبية‭ ‬ظاهرة‭ ‬الاستعمار‭ ‬وضرورة‭ ‬أن‭ ‬تُمحى»،‭ ‬فقد‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬وعيه‭ ‬بالاستغلال‭ ‬الذي‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬المستعمرات،‭ ‬مُبينا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تفكيك‭ ‬البنية‭ ‬المجتمعية،‭ ‬وانفصام‭ ‬وحدة‭ ‬الثقافة‭ ‬بهذه‭ ‬المجتمعات‭.‬

 

زينة‭ ‬زائفة

لذلك‭ ‬نجده‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬Dépossession du Monde‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مبين‭ ‬لدى‭ ‬جيرار‭ ‬لكليرك‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬والاستعمار‭ ‬«إن‭ ‬هدف‭ ‬علم‭ ‬اجتماع‭ ‬الاستعمار‭ ‬كان‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬وكل‭ ‬المقولات‭ ‬التي‭ ‬تشدق‭ ‬بها‭ ‬حول‭ ‬أثر‭ ‬احتكاك‭ ‬الثقافات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬زينة‭ ‬زائفة‭ ‬لبحث‭ ‬هدفه‭ ‬في‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬وتبرير‭ ‬الفساد‭ ‬الذي‭ ‬يحدثه»‭.‬

ويضيف‭ ‬لكليرك‭ ‬«لا‭ ‬تعني‭ ‬إزالة‭ ‬الاستعمار‭ ‬لمؤلفين‭ ‬أمثال‭ ‬جاك‭ ‬بيرك،‭ ‬تفتح‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬جديدة‭ )‬نهاية‭ ‬السيطرة‭ ‬السياسية‭ ‬المباشرة)‬،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تعني‭ ‬انبثاق‭ ‬ثقافات‭ ‬مجتمعات‭ ‬حكم‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الفترة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬بالموت،‭ ‬أو‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬ماتت‭ ‬فعلا»،‭ ‬فكل‭ ‬ذلك‭ ‬دفع‭ ‬بيرك‭ ‬إلى‭ ‬مناهضة‭ ‬ظاهرة‭ ‬الاستعمار‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تجاوزها،‭ ‬وأراد‭ ‬أن‭ ‬يمثل‭ ‬«مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالتراث‭ ‬الثقافي‭ ‬لهذا‭ ‬الجزء‭ ‬الشاسع‭ ‬من‭ ‬العالم»،‭ ‬المعروف‭ ‬بالشرق،‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬وقيدي‭.‬

 

بيرك‭ ‬واستعمار‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬جديد

يقول‭ ‬محمد‭ ‬وقيدي‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لظاهرة‭ ‬الاستعمار‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬في‭ ‬شكلها‭ ‬المباشر‭ ‬بسبب‭ ‬ظهور‭ ‬حركات‭ ‬التحرر‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬البلدان،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬لكليرك‭ ‬قائلا‭ ‬«إن‭ ‬إزالة‭ ‬الاستعمار‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬بإدانة‭ ‬المناهضة‭ ‬الغربية،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬شيء‭ ‬تبنته‭ )‬المجتمعات‭ ‬المستعمَرة‭(‬بذاتها»،‭ ‬وقد‭ ‬أقام‭ ‬الأوربيون،‭ ‬حسب‭ ‬وقيدي،‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬الاستعمار‭ ‬المباشر‭ ‬علاقة‭ ‬تبادل‭ ‬اقتصادي‭ ‬وثقافي‭ ‬غير‭ ‬متكافئة‭ ‬تضمن‭ ‬استمرار‭ ‬هيمنتهم‭.‬

هذا‭ ‬التغير‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يصاحبه‭ ‬تغير‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الأيديولوجي،‭ ‬لذلك‭ ‬يقول‭ ‬وقيدي‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بالإمكان‭ ‬تبرير‭ ‬علاقات‭ ‬الهيمنة‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬الجديدة‭ ‬بالعناصر‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬القديمة‭ ‬نفسها،‭ ‬فظهرت‭ ‬رؤية‭ ‬أيديولوجية‭ ‬جديدة‭ ‬حاولت‭ ‬استغلال‭ ‬التقنيات‭ ‬التي‭ ‬وفرها‭ ‬تطور‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬لكي‭ ‬تغير‭ ‬فقط‭ ‬صورة‭ ‬تعبيرها‭ ‬عن‭ ‬نظرتها‭.‬

 

نزعة‭ ‬مركزية

‭ ‬لقد‭ ‬عبرت‭ ‬أعمال‭ ‬بيرك‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬فترة‭ ‬التحول‭ ‬تلك،‭ ‬فهو‭ ‬يمثل‭ ‬نموذجًا‭ ‬عاش‭ ‬فترة‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬في‭ ‬صورته‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬الهيمنة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬الجديدة،‭ ‬وظل‭ ‬فكره‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬من‭ ‬«التراث‭ ‬إلى‭ ‬الثورة»‭ ‬لطيب‭ ‬تزيني،‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬فلك‭ ‬النزعة‭ ‬المركزية‭ ‬الأوربية‭.‬

إن‭ ‬جاك‭ ‬بيرك،‭ ‬وفق‭ ‬وقيدي،‭ ‬يؤكد‭ ‬دائما‭ ‬أنه‭ ‬بحكم‭ ‬انتمائه‭ ‬المشترك‭ ‬صار‭ ‬يدرك‭ ‬حقيقتين،‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬راغبون‭ ‬في‭ ‬استعادة‭ ‬دورهم،‭ ‬وأن‭ ‬الغرب‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يفرض‭ ‬نفسه‭ ‬نموذجًا‭ ‬لا‭ ‬محيد‭ ‬عنه،‭ ‬سواء‭ ‬باتباع‭ ‬الطريق‭ ‬البورجوازية‭ ‬أو‭ ‬الاشتراكية‭ ‬«وفي‭ ‬هاتين‭ ‬الفرضيتين‭ ‬معًا‭ ‬تُهمَل‭ ‬الهوية‭ ‬بوصفها‭ ‬بدائية‭ ‬أو‭ ‬بوصفها‭ ‬رجعية»،‭ ‬ومن‭ ‬ثمة‭ ‬شكر‭ ‬بيرك‭ ‬التجربة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬لأنها‭ ‬حافظت‭ ‬بموجب‭ ‬بعض‭ ‬الإجراءات‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬الأصلية،‭ ‬فهو‭ ‬يقول‭ ‬بصدد‭ ‬ليوطي‭ ‬«لقد‭ ‬صان‭ ‬المدن‭ ‬الإسلامية‭ ‬من‭ ‬عدوى‭ ‬المدن‭ ‬الجديدة،‭ ‬كما‭ ‬حافظ‭ ‬ميله‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬غير‭ ‬المباشرة‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬السياسية‭ ‬للشعب‭ ‬المستعمر»‭.‬

‭ ‬لكن‭ ‬التحليل‭ ‬التاريخي،‭ ‬حسب‭ ‬وقيدي،‭ ‬يكشف‭ ‬أن‭ ‬الاستعمار‭ ‬كان‭ ‬هدمًا‭ ‬للهوية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬فقد‭ ‬أبقى‭ ‬ليوطي‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬البنيات‭ ‬التقليدية،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬«يُحدث‭ ‬تغيرًا‭ ‬إلا‭ ‬حيث‭ ‬يخدم‭ ‬ذلك‭ ‬التغير‭ ‬مصلحته»‭.‬

‭ ‬إن‭ ‬السياسة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يطبقها‭ ‬ليوطي،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الأصالة‭ ‬الذي‭ ‬حدثنا‭ ‬عنه‭ ‬بيرك،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬التحليل‭ ‬إلا‭ ‬تمهيدًا‭ ‬لقيام‭ ‬الاستعمار‭ ‬الجديد،‭ ‬فبيرك‭ ‬كان‭ ‬مؤيدا‭ ‬لهذه‭ ‬الأصالة‭ ‬نظريًا‭ ‬وتطبيقيًا،‭ ‬بحكم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬موظفًا‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬وهو‭ ‬يعترف‭ ‬بذلك‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬حافظ‭ ‬على‭ ‬الصناعة‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬فاس،‭ ‬فالصانع‭ ‬التقليدي‭ ‬مظهر‭ ‬للأصالة،‭ ‬لا‭ ‬يجعل‭ ‬الشعب‭ ‬مستعمرًا‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الواقعي‭.‬

وطور‭ ‬جاك‭ ‬بيرك‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬سياسة‭ ‬جديدة‭ ‬أفكاره‭ ‬حول‭ ‬الاستعمار‭ ‬في‭ ‬مقاله‭ ‬«من‭ ‬أجل‭ ‬سياسة‭ ‬جديدة‭ ‬للاستعمار‭ ‬في‭ ‬المغرب»،‭ ‬إذ‭ ‬نجده‭ ‬يقول‭ ‬«لن‭ ‬يستتب‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬إلا‭ ‬بغيابنا‭ ‬عنه»،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ستعمل‭ ‬به‭ ‬الإدارة‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬استتباب‭ ‬الأمن‭ ‬يضمن‭ ‬بقاء‭ ‬مصالحها‭ ‬فذلك‭ ‬أفضل‭ ‬لها‭. ‬

لقد‭ ‬واكب‭ ‬تطور‭ ‬فكر‭ ‬جاك‭ ‬بيرك،‭ ‬وفق‭ ‬وقيدي،‭ ‬«مراحل‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬تطور‭ ‬النظرة‭ ‬الاستعمارية،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬بيرك‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬التطور‭ ‬الحاصل‭ ‬في‭ ‬فكره‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬تطور‭ ‬حاصل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬المعرفة»‭. ‬في‭ ‬إطار‭ ‬نظريته‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الهوية،‭ ‬يقول‭ ‬بيرك‭ ‬إن‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬تُهمل‭ ‬مظاهر‭ ‬الغنى‭ ‬التي‭ ‬تخصها،‭ ‬فهو‭ ‬يؤكد‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬«العرب‭ ‬من‭ ‬الأمس‭ ‬إلى‭ ‬الغد»،‭ ‬أن‭ ‬العربي‭ ‬ميّال‭ ‬«إلى‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬شخصيته‭ ‬الأصلية،‭ ‬في‭ ‬محاولته‭ ‬للتكيف‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬يندد‭ ‬به‭ ‬ويخضع‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬وبفقدانه‭ ‬طبيعته‭ ‬الذاتية،‭ ‬لن‭ ‬يكتسب‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬مكانًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬تحت‭ ‬شمس‭ ‬الآخرين»‭. ‬هذه‭ ‬البلدان‭ ‬ليست‭ ‬متخلفة،‭ ‬وفقا‭ ‬لبيرك،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬غير‭ ‬واعية‭ ‬بإمكاناتها،‭ ‬فنحن‭ ‬لا‭ ‬ينقصنا‭ ‬سوى‭ ‬اعتماد‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الغربية،‭ ‬وإذا‭ ‬قمنا‭ ‬بذلك‭ ‬فإننا‭ ‬سنمثل‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬أعقد‭ ‬صورها،‭ ‬ولذلك‭ ‬ينبغي‭ ‬علينا‭ ‬ألا‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬اعتماد‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الغربية‭ ‬خضوعًا‭ ‬للإمبريالية،‭ ‬فهو‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬«الشرق‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬جهده‭ ‬للاتجاه‭ ‬نحو‭ ‬المجال‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والتقنية‭ ‬اللذين‭ ‬يسيران‭ ‬العالم‭ ‬يبقى‭ ‬هو‭ ‬ذاته»،‭ ‬فبإمكان‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬أن‭ ‬ينمو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ربط‭ ‬الصلة‭ ‬بماضيه،‭ ‬وكذلك‭ ‬بقبوله‭ ‬بسمة‭ ‬العصر‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬التكنولوجيا‭.‬

‭ ‬هنا‭ ‬نود‭ ‬أن‭ ‬نُسائل‭ ‬بيرك‭ ‬حول‭ ‬طبيعة‭ ‬هذه‭ ‬الصلة‭ ‬وهذه‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬التي‭ ‬يدعونا‭ ‬إليها،‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬عودة‭ ‬حنينية‭ ‬غير‭ ‬مُوجَهة؟،‭ ‬فهذه‭ ‬العودة‭ ‬حسب‭ ‬وقيدي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬تفحص‭ ‬نتائجه‭ ‬وأخذ‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عقلاني‭ ‬فيها‭ ‬وما‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬دعامة‭ ‬للاستمرار،‭ ‬ومعيار‭ ‬عقلانية‭ ‬القيم‭ ‬هو‭ ‬متطلبات‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬بيرك‭ ‬لم‭ ‬يشرح‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يتمثل‭ ‬بها‭ ‬العرب‭ ‬التقدم‭ ‬التقني،‭ ‬فهل‭ ‬التملك‭ ‬يكون‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الاستعمال‭ ‬والاستيراد‭ ‬فقط؟،‭ ‬فهو‭ ‬يعطينا‭ ‬السمك،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬يعلمنا‭ ‬كيف‭ ‬نصطاد‭. ‬

إن‭ ‬أفكار‭ ‬بيرك،‭ ‬وفق‭ ‬وقيدي،‭ ‬«تنسجم‭ ‬مع‭ ‬خطة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬تقسيم‭ ‬العمل‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭ ‬والدول‭ ‬الساعية‭ ‬إلى‭ ‬النمو،‭ ‬بصورة‭ ‬تضمن‭ ‬هيمنة‭ ‬الدول‭ ‬النامية»،‭ ‬فأصالة‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم‭ ‬هي‭ ‬العصر‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬أما‭ ‬أصالة‭ ‬العالم‭ ‬الساعي‭ ‬إلى‭ ‬النمو‭ ‬فتكمن‭ ‬في‭ ‬طاقته‭ ‬البشرية‭ ‬وفي‭ ‬قيمه‭.‬

 

في‭ ‬سبيل‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬الاستعمارين

إن‭ ‬الغرب‭ ‬هو‭ ‬منشئ‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬لكن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬وحده‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مصدرًا‭ ‬للموضوعية،‭ ‬فقد‭ ‬رأينا‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬تحول‭ ‬الصيغة‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬للاستعمار،‭ ‬من‭ ‬استعمار‭ ‬مباشر‭ ‬إلى‭ ‬استعمار‭ ‬غير‭ ‬مباشر،‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تحول‭ ‬أولوية‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالتاريخ‭ ‬والاستشراق،‭ ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬والأنثروبولوجيا،‭ ‬وهو‭ ‬تحول‭ ‬واكب‭ ‬تحول‭ ‬الاهتمام‭ ‬الغربي‭ ‬من‭ ‬ماضي‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬إلى‭ ‬حاضره،‭ ‬باعتماد‭ ‬المناهج‭ ‬البنيوية‭ ‬والوصفية،‭ ‬وهذه‭ ‬التحولات،‭ ‬وفق‭ ‬وقيدي،‭ ‬تمثل‭ ‬اختيارات‭ ‬أيديولوجية‭.‬

‭ ‬يقول‭ ‬جاك‭ ‬بيرك‭ ‬ردًا‭ ‬على‭ ‬انتقادات‭ ‬عبدالكبير‭ ‬الخطيبي‭ ‬«جرَّ‭ ‬علي‭ ‬الظمأ‭ ‬إلى‭ ‬النكهات‭ ‬الشرقية‭ ‬صخبًا‭ ‬أثاره‭ ‬مثقف‭ ‬مغربي‭ ‬ناطق‭ ‬بالفرنسية،‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يمنعني‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬الشرق،‭ ‬لأن‭ ‬عيبي‭ ‬الأساسي‭ ‬هو‭ ‬أني‭ ‬أجنبي،‭ ‬حسنا،‭ ‬إننا‭ ‬ننتظر‭ ‬المساهمات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أهل‭ ‬له»‭. ‬فهو‭ ‬برأيه‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬البديل‭ ‬العلمي‭ ‬لهذه‭ ‬المعرفة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬يقدمها‭ ‬هو‭.‬

إن‭  ‬بيرك‭ ‬يقدم‭ ‬أعماله‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬علمية‭ ‬لعالم‭ ‬يشتغل‭ ‬بالعلوم‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬عدم‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬بين‭ ‬الغرب‭ ‬والشرق‭ ‬لا‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬القدرة‭ ‬الشخصية‭ ‬للباحث،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬معطيات‭ ‬خارجية،‭ ‬فالغربيون‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يعطون‭ ‬لأنفسهم‭ ‬حق‭ ‬القيام‭ ‬بالدور‭ ‬الأساس،‭ ‬فهم‭ ‬يستحوذون‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬الوثائق‭ ‬والمخطوطات‭ ‬فـ‭ ‬«أكثر‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬وأربعين‭ ‬ألف‭ ‬مخطوط‭ ‬تهم‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬توجد‭ ‬خارج‭ ‬متناول‭ ‬الباحثين‭ ‬العرب»،‭ ‬فالعرب‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الموضوعية‭ ‬لو‭ ‬تحصلوا‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬إنتاج‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ورغم‭ ‬عدم‭ ‬امتلاكهم‭ ‬لها‭ ‬تبقى‭ ‬دراساتهم‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الموضوعية،‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬الغرب‭ ‬المالك‭ ‬لهذه‭ ‬الوسائل،‭ ‬فإسهامات‭ ‬الغرب‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬علم‭ ‬موجود،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬تنوب‭ ‬عن‭ ‬قيام‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭.‬

‭ ‬استشعر‭ ‬جرار‭ ‬لكليرك‭ ‬بوادر‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬قائلا‭ ‬إن‭ ‬«بلدان‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬لم‭ ‬تحصل‭ ‬بتخلصها‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬على‭ ‬السيادة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬الخالصة،‭ ‬لكنها‭ ‬بدأت‭ ‬تتكلم‭ ‬لغتها،‭ ‬وصار‭ ‬بإمكانها‭ ‬أن‭ ‬تستبدل‭ ‬لغة‭ ‬الغرب‭ ‬النرجسية»،‭ ‬ونتمنى‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬بقية‭ ‬الاستقلال‭ ‬قريبا،‭ ‬لنخرج‭ ‬من‭ ‬إطار‭ ‬الهيمنة‭ ‬التي‭ ‬تكتسب‭ ‬صورة‭ ‬الدفاع،‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬يترافع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬مجسدًا‭ ‬بذلك‭ ‬مظهرا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬السلطوية‭ ‬عليها،‭ ‬بعدم‭ ‬إعطائها‭ ‬حتى‭ ‬فرصة‭ ‬المرافعة‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭.‬

 

كلمة‭ ‬ختامية

إن‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نخلص‭ ‬إليه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شيئًا‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬بسط‭ ‬أمل‭ ‬للمطالبة‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬ترسيخ‭ ‬الحرية،‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬انفلات‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هيمنة‭ ‬ممكنة،‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تلبس‭ ‬لباس‭ ‬نقض‭ ‬الهيمنة‭ ‬نفسها،‭ ‬فالأنثروبولوجيا‭ ‬اصطبغت‭ ‬بصبغة‭ ‬استعمارية،‭ ‬جسدها‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬أشخاص‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬مجالات‭ ‬مختلفة،‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تيسير‭ ‬سبل‭ ‬الاختراقين‭ ‬السياسي‭ ‬والعسكري،‭ ‬وما‭ ‬أفضى‭ ‬إليه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬اختراقات‭ ‬متعددة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬والثقافي‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭.‬

هذه‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ستحاول‭ ‬أن‭ ‬تحاسب‭ ‬نفسها‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬متسلحة‭ ‬بأدوات‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬أخيرا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المحاسبة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬وقيدي،‭ ‬لا‭ ‬تعدو‭ ‬كونها‭ ‬سبيلا‭ ‬لاختراق‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬جديد،‭ ‬يصنف‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الاستعمار‭ ‬المباشر،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬استفحل‭ ‬أخيرا‭ ‬مع‭ ‬ظهور‭ ‬ثورة‭ ‬تقنيات‭ ‬الإعلام‭ ‬والاتصال،‭ ‬فقد‭ ‬بات‭ ‬بالإمكان‭ ‬فعل‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬الاستعمار‭ ‬المباشر‭ ‬فعله‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نسمع‭ ‬دوي‭ ‬رصاصة‭ ‬واحدة‭. ‬هكذا‭ ‬لا‭ ‬يسعنا‭ - ‬كما‭ ‬قلنا‭ - ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نأمل‭ ‬في‭ ‬بسط‭ ‬وضع‭ ‬جديد‭ ‬يحترم‭ ‬التعدد‭ ‬الثقافي،‭ ‬ويدافع‭ ‬عنه،‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬سوى‭ ‬لإرادة‭ ‬الدفاع‭ ‬عنه‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬قيمة‭ ‬إنسانية،‭ ‬تضمن‭ ‬تعايش‭ ‬بني‭ ‬البشر‭ ‬فيما‭ ‬بينهم،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭■