لُوِيجي مايَر ولوحاته عن الدولة العثمانية في القرن الـ18

لُوِيجي مايَر ولوحاته عن الدولة العثمانية في القرن الـ18

هناك‭ ‬نسبة‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬القراء‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬بالرسام‭ ‬الأوربي‭ ‬لُوِيجي‭ ‬مايَر،‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬الفنانين‭ ‬الأوربيين‭ ‬الذين‭ ‬رسموا‭ ‬معالم‭ ‬الامبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬وشرق‭ ‬أوربا‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر؛‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬القراء‭ ‬العرب‭ ‬قد‭ ‬انصبَّ‭ ‬جُلُّ‭ ‬معرفتهم‭ ‬بتاريخ‭ ‬الفن‭ ‬الغربي‭ ‬الحديث‭ ‬المرتبط‭ ‬بالعالم‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬أشهر‭ ‬الفنانين‭ ‬الأوربيين‭ ‬الذين‭ ‬زاروا‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‭ ‬ومصر‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬أمثال‭ ‬البريطانييْن‭ ‬ديفيد‭ ‬روبرتس‭ (‬1796‭ - ‬1864‭) ‬وجون‭ ‬فردريك‭ ‬لويس‭ (‬1805‭ - ‬1876‭)‬،‭ ‬والفرنسي‭ ‬جيروم‭ (‬1824‭ - ‬1904‭) ‬والفرنسي‭ ‬بريس‭ ‬دافن‭ (‬1807 - 1879‭)‬،‭ ‬وكثيرين‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬جنسيات‭ ‬أوربية‭ ‬مختلفة‭. ‬

 

لم‭ ‬ينل‭ ‬الرسام‭ ‬لويجي‭ ‬ماير‭ ‬في‭ ‬مكتبتنا‭ ‬العربية‭ ‬قدرَه‭ ‬اللائق‭ ‬به‭ ‬وبلوحاته‭ ‬التي‭ ‬جادت‭ ‬بها‭ ‬أناملُه‭ ‬وحسُّه‭ ‬المعماري‭ ‬الفني،‭ ‬وربما‭ ‬يرجع‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الثمن‭ ‬الباهظ‭ ‬للوحاته‭ ‬وندرتها‭ ‬في‭ ‬المطبوعات‭ ‬الفنية‭ ‬العربية،‭ ‬وإلى‭ ‬ندرة‭ ‬التفاصيل‭ ‬عن‭ ‬حياته؛‭ ‬فلم‭ ‬يُذكر‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬المصادر‭ ‬العربية‭ ‬إلا‭ ‬صفحة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬وزير‭ ‬الثقافة‭ ‬المصري‭ ‬الراحل‭ ‬د‭. ‬ثروت‭ ‬عكاشة،‭ ‬«مصر‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الغرباء»،‭ ‬الذي‭ ‬أرّخ‭ ‬فيه‭ ‬للمستشرقين‭ ‬والفنانين‭ ‬الغربيين‭ ‬الذين‭ ‬زاروا‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‭ ‬وتركيا‭ ‬ومصر‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬وحتى‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

ونظرًا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الندرة‭ ‬في‭ ‬المعلومات‭ ‬المكتوبة‭ ‬عنه‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬وعن‭ ‬أعماله‭ ‬الفنية‭ ‬الفريدة‭ ‬في‭ ‬محتواها‭ ‬الفني‭ ‬وفي‭ ‬تغطيتها‭ ‬للمدن‭ ‬والأقاليم‭ ‬العثمانية‭ ‬بتركيا‭ ‬والشرق‭ ‬الأدنى‭ ‬ومصر‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬أوربا،‭ ‬فإننا‭ ‬نتناول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬التعريف‭ ‬به‭ ‬وبأعماله،‭ ‬وبالظروف‭ ‬التي‭ ‬رعى‭ ‬فيها‭ ‬عملَه‭ ‬الفني‭ ‬الدبلوماسيُّ‭ ‬البريطاني‭ ‬الشهير،‭ ‬السفير‭ ‬روبرت‭ ‬إينزلي،‭ ‬منذ‭ ‬قرنين‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬مما‭ ‬خلّد‭ ‬اسميهما‭ ‬معًا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفن‭ ‬الحديث‭.‬

وُلد‭ ‬ماير‭ ‬بألمانيا‭ ‬عام‭ ‬1755م،‭ ‬في‭ ‬عائلة‭ ‬اندمجت‭ ‬فيها‭ ‬الأصول‭ ‬الألمانية‭ ‬والإيطالية،‭ ‬وانتقل‭ ‬مع‭ ‬عائلته‭ ‬للمعيشة‭ ‬في‭ ‬روما،‭ ‬حيث‭ ‬تعلّم‭ ‬الرسم‭ ‬بالألوان‭ ‬المائية‭ ‬والحفر‭ ‬الفني‭ ‬على‭ ‬الخشب‭ ‬والإستيل‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الرسام‭ ‬الإيطالي‭ ‬الشهير‭ ‬بيرانيزي‭ (‬1720‭ ‬ذ‭ ‬1778م‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬بلوحاته‭ ‬المائية‭ ‬المحفورة‭ ‬للمعالم‭ ‬الأثرية‭ ‬القديمة‭ ‬والمباني‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ثم‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬بلاط‭ ‬ملك‭ ‬نابولي‭ ‬فرديناند،‭ ‬ورسم‭ ‬تحت‭ ‬رعايته‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬للمباني‭ ‬الأثرية‭ ‬في‭ ‬صقلية‭. ‬وهنا‭ ‬يقول‭ ‬د‭. ‬عكاشة‭ ‬في‭ ‬تناوله‭ ‬لسيرة‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المذكور‭: ‬«تكشف‭ ‬لوحات‭ ‬لويجي‭ ‬ماير‭ ‬عن‭ ‬انتقال‭ ‬الاهتمام‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬ومطلع‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬إلى‭ ‬تصوير‭ ‬المعالم‭ ‬المعمارية‭ ‬وما‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬مشاهد،‭ ‬مصحوبة‭ ‬بشروح‭ ‬غزيرة‭ ‬مستفيضة»‭. ‬

 

الإكزوتيّة‭ ‬الأوربية‭ ‬ورحلة‭ ‬ماير‭ ‬إلى‭ ‬الشرق

يرجح‭ ‬مؤرخو‭ ‬الفنون‭ ‬أنه‭ ‬بحلول‭ ‬عام‭ ‬1776‭ ‬تقريبًا،‭ ‬أراد‭ ‬ماير‭ ‬أن‭ ‬يرتحل‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬لرؤية‭ ‬بيئات‭ ‬جديدة‭ ‬تصلح‭ ‬لأعماله‭ ‬الفنية،‭ ‬خاصة‭ ‬تلك‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالمعالم‭ ‬الأثرية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رسم‭ ‬لوحات‭ ‬عدة‭ ‬عن‭ ‬المباني‭ ‬والمناظر‭ ‬الطبيعية‭ ‬في‭ ‬صقلية‭ ‬لحساب‭ ‬الملك‭ ‬فرديناند،‭ ‬واختار‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬وجهته‭ ‬الأولى‭ ‬تركيا‭.‬

وتصادف‭ ‬وقتها‭ ‬أنه‭ ‬مع‭ ‬انحدار‭ ‬الامبراطورية‭ ‬العثمانية،‭ ‬انتشر‭ ‬الولع‭ ‬الأوربي‭ ‬بمظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬فيها‭ ‬وبأشهر‭ ‬معالمها‭ ‬وولاياتها،‭ ‬فيما‭ ‬عُرف‭ ‬بمذهب‭ ‬«الإكزوتية»‭. ‬

وكانت‭ ‬فرنسا‭ ‬هي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الولع‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬تركي،‭ ‬وكان‭ ‬الفنانون‭ ‬الفرنسيون‭ ‬المقيمون‭ ‬في‭ ‬إسطنبول‭ ‬وما‭ ‬حولها‭ ‬أسبق‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬مواهبهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬برعاية‭ ‬السفراء‭ ‬الفرنسيين،‭ ‬بينما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬السفراء‭ ‬الإنجليز‭ ‬في‭ ‬إسطنبول‭ ‬يُلقون‭ ‬بالًا‭ ‬لرعاية‭ ‬الفنانين‭ ‬الإنجليز،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الربع‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬عُيّن‭ ‬سفير‭ ‬جديد‭ ‬لإنجلترا‭ ‬بعقلية‭ ‬أدبية‭ ‬وفنية‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬سابقيه،‭ ‬وهو‭ ‬السير‭ ‬روبرت‭ ‬إينزلي‭ (‬1730‭ - ‬1812‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬تعيينه‭ ‬سفيرًا‭ ‬لدى‭ ‬الباب‭ ‬العالي‭ ‬قبيل‭ ‬زيارة‭ ‬ماير‭ ‬لتركيا‭ ‬هو‭ ‬البداية‭ ‬لبزوغ‭ ‬الأخير‭ ‬كعلامة‭ ‬فنية‭ ‬متميزة‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الاستشراق‭ ‬والفن‭.‬

 

إينزلي‭ ‬و«الإكزوتية‮»‬‭ ‬البريطانية

في‭ ‬20‭ ‬سبتمبر‭ ‬1775،‭ ‬عُيّن‭ ‬البارون‭ ‬روبرت‭ ‬إينزلي‭ ‬سفيرًا‭ ‬لبريطانيا‭ ‬في‭ ‬الأستانة،‭ ‬عاصمة‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬خلفًا‭ ‬للسير‭ ‬جون‭ ‬موراي‭. ‬وجاء‭ ‬تعيينه‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ساءت‭ ‬فيها‭ ‬العلاقات‭ ‬العثمانية‭ - ‬البريطانية،‭ ‬بسبب‭ ‬دعم‭ ‬بريطانيا‭ ‬لروسيا‭ ‬بأسطول‭ ‬حربي‭ ‬لمواجهة‭ ‬الباب‭ ‬العالي‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬الروسية‭ - ‬العثمانية‭ (‬1768‭ - ‬1774م‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬السلطان‭ ‬العثماني‭ ‬مصطفى‭ ‬الثالث‭ (‬1757‭ ‬ذ‭ ‬1773م‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بداية‭ ‬الانحلال‭ ‬الحقيقي‭ ‬للدولة‭ ‬العثمانية‭.‬

وبرغم‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬السلطان‭ ‬عبدالحميد‭ ‬الأول،‭ ‬الذي‭ ‬تولى‭ ‬حكم‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬خلفًا‭ ‬لشقيقه‭ ‬مصطفى‭ ‬الثالث‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬بين‭ (‬1773‭ ‬و1788م‭)‬،‭ ‬كان‭ ‬توّاقًا‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬روابط‭ ‬سياسية‭ ‬وتجارية‭ ‬متينة‭ ‬مع‭ ‬بريطانيا‭ ‬تساعده‭ ‬في‭ ‬حربه‭ ‬ضد‭ ‬الروس،‭ ‬فوثّق‭ ‬بالتالي‭ ‬علاقته‭ ‬مع‭ ‬سفيرها‭ ‬إينزلي‭. ‬

أعجبت‭ ‬السفير‭ ‬إينزلي‭ ‬الحياة‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬الأستانة‭. ‬وعلى‭ ‬عكس‭ ‬مَن‭ ‬سبقوه‭ ‬في‭ ‬منصبه‭ ‬من‭ ‬السفراء‭ ‬البريطانيين،‭ ‬فقد‭ ‬أقلم‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬التركية؛‭ ‬فأسس‭ ‬منزله‭ ‬وحديقته‭ ‬وحجرة‭ ‬طعامه‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬التركي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وتزيّا‭ ‬بأزياء‭ ‬المسلمين‭ ‬الأتراك،‭ ‬وعاش‭ ‬بالأسلوب‭ ‬التركي‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬واتصالاته‭ ‬مع‭ ‬الناس،‭ ‬فأثنى‭ ‬عليه‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬تركيا‭ ‬وخاصتهم،‭ ‬لمخالفته‭ ‬أسلوب‭ ‬سابقيه‭ ‬من‭ ‬السفراء‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يتنازلوا‭ ‬عن‭ ‬التمسك‭ ‬بأسلوب‭ ‬معيشتهم‭ ‬الأوربي‭ ‬المسيحي‭ ‬واحتقارهم‭ ‬الأتراك‭. ‬

واحتفظ‭ ‬السفير‭ ‬إينزلي‭ ‬في‭ ‬منزله‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬الأثرية‭ ‬التركية‭ ‬والبيزنطية،‭ ‬ومجموعة‭ ‬كبرى‭ ‬من‭ ‬العملات‭ ‬المعدنية‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬وشرق‭ ‬أوربا‭ ‬والشرق‭ ‬الأدنى،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬كمية‭ ‬من‭ ‬المخطوطات‭ ‬واللوحات‭ ‬القديمة‭ ‬والمحفورة‭ ‬على‭ ‬الخشب،‭ ‬وكان‭ ‬اهتمامه‭ ‬باقتناء‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬اللوحات‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬هو‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬ظهور‭ ‬لوحات‭ ‬ماير‭ ‬إلى‭ ‬الوجود‭ ‬وإلى‭ ‬عالم‭ ‬الفن‭ ‬الاستشراقي‭.‬

 

لقاء‭ ‬ماير‭ ‬وإينزلي‭ ‬

في‭ ‬أثناء‭ ‬زيارة‭ ‬ماير‭ ‬لإسطنبول،‭ ‬التقى‭ ‬السفير‭ ‬إينزلي‭ ‬ونشأت‭ ‬بينهما‭ ‬صداقة‭ ‬وطيدة‭. ‬وتحمّس‭ ‬الأخير‭ ‬لغرض‭ ‬ماير‭ ‬في‭ ‬رسم‭ ‬لوحات‭ ‬فنية‭ ‬للمعالم‭ ‬والمناظر‭ ‬الطبيعية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‭ ‬وبقاع‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية؛‭ ‬فقام‭ ‬برعايته،‭ ‬وأنفق‭ ‬على‭ ‬رحلاته‭ ‬وأمده‭ ‬بالمصاريف‭ ‬اللازمة‭ ‬لذلك،‭ ‬فقام‭ ‬ماير‭ ‬برحلة‭ ‬شاملة‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ (‬1776‭) ‬يسجل‭ ‬خلالها‭ ‬بريشته‭ ‬المباني‭ ‬الشهيرة‭ ‬والآثار‭ ‬وبعض‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والعادات‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬والمدن‭ ‬العثمانية؛‭ ‬بدأها‭ ‬من‭ ‬إسطنبول،‭ ‬ثم‭ ‬مدن‭ ‬إقليم‭ ‬الأناضول‭ (‬آسيا‭ ‬الصغرى‭)‬،‭ ‬وجزيرتَي‭ ‬رودس‭ ‬وقبرص،‭ ‬والشام‭ ‬وفلسطين،‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬ووادي‭ ‬النيل،‭ ‬ثم‭ ‬واحة‭ ‬سيوة‭ ‬المصرية،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬ليبيا‭ ‬وقرطاجنة‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬إسطنبول‭ ‬عام‭ ‬1792؛‭ ‬حين‭ ‬انتهت‭ ‬مدة‭ ‬تعيين‭ ‬إينزلي‭ ‬سفيرًا‭ ‬لبريطانيا‭. ‬ورجع‭ ‬الاثنان‭ ‬معًا‭ ‬إلى‭ ‬لندن،‭ ‬ومرّا‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬رجوعهما‭ ‬على‭ ‬الشطر‭ ‬الأوربي‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬ورسم‭ ‬ماير‭ - ‬خلال‭ ‬رحلة‭ ‬العودة‭ ‬هذه‭ - ‬بعض‭ ‬المعالم‭ ‬الشهيرة‭ ‬في‭ ‬بلغاريا‭ ‬وجبال‭ ‬البلقان‭ ‬ورمانيا‭ ‬واليونان‭. ‬وبعد‭ ‬وصولهما‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬كان‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬لوحات‭ ‬ماير‭ ‬قد‭ ‬صار‭ ‬في‭ ‬حوزة‭ ‬إينزلي،‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬لندن‭.‬

 

ظهور‭ ‬لوحات‭ ‬ماير‭ ‬

عمل‭ ‬إينزلي‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬بمعاونة‭ ‬ماير‭ ‬على‭ ‬إعداد‭ ‬لوحاته‭ ‬للنشر،‭ ‬وكانت‭ ‬اللوحات‭ ‬التي‭ ‬استقر‭ ‬رأيهما‭ ‬على‭ ‬ظهورها‭ ‬للجمهور‭ ‬تفوق‭ ‬المئة‭ ‬وعشرين‭ ‬لوحة؛‭ ‬فجمعها‭ ‬إينزلي‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬متفرقة،‭ ‬وقسّم‭ ‬اللوحات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بكل‭ ‬إقليم‭ ‬جغرافي‭ ‬في‭ ‬كتابٍ‭ ‬على‭ ‬حدة،‭ ‬ثم‭ ‬قام‭ ‬بالتعليق‭ ‬عليها‭ ‬وشرحها‭ ‬من‭ ‬النواحي‭ ‬التاريخية‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬الأثرية‭. ‬

وكان‭ ‬نتاج‭ ‬ذلك‭ ‬صدور‭ ‬تلك‭ ‬اللوحات‭ ‬في‭ ‬4‭ ‬مجلدات،‭ ‬ظهر‭ ‬الأول‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬ماير‭ ‬بعنوان‭ ‬«مناظر‭ ‬من‭ ‬مصر»‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬وشعبها،‭ ‬ونشره‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬عام‭ ‬1801،‭ ‬باللغتين‭ ‬الإنجليزية‭ ‬والفرنسية‭ ‬معًا‭. ‬

وتعد‭ ‬هذه‭ ‬الطبعة‭ ‬ولوحاتها‭ ‬شديدة‭ ‬الندرة؛‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تتوافر‭ ‬منها‭ ‬أي‭ ‬نسخة‭ ‬إلكترونية،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تتم‭ ‬إعادة‭ ‬طبع‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬بنسخ‭ ‬ورقية‭ ‬حديثة‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬وتوجد‭ ‬منه‭ ‬نسختان؛‭ ‬الأولى‭ ‬بمكتبة‭ ‬المتحف‭ ‬البريطاني،‭ ‬والثانية‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬أوفرستون‭ ‬بجامعة‭ ‬ريدنج‭ ‬البريطانية‭. ‬

وتباع‭ ‬نسخة‭ ‬وحيدة‭ ‬منه‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المتاجر‭ ‬بفيينا‭ ‬بمبلغ‭ ‬يناهز‭ ‬العشرة‭ ‬آلاف‭ ‬دولار‭. ‬وقد‭ ‬استقى‭ ‬د‭. ‬عكاشة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الطبعة‭ ‬عشر‭ ‬لوحات‭ ‬أدرجها‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الشهير‭ ‬السالف‭ ‬ذكره‭.‬

وأثارت‭ ‬هذه‭ ‬اللوحات‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬اهتمام‭ ‬الأوربيين‭ ‬وإعجابهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬كتاب‭ ‬اوصف‭ ‬مصرب‭ ‬لعلماء‭ ‬الحملة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬طُبع‭ ‬بعد،‭ ‬ولم‭ ‬يُنشر‭ ‬المجلد‭ ‬الأول‭ ‬منه‭ ‬الخاص‭ ‬بالمصريين‭ ‬المُحدَثين‭ ‬إلا‭ ‬خلال‭ ‬عام‭ ‬1809‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬اكتمال‭ ‬صدور‭ ‬مجلداته‭ ‬الـ‭ ‬26‭ ‬ولوحاته‭ ‬عام‭ ‬1822‭. ‬

أما‭ ‬المجلد‭ ‬الثاني‭ ‬فكان‭ ‬بعنوان‭ ‬«مناظر‭ ‬من‭ ‬الامبراطورية‭ ‬العثمانية»‭ ‬ونشره‭ ‬إينزلي‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬عام‭ ‬1803،‭ ‬وألحق‭ ‬به‭ ‬24‭ ‬لوحة‭ ‬من‭ ‬لوحات‭ ‬ماير‭ ‬عن‭ ‬المدن‭ ‬التركية‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬الصغرى،‭ ‬وإقليم‭ ‬كارامانيا‭ ‬بجنوب‭ ‬الأناضول،‭ ‬وجزيرتَي‭ ‬رودس‭ ‬وقبرص،‭ ‬وقرطاجة‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬وطرابلس‭ ‬الليبية‭. ‬والثالث‭ ‬«مناظر‭ ‬من‭ ‬فلسطين»،‭ ‬ونشره‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬عام‭ ‬1804‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬ماير‭ ‬المفاجئة‭ ‬عام‭ ‬1803‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬ناهز‭ ‬الـ48‭ ‬عامًا،‭ ‬وضم‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬24‭ ‬لوحة‭ ‬عن‭ ‬القدس‭ ‬وبيت‭ ‬لحم‭. ‬

 

مجلد‭ ‬واحد‭ ‬

يذكر‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المجلدات‭ ‬الثلاثة‭ ‬السابقة‭ ‬قد‭ ‬ضمها‭ ‬إينزلي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مجلد‭ ‬واحد‭ ‬عام‭ ‬1804‭ ‬بعنوان‭ ‬«مناظر‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬وفلسطين‭ ‬وأماكن‭ ‬أخرى‭ ‬بأراضي‭ ‬الامبراطورية‭ ‬العثمانية»‭.‬

ثم‭ ‬ظهر‭ ‬المجلد‭ ‬الرابع‭ ‬الذي‭ ‬حمل‭ ‬عنوان‭ ‬«مناظر‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬العثمانية»‭ ‬عن‭ ‬مدينة‭ ‬إسطنبول،‭ ‬وتركيا‭ ‬بشطريها‭ ‬الأوربي‭ ‬والآسيوي،‭ ‬وبعض‭ ‬مدن‭ ‬الشام،‭ ‬والجُزر‭ ‬الواقعة‭ ‬تحت‭ ‬السيادة‭ ‬العثمانية‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬ومدينتي‭ ‬القدس‭ ‬وبيت‭ ‬لحم،‭ ‬ومصر‭ ‬وسيوة‭ ‬وليبيا‭. ‬واحتوى‭ ‬على‭ ‬71‭ ‬لوحة‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬المدن‭ ‬والولايات‭ ‬العثمانية،‭ ‬ونشره‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬عام‭ ‬1810‭. ‬

ومن‭ ‬الجدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أن‭ ‬مؤرخي‭ ‬الفنون‭ ‬يؤكدون‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬نُشر‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬ماير‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭ ‬الأربعة‭ ‬السابقة‭ ‬هو‭ ‬جزء‭ ‬ضئيل‭ ‬من‭ ‬لوحاته،‭ ‬ربما‭ ‬بسبب‭ ‬وفاته‭ ‬المفاجئة‭ ‬عام‭ ‬1803؛‭ ‬بدليل‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عديدًا‭ ‬من‭ ‬الهواة‭ ‬في‭ ‬تركيا‭ ‬وأوربا‭ ‬وأمريكا‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬يحتفظون‭ ‬بلوحاتٍ‭ ‬له‭ ‬ورثوها‭ ‬عن‭ ‬أجدادهم،‭ ‬يُكشف‭ ‬عنها‭ ‬النقاب‭ ‬بين‭ ‬حينٍ‭ ‬وآخر،‭ ‬ولم‭ ‬تُسجل‭ ‬في‭ ‬المتاحف‭ ‬أو‭ ‬الجامعات‭. ‬

وقد‭ ‬أوصى‭ ‬إينزلي‭ ‬بإهداء‭ ‬اللوحات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬حوزته‭ ‬إلى‭ ‬المتحف‭ ‬البريطاني‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬حيث‭ ‬توفي‭ ‬عام‭ ‬1812‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬البريطانية،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نَشر‭ ‬المجلد‭ ‬الأخير‭ ‬«مناظر‭ ‬من‭ ‬الولايات‭ ‬العثمانية»‭ ‬بعامين‭. ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬التناول‭ ‬لمسيرة‭ ‬ماير‭ ‬الفنية‭ ‬وعرْض‭ ‬بعض‭ ‬لوحاته‭ ‬المُدْرجة‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬الأربعة،‭ ‬نرجو‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬العربية‭ ‬قد‭ ‬اهتمت‭ ‬بترجمة‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭ ‬ونشرها‭ ‬للقراء‭ ‬العرب‭ ‬مصحوبةً‭ ‬بلوحاتها،‭ ‬تلك‭ ‬اللوحات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬شاهدةً‭ ‬على‭ ‬تزاوج‭ ‬الفن‭ ‬والدبلوماسية،‭ ‬وعلى‭ ‬عزم‭ ‬الفنان‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬فنه‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬بلا‭ ‬كلل‭ ‬ولا‭ ‬إهمال،‭ ‬ذلك‭ ‬العزم‭ ‬والتعاون‭ ‬اللذان‭ ‬خلّدا‭ ‬اسمي‭ ‬ماير‭ ‬وإينزلي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الفن‭ ‬والاستشراق‭ ‬وأدب‭ ‬الرحلات،‭ ‬بل‭ ‬وتاريخ‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬وأقطار‭ ‬الشرق‭ ‬الأدنى‭ ‬قرب‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ■‬