حسن طلب والانعتاق من لذَّة اللغة
كثيرون من محبِّي اللغة العربية، ومجيديها، وأصحابِ النبرةِ العالية في الحديث بها - وعنها - حجَّموا الإبداع في الفخيم والمعجميِّ منها، فنتج عن ذلك التقوقعُ في قالبٍ محدد، لغويٍ تارةً، وموسيقيٍ تارة أخرى.
كما رفضوا حتى مجردَ التفكيرِ في الخروج من هذه الغرفة، حتّى وإن كان الظرفُ الأدبيُّ أو الحياتيُّ لا يستدعي هذه الفخامةَ وهذا الجرسَ، فانغلقوا على أنفسهم، وأغلقوا أبواباً فاعلةً، كان من اليسير عليهم أن يلِجوها، فاتحين بها آفاقاً ومنعطفاتٍ شتَّى، ومحدثينَ بها عصفاً، وتوالداً لأجيالٍ لغويةٍ جديدةٍ تنتمي للغة الأم، متواصلاتٍ بحبلها السُّرِّيِّ، حاملاتٍ جيناتها الأساسية، ولكنها أكثر شباباً، وتجدداً وطاقةً، وخلايا، وحيويةً، ليصبَّ كلُّ ذلك في خدمةِ الفكرةِ والطرح.
وكثيرون أيضاً لم ينفتحوا على اللغةِ الفخمةِ والمعجميةِ، فتبسطوا حد الخلل، وراحوا يبنونَ إبداعهم بشيءٍ من يسيرِ اللغة، ومحدوديةِ الإتقانِ، وانتفاءِ الجرسِ والموسيقى، بل وحتى الإيقاعُ الداخلي لم يعد ملموساً، وأعتقد أن كليهما أضرَّ وأضير.
أما الذين تعاملوا مع اللغة، على أنها الأداةُ، والبَوصلةُ، والدفَّةُ، وقصَّاص الأثرِ، وعجلةُ القيادة، ليصلوا بكل هذا إلى الهدفِ الأخيرِ مباشرةً، وعلموا أيضاً أن الإطار (الكاوتشوك) ليس هو الذي يحمل السيارة، بل الهواءُ الذي يملأ هذا الإطار، هؤلاء هم الذين استطاعوا أن يمتطوا فرسَ اللغةِ، فكانوا أسرعَ وصولاً، وأصدقَ عاطفةً، وأعظم احتكاكاً وتوهُّجاً، فلمسوا الواقعَ المعيشَ والإنسانيَ، دون أن ينفصلَ المتلقي عنهم، أو ينفصلوا هم عن المتلقي، وباختصار هي الضرورة الملحة لإسقاط النص في أرض الواقع.
على أن الضررَ الذي أعنيه؛ لا يتحمَّل تبعاتهِ المبدعُ فحسب، ولكنَّ أصحابَ القرارِ المنوطَ بهم إدارةُ غرفة اللغة، لا يقلِّون مسؤولية عن هذا، فهناك مسؤولية استدعاء التراث، حسب الدكتور أحمد درويش حينما طالب بالعودة إلى الكلاسيكية، ولكن ضمن ما أسماه «تبسيط التراث القديم»، لأنه حسب قوله «الكتلة تستعصي قليلاً على عمل الرافعة».
وأيضاً قال إن مسرحاً كبيراً مثل مسرح الكوميدي فرانسيس فى فرنسا وهي عاصمة كبرى من عواصم الثقافة العالمية لا يعرض إلا إنتاج الكلاسيكيين، أمثال موليير، وراسين، وكورْنِييْ، ولامارتين.
وبالطبع يعرض التراث بلغته القديمة بشيءٍ من التبسيطِ والمعاصرةِ، فيربط هذا الجيل بمن سبقه وبلغته وتراثه... حتى عند الكتابة النقدية عنها لابد كما يقول الدكتور صلاح فضل «كما يقتضي بالإضافة إلى ذلك توسعاً في استخدام المصطلحات العلمية، وتوخياً لتبسيطها وتقريبها مما عهدناه، حتى لا يصطدم القارئ بمصطلح مستوحَش يتأبى على الفهم والقبول».
ومن المعلوم من اللغة بالضرورة - وفقهاً - أن العربيةَ لم تتوقف يوماً عن تطوير نفسها، وكذلك الشعر فهو متجدد دائماً، فهل يمكن أن نقول إن العربية عند امرئ القيس هي نفسها العربية عند المتنبي؟ أو إن العربية عند الحُطيئةِ هي نفسها العربيةُ عند أبي تمام، بل هل العربية عند شوقي هي نفسها عند البحتري أو ابن زيدون، اللذين عارضهما شوقي في السينية والنونية على التوالي؟
أقول هذا كله، متجهاً إلى الشاعر الدكتور حسن طلب، فأجد في ديوانه كل مستويات اللغة، بدءاً من المعجمي الجاف، إلى المعجمي الطيع، إلى اللغة الآنية، ثم إلى لغة الشارع.
حسن طلب كان ومازال تشغله اللغة، ربما أكثر مما شغلت جميع شعراء عصره مجتمعين، على أنني أختلف مع الذين يقولون إن حسن طلب ينفذ من خلال الشعر والإبداع إلى اللغة، لأنه لا يفعل هذا فحسب، ولكنه ينفذ من خلال اللغة إلى الشعر والإبداع أيضاً، فهما يشغلان فكره معاً وفي نسق واحد وبوتقة واحدة.
فهو المغني:
سقوني سلافة ثغرٍ بإبريقِ عينِ
سقوني... وقالوا
متى كان ينفع وقت الشراب المقالُ
سقوني... وقالوا لا تُغنِّ
وهل أستطيع سوى أن أغني!
وهل كان غير الغناء يترجِم عنّيِ!
نعم حسن طلب يغني، يغني مرة لذاته، ومرة للمتلقي، ومرة حتى للأشياء، مستخدماً مستوياتٍ من اللغة تناسب متى يغني وتناسب من يغني لهم.
هو يخلق حالاتٍ متعددةً، منطلقاً ربما من مفردة واحدة كما يقول عنه الدكتور عبدالحكم العلامي: «إنه يريد أن يقيم كوناً شعرياً بمفردة واحدة، نعم هو ذا، وكما هو حادث بالفعل في «آية جيم» على سبيل المثال وفي غيرها من قصائد «سيرة البنفسج» التي شكلت مفردةُ البنفسج مادةَ فعلها الشعري، بعد أن تم زرعها هكذا لتصبح مُحدِّدةً للمسار».
حسن طلب يستدعي مخزوناً ثقافياً هائلاً، من اللغة، والفلسفة، والتاريخ، والأديان، وعلم الجمال، والحضارات، ليكتب قصيدة.
وهو ربما كان يكتب وهو في حالة اللاوعي، يأخذه التاريخ أو المرموز إلى حيث شاء:
تبرَّجت القصيدة لي
وكلمني الزبرجد... قال من تهوى
فقلتُ غَوايةٌ
في غير وقتِ الغيِّ تذهبُ بي... فأذهب!
قال: من أغواكَ؟
قلتُ الشادنُ الأحوى!
فضمَّ يديَّ.. دسَّ تميمةً في الكفِّ
أطلعني على رمزٍ لمرموزين.. أقرأني سلام الحرفِ
قال: ألا لأمرٍ تَطَّبيكَ الآن أشكاٌل بلا فحوى
فكنْ أقوى!
ورُدَّ على البنفسج ما اطَّباك به البنفسجُ لا يراودْك البنفسجُ بالشذا
هل هي الحالة التي تتلبس حسن طلب، كما يتلبس الجنُّ الإنسانَ، فينطق لا بلسانه، ويتحرك لا بقدميه، ويغيب في هذه الحالة المجهِدةِ، أو يخضع لثقل الوحي كما كان يئن منه الأنبياء عند تلقيه؟!
أقول هذا، وحسن طلب ماثلٌ أمام عيني، ليس الآن فحسب، ولكنه ماثل أمام عيني، وهو يعالج القصيدة وتعالجه، وجبينه يتصبب عرقاً، ربما يشبه مع الفارق هذا المريض المصاب بنونات من الصداع النصفي في أعلي درجاته، أو المصروعَ الذي لا حول له ولا قوة، تجاه كل ما يصدر عنه، لكن الفارق بين طِلب وبين هذا، أن طِلب بعد إفاقته يتذكر كل ما نطق به وما أوحى الجني والحالةَ التي تلبسته فيعتدل ليشرب فنجاناً من القهوة ويخط على الأوراق كامل المشهد.
ولا شك في أن حسن طلب كان يقاوم في كثير من الأحيان هذه الحالة، وهذا التعب الشديد الذي كان ينتابه فتراه يقول:
ذلك وقت أستطيع فيه أن أصرخ نادماً
إليكَ – ويكَ عني
أيها البنفسجُ الملوثُ
أيتها اللغةْ
كُفِّي عني
بأنصاف الكؤوس الفارغة
وأخرجيني من فُسَيْفِسائك المراوغة
نَعم اللغةُ مراوغة عند حسن طلب، تُلْمِحَ تارة، وتتكشفُ تارة، وتبدو كظلٍّ تارة، وتشفُّ تارة أخرى.
لكن السؤال: هل بعد أن توضأ حسن طلب باللغة وارتدى ثياب الكتابة، وتطيب بالفلسفة وعلم الجمال، كان أحياناً ينطلق إلى التنظير، وإلى النقد، وهل كان فعله هذا متعمداً، أم ضمن الحالة التي تلبسته؟! وهو يرى أن القصيدة في يديه تتحول:
أجل لا بد من دفع القصيدة في تحولها
إذا بلغت أدانيها أقاصيها
أطاعت أمر عاصيها!
وسمت في خصائصها
سمت لخلودها
لم يبق منها غير هيكلها
فلا ثبت اليراع بإصبعي
إن كنتُ قد أقحمت فيها
لفظةً هجناءَ
أو أنزلتها
في غيرِ مُنْزَلها
الأهم أنه لا ينزلها في غير مُنزَلها وليس مَنزِلها، في تصوير يتفرد به حسن طلب، وكأنه هذا الذي يرتب الكلمات والقصيدة ترتيباً يعدل ترتيب الخلق من اللاشيء، فيعيد القصيدة
إلى سيرتها الأولي في إهابها وإطارها وصندوقها البنفسجي أو المُطَعَّمِ بالزبرجد.
والسؤال التالي: هل كان يعالج نفسه بشعره؟! وهل كان يستفيد من حالاته السابقة، في حالته الآنية؟
قرأت من «آيةٍ جيمٍ»
بعضَ مازلتُ أعي
وبين أضلعي دفنته!
قلتُ: وداعاً أيها الطفلُ الذي: قد كنتُ كنتُه!
وأيضاً وقف حسن طلب من خلال القصيدة، ليرسل رسالة في غاية الأهمية متعلقةً بالشكل، فالشكل لا يمكن أبداً أن يحجر على إبداع، أو يزيِّن إبداعاً آخر، بينما الإبداع بإمكانه أن يزيِّنُ الشكل. يقول عيد عبدالحليم إنه لا قانون للإبداع سوى الإبداع، وأرى أن النص الشعري يمكن أن يستوعب أشكالاً مختلفة، بعيداً عن النمطية التي يروِّج لها البعض، رهان الشعر أن يقترب أكثر من الحسِّ الإنساني.
وأعتقد أن حسن طلب أراد أن يوصل رسالة مفادها أن المبدع حر في اختيار الشكل الذي ينطلق منه، وبالطبع أنا متوافق معه تماما في هذا الرأي حينما يقول:
في قصيدته «الجيم تجمَحُ»
أجل...
للشاعر العادي أن يختار قافية
ويسرفَ في تسوُّلها
ولي أن أستقلَّ
بما يجلُّ جلاله
عن رفضها أو تقبُّلها
ولي أن أستعيذَ بوردة أخرى
تترجم آيةً كبرى
انظر كيف تكون هذه القافية المتَسوَّلَةُ؟! لابد أن يعيدني هذا إلى الدراسة التي خصصتُ بها ديوان «رطب الصيف» للشاعر عبدالحكم العلامي، وقلت فيها «إنَّ بعض الشعراء العموديين أو الخليليين هم أشد خطراً على القصيدة الخليلية من القائلين بموتها... إلخ»، وآفتنا هي الأحكام المطلقة, يقول الدكتور يسري عبدالله «لإيقاظ العقل العربي لابد من الابتعاد عن الأحكام المطلقة، التي تنطلق من رؤية يقينية ثابتة، فكل شيء قابل للمراجعة، والعالم نسبي، وهو ابن للتحول والتغير المستمر، ويتصل بهذا الشأن اتصالاً وثيقاً توسيع نوافذ الحريات البحثية والفكرية». وربما هنا نستدعي فكر طه حسين وتبنيه منهج الشك عند ديكارت.
عالم حسن طلب عالم فوضويٌ، مرتبٌ، يرتفع بك فجأة، ويهبط بك أيضاً فجأة، دون أن ينبهك إلى ربط حزام الأمان، فيظل قلبك طوال الرحلة ما بين بين، لكنك حينما تصل, وقليلون هم الذين يصلون، يكتشفون روعة الرحلة، بل ويتبادلونها في مجالسهم، ومع تابعيهم، ومُريديهم.
حسن طلب أدرك تماماً أن اللغة مستويات، وأن المتلقين مستوياتٌ أيضا، بل وإن الأحداث مستويات، الشاهد هنا أن حسن طلب حينما نشر بعض قصائدَ، أو مقاطعَ من ديوانه تحت الطبع «سِفر الشهداء» وما بين قوسين «هذا العنوان المحبب إلى قلبي ربما لأن العنوان يتشابه في جزء منه مع عنوان ديواني «سفر التَّوسُّلِ». الصادر سنة 2013 م»، فحينما يتحدث حسن طلب عما سمي «بثورة يناير» وهو عاش هذا وتفاعل معه، وغضب، وانفعل، وصفق، وقام، وقعد، بين جمهور أكثره من العامة، وبعضه من المثقفين، وبعضه من النخبة، والأمر يذهب ويعود، ثم يذهب ولا يعود، والتخبط سيد الموقف، والمتربصون المتربصون، فماذا كان عليه، وأيَّةُ لغةٍ كان بإمكانها أن تؤدي الغرض، إذا ما طبقنا فقه إسقاط النص في أرض الواقع؟! هو تحدث عن هذا كما يلي على سبيل المثال:
لو رؤيةٌ ناقدةٌ
توجِّهُ الثوارَ في الميدانِ
كي لا يخطَفَ الثورةَ من أصحابِها: أعداؤها
أي لغة ــ وأنا بالطبع أقصد اللغة ومكوناتها، وعناصرها، وأدواتها - كانت تصلح في رصد هذا المشهد؟ إلا لغة كهذه أو قريبة منها؟!
يقول الناقد عبدالرزاق عودة الغالبي في كتابه المهم «الذرائعية في التطبيق» والذي أصدرته مؤسسة الكرمة ضمن مشروعها الطموح (عام النقد الأدبي يوليو 2017 ذ يونيو 2018 م): «فن الشّعرَ مِنَ الفُنون العربيّة الأولى عند العرب، وقد ظهر هذا الفنُ في التّاريخ الأدبيّ العربيّ منذُ قديمِ العصور، إلى أنْ أصبحَ وثيقةً يمكنُ مِن خلالها التعرّفُ على أوضاعِ العرب، وثقافتِهم، وأحوالهم، وتاريخهم، فقد حاول العرب تمييز الشّعر عن غيره من أنواع الخطاب المُختلف».
أصابني الإجهاد، وأنا أركض في مساحات ضيقة على حد تعبير الصديق والشاعر سفيان صلاح «فما بالي إذا أردتُ أن أركض في مساحات شاسعة، يتملكها حسن طلب».
ولا أغادر مبحثي هذا دون أن أذكر وصيته حين قال:
تركت فيكم كِلمتي تلكَ...
وصيتي لكمْ
يا من تشيعونني
أن تجعلوها شاهد الضريح
وأيضاً وصيته بالغة الأهمية لأم علىٍّ:
يا أمَّ عليّْ
ما هذا بأوان بكاءٍ.. ليسَ ولا بأوانِ حدادٍ أو نعيْ
لو كان علىّْ
قد شبَّ الآن عن الطوقِ... وما زال على ما كنتُ أربيهِ
وكان نجا من سلسلة النكباتِ المتتالية.. وصار فتىً
فعليه أن يطلب ثأر أبيهِ... إلخ
وما ذكرتُ هذه الوصية المؤلمةَ هنا وفي خاتمة المبحث، إلا لرغبتي أن تكون ميثاقَ شرف، للجيل القادم ليصبح جيلاً يملك مقدراته في يده ■