ماري جبران طليعة حارسات التّراث الموسيقي العربي

ماري جبران طليعة حارسات التّراث الموسيقي العربي

هناك‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬إنّ‭ ‬المسيرة‭ ‬الفنية‭ ‬الناجحة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تخدم‭ ‬شهرة‭ ‬الفنان‭. ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يردّ‭ ‬بأنّ‭ ‬اتساع‭ ‬العلاقات‭ ‬وحسن‭ ‬التدبير،‭ ‬هما‭ ‬اللذان‭ ‬يكوّنان‭ ‬الشهرة،‭ ‬فيخدمان‭ ‬بذلك‭ ‬المسيرة‭ ‬الفنية،‭ ‬ويعظّمان‭ ‬مآثرها،‭ ‬وينشران‭ ‬أخبارها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬جديرة‭ ‬بالتعميم‭ ‬والنشر،‭ ‬وإلا‭ ‬انتهى‭ ‬بها‭ ‬الأمر‭ ‬أسيرة‭ ‬الجدران،‭ ‬يخيم‭ ‬عليها‭ ‬الصمت‭ ‬ويدور‭ ‬حولها‭ ‬النسيان‭. ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬الحالتين،‭ ‬إذا‭ ‬ارتبط‭ ‬الأمر‭ ‬بطول‭ ‬الزمن،‭ ‬وما‭ ‬يسمى‭ ‬الخلود،‭ ‬فأنْ‭ ‬يظهر‭ ‬العمل‭ ‬الفني‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ناجحًا،‭ ‬وأن‭ ‬يدوم‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يخدمه‭ ‬الإعلان‭ ‬والإعلام‭.‬

 

تعود‭ ‬علاقتي‭ ‬بالطرب‭ ‬العربي‭ ‬الأصيل‭ ‬إلى‭ ‬صوت‭ ‬صالح‭ ‬عبدالحيّ،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تسجيلاته‭ ‬متوافرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أشرطة‭ ‬الكاسيت‭: ‬«في‭ ‬البعد‭ ‬ياما‭ ‬كنت‭ ‬أنوح»،‭ ‬«عشنا‭ ‬وشفنا»،‭ ‬«حبك‭ ‬يا‭ ‬سلام»،‭ ‬«فيك‭ ‬ناس‭ ‬يا‭ ‬ليل‭ ‬بيشكوا‭ ‬لك‭ ‬مواجعهم»،‭ ‬«قد‭ ‬كنت‭ ‬أرجو‭ ‬وصلكم»‭ (‬وهي‭ ‬القصيدة‭ ‬الشّافعية‭ ‬السّنباطية،‭ ‬المسبوقة‭ ‬بصوت‭ ‬مذيعة‭ ‬الـ‭ ‬B.B.C،‭ ‬معلنةً‭ ‬بصوتها‭ ‬الجهوري‭ ‬المعبّر‭: ‬من‭ ‬لندن‭ ‬فقط‭).‬

مصدر‭ ‬الأشرطة‭ ‬كان‭ ‬دكّانًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬يملكه‭ ‬الرّجل‭ ‬الطيّب‭ ‬سامي‭ ‬الملّاح،‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬طرابلس‭ ‬اللبنانية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬المكان،‭ ‬على‭ ‬الرّغم‭ ‬من‭ ‬ضيق‭ ‬مساحته،‭ ‬يتّسع‭ ‬لعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأشرطة،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬بساطة‭ ‬أحجامها‭ ‬ودقة‭ ‬توضيبها‭ ‬وتنظيمها،‭ ‬وبسبب‭ ‬رحابة‭ ‬صدر‭ ‬صاحبها‭ ‬ولطافته،‭ ‬ووسع‭ ‬ثقافته‭. ‬هناك‭ ‬في‭ ‬الدكّان‭ ‬الجميل،‭ ‬تعرفت‭ ‬إلى‭ ‬صوت‭ ‬المطربة‭ ‬ماري‭ ‬جبران‭.‬

قال‭ ‬لي‭ ‬صاحب‭ ‬الدكّان،‭ ‬فيما‭ ‬قال،‭ ‬إنّ‭ ‬والده‭ ‬نور‭ ‬الملّاح‭ ‬كان‭ ‬يعزف‭ ‬على‭ ‬العود‭ ‬مع‭ ‬ماري‭ ‬جبران،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يتذكّر‭ ‬بقية‭ ‬العازفين‭ ‬في‭ ‬فرقتها،‭ ‬باستثناء‭ ‬القانونجي‭ ‬سليم‭ ‬غزالة‭. ‬

وأضاف‭ ‬عن‭ ‬والده‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أصدقاء‭ ‬محمد‭ ‬القصبجي،‭ ‬وكانا‭ ‬حين‭ ‬يلتقيان‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬حلب‭ ‬«يتضايفان»‭ ‬العود،‭ ‬حيث‭ ‬إنّ‭ ‬كلًّا‭ ‬منهما‭ ‬يتوجه‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الآخر‭ ‬احترامًا‭ ‬وتقديرًا،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنّ‭ ‬الملّاح‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬التبادل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليقدم‭ ‬على‭ ‬العزف‭ ‬قبل‭ ‬القصبجي‭.‬

لم‭ ‬يتيسر‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬تسجيل‭ ‬عزفي‭ ‬للملّاح‭ (‬يذكر‭ ‬صميم‭ ‬الشّريف‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬«الموسيقى‭ ‬في‭ ‬سورية»‭ ‬أنّ‭ ‬نوري‭ ‬الملّاح‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المشاركين‭ ‬مع‭ ‬الكمانجي‭ ‬توفيق‭ ‬الصّباغ،‭ ‬والقانونجي‭ ‬نوبار،‭ ‬والناياتي‭ ‬علي‭ ‬الدّرويش،‭ ‬في‭ ‬تسجيل‭ ‬السماعيات‭ ‬والبشارف‭ ‬والأدوار‭ ‬والموشحات‭ ‬لدى‭ ‬شركة‭ ‬بيضافون‭).‬

 

أصل‭ ‬الغرام‭ ‬نظرة

كما‭ ‬أنّ‭ ‬تسجيلات‭ ‬القصبجي‭ ‬نفسه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متوافرة‭ ‬آنذاك‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬ضيقة،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إبداعاته‭ ‬القصيرة‭ ‬العابرة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬حفلات‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭: ‬«يا‭ ‬ظالمني»،‭ ‬« رباعيات‭ ‬الخيام»،‭ ‬«دليلي‭ ‬احتار»،‭ ‬«أروح‭ ‬لمين»،‭ ‬حتىّ‭ ‬أنّ‭ ‬التسجيل‭ ‬المعروف‭ ‬اليوم‭ ‬للقصبجي‭ ‬وهو‭ ‬يعزف‭ ‬ويغني‭ ‬«رق‭ ‬الحبيب»،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬قد‭ ‬سمعته‭ ‬أو‭ ‬سمعت‭ ‬عنه‭ ‬آنذاك‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭.‬

كانت‭ ‬بداية‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬صوت‭ ‬ماري‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاستماع‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬الغنائي‭ ‬المشهور‭ ‬«أصل‭ ‬الغرام‭ ‬نظرة»‭ ‬الذي‭ ‬تسبقه‭ ‬بالليالي‭ ‬وتنهيه‭ ‬بموشح‭: ‬«يا‭ ‬مَن‭ ‬لعبت‭ ‬به‭ ‬شمول‭ ‬ما‭ ‬ألطف‭ ‬هذه‭ ‬الشمايل»،‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬العادة‭ ‬في‭ ‬الأدوار،‭ ‬إذ‭ ‬إنّ‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬تتصدرها‭ ‬الموشحات،‭ ‬ولا‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬نهايتها،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬«فرح‭ ‬فؤادي‭ ‬واتهنيت»،‭ ‬الذي‭ ‬يسبقه‭ ‬موشح‭ ‬«حبي‭ ‬دعاني‭ ‬للوصال»‭.‬

وراح‭ ‬الملاّح‭ ‬يحثّ‭ ‬الخطى‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التّسجيلات،‭ ‬وكان‭ ‬كلما‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬دمشق‭ ‬يعود‭ ‬بتسجيل‭ ‬إضافي،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬بدأ‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬تسجيلات‭ ‬أبي‭ ‬العلا‭ ‬محمّد،‭ ‬بعدما‭ ‬لاحظنا‭ ‬أن‭ ‬ماري‭ ‬جبران‭ ‬قد‭ ‬أنشدت‭ ‬من‭ ‬ألحانه‭ ‬قصيدة‭: ‬

أحمامة‭ ‬الوادي‭ ‬بمنعرج‭ ‬اللوى

هيجتِ‭ - ‬وَيْحك‭ - ‬لوعتي‭ ‬ببكاكِ

إذا‭ ‬كنا‭ ‬نفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬أمثلة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الإنشاد،‭ ‬لكننا‭ ‬لم‭ ‬نبلغ‭ ‬أيّ‭ ‬تسجيل‭ ‬إضافي‭ ‬تنشده‭ ‬المطربة‭ ‬من‭ ‬ألحان‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ (‬وهذه‭ ‬القصيدة‭ ‬عُرفت‭ ‬أيضًا‭ ‬بصوت‭ ‬أبي‭ ‬العلا‭ ‬نفسه،‭ ‬وصوت‭ ‬المطربة‭ ‬خيريّة‭ ‬السّقا‭). ‬

 

مساحة‭ ‬صوتية‭ ‬واسعة

كان‭ ‬الملّاح‭ ‬يقول‭ ‬عن‭ ‬انتقاله‭ ‬من‭ ‬طرابلس‭ ‬إلى‭ ‬دمشق‭: ‬«نازل‭ ‬ع‭ ‬الشّام»،‭ ‬وقد‭ ‬اقتصر‭ ‬الاهتمام‭ ‬آنذاك‭ ‬على‭ ‬تسجيلات‭ ‬ماري‭ ‬جبران‭ ‬من‭ ‬الغناء‭ ‬القديم،‭ ‬التي‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬كثيرة‭ ‬فإنها‭ ‬شغلتنا،‭ ‬وكنا‭ ‬نكثر‭ ‬من‭ ‬الاستماع‭ ‬إليها،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تسجيلات‭ ‬صالح‭ ‬عبدالحي،‭ ‬أما‭ ‬تسجيلات‭ ‬الجيل‭ ‬الأول‭ ‬أو‭ ‬الجيل‭ ‬السابق‭ ‬لهما،‭ ‬فلم‭ ‬نكن‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬على‭ ‬افتراض‭ ‬بأنها‭ ‬موجودة،‭ ‬اللّهم‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬الكتب‭ ‬الموسيقية‭: ‬يوسف‭ ‬المنيلاوي،‭ ‬عبدالحي‭ ‬حلمي،‭ ‬سيد‭ ‬الصّفتي،‭ ‬علي‭ ‬عبدالباري،‭ ‬سالم‭ ‬العجوز،‭ ‬زكي‭ ‬مراد‭. ‬

وقد‭ ‬شملت‭ ‬تسجيلات‭ ‬ماري‭ ‬جبران‭: ‬اأصل‭ ‬الغرام‭ ‬نظرةب،‭ ‬«كادني‭ ‬الهوى»،‭ ‬«ياما‭ ‬انت‭ ‬واحشني»،‭ ‬«السعادة‭ ‬في‭ ‬الغرام»،‭ ‬«الحبيب‭ ‬للهجر‭ ‬مايل»،‭ ‬«فرح‭ ‬فؤادي‭ ‬واتهنيت»‭.‬

ففي‭ ‬دور‭ ‬«أصل‭ ‬الغرام‭ ‬نظرة»‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬النماذج‭ ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬مقام‭ ‬الراست،‭ ‬بدت‭ ‬قدرتها‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬وسع‭ ‬المساحة‭ ‬الصوتية‭ ‬التي‭ ‬امتلكتها،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬الأصوات‭ ‬العريضة،‭ ‬ووصولًا‭ ‬إلى‭ ‬الأصوات‭ ‬الحادة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ظهور‭ ‬أي‭ ‬أثر‭ ‬للمبالغة‭ ‬أو‭ ‬التعب،‭ ‬أو‭ ‬الإساءة‭ ‬إلى‭ ‬مقتضيات‭ ‬الطرب‭ ‬الهادئ‭ ‬الرصين‭.‬

وفي‭ ‬دور‭ ‬«كادني‭ ‬الهوى»‭ ‬برعت‭ ‬ماري‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬كلمة‭ ‬يا‭ ‬ليل،‭ ‬بعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬مقطع‭: ‬للحسن‭ ‬ده‭ ‬بالطبع‭ ‬أميل‭/ ‬يا‭ ‬اللي‭ ‬تلوم‭ ‬ده‭ ‬شيء‭ ‬بالعقل‭... ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬المقطع‭ ‬فرصة‭ ‬جميلة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬المقامات‭ ‬الموسيقية‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬المقام‭ ‬الرئيس‭ ‬للدور‭ (‬النهاوند‭).‬

وفي‭ ‬مثال‭ ‬ثالث‭ ‬أجادت‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬مقام‭ ‬الحجاز‭ ‬كار‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬«ياما‭ ‬انت‭ ‬واحشني»،‭ ‬خصوصًا‭ ‬خلال‭ ‬التبادل‭ ‬الحواري‭ ‬الغنائي‭ ‬مع‭ ‬المذهبجية‭ ‬«هنكًا‭ ‬ورنكًا»‭.‬

أما‭ ‬تسجيلات‭ ‬أغانيها‭ ‬الخاصة‭ ‬فقد‭ ‬تأخر‭ ‬موعد‭ ‬اطّلاعي‭ ‬عليها،‭ ‬وتلك‭ ‬التسجيلات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬منتشرة‭ ‬كثيرًا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وقد‭ ‬اقتضى‭ ‬التفتيش‭ ‬عنها،‭ ‬وفي‭ ‬الظنّ‭ ‬أنّها‭ ‬قليلة‭ ‬العدد‭ ‬بسيطة‭ ‬القدر،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تبيّن‭ ‬لي‭ ‬لاحقًا‭ ‬أنها‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬نصًّا‭ ‬ولحنًا‭ ‬وأداءً،‭ ‬ولست‭ ‬أدري‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬التسجيلات‭ ‬قد‭ ‬انتشرت‭ ‬وعُرفت‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬لظهورها،‭ ‬ثم‭ ‬خبا‭ ‬ألقها‭ ‬وضاقت‭ ‬مساحة‭ ‬انتشارها،‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬حكرًا‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الذوّاقة‭ ‬والمهتمين،‭ ‬ممّن‭ ‬كانوا‭ ‬يترددون‭ ‬على‭ ‬المسارح‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تغني‭ ‬فيها‭ ‬المطربة،‭ ‬وتنظّم‭ ‬السهرات‭ ‬وتحيي‭ ‬الحفلات،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬العجب‭ ‬والتفتيش‭ ‬عن‭ ‬السبب‭.‬

 

نجمة‭ ‬يسبقها‭ ‬نورها

يذكر‭ ‬المتابعون‭ ‬أنّ‭ ‬ماري‭ ‬جبران‭ ‬عرفت‭ ‬جمهورًا‭ ‬واسعًا‭ ‬في‭ ‬أيامها،‭ ‬وأنّ‭ ‬الملحنين‭ ‬كانوا‭ ‬يحترمون‭ ‬صوتها‭ ‬ويقدرونه‭ ‬حق‭ ‬قدره،‭ ‬وأنّ‭ ‬المستمعين‭ ‬العارفين‭ ‬كانوا‭ ‬يُقبلون‭ ‬على‭ ‬حفلاتها‭ ‬فيصغون‭ ‬ويطربون،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الإذاعات‭ ‬كانت‭ ‬تتابع‭ ‬إنتاجها‭ ‬الفني،‭ ‬وتورده‭ ‬في‭ ‬برامجها‭ ‬الغنائية،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬اختيارات‭ ‬الطرب،‭ ‬والأداء‭ ‬الأكاديمي‭ ‬الجاد‭. ‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الإذاعتين‭ ‬اللبنانية‭ ‬والسورية،‭ ‬والإذاعتين‭ ‬الفلسطينيتين‭ (‬القدس‭ ‬والشرق‭ ‬الأدنى‭)‬،‭ ‬أما‭ ‬بخصوص‭ ‬الإذاعة‭ ‬المصرية‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬تأكيد‭ ‬ذلك،‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬تيسّر‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬المجلات‭ ‬الإذاعية‭ ‬والفنية‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬افتراض‭ ‬الأمر،‭ ‬فماري‭ ‬جبران‭ ‬عملت‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬المسارح‭ ‬المصرية‭ ‬مغنية‭ ‬ناجحة‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬التراث‭ ‬الغنائي‭ ‬العربي،‭ ‬والتراث‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬منه‭ ‬مصري‭ (‬محمد‭ ‬عثمان،‭ ‬عبده‭ ‬الحامولي،‭ ‬سيد‭ ‬درويش،‭ ‬كامل‭ ‬الخلعي،‭ ‬داود‭ ‬حسني‭)‬،‭ ‬وكانت‭ ‬بالتالي‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬أعلام‭ ‬التلحين‭ ‬هناك‭: ‬داود‭ ‬حسني،‭ ‬محمد‭ ‬القصبجي،‭ ‬زكريا‭ ‬أحمد‭.‬

وقد‭ ‬تكلم‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬«يومياته»‭ ‬عنها‭ ‬حين‭ ‬استمع‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬حياتها‭ ‬الفنية‭ ‬عام‭ ‬1927‭ ‬:«التقيت‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬كوكب‭ ‬الشرق‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬رياض‭ ‬السنباطي،‭ ‬واستمعنا‭ ‬هناك‭ ‬مع‭ ‬غيرنا‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭ ‬إلى‭ ‬المطربة‭ ‬الناشئة‭ ‬ماري‭ ‬جبران،‭ ‬وأبدينا‭ ‬إعجابنا‭ ‬بها»‭.‬

 

جمهور‭ ‬واسع

حين‭ ‬أقول‭ ‬إنّ‭ ‬ماري‭ ‬جبران‭ ‬عرفت‭ ‬جمهورًا‭ ‬واسعًا،‭ ‬فلا‭ ‬أقصد‭ ‬إقامة‭ ‬المنافسة،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬المفاضلة،‭ ‬مع‭ ‬المطربات‭ ‬الأخريات،‭ ‬وأذكر‭ ‬هنا‭ ‬أنّ‭ ‬مجلة‭ ‬فنية‭ ‬بيروتية‭ (‬في‭ ‬الماضي‭) ‬أجرت‭ ‬استفتاء‭ ‬بين‭ ‬قرائها‭ ‬حول‭ ‬مَن‭ ‬تكون‭ ‬المطربة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أسماعهم‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الشام،‭ ‬فلم‭ ‬تكن‭ ‬ماري‭ ‬جبران‭ ‬في‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الرابعة‭. ‬

لن‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬صحيحًا‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬صحيح،‭ ‬وأنا‭ ‬غير‭ ‬ميال‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التصنيفات،‭ ‬فالمطربات‭ ‬الأربع،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أورد‭ ‬أسماءهن،‭ ‬كنّ‭ ‬جميعًا‭ ‬ناجحات،‭ ‬ولكلّ‭ ‬منهن‭ ‬جمهورها،‭ ‬أما‭ ‬اتجاهاتهن‭ ‬في‭ ‬الغناء،‭ ‬وأساليبهن‭ ‬فيه،‭ ‬فكانت‭ ‬مختلفة‭ ‬إلى‭ ‬حدٍ‭ ‬ما،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬صعوبة‭ ‬التصنيف‭.‬

ونحن‭ ‬لو‭ ‬تناولنا‭ ‬إنتاج‭ ‬مطربة‭ ‬واحدة‭ ‬لا‭ ‬مجموعة‭ ‬مطربات،‭ ‬ورحنا‭ ‬نصنّف‭ ‬أغانيها،‭ ‬لما‭ ‬وضعناها‭ ‬في‭ ‬المستوى‭ ‬نفسه،‭ ‬وذلك‭ ‬تبعًا‭ ‬لأذواقنا‭ ‬وميولنا‭ ‬الشخصية،‭ ‬فهذه‭ ‬الفنانة‭ ‬أسمهان‭ ‬مثلًا،‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬بخصوص‭ ‬أغانيها‭: ‬إن‭ ‬«أهوى»‭ ‬و«يا‭ ‬بدع‭ ‬الورد»‭ ‬و«فرّق‭ ‬ما‭ ‬بيننا‭ ‬ليه‭ ‬الزمان»،‭ ‬هي‭ ‬الأشهر‭ ‬بين‭ ‬المستمعين،‭ ‬أو‭ ‬لدى‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام،‭ ‬فلا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬«حديث‭ ‬عينين»،‭ ‬و«هل‭ ‬تيم‭ ‬البان»‭... ‬ليستا‭ ‬جميلتين،‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬أكثر‭ ‬جمالًا‭.       

 

من‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬التّراث‭ ‬اليوم؟

تقف‭ ‬ماري‭ ‬جبران‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬صفوف‭ ‬المطربات‭ ‬والمطربين‭ ‬الكبار‭ ‬الذين‭ ‬تراجعت‭ ‬شهرتهم،‭ ‬وأصبح‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬العودة‭ ‬بهنّ‭ ‬وبهم‭ ‬إلى‭ ‬أسماع‭ ‬الأجيال‭ ‬المتتابعة،‭ ‬إلّا‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬محصورة‭. ‬ولو‭ ‬تناولنا‭ ‬وضعها‭ ‬هي‭ ‬بالذات،‭ ‬لوجدنا‭ ‬أسبابًا‭ ‬وأسبابًا‭: ‬

‬التمسّك‭ ‬بالتّراث‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬الارتباط‭ ‬به،‭ ‬كما‭ ‬أسلفت‭. ‬والتراث‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬جماله‭ ‬وكماله،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يواجه‭ ‬العصور،‭ ‬لصعوبته‭ ‬وعدم‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬إرضاء‭ ‬الأذواق‭ ‬اللاحقة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬خارج‭ ‬الأوساط‭ ‬الأكاديمية‭ ‬المعرفية‭ ‬المتخصصة،‭ ‬فكم‭ ‬من‭ ‬جهود‭ ‬لإعادة‭ ‬الصلة‭ ‬مع‭ ‬الماضي‭ ‬الجميل‭ ‬تذهب‭ ‬سدى،‭ ‬وكم‭ ‬من‭ ‬محاولة‭ ‬لإثارة‭ ‬الحنين‭ ‬إليه‭ ‬والتعريف‭ ‬بقيمته،‭ ‬تضيع‭ ‬هباء،‭ ‬في‭ ‬معظمها‭.‬

‬عدم‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬غمار‭ ‬السينما‭ ‬الغنائية‭ (‬الإنتاج‭ ‬التلفزيوني‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬عرف‭ ‬آنذاك‭ ‬بأي‭ ‬حال‭)‬،‭ ‬على‭ ‬الرّغم‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬الشكل‭ ‬والصوت‭ ‬معًا‭ ‬كان‭ ‬متوافرًا‭ ‬لديها‭ ‬بالنسبة‭ ‬نفسها‭. ‬والكل‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬للأغنية‭ ‬السينمائية‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬حضور‭ ‬الفنانة‭ ‬المغنية،‭ ‬وفي‭ ‬التحضير‭ ‬لمستقبلها،‭ ‬وحماية‭ ‬رصيدها‭ ‬من‭ ‬التراجع‭ ‬والاندثار‭.‬

‬التقصير‭ ‬في‭ ‬الجهد‭ ‬الإعلامي‭: ‬شركات‭ ‬الأسطوانات،‭ ‬المجلات‭ ‬الفنية‭ ‬والثقافية،‭ ‬وهي‭ ‬الأساس‭ ‬أمام‭ ‬الباحثين‭ ‬والمهتمين‭ ‬كلما‭ ‬تقدم‭ ‬الزمن،‭ ‬وزاد‭ ‬الشرخ‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬مع‭ ‬الماضي،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يعرفه‭ ‬بالتحديد‭ ‬تجار‭ ‬«الأنتيكا»،‭ ‬فيضيّقون‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬بضاعتهم،‭ ‬ويحتكرون‭ ‬ما‭ ‬نجا‭ ‬وعاش‭ ‬من‭ ‬أوراق‭ ‬التراث‭ ‬الغابر‭.‬

‬هناك‭ ‬مَن‭ ‬يضيف‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تمتعت‭ ‬به‭ ‬جبران‭ ‬من‭ ‬مزايا‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬معرفة‭ ‬أصول‭ ‬الموسيقى،‭ ‬والضرب‭ ‬على‭ ‬العود،‭ ‬وإتقان‭ ‬الغناء،‭ ‬وحلاوة‭ ‬الصوت،‭ ‬ووسامة‭ ‬الوجه،‭ ‬لم‭ ‬يهيئ‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تهتدي‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬واضح‭ ‬وثابت‭ ‬في‭ ‬ديار‭ ‬الفن،‭ ‬نظرًا‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬الرغبات‭ ‬الشخصية‭ ‬لديها‭ ‬قد‭ ‬غلبت‭ ‬على‭ ‬الأهداف‭ ‬الفنية،‭ ‬هذه‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬تتطلب‭ ‬الحرص‭ ‬الشديد‭ ‬والنظام‭ ‬الصارم‭.‬

ومن‭ ‬شواهد‭ ‬المجهولية‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بهذه‭ ‬المطربة،‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه‭ ‬أيضًا‭:‬

‭-  ‬تبادل‭ ‬تسجيل‭ ‬لأغنية‭ ‬بيرم‭ ‬التونسي‭ ‬وزكريا‭ ‬أحمد‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم‭: ‬«أنا‭ ‬في‭ ‬انتظارك»‭ (‬مع‭ ‬آلة‭ ‬البيانو‭)‬،‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬بصوت‭ ‬ماري‭ ‬جبران،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬بصوت‭ ‬الفنانة‭ ‬زكية‭ ‬حمدان‭.‬

‭- ‬تبادل‭ ‬إحدى‭ ‬الصور‭ ‬الوجهية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬لماري‭ ‬،‭ ‬بينما‭ ‬هي‭ ‬للمطربة‭ ‬نادرة‭ ‬أمين‭.‬

‭- ‬كما‭ ‬يكتب‭ ‬البعض‭ ‬عن‭ ‬تسجيلها‭ ‬لدور‭ ‬«أصل‭ ‬الغرام‭ ‬نظرة»‭ ‬أنّه‭ ‬من‭ ‬تلحين‭ ‬داود‭ ‬حسني،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬تلحين‭ ‬أستاذه‭ ‬محمد‭ ‬عثمان،‭ ‬وداود‭ ‬تولى‭ ‬تحفيظها‭ ‬الدور‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬تدريبها‭ ‬على‭ ‬أصول‭ ‬الغناء‭ ‬التراثي‭.‬

 

حصة‭ ‬أولى‭ ‬للتراث‭ ‬

الأغاني‭ ‬الخاصة‭ ‬لدى‭ ‬ماري‭ ‬جبران‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬من‭ ‬فنانين‭ ‬سوريين‭:‬

‭- ‬زكي‭ ‬محمد‭: ‬«خمرة‭ ‬الربيع»،‭ ‬نظم‭ ‬أحمد‭ ‬خميس‭.‬

‭- ‬نجيب‭ ‬السراج‭: ‬«يا‭ ‬زمان»،‭ ‬نظم‭ ‬عزت‭ ‬الحصري‭.‬

‭- ‬محمد‭ ‬محسن‭: ‬«حبايبي‭ ‬نسيوني»‭.‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬بعض‭ ‬الألحان‭ ‬من‭ ‬فلسطين‭: ‬رياض‭ ‬البندك‭: ‬«يا‭ ‬ليل‭ ‬بتحتار‭ ‬أفكاري‭ ‬فيك‭ ‬وحبيبي‭ ‬كمان‭ ‬احتار»‭... ‬ولبنان‭: ‬حليم‭ ‬الرومي‭: ‬«قابلته‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬معاد»،‭ ‬نظم‭ ‬أحمد‭ ‬رامي‭.‬

وقد‭ ‬يكون‭ ‬أنّها‭ ‬لم‭ ‬تحصل‭ ‬من‭ ‬الملحنين‭ ‬المصريين‭ ‬الذين‭ ‬التقت‭ ‬بهم،‭ ‬على‭ ‬ألحان‭ ‬خاصة‭ ‬بها،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬سجّلت‭ ‬من‭ ‬ألحان‭ ‬داود‭ ‬حسني‭: ‬دور‭ ‬«السّعادة‭ ‬في‭ ‬الغرام»‭ ‬وأدوارًا‭ ‬أخرى،‭ ‬ومن‭ ‬ألحان‭ ‬زكريا‭ ‬أحمد‭: ‬دور‭ ‬«فرح‭ ‬فؤادي‭ ‬واتهنيت»‭. ‬لكنّ‭ ‬هذه‭ ‬الألحان‭ ‬وغيرها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬وقفًا‭ ‬عليها،‭ ‬والسؤال‭ ‬هنا‭: ‬هل‭ ‬حصلت‭ ‬هي‭ ‬على‭ ‬ألحان‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬ذلك،‭ ‬وغنتها‭ ‬في‭ ‬المسارح‭ ‬والحفلات،‭ ‬ولم‭ ‬تسجلها‭ ‬على‭ ‬أسطوانات،‭ ‬لسبب‭ ‬أو‭ ‬لآخر؟

 

حياة‭ ‬شخصية‭ ‬عصفت‭ ‬بها‭ ‬الريح

ماري‭ ‬جبران‭ ‬لبنانية‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬أواخر‭ ‬العقد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬انتقلت‭ ‬مع‭ ‬عائلتها‭ ‬إلى‭ ‬دمشق‭ ‬وهي‭ ‬صغيرة‭ ‬إبان‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭. ‬هي‭ ‬ماري‭ ‬جبّور‭ ‬في‭ ‬أساس‭ ‬تسمية‭ ‬عائلة‭ ‬والدها‭ (‬أما‭ ‬جبران‭ ‬فهو‭ ‬اسم‭ ‬عائلة‭ ‬والدتها‭).‬

مالت‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬حياتها،‭ ‬رقصًا‭ ‬وعزفًا‭ ‬وغناء،‭ ‬متأثرة‭ ‬بخالتها‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬راقصة‭ ‬وممثلة‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اصطحبها‭ ‬سلامة‭ ‬حجازي‭ ‬من‭ ‬سورية‭. ‬عملت‭ ‬ماري‭ ‬مع‭ ‬الخالة‭ ‬فترة‭ ‬غير‭ ‬قصيرة‭ ‬في‭ ‬مسارح‭ ‬فلسطين‭ ‬والأردن،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬حملت‭ ‬اسمها‭ ‬طلبًا‭ ‬للشهرة‭ ‬المبكرة،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬حصل‭ ‬تجنّبًا‭ ‬لإلصاق‭ ‬مهنة‭ ‬الفن‭ ‬بكنية‭ ‬والدها‭.  ‬وتقول‭ ‬الفنانة‭ ‬بديعة‭ ‬مصابني‭ ‬في‭ ‬مذكراتها‭: ‬«أحب‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬وجوهًا‭ ‬شاركتني‭ ‬النجاح،‭ ‬ودفعتني‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أتابع‭ ‬الطريق‭... ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه‭ ‬ماري‭ ‬جبران،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬دعوتها‭ ‬ماري‭ ‬الجميلة،‭ ‬نظرًا‭ ‬إلى‭ ‬جمال‭ ‬وجهها‭ ‬وعذوبة‭ ‬صوتها»،‭ ‬وبديعة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬اصطحبت‭ ‬ماري‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬غداة‭ ‬إحدى‭ ‬جولاتها‭ ‬في‭ ‬سورية‭ ‬ولبنان‭. ‬

‭(‬أما‭ ‬الملحن‭ ‬حليم‭ ‬الرومي‭ ‬فقال‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬قديم‭ ‬معه،‭ ‬إن‭ ‬الفنان‭ ‬المصري‭ ‬إبراهيم‭ ‬شفيق‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬سار‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أعجب‭ ‬بإمكاناتها‭ ‬الفنية،‭ ‬وتولى‭ ‬تدريبها‭ ‬على‭ ‬أصول‭ ‬الفن،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتعرف‭ ‬إلى‭ ‬الملحنين‭ ‬الكبار‭ ‬الآخرين‭. ‬والرومي‭ ‬كان‭ ‬قريبًا‭ ‬جدًا‭ ‬من‭ ‬المطربة‭ ‬الكبيرة‭).‬

استقرت‭ ‬ماري‭ ‬بعد‭ ‬جولاتها‭ ‬العديدة،‭ ‬في‭ ‬سورية،‭ ‬وقد‭ ‬أطلقت‭ ‬معظم‭ ‬أغانيها‭ ‬هناك،‭ ‬وحفلاتها‭ ‬الرئيسة‭ ‬أيضًا‭ ‬وتسجيلاتها‭ ‬الإذاعية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬نقيبة‭ ‬للموسيقيين‭. ‬

في‭ ‬مرات‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المطربة‭ ‬عازبة،‭ ‬وفي‭ ‬مرات‭ ‬متزوجة،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬المصادفات‭ ‬أن‭ ‬التقيت‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬من‭ ‬الأوقات،‭ ‬خلال‭ ‬متابعتي‭ ‬لأخبارها‭ ‬واهتمامي‭ ‬بفنها،‭ ‬رجلًا‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إنّه‭ ‬ولدها‭ (‬واسمه‭ ‬س‭. ‬ف‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬انقطع‭ ‬التواصل‭ ‬بتأثير‭ ‬الظروف‭.‬

‭ ‬رحلت‭ ‬المطربة‭ ‬ماري‭ ‬جبران‭ ‬مبكرًا‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬عام‭ ‬1956،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عانت‭ ‬المرض‭ ‬كثيرًا،‭ ‬كما‭ ‬عانت‭ ‬تباعد‭ ‬الأصحاب‭ ‬والمتابعين،‭ ‬وقد‭ ‬نعاها‭ ‬الصحافي‭ ‬سعيد‭ ‬فريحة‭ ‬في‭ ‬مجلته‭ ‬البيروتية‭ ‬«الصيّاد»‭. ‬وقد‭ ‬تلاحقت‭ ‬الأعوام‭ ‬على‭ ‬غيابها،‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬صوتها‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يصدح‭ ‬في‭ ‬أسماع‭ ‬محبّات‭ ‬الطرب‭ ‬ومحبّيه،‭ ‬قلة‭ ‬كانوا‭ ‬أم‭ ‬كثرًا‭ ■‬