مشاهدات رلكه وانطباعاته عن الإسلام

مشاهدات رلكه وانطباعاته عن الإسلام

يعد‭ ‬الكتّاب‭ ‬الألمان‭ ‬الأكثر‭ ‬إنصافا‭ ‬للعطاء‭ ‬الإسلامي‭ ‬والحضارة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وربما‭ ‬يرجع‭ ‬سبب‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الألمان‭ ‬لم‭ ‬يحتكوا‭ ‬احتكاكا‭ ‬عسكريا‭ ‬واستعماريا‭ ‬بالعالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعلهم‭ ‬يبحثون‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي‭ ‬دون‭ ‬نوايا‭ ‬استعمارية‭ ‬أو‭ ‬أهداف‭ ‬تنصرية،‭ ‬فتأثر‭ ‬بعضهم‭ ‬بشخصية‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ . ‬وكتبوا‭ ‬عن‭ ‬سيرته‭ ‬العطرة‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السيرة‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬التسامح،‭ ‬العدل،‭ ‬الخير،‭ ‬حب‭ ‬الآخرين،‭ ‬البطولة،‭ ‬الرحمة،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الصفات‭ ‬التي‭ ‬وصف‭ ‬بها‭ ‬النبي،‭ ‬كما‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬سيرته‭ ‬واطلع‭ ‬عليها‭ ‬الأدباء‭ ‬الألمان‭.‬

 

من‭ ‬وحي‭ ‬هذا‭ ‬الإعجاب‭ ‬كتبوا‭ ‬عن‭ ‬حياته،‭ ‬وتحدثوا‭ ‬عنها‭ ‬بإنصاف،‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك‭ ‬خدموا‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬خدمة‭ ‬عظيمة‭ ‬بكم‭ ‬من‭ ‬المخطوطات‭ ‬لأمهات‭ ‬كتب‭ ‬التراث‭ ‬التي‭ ‬قاموا‭ ‬بجمعها‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬مكتبات‭ ‬أوربا‭ ‬وعملوا‭ ‬على‭ ‬تحقيقها‭ ‬ونشرها‭.‬

تأثر‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬الألمان‭ ‬الذين‭ ‬قرأوا‭ ‬الترجمة‭ ‬الألمانية‭ ‬لمعاني‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وتأثروا‭ ‬أيضا‭ ‬بسيرة‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ ‬مثل‭ ‬رايسكة،‭ ‬الذي‭ ‬عرف‭ ‬بأنه‭ ‬شهيد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭, ‬وجوته،‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬ديوانه‭ ‬«الديوان‭ ‬الشرقي‭ ‬للمؤلف‭ ‬الغربي»‭ ‬وتغنى‭ ‬فيه‭ ‬بالشرق‭ ‬الساحر‭ ‬وحضارته‭.‬

‭ ‬وتظل‭ ‬كلمة‭ ‬جوته‭ ‬الخالدة‭ ‬التي‭ ‬شرحت‭ ‬الجوهر‭ ‬الحقيقي‭ ‬لرسالة‭ ‬الإسلام‭ ‬التي‭ ‬يحملها‭ ‬لكل‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والتي‭ ‬تعني‭ ‬التسليم‭ ‬الخالص‭ ‬لله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬يقول‭ ‬جوته‭: ‬«إذا‭ ‬كان‭ ‬الإسلام‭ ‬يعني‭ ‬التسليم‭ ‬لله‭ ‬فنحن‭ ‬نحيا‭ ‬ونموت‭ ‬مسلمين»‭. ‬وهو‭ ‬نموذج‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الأدباء‭ ‬الألمان‭ ‬الذين‭ ‬أحبوا‭ ‬الإسلام،‭ ‬وتأثروا‭ ‬بالنبي‭ ‬الكريم‭ .‬

يأتي‭ ‬الشاعر‭ ‬راينر‭ ‬ماريا‭ ‬رلكه‭ ‬كواحد‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬الشعراء‭ ‬الألمان‭ ‬الذين‭ ‬تغنوا‭ ‬بمجد‭ ‬الإسلام‭ ‬وحضارة‭ ‬العرب‭. ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬الحالم‭ ‬الذي‭ ‬غلبت‭ ‬على‭ ‬شعره‭ ‬روح‭ ‬الرومانسية‭ ‬والبساطة‭ ‬واستشراف‭ ‬الرؤى،‭ ‬وكثرة‭ ‬تجواله‭ ‬وأسفاره‭ ‬وأماسيه،‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يرسم‭ ‬لنا‭ ‬صورة‭ ‬حية‭ ‬لواقع‭ ‬عايشه،‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬تتجلى‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬تأثره‭ ‬بما‭ ‬شاهده‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬إسلامية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬زارها‭ ‬والتقى‭ ‬أهلها‭ ‬وتأثر‭ ‬بالحياة‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬تراءت،‭ ‬له‭ ‬فصاغ‭ ‬ما‭ ‬شاهده‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬قصائده،‭ ‬ورسائله‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬قطعة‭ ‬أدبية‭ ‬معبرة‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬صادقة‭ ‬عاشها‭ ‬الشاعر‭.‬

رأى‭ ‬رلكه‭ ‬الحياة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وعاشها‭ ‬عن‭ ‬قرب،‭ ‬ورأى‭ ‬أيضا‭ ‬مظاهر‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة‭ ‬وشواهدها‭ ‬العديدة‭ ‬الباقية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رحلاته‭ ‬إلى‭ ‬المشرق‭ ‬العربي،‭ ‬والشمال‭ ‬الإفريقي،‭ ‬وإسبانيا‭. ‬ولد‭ ‬رلكه‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬براغ‭ ‬عاصمة‭ ‬تشيكوسلوفاكيا‭ ‬سنة‭ ‬1875‭ ‬لأب‭ ‬عمل‭ ‬ضابطا‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬النمساوي،‭ ‬وقد‭ ‬شارك‭ ‬هذا‭ ‬الأب‭ ‬في‭ ‬حملة‭ ‬النمسا‭ ‬ضد‭ ‬إيطاليا‭ ‬سنة‭ ‬1859‭ ‬ثم‭ ‬اضطر‭ ‬لترك‭ ‬الجيش‭ ‬بسبب‭ ‬صحته‭ ‬والتحق‭ ‬بإدارة‭ ‬السكة‭ ‬الحديدية‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬أمه‭ ‬فهي‭ ‬ابنة‭ ‬تاجر‭ ‬كان‭ ‬مستشارا‭ ‬لإمبراطور‭ ‬النمسا،‭ ‬لكن‭ ‬الحياة‭ ‬الزوجية‭ ‬لم‭ ‬تستمر‭ ‬طويلا‭ ‬بينهما،‭ ‬فعاشا‭ ‬حالة‭ ‬انفصال‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬طلاق،‭ ‬وكانت‭ ‬أمه‭ ‬هي‭ ‬صاحبة‭ ‬الفضل‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬تربيته،‭ ‬فقد‭ ‬أنفقت‭ ‬عليه‭ ‬ورعته‭ ‬ودفعته‭ ‬إلى‭ ‬المطالعة،‭ ‬كما‭ ‬نمّت‭ ‬لديه‭ ‬أيضا‭ ‬مواهبه‭ ‬الفنية‭.‬

‭ ‬بعد‭ ‬تعليمه‭ ‬الابتدائي‭ ‬التحق‭ ‬رلكه‭ ‬بالمدرسة‭ ‬الثانوية‭ ‬العسكرية‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬فيينا‭ ‬عاصمة‭ ‬النمسا‭ ‬عام‭ ‬1886،‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬الكلية‭ ‬الحربية‭ ‬عام‭ ‬1890‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يمكث‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬عام‭ ‬واحد،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬منسجما‭ ‬مع‭ ‬جو‭ ‬الانضباط،‭ ‬والقسوة‭ ‬التي‭ ‬وجدها‭ ‬بين‭ ‬زملائه‭ ‬والمدرسين،‭ ‬وقد‭ ‬شبه‭ ‬ذلك‭ ‬الإطار‭ ‬بـ‭ ‬«بيت‭ ‬الموتى»‭. ‬

وفي‭ ‬نهاية‭ ‬عام‭ ‬1894‭ ‬ظهرت‭ ‬له‭ ‬أول‭ ‬مجموعة‭ ‬شعرية‭ ‬كتبها‭ ‬وكانت‭ ‬بعنوان‭ ‬«الحياة‭ ‬والأغاني»،‭ ‬اهتم‭ ‬فيها‭ ‬رلكه‭ ‬بالقصائد‭ ‬القصيرة‭ ‬ذات‭ ‬الإيقاع‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬المحسنات‭ ‬اللفظية‭. ‬

وفي‭ ‬أوائل‭ ‬سنة‭ ‬1896‭ ‬طبع‭ ‬مجلة‭ ‬أدبية‭ ‬اسمها‭ ‬«الشيكوريا‭ ‬البرية»،‭ ‬وهي‭ ‬مجلة‭ ‬صغيرة‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬66‭ ‬صفحة،‭ ‬وقد‭ ‬وزعها‭ ‬مجانا‭ ‬على‭ ‬المستشفيات‭ ‬والنوادي‭ ‬المختلفة،‭ ‬ثم‭ ‬راح‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬يوزعها‭ ‬بالمجان‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬المارة،‭ ‬وقد‭ ‬قدم‭ ‬رلكه‭ ‬لهذه‭ ‬المجلة‭ ‬بكلمة‭ ‬قال‭ ‬فيها‭: ‬«أنتم‭ ‬تنشرون‭ ‬مطبوعاتكم‭ ‬في‭ ‬طبعات‭ ‬رخيصة‭ ‬الأثمان،‭ ‬وبهذا‭ ‬تسهلون‭ ‬على‭ ‬الغني‭ ‬الشراء،‭ ‬لكنكم‭ ‬لا‭ ‬تساعدون‭ ‬الفقير‭ ‬لأنه‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬غالي‭ ‬الثمن،‭ ‬أنا‭ ‬أيضا‭ ‬فقير،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬الأمل‭ ‬يجعلني‭ ‬غنيا‭. ‬إن‭ ‬االشيكوريا‭ ‬البريةب‭ ‬ستظهر‭ ‬مرة‭ ‬أو‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬العام،‭ ‬فاقطفوها‭ ‬ولتكن‭ ‬مصدر‭ ‬سروركم»‭.‬

توفي‭ ‬رلكه‭ ‬عام‭ ‬1927،‭ ‬ومن‭ ‬العجيب‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬وفاته‭ ‬هو‭ ‬وخزة‭ ‬الأسل‭ )‬شوك‭ ‬الورد‭( ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وردة‭ ‬اقتطفها‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬إحدى‭ ‬المصحات،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬رلكه‭ ‬يزور‭ ‬أحد‭ ‬أقاربه‭ ‬المرضى،‭ ‬وبسبب‭ ‬هذا‭ ‬الغصن‭ ‬جرح‭ ‬جرحا‭ ‬كان‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬إصابته‭ ‬بلوكيميا‭ ‬الدم‭.‬

 

اتجاه‭ ‬رلكه‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬

عاصر‭ ‬رلكه‭ ‬السنوات‭ ‬العشر‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬المملكة‭ ‬الأوربية،‭ ‬وكان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬اقتلعت‭ ‬فيها‭ ‬جذور‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الإيمان،‭ ‬كما‭ ‬شاهد‭ ‬تحولات‭ ‬عديدة‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬واتجاهه‭ ‬الفكري،‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬مضطربة،‭ ‬متنقلة‭ ‬غير‭ ‬ثابتة،‭ ‬وروح‭ ‬لا‭ ‬تهدأ،‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تكشف‭ ‬سر‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭. ‬فبدأ‭ ‬رلكه‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬يهديه‭ ‬لإجابة‭ ‬شافية‭ ‬يبصر‭ ‬بها‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬تكون‭ ‬الإجابة‭ ‬عما‭ ‬يطرحه‭ ‬من‭ ‬تساؤلات‭. ‬تأثر‭ ‬رلكه‭ ‬بجوته‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬عن‭ ‬الشرق‭ ‬وعن‭ ‬نبي‭ ‬الإسلام‭ ‬واطلاعه‭ ‬على‭ ‬ديوان‭ ‬جوته،‭ ‬الديوان‭ ‬الشرقي‭ ‬للشاعر‭ ‬الغربي،‭ ‬الذي‭ ‬فتن‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬بسحر‭ ‬الشرق‭ ‬وحضارته‭ ‬وآدابه‭. ‬

ثم‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬جوهر‭ ‬الحياة،‭ ‬فقصد‭ ‬الكاتب‭ ‬الروسي‭ ‬تولستوي‭ ‬والتقى‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مزرعته،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬تولستوي‭ ‬عاكفا‭ ‬هناك‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬الفلاحين‭ ‬في‭ ‬زهد‭ ‬وعزلة‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬للقاء‭ ‬رلكه‭ ‬بهذا‭ ‬الكاتب‭ ‬العظيم‭ ‬الأثر‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬واتجاهه‭ ‬لقراءة‭ ‬الآداب‭ ‬العربية‭ ‬وتأثره‭ ‬بالحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬ومجد‭ ‬الإسلام‭.‬

كان‭ ‬رلكه‭ ‬حينها‭ ‬يبلغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬24‭ ‬عاما،‭ ‬وهناك‭ ‬في‭ ‬مزرعة‭ ‬تولستوي‭ ‬رأى‭ ‬الفلاحين‭ ‬وتأثر‭ ‬بتدينهم‭ ‬الشديد،‭ ‬كما‭ ‬تأثر‭ ‬أيضا‭ ‬بزهد‭ ‬حياتهم‭ ‬وبساطة‭ ‬عيشهم،‭ ‬وقد‭ ‬وصف‭ ‬تولستوي‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬البسيطة‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الفلاحين‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬القصصية،‭ ‬مثل‭ ‬قصته‭ ‬القصيرة‭ ‬«الحاج‭ ‬مراد»،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الأدبية‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬حياة‭ ‬الفلاحين‭ ‬البسطاء،‭ ‬وظهرت‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬لرلكه‭ ‬وكأنها‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬وحدانية‭ ‬الله‭ ‬وجمال‭ ‬الطبيعة‭.‬

رجع‭ ‬رلكه‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة،‭ ‬التي‭ ‬التقى‭ ‬فيها‭ ‬الكاتب‭ ‬العظيم‭ ‬تولستوي،‭ ‬الذي‭ ‬تأثر‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬بشخصية‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ ‬وعاش‭ ‬بمبادئ‭ ‬الإسلام‭ ‬وتوظيف‭ ‬قيمه‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬أعماله‭ ‬الأدبية‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬مراسلات‭ ‬عديدة،‭ ‬انقطعت‭ ‬بموت‭ ‬الإمام،‭ ‬فكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬تأثر‭ ‬رلكه‭ ‬بهذه‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬تولستوي،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعله‭ ‬ينظم‭ ‬رحلاته‭ ‬للشمال‭ ‬الإفريقي،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬أيضا‭ ‬بتشجيع‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ ‬التي‭ ‬سبقته‭ ‬إلى‭ ‬زيارة‭ ‬مصر،‭ ‬ووصفت‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬سحر‭ ‬الحضارة‭ ‬وبساطة‭ ‬شعبها،‭ ‬فاستجاب‭ ‬رلكه‭ ‬لذلك،‭ ‬لما‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬ذكريات‭ ‬وأخيلة‭ ‬عن‭ ‬بلاد‭ ‬الإسلام،‭ ‬ولروحه‭ ‬الشاعرة‭ ‬التواقة‭ ‬إلى‭ ‬استكشاف‭ ‬الجمال‭.‬

كانت‭ ‬زيارة‭ ‬رلكه‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1910‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1913،‭ ‬وزار‭ ‬خلالها‭ ‬تونس‭ ‬والجزائر‭ ‬والمغرب‭ ‬ومصر،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬الحياة‭ ‬الإسلامية‭ ‬كما‭ ‬وجدها‭ ‬هناك،‭ ‬ويرى‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الواقع‭. ‬توصل‭ ‬رلكه‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬هذا‭ ‬الدين‭ ‬العظيم،‭ ‬ووجد‭ ‬أن‭ ‬الإسلام‭ ‬كان‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬تفكيره،‭ ‬وبخاصة‭ ‬عندما‭ ‬يتكلم‭ ‬عن‭ ‬قبول‭ ‬الحياة‭ ‬وقبول‭ ‬الموت‭ ‬كوحدة‭ ‬واحدة،‭ ‬وعندما‭ ‬يتكلم‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الروحي‭ ‬يرى‭ ‬رلكه‭ ‬أن‭ ‬المسلمين‭ ‬يملكون‭ ‬هذه‭ ‬المعرفة،‭ ‬معرفة‭ ‬وحدانية‭ ‬الله‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭.‬

صور‭ ‬رلكه‭ ‬ذلك‭ ‬بقوله‭ ‬« لقد‭ ‬جاء‭ ‬محمد‭ ‬كنهر‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬الجبل‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬الإله‭ ‬الواحد... ‭‬» ،‭ ‬إذن‭ ‬هي‭ ‬وحدانية‭ ‬الخالق‭ ‬التي‭ ‬وجدها‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬العقيدة‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬تنزه‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬عن‭ ‬الأضداد،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬بحث‭ ‬عنه‭ ‬الشاعر‭ ‬طويلا‭ ‬ووجده‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭.‬

وفي‭ ‬رسالة‭ ‬أخرى‭ ‬كتبها‭ ‬رلكه‭ ‬بتاريخ‭ ‬28/12/1921‭ ‬وأعطى‭ ‬لها‭ ‬عنوان‭ ‬«حنين‭ ‬إلى‭ ‬الصلاة‭ ‬الإسلامية»‭ ‬يشرح‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬الذي‭ ‬تبناه‭ ‬وآمن‭ ‬به‭ ‬فكريا‭. ‬وعن‭ ‬حقيقة‭ ‬الدين‭ ‬وروح‭ ‬الاعتقاد،‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭: ‬«إن‭ ‬مسألة‭ ‬الدين‭ ‬بسيطة‭ ‬جدا،‭ ‬والدين‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬إحساس‭ ‬كبير،‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يوحى،‭ ‬ولا‭ ‬استغناء‭ ‬عنه،‭ ‬إن‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الكبير‭ ‬الواسع‭ ‬توجيهًا‭ ‬للقلب،‭ ‬فالعربي‭ ‬يتوجه‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬معينة‭ ‬نحو‭ ‬الشرق‭ ‬بكل‭ ‬خضوع‭ ‬وخشوع،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬هو‭ ‬الإحساس‭ ‬الباطني‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬الكائن‭ ‬وبواسطته‭ ‬نلامس‭ ‬خاشعين‭ ‬خاضعين‭ ‬لروح‭ ‬الله»‭. ‬ويؤكد‭ ‬رلكه‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬وتلك‭ ‬الرؤية‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬كشاعر‭ ‬يبصر‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المدى،‭ ‬وما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الواسع‭ ‬من‭ ‬آيات‭ ‬تؤكد‭ ‬وحدانية‭ ‬الله،‭ ‬وعظم‭ ‬خلقه‭.‬

في‭ ‬رسالة‭ ‬أخرى‭ ‬كتبها‭ ‬بتاريخ‭ ‬13/11/1925‭ ‬يقول‭ ‬رلكه‭: ‬«لا‭ ‬يوجد‭ ‬مفهوم‭ ‬العالم‭ ‬الحاضر‭ ‬والعالم‭ ‬الآخر،‭ ‬بل‭ ‬الوحدانية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬تمثلها‭ ‬الملائكة،‭ ‬وملائكة‭ ‬الترانيم‭ ‬الحزينة‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالسماء‭ ‬المسيحية،‭ ‬بل‭ ‬بصفات‭ ‬الإسلام»‭.‬

 

من‭ ‬وحي‭ ‬رحلته‭ ‬إلى‭ ‬الأندلس

كان‭ ‬إعجاب‭ ‬رلكه‭ ‬بالإسلام‭ ‬إعجاب‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬وعن‭ ‬البعد‭ ‬الروحي‭ ‬في‭ ‬قيمه‭ ‬ومبادئه،‭ ‬فولّى‭ ‬قبلته‭ ‬إلى‭ ‬الأندلس،‭ ‬جنان‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض،‭ ‬وشعاع‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬يخترق‭ ‬هذه‭ ‬القلاع‭ ‬وتلك‭ ‬القصور‭ ‬فتتراءى‭ ‬للشاعر‭ ‬صور‭ ‬أصيلة‭ ‬تذكر‭ ‬فيها‭ ‬مجد‭ ‬الإسلام‭ ‬حاضرة‭ ‬بقوة‭.‬

‭ ‬زار‭ ‬رلكه‭ ‬إسبانيا‭ ‬وتجول‭ ‬في‭ ‬مدنها‭: ‬قرطبة،‭ ‬طليطلة،‭ ‬إشبيلية،‭ ‬ورنده،‭ ‬وشاهد‭ ‬عظمة‭ ‬العمران‭ ‬وروعة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬متمثلة‭ ‬في‭ ‬تراث‭ ‬العرب‭ ‬هناك‭.‬

 

مسجد‭ ‬قرطبة

شاهد‭ ‬مسجد‭ ‬قرطبة،‭ ‬هذه‭ ‬الدرة‭ ‬الفريدة‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الأندلس،‭ ‬وأخذ‭ ‬بخلده‭ ‬وتفكيره،‭ ‬فأخذ‭ ‬يتأمل‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬التجول‭ ‬بين‭ ‬أعمدة‭ ‬المسجد‭ ‬عظمة‭ ‬البناء،‭ ‬ودقة‭ ‬الصنع،‭ ‬وروح‭ ‬العمارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأثر‭ ‬الفريد،‭ ‬وقد‭ ‬أعجب‭ ‬به‭ ‬رلكه،‭ ‬فكان‭ ‬المسجد‭ ‬بمنزلة‭ ‬بوابة‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬أحزنه‭ ‬وجود‭ ‬تلك‭ ‬الكنائس‭ ‬بجواره،‭ ‬فكتب‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬رسائله‭ ‬واصفا‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬الغريب‭ ‬الذي‭ ‬أحسه‭ ‬عندما‭ ‬شاهد‭ ‬هذه‭ ‬الكنائس‭: ‬«انظري‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المسجد‭ ‬ذ‭ ‬يقصد‭ ‬جامع‭ ‬قرطبة‭ - ‬أي‭ ‬بأس،‭ ‬أي‭ ‬عار‭ ‬في‭ ‬تركه‭ ‬هكذا‭ ‬ينحط‭ ‬وينهار‭ ‬وهذه‭ ‬الكنائس‭ ‬التي‭ ‬تتلوى‭ ‬في‭ ‬داخله،‭ ‬يود‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يجتثها‭ ‬بضربات‭ ‬من‭ ‬المنشط‭ ‬بوصفها‭ ‬عقدا‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬جميل»‭.‬

‭ ‬يقول‭ ‬د‭. ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي‭ ‬تعقيبا‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬رلكه‭ ‬لزوجته،‭ ‬واصفا‭ ‬لها‭ ‬شعوره‭ ‬الغريب‭ ‬وحزنه‭ ‬لمظاهر‭ ‬تشويه‭ ‬جمال‭ ‬المسجد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الإسبان‭ ‬بوجود‭ ‬هذه‭ ‬الكنائس‭: ‬«واحتجاج‭ ‬رلكه‭ ‬ها‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أصاب‭ ‬جامع‭ ‬قرطبة‭ ‬العظيم،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬أروع‭ ‬التحف‭ ‬الفنية‭ ‬الضخمة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أصابه‭ ‬من‭ ‬تخريب‭ ‬وتشويه‭ ‬وانتهاك‭ ‬أثيم‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬النصارى‭ ‬الإسبان‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬استولوا‭ ‬على‭ ‬قرطبة‭ ‬سنة‭ ‬1226م‭ ‬بقيادة‭ ‬فرديناند‭ ‬الثالث،‭ ‬حتى‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬زاره‭ ‬فيه‭ ‬رلكه‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬ديسمبر‭ ‬سنة‭ ‬1912،‭ ‬نقول‭: ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الاحتجاج‭ ‬الصارخ‭ ‬الصادق‭ ‬النبرة‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬شعور‭ ‬بجلال‭ ‬الفن‭ ‬وعظمة‭ ‬الإسلام‭ ‬لهو‭ ‬شهادة‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يعتز‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬مسلم»‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬إعجاب‭ ‬رلكه‭ ‬بالفن‭ ‬الإسلامي‭ ‬متمثلا‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬قرطبة‭ ‬عظيما،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬د‭. ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي‭ ‬«يود‭ ‬رلكه‭ ‬لو‭ ‬تخلص‭ ‬هذا‭ ‬المسجد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬التشوهات‭ ‬التي‭ ‬صنعها‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬النصارى‭ ‬الذين‭ ‬حولوه‭ ‬إلى‭ ‬كنيسة،‭ ‬فقضى‭ ‬على‭ ‬جمال‭ ‬مخطوطه،‭ ‬وعظمة‭ ‬معماره،‭ ‬وصفاء‭ ‬تقاسيمه‭ ‬المعمارية،‭ ‬وجلال‭ ‬أساطينه»‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬لمسجد‭ ‬قرطبة‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬رلكه‭ ‬المكانة‭ ‬البارزة،‭ ‬فهو‭ ‬بمنزلة‭ ‬البوابة‭ ‬التي‭ ‬عرف‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الإسلام،‭ ‬فهمّ‭ ‬بدراسة‭ ‬الإسلام‭ ‬والاطلاع‭ ‬عليه،‭ ‬وقرأ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬ترجمات،‭ ‬وتعمق‭ ‬في‭ ‬قراءته،‭ ‬وأحس‭ ‬نحوه‭ ‬بسعادة‭ ‬حقيقية‭ ‬«إنني‭ ‬أقرأ‭ ‬القرآن‭ ‬وفي‭ ‬مواضع‭ ‬عديدة‭ ‬منه‭ ‬أجده‭ ‬يتكلم‭ ‬بصوت‭ ‬منه،‭ ‬أدخل‭ ‬أنا‭ ‬بكل‭ ‬قواي‭ ‬مثل‭ ‬الريح‭ ‬في‭ ‬الأرغون»،‭ ‬فحين‭ ‬أبدى‭ ‬رلكه‭ ‬إعجابه‭ ‬الشديد‭ ‬برسالة‭ ‬الإسلام،‭ ‬قدر‭ ‬صاحب‭ ‬الرسالة‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم‭ ‬وصوره‭ ‬مثل‭ ‬«نهر‭ ‬يجري‭ ‬جبل‭ ‬من‭ ‬الأصول‭ ‬قد‭ ‬شق‭ ‬طريقا‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬الواحد‭ ‬الأحد»‭.‬

لقد‭ ‬رأى‭ ‬رلكه‭ ‬في‭ ‬النبي‭ ‬محمد‭ ‬الصفاء‭ ‬والنقاء‭ ‬الخالصين،‭ ‬والجمال‭ ‬الذي‭ ‬ينشده‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تأمله،‭ ‬فصوره‭ ‬كنهر‭ ‬يشق‭ ‬طريقه‭ ‬من‭ ‬الينابيع‭ ‬الأصلية‭ ‬في‭ ‬الجبل،‭ ‬ويجري‭ ‬فيضه‭ ‬الثري‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬مباشرة‭ ‬كل‭ ‬صباح،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬الصلوات‭ ‬اليومية‭.‬

زار‭ ‬رلكه‭ ‬تونس،‭ ‬والجزائر،‭ ‬والمغرب‭ ‬قبل‭ ‬الزيارة‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬لإسبانيا‭ ‬عام‭ ‬1912‭.‬

 

مدينة‭ ‬القيروان

شاهد‭ ‬رلكه‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬مدينة‭ ‬القيروان،‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬العريقة‭ ‬التي‭ ‬بناها‭ ‬القائد‭ ‬الفاتح‭ ‬عقبة‭ ‬بن‭ ‬نافع‭ ‬عام‭ ‬51‭ ‬هـ،‭ ‬وأعجب‭ ‬بها،‭ ‬وظهر‭ ‬هذا‭ ‬الإعجاب‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬كتبها‭ ‬صور‭ ‬فيها‭ ‬انطباعه‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬الساحرة‭ ‬الحاملة‭ ‬لعبق‭ ‬التاريخ،‭ ‬وأطياف‭ ‬الماضي،‭ ‬كما‭ ‬تراءت‭ ‬للشاعر‭. ‬

وفي‭ ‬رسالة‭ ‬مؤرخة‭ ‬من‭ ‬القيروان‭ ‬بتاريخ‭ ‬21‭ ‬من‭ ‬ديسمبر‭ ‬1910،‭ ‬يكشف‭ ‬رلكه‭ ‬عن‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬الإسلام،‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬هو‭ ‬جانب‭ ‬التصوف،‭ ‬التقوى،‭ ‬والزهد،‭ ‬وقد‭ ‬وصف‭ ‬د‭. ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي‭ ‬مدينة‭ ‬القيروان‭ ‬عند‭ ‬زيارة‭ ‬رلكه‭ ‬لها،‭ ‬قائلا‭: ‬«أنشأها‭ ‬سيدي‭ ‬عقبة،‭ ‬وفيها‭ ‬مسجد‭ ‬جامع‭ ‬عظيم‭ ‬استخدمت‭ ‬في‭ ‬بنائه‭ ‬أعمدة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬قرطاجنة‭ ‬والمدينة‭ ‬الساحلية‭ ‬الرومانية‭ ‬والفينيقية‭ ‬تحمل‭ ‬سعفا‭ ‬من‭ ‬الخشب‭ ‬الأرز‭ ‬وقبابا‭ ‬بيضاء،‭ ‬ولا‭ ‬يخيل‭ ‬بالمدينة‭ ‬سوى‭ ‬السهول‭ ‬والمقابر،‭ ‬لهذا‭ ‬تبدت‭ ‬له‭ ‬كأن‭ ‬الموتى‭ ‬يحاصرونه»‭.‬

وما‭ ‬أجمل‭ ‬تصوير‭ ‬د‭. ‬بدوي‭ ‬لرحلة‭ ‬الشاعر‭ ‬رلكه‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬معبرا‭ ‬عن‭ ‬حال‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬زيارته‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬وتجواله‭ ‬فيها‭: ‬«ذهب‭ ‬إلى‭ ‬الينبوع‭ ‬الذي‭ ‬تنبثق‭ ‬منه‭ ‬الأسرار،‭ ‬وانطلق‭ ‬إلى‭ ‬دنيا‭ ‬من‭ ‬النور‭ ‬الصافي‭ ‬في‭ ‬تعارض‭ ‬حاد‭ ‬مع‭ ‬الوسط‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬فيه،‭ ‬وبحث‭ ‬عن‭ ‬إحساس‭ ‬جديد‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬قشعريرة‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬تخشى‭ ‬الجمود»‭.‬

‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬جاءت‭ ‬وصفا‭ ‬لرحلة‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬تلك‭ ‬الرحلة‭ ‬التي‭ ‬نالت‭ ‬الحظ‭ ‬الأوفر‭ ‬من‭ ‬رحلات‭ ‬رلكه،‭ ‬الذي‭ ‬أمضى‭ ‬عمره‭ ‬راحلا‭ ‬سعيا‭ ‬وراء‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أصيل،‭ ‬وبحثا‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الفسيح‭. ‬

زار‭ ‬رلكه‭ ‬مصر‭ ‬بتحريض‭ ‬من‭ ‬زوجته‭ ‬التي‭ ‬أعجبت‭ ‬بها‭ ‬وتحدثت‭ ‬عنها،‭ ‬وأوحت‭ ‬له‭ ‬بطيبة‭ ‬أهلها‭ ‬وبساطة‭ ‬ما‭ ‬رأت،‭ ‬وكشفت‭ ‬لزوجها‭ ‬الشاعر‭ ‬مفاتن‭ ‬الأرض‭ ‬الحافلة‭ ‬بالأسرار‭ ‬وسحر‭ ‬النيل‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬جريانه،‭ ‬فتراءت‭ ‬للشاعر‭ ‬صورا‭ ‬وأخيلة‭ ‬استقرت‭ ‬في‭ ‬مخيلته‭ ‬حتى‭ ‬زار‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬1911،‭ ‬وفور‭ ‬وصوله‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية‭ ‬استقل‭ ‬القطار‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬وكتب‭ ‬إلى‭ ‬زوجة‭ ‬ناشر‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬رسالة‭ ‬مؤرخة‭ ‬في‭ ‬4‭ ‬يناير‭: ‬1911‭ ‬«إنه‭ ‬يشعر‭ ‬بأن‭ ‬عالم‭ ‬الشرق‭ ‬بدأ‭ ‬يتفتح‭ ‬له،‭ ‬وإنه‭ ‬لم‭ ‬ينخدع‭ ‬فيما‭ ‬توقعه‭ ‬عن‭ ‬الشرق»‭.‬

في‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬يناير‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1911‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ ‬ذاتها،‭ ‬زار‭ ‬رلكه‭ ‬الصعيد‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬باخرة‭ ‬أبحرت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬القاهرة،‭ ‬فتراءت‭ ‬له‭ ‬المظاهر‭ ‬الطبيعية‭ ‬الخلابة،‭ ‬وجمال‭ ‬صنع‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬نخيل‭ ‬شامخ،‭ ‬وحدائق‭ ‬غناء،‭ ‬شاهدها‭ ‬الشاعر‭ ‬فأخذه‭ ‬التأمل‭ ‬إلى‭ ‬سحر‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬وروعتها،‭ ‬وبعد‭ ‬زيارته‭ ‬للصعيد‭ ‬ومشاهدة‭ ‬الآثار‭ ‬الفرعونية‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬الأقصر،‭ ‬ولقائه‭ ‬هناك‭ ‬بأهل‭ ‬الصعيد‭ ‬وما‭ ‬وجده‭ ‬من‭ ‬بشاشة‭ ‬وطيبة‭ ‬وبساطة،‭ ‬أخذه‭ ‬الإعجاب‭ ‬أكثر‭ ‬بتعاليم‭ ‬الإسلام‭ ‬التي‭ ‬أوصت‭ ‬بمعاملة‭ ‬الناس‭ ‬معاملة‭ ‬حسنة،‭ ‬مع‭ ‬إحساسهم‭ ‬بالأمان‭ ‬والتعايش‭. ‬

عاد‭ ‬رلكه‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬ليشاهد‭ ‬آثارها‭ ‬ويلتقي‭ ‬أهلها،‭ ‬ويكون‭ ‬صدق‭ ‬الانطباع‭ ‬مصاحبا‭ ‬له‭ ‬حتى‭ ‬عودته‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭.‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الرحلات‭ ‬تعمق‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الإسلام‭ ‬واقترب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ينابيعه‭ ‬الصافية،‭ ‬فدرس‭ ‬الإسلام‭ ‬وأحب‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬الخير‭ ‬والجمال‭ ‬ودعوة‭ ‬الإسلام‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬وفرضية‭ ‬التفكير‭ ‬التي‭ ‬أمرنا‭ ‬بها‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬وجاءت‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬آيات‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬الذي‭ ‬اطلع‭ ‬رلكه‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬ترجماته،‭ ‬وقرأ‭ ‬السيرة‭ ‬النبوية‭ ‬ومن‭ ‬فيض‭ ‬إعجابه‭ ‬بصاحب‭ ‬الرسالة‭ ‬النبي‭ ‬الكريم‭ ‬،‭.‬

‭ ‬كتب‭ ‬الشاعر‭ ‬قصيدته‭ ‬«رسالة‭ ‬محمد»‭ ‬وقد‭ ‬نظمها‭ ‬في‭ ‬المدة‭ ‬من‭ ‬22‭ ‬أغسطس‭ ‬إلى‭ ‬8‭ ‬سبتمبر‭ ‬1907،‭ ‬وهي‭ ‬إشارة‭ ‬أيضا‭ ‬إلى‭ ‬تأثره‭ ‬بالقرآن‭ ‬الكريم‭.‬

يقول‭ ‬رلكه،‭ ‬والقصيدة‭ ‬من‭ ‬ترجمة‭ ‬د‭.‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي‭:‬

لما‭ ‬تبدى‭ ‬الملك‭ ‬الطاهر

ذو‭ ‬الملامح‭ ‬المعروفة‭ ‬والنور‭ ‬الباهر

تبدى‭ ‬رائعا‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬خلوته‭ - ‬خلع

كل‭ ‬كبرياء‭ ‬وخيلاء،‭ ‬وتوسل

إلى‭ ‬‮«‬التاجر‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬اضطرب

باطنه‭ ‬اثر‭ ‬أسفاره‭ - ‬توسل‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬يبقى

لم‭ ‬يكن‭ ‬قارئًا‭ - ‬وها‭ ‬هي‭ ‬ذي‭ ‬‮«‬كلمة‮»‬

كلمة‭ ‬عظيمة‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬حكيم

لكن‭ ‬الملك‭ ‬وجهه‭ ‬بمهارة

إلى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مسطورا‭ ‬في‭ ‬لوح

ولم‭ ‬ييأس‭, ‬بل‭ ‬ظل

يردد‭ ‬دائما‭: ‬اقرأ

فقرأ،‭ ‬حتى‭ ‬انحنى‭ ‬الملك

وأصبح‭ ‬ممن‭ ‬يعرفون‭ ‬كيف‭ ‬يقرأون

ويستمعون‭ ‬ويتمون‭ ‬الرسالة

وهكذا‭ ‬كتب‭ ‬رلكه‭ ‬قصيدته،‭ ‬ولسنا‭ ‬ندري‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬دفعه‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة؟

هل‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬قراءة‭ ‬لسيرة‭ ‬الرسول‭ ‬أم‭ ‬كان‭ ‬محاكاة‭ ‬لجوته‭ ‬في‭ ‬«الديوان‭ ‬الشرقي‭ ‬المؤلف‭ ‬الغربي»؟

ليس‭ ‬لدينا‭ ‬بيان‭ ‬عن‭ ‬الدوافع‭ ‬التي‭ ‬تحت‭ ‬تأثيرها‭ ‬نظم‭ ‬رلكه‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬التي‭ ‬صاغ‭ ‬فيها‭ ‬مضمون‭ ‬سورة‭ ‬العلق،‭ ‬وهي‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬تأثره‭ ‬بالإسلام،‭ ‬وحبه‭ ‬وتقديره‭ ‬للنبي‭ ‬الكريم‭ ‬،‭ ‬والروح‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬شاهدها‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأمكنة‭ ‬التي‭ ‬زارها،‭ ‬تراءت‭ ‬للشاعر‭ ‬صورا‭ ‬أصيلة‭ ‬انطبعت‭ ‬في‭ ‬ذاكرته،‭ ‬فصاغها‭ ‬في‭ ‬قصائده‭ ‬ورسائله‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬تغنى‭ ‬رلكه‭ ‬بالإسلام‭ ‬وحضارته‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬قلما‭ ‬نجده‭ ‬عند‭ ‬الشعراء‭ ‬الأوربيين‭■