ماري جبران طليعة حارسات التّراث الموسيقي العربي
هناك من يقول إنّ المسيرة الفنية الناجحة هي التي تخدم شهرة الفنان. في المقابل هناك من يردّ بأنّ اتساع العلاقات وحسن التدبير، هما اللذان يكوّنان الشهرة، فيخدمان بذلك المسيرة الفنية، ويعظّمان مآثرها، وينشران أخبارها، خصوصًا إذا كانت جديرة بالتعميم والنشر، وإلا انتهى بها الأمر أسيرة الجدران، يخيم عليها الصمت ويدور حولها النسيان. وهناك من يشير إلى الحالتين، إذا ارتبط الأمر بطول الزمن، وما يسمى الخلود، فأنْ يظهر العمل الفني يجب أن يكون ناجحًا، وأن يدوم يجب أن يخدمه الإعلان والإعلام.
تعود علاقتي بالطرب العربي الأصيل إلى صوت صالح عبدالحيّ، الذي كانت تسجيلاته متوافرة من خلال أشرطة الكاسيت: «في البعد ياما كنت أنوح»، «عشنا وشفنا»، «حبك يا سلام»، «فيك ناس يا ليل بيشكوا لك مواجعهم»، «قد كنت أرجو وصلكم» (وهي القصيدة الشّافعية السّنباطية، المسبوقة بصوت مذيعة الـ B.B.C، معلنةً بصوتها الجهوري المعبّر: من لندن فقط).
مصدر الأشرطة كان دكّانًا صغيرًا يملكه الرّجل الطيّب سامي الملّاح، في مدينة طرابلس اللبنانية، حيث كان المكان، على الرّغم من ضيق مساحته، يتّسع لعدد كبير من الأشرطة، وذلك بسبب بساطة أحجامها ودقة توضيبها وتنظيمها، وبسبب رحابة صدر صاحبها ولطافته، ووسع ثقافته. هناك في الدكّان الجميل، تعرفت إلى صوت المطربة ماري جبران.
قال لي صاحب الدكّان، فيما قال، إنّ والده نور الملّاح كان يعزف على العود مع ماري جبران، وهو لا يتذكّر بقية العازفين في فرقتها، باستثناء القانونجي سليم غزالة.
وأضاف عن والده أنه كان من أصدقاء محمد القصبجي، وكانا حين يلتقيان في مدينة حلب «يتضايفان» العود، حيث إنّ كلًّا منهما يتوجه به إلى الآخر احترامًا وتقديرًا، إلاّ أنّ الملّاح في نهاية التبادل ما كان ليقدم على العزف قبل القصبجي.
لم يتيسر الاستماع إلى أي تسجيل عزفي للملّاح (يذكر صميم الشّريف في كتابه «الموسيقى في سورية» أنّ نوري الملّاح كان من المشاركين مع الكمانجي توفيق الصّباغ، والقانونجي نوبار، والناياتي علي الدّرويش، في تسجيل السماعيات والبشارف والأدوار والموشحات لدى شركة بيضافون).
أصل الغرام نظرة
كما أنّ تسجيلات القصبجي نفسه لم تكن متوافرة آنذاك إلا في حدود ضيقة، وذلك من خلال إبداعاته القصيرة العابرة في بعض حفلات أم كلثوم: «يا ظالمني»، « رباعيات الخيام»، «دليلي احتار»، «أروح لمين»، حتىّ أنّ التسجيل المعروف اليوم للقصبجي وهو يعزف ويغني «رق الحبيب»، لم أكن قد سمعته أو سمعت عنه آنذاك على الإطلاق.
كانت بداية الاطلاع على صوت ماري من خلال الاستماع إليها في الدور الغنائي المشهور «أصل الغرام نظرة» الذي تسبقه بالليالي وتنهيه بموشح: «يا مَن لعبت به شمول ما ألطف هذه الشمايل»، على غير العادة في الأدوار، إذ إنّ هذه الأخيرة تتصدرها الموشحات، ولا تأتي في نهايتها، كما في دور «فرح فؤادي واتهنيت»، الذي يسبقه موشح «حبي دعاني للوصال».
وراح الملاّح يحثّ الخطى في سبيل الحصول على المزيد من التّسجيلات، وكان كلما سافر إلى دمشق يعود بتسجيل إضافي، حتى أنه بدأ يزيد من تسجيلات أبي العلا محمّد، بعدما لاحظنا أن ماري جبران قد أنشدت من ألحانه قصيدة:
أحمامة الوادي بمنعرج اللوى
هيجتِ - وَيْحك - لوعتي ببكاكِ
إذا كنا نفترض أن تكون هناك أمثلة أخرى من ذلك الإنشاد، لكننا لم نبلغ أيّ تسجيل إضافي تنشده المطربة من ألحان هذا الفنان (وهذه القصيدة عُرفت أيضًا بصوت أبي العلا نفسه، وصوت المطربة خيريّة السّقا).
مساحة صوتية واسعة
كان الملّاح يقول عن انتقاله من طرابلس إلى دمشق: «نازل ع الشّام»، وقد اقتصر الاهتمام آنذاك على تسجيلات ماري جبران من الغناء القديم، التي وإن لم تكن كثيرة فإنها شغلتنا، وكنا نكثر من الاستماع إليها، إلى جانب تسجيلات صالح عبدالحي، أما تسجيلات الجيل الأول أو الجيل السابق لهما، فلم نكن على علم بها، أو على الأقل على افتراض بأنها موجودة، اللّهم إلا في نصوص الكتب الموسيقية: يوسف المنيلاوي، عبدالحي حلمي، سيد الصّفتي، علي عبدالباري، سالم العجوز، زكي مراد.
وقد شملت تسجيلات ماري جبران: اأصل الغرام نظرةب، «كادني الهوى»، «ياما انت واحشني»، «السعادة في الغرام»، «الحبيب للهجر مايل»، «فرح فؤادي واتهنيت».
ففي دور «أصل الغرام نظرة» وهو من النماذج الرئيسة في مقام الراست، بدت قدرتها في التعبير عن وسع المساحة الصوتية التي امتلكتها، بدءًا من الأصوات العريضة، ووصولًا إلى الأصوات الحادة، من دون ظهور أي أثر للمبالغة أو التعب، أو الإساءة إلى مقتضيات الطرب الهادئ الرصين.
وفي دور «كادني الهوى» برعت ماري في التعامل مع كلمة يا ليل، بعد الانتهاء من مقطع: للحسن ده بالطبع أميل/ يا اللي تلوم ده شيء بالعقل... وفي ذلك المقطع فرصة جميلة للتعبير عن المقامات الموسيقية القريبة من المقام الرئيس للدور (النهاوند).
وفي مثال ثالث أجادت في التعبير عن مقام الحجاز كار في دور «ياما انت واحشني»، خصوصًا خلال التبادل الحواري الغنائي مع المذهبجية «هنكًا ورنكًا».
أما تسجيلات أغانيها الخاصة فقد تأخر موعد اطّلاعي عليها، وتلك التسجيلات لم تكن منتشرة كثيرًا بالنسبة إليّ في تلك الفترة، وقد اقتضى التفتيش عنها، وفي الظنّ أنّها قليلة العدد بسيطة القدر، إلى أن تبيّن لي لاحقًا أنها على العكس من ذلك نصًّا ولحنًا وأداءً، ولست أدري إن كانت تلك التسجيلات قد انتشرت وعُرفت في السنوات الأولى لظهورها، ثم خبا ألقها وضاقت مساحة انتشارها، أم أنها كانت منذ البداية حكرًا على بعض الذوّاقة والمهتمين، ممّن كانوا يترددون على المسارح التي كانت تغني فيها المطربة، وتنظّم السهرات وتحيي الحفلات، وهذا ما يدفع إلى العجب والتفتيش عن السبب.
نجمة يسبقها نورها
يذكر المتابعون أنّ ماري جبران عرفت جمهورًا واسعًا في أيامها، وأنّ الملحنين كانوا يحترمون صوتها ويقدرونه حق قدره، وأنّ المستمعين العارفين كانوا يُقبلون على حفلاتها فيصغون ويطربون، كما أن الإذاعات كانت تتابع إنتاجها الفني، وتورده في برامجها الغنائية، خصوصًا في اختيارات الطرب، والأداء الأكاديمي الجاد.
وهذا ما كان يحصل في كل من الإذاعتين اللبنانية والسورية، والإذاعتين الفلسطينيتين (القدس والشرق الأدنى)، أما بخصوص الإذاعة المصرية فلا يمكن تأكيد ذلك، بسبب عدم تيسّر الاطلاع على المجلات الإذاعية والفنية المصرية القديمة، مع أنه يمكن افتراض الأمر، فماري جبران عملت كثيرًا في المسارح المصرية مغنية ناجحة على صعيد التراث الغنائي العربي، والتراث في الكثير منه مصري (محمد عثمان، عبده الحامولي، سيد درويش، كامل الخلعي، داود حسني)، وكانت بالتالي قريبة من بعض أعلام التلحين هناك: داود حسني، محمد القصبجي، زكريا أحمد.
وقد تكلم هذا الأخير في «يومياته» عنها حين استمع إليها في بيروت، في مطلع حياتها الفنية عام 1927 :«التقيت في مقهى كوكب الشرق في بيروت رياض السنباطي، واستمعنا هناك مع غيرنا من الأصدقاء إلى المطربة الناشئة ماري جبران، وأبدينا إعجابنا بها».
جمهور واسع
حين أقول إنّ ماري جبران عرفت جمهورًا واسعًا، فلا أقصد إقامة المنافسة، أو على الأقل المفاضلة، مع المطربات الأخريات، وأذكر هنا أنّ مجلة فنية بيروتية (في الماضي) أجرت استفتاء بين قرائها حول مَن تكون المطربة الأولى في أسماعهم في بلاد الشام، فلم تكن ماري جبران في الدرجة الأولى، بل كانت في الرابعة.
لن أقول إن ذلك كان صحيحًا أو غير صحيح، وأنا غير ميال إلى مثل هذه التصنيفات، فالمطربات الأربع، من دون أن أورد أسماءهن، كنّ جميعًا ناجحات، ولكلّ منهن جمهورها، أما اتجاهاتهن في الغناء، وأساليبهن فيه، فكانت مختلفة إلى حدٍ ما، ومن هنا صعوبة التصنيف.
ونحن لو تناولنا إنتاج مطربة واحدة لا مجموعة مطربات، ورحنا نصنّف أغانيها، لما وضعناها في المستوى نفسه، وذلك تبعًا لأذواقنا وميولنا الشخصية، فهذه الفنانة أسمهان مثلًا، إذا قلنا بخصوص أغانيها: إن «أهوى» و«يا بدع الورد» و«فرّق ما بيننا ليه الزمان»، هي الأشهر بين المستمعين، أو لدى وسائل الإعلام، فلا يعني ذلك أن «حديث عينين»، و«هل تيم البان»... ليستا جميلتين، لا بل أكثر جمالًا.
من يستمع إلى التّراث اليوم؟
تقف ماري جبران في عصرنا هذا في صفوف المطربات والمطربين الكبار الذين تراجعت شهرتهم، وأصبح من الصعب العودة بهنّ وبهم إلى أسماع الأجيال المتتابعة، إلّا في حالات محصورة. ولو تناولنا وضعها هي بالذات، لوجدنا أسبابًا وأسبابًا:
• التمسّك بالتّراث والتركيز على الارتباط به، كما أسلفت. والتراث على الرغم من جماله وكماله، لا يستطيع أن يواجه العصور، لصعوبته وعدم قدرته على إرضاء الأذواق اللاحقة، خصوصًا خارج الأوساط الأكاديمية المعرفية المتخصصة، فكم من جهود لإعادة الصلة مع الماضي الجميل تذهب سدى، وكم من محاولة لإثارة الحنين إليه والتعريف بقيمته، تضيع هباء، في معظمها.
• عدم الخوض في غمار السينما الغنائية (الإنتاج التلفزيوني لم يكن قد عرف آنذاك بأي حال)، على الرّغم من أنّ الجمال في الشكل والصوت معًا كان متوافرًا لديها بالنسبة نفسها. والكل يعرف ما للأغنية السينمائية من أهمية في ترسيخ حضور الفنانة المغنية، وفي التحضير لمستقبلها، وحماية رصيدها من التراجع والاندثار.
• التقصير في الجهد الإعلامي: شركات الأسطوانات، المجلات الفنية والثقافية، وهي الأساس أمام الباحثين والمهتمين كلما تقدم الزمن، وزاد الشرخ في العلاقة مع الماضي، وهذا ما يعرفه بالتحديد تجار «الأنتيكا»، فيضيّقون الخناق على بضاعتهم، ويحتكرون ما نجا وعاش من أوراق التراث الغابر.
• هناك مَن يضيف أن ما تمتعت به جبران من مزايا لا حصر لها على صعيد معرفة أصول الموسيقى، والضرب على العود، وإتقان الغناء، وحلاوة الصوت، ووسامة الوجه، لم يهيئ لها أن تهتدي إلى طريق واضح وثابت في ديار الفن، نظرًا إلى أنّ الرغبات الشخصية لديها قد غلبت على الأهداف الفنية، هذه الأهداف التي تتطلب الحرص الشديد والنظام الصارم.
ومن شواهد المجهولية التي تحيط بهذه المطربة، في أيامنا هذه أيضًا:
- تبادل تسجيل لأغنية بيرم التونسي وزكريا أحمد وأم كلثوم: «أنا في انتظارك» (مع آلة البيانو)، على أنه بصوت ماري جبران، بينما هو بصوت الفنانة زكية حمدان.
- تبادل إحدى الصور الوجهية على أنها لماري ، بينما هي للمطربة نادرة أمين.
- كما يكتب البعض عن تسجيلها لدور «أصل الغرام نظرة» أنّه من تلحين داود حسني، بينما هو من تلحين أستاذه محمد عثمان، وداود تولى تحفيظها الدور في معرض تدريبها على أصول الغناء التراثي.
حصة أولى للتراث
الأغاني الخاصة لدى ماري جبران هي في معظمها من فنانين سوريين:
- زكي محمد: «خمرة الربيع»، نظم أحمد خميس.
- نجيب السراج: «يا زمان»، نظم عزت الحصري.
- محمد محسن: «حبايبي نسيوني».
إلى جانب بعض الألحان من فلسطين: رياض البندك: «يا ليل بتحتار أفكاري فيك وحبيبي كمان احتار»... ولبنان: حليم الرومي: «قابلته من غير معاد»، نظم أحمد رامي.
وقد يكون أنّها لم تحصل من الملحنين المصريين الذين التقت بهم، على ألحان خاصة بها، وأن تكون قد سجّلت من ألحان داود حسني: دور «السّعادة في الغرام» وأدوارًا أخرى، ومن ألحان زكريا أحمد: دور «فرح فؤادي واتهنيت». لكنّ هذه الألحان وغيرها، لم تكن وقفًا عليها، والسؤال هنا: هل حصلت هي على ألحان من مثل ذلك، وغنتها في المسارح والحفلات، ولم تسجلها على أسطوانات، لسبب أو لآخر؟
حياة شخصية عصفت بها الريح
ماري جبران لبنانية من مواليد أواخر العقد الأول من القرن الماضي، انتقلت مع عائلتها إلى دمشق وهي صغيرة إبان الحرب العالمية الأولى. هي ماري جبّور في أساس تسمية عائلة والدها (أما جبران فهو اسم عائلة والدتها).
مالت إلى الفن في مطلع حياتها، رقصًا وعزفًا وغناء، متأثرة بخالتها التي عملت راقصة وممثلة في القاهرة، بعد أن اصطحبها سلامة حجازي من سورية. عملت ماري مع الخالة فترة غير قصيرة في مسارح فلسطين والأردن، وقد تكون حملت اسمها طلبًا للشهرة المبكرة، أو قد يكون ذلك قد حصل تجنّبًا لإلصاق مهنة الفن بكنية والدها. وتقول الفنانة بديعة مصابني في مذكراتها: «أحب أن أذكر وجوهًا شاركتني النجاح، ودفعتني إلى أن أتابع الطريق... من هذه الوجوه ماري جبران، وكنت قد دعوتها ماري الجميلة، نظرًا إلى جمال وجهها وعذوبة صوتها»، وبديعة هي التي اصطحبت ماري لأول مرة إلى مصر، غداة إحدى جولاتها في سورية ولبنان.
(أما الملحن حليم الرومي فقال لي في لقاء قديم معه، إن الفنان المصري إبراهيم شفيق هو الذي سار بها إلى مصر، بعد أن أعجب بإمكاناتها الفنية، وتولى تدريبها على أصول الفن، قبل أن تتعرف إلى الملحنين الكبار الآخرين. والرومي كان قريبًا جدًا من المطربة الكبيرة).
استقرت ماري بعد جولاتها العديدة، في سورية، وقد أطلقت معظم أغانيها هناك، وحفلاتها الرئيسة أيضًا وتسجيلاتها الإذاعية، إلى أن أصبحت نقيبة للموسيقيين.
في مرات كانت هذه المطربة عازبة، وفي مرات متزوجة، وكان من المصادفات أن التقيت في وقت من الأوقات، خلال متابعتي لأخبارها واهتمامي بفنها، رجلًا قال لي إنّه ولدها (واسمه س. ف)، وقد انقطع التواصل بتأثير الظروف.
رحلت المطربة ماري جبران مبكرًا في دمشق، عام 1956، بعد أن عانت المرض كثيرًا، كما عانت تباعد الأصحاب والمتابعين، وقد نعاها الصحافي سعيد فريحة في مجلته البيروتية «الصيّاد». وقد تلاحقت الأعوام على غيابها، إلّا أن صوتها لا يزال يصدح في أسماع محبّات الطرب ومحبّيه، قلة كانوا أم كثرًا ■