القمع والتجاهل محمد الرميحي

القمع والتجاهل

حديث الشهر
ازدواجية المثقفين في مواجهة البطش

في لحظة معينة من لحظات الاحتدام التاريخي تتحول الهموم العامة، سياسية كانت أو اجتماعية إلى هموم ثقافية. وعندما يتعلق الأمر بخصوصية البشر وكرامتهم وحريتهم فإن هذا الهم العام يدخل في جوهر العملية الثقافية. ويكون الخطاب الذي يبدو سياسيا، في القلب منه، خطابا ثقافيا، فما الثقافة إلا كونها معارضة للقبح كشكل من أشكال مؤازرة الجمال، مؤازرة إنسانية الإنسان.

أقول هذا بمناسبة ما أثارته داخلي من شجون قراءة كتاب يستحق التأمل. وعنوان الكتاب، إذا ما أردنا ترجمته ترجمة مباشرة، هو: "القسوة والصمت" وكاتبه مؤلف عراقي عرف باسمه المستعار "سمير الخليل" لفترة، عندما كتب في أواسط الثمانينيات كتاب "جمهورية الخوف" ثم باسمه الحقيقي "كنعان مكية" عندما كتب الكتاب الأخير في جو عام أقل خطورة من السابق بالنسبة للمعارضين العراقيين المنفيين لا إراديا أو إراديا في الخارج. حيث قلمت، بعد حرب تحرير الكويت مخالب جهاز القمع العراقي الذي يقوم بالتصفية الجسدية للمعارضين خارج العراق. وكنعان مكية أحدهم إذ إنه يعيش منفيا بين الولايات المتحدة وبريطانيا، وقد سبق أن أصدر النظام العراقي حكما بالإعدام ضده.

الكتاب بالإنجليزية ويبدو أنه سوف يصدر بالعربية ولغات أخرى. وقد حصل الكتاب على بعض المراجعة في عدد قليل من المنشورات العربية، وكل ما اطلعت عليه من تلك المراجعات كانت سلبية بل بالغة السلبية، وذلك من حق المراجع أن يرى في الكتاب ما يراه.

ولكني اعتبر هذا الكتاب وثيقة ليس لإدانة ممارسات النظام العراقي ضد العراقيين فقط، فهي ممارسات يصفها الكاتب مباشرة نقلا عن أولئك الناس الذين وقعت عليهم تلك الممارسات ولكنها أيضا وثيقة إدانة لمجموعة كبيرة من المثقفين العرب الذين إما وقفوا مع تلك الممارسات بشكل أو بآخر أو على الأقل فشلوا في إدانتها إبان إعجابهم (المرضي) بالشخصية الدكتاتورية.

الكيل بمكيالين

ينقسم الكتاب إلى قسمين يضمان عشرة فصول، الأول مكون من ستة فصول يأتي على الخبرات البشرية المتنوعة التي قاست العذاب والقمع والقسوة من النظام العراقي، معظمهم من الشعب العراقي نفسه والذي قتل النظام منه عددا أكبر مما خسره في الحروب العبثية الأخيرة سواء كانت مع إيران، أو في مغامرته العبثية عند غزو الكويت واحتلالها ومن ثم الخروج منها صاغرا.

أما القسم الثاني والمكون من أربعة فصول فإنه يأتي على المواقف الأيديولوجية والثقافية التي شكلت بوتقة القمع والقسوة في الحياة العربية، وموقف أو مواقف بعض المثقفين العرب الذين فجرت فيهم قضية احتلال الكويت المواقف المكبوتة، وهو في هذا الجزء يناقش ليس فقط مواقف الأفراد ومدى التناقض الذي يحمله الواحد منهم تجاه القضايا المتشابهة عندما يحين وقت الصدق والكشف عن المخبوء، بل أيضا وفوق ذلك يناقش موقف المثقف العربي تجاه قضايا أمته. وهو بذلك يضع أمامنا قضية جديرة بالاهتمام لا لتفسير تاريخنا الماضي وحسب، ولكن أيضا من أجل أن نفهم تطورنا المستقبلي كعرب.

فالمثقف يفترض ويتوقع منه أن يحمل ثقافة الخطاب النقدي، وليس الانسياق مع القطيع أو السلطة، مهما كانت توجهاتها، كما أنه من المفروض ألا يكيل بمكيالين أحدهما مستوف لنفسه والآخر منقوص لغيره.

يذكرنا طرح كنعان مكية بخيانة المثقفين الذين يتخلون عن نداء الفكر وإعمال المبادىء، ويساومون عليها ويناصرون في العلن ما يسبونه ويحتقرونه في السر!

وكنعان مكية مثقف مستقل يقدم لنا رواية مستقلة - غير أيديولوجية - ولكنها مرتبطة بمصالح أغلبية شعبه يأخذ على المثقفين العرب الذين صفقوا ومازال بعضهم يصفق للنظام العراقي الدكتاتوري، يأخذ عليهم أنهم لم يذوقوا، لا هم ولا ذووهم أو معارفهم، أشكال القمع التي ذاقها الشعب العراقي، كما يأخذ عليهم الابتعاد عن مناقشة المشكلات الحقيقية بالتستر وراء شعارات قد تكون براقة ولكنها ليست واقعية. كنعان يمثل المثقف الملتزم بشكل عضوي بهموم شعبه، ولو أنه يؤكد في ثنايا كتابه أنه يكتب لنفسه لا للغير، يكتب لأنه وجد قضية تستحق الدفاع عنها، كما أنه يكتب بصراحة، ما له وما عليه، ويأخذ الكاتب على معظم المثقفين العرب أنهم ينخرطون في "الكورس" ليقدموا المدائح، وذلك ليس فعل المثقف الحقيقي فالمثقف الحقيقي عليه واجب تقديم النقد والإشارة إلى الأخطاء.

الطليعة المثقفة الواعية والناقدة تعتبر قيمة لا تقدر بثمن، إن هي قامت بواجبها تجاه مجتمعها خلال فترة القسوة والشدة وفسرت المشكلات التي يواجهها ذاك المجتمع تفسيرا حقيقيا، بعيدا عن رغبة السلطة ومواقف "الجوقة". وهي تقوم بخيانة كبرى لنفسها ولشعبها إن فعلت عكس ذلك وتغاضت عن ارتكاب الجرائم الإنسانية، وبررت تلك الجرائم بمبررات أيديولوجية وتاريخية عصبوية فإن جرمها عندئذ يكون أشد من جرم النظام الدكتاتوري نفسه.

كنعان مكية تغلب على الميل الطبيعي للتردد واختيار الكتمان لدى المثقف، وأفصح عن رأيه المضاد للجوقة ونقد نقدا وافيا وجليا كبار من يدعون في الساحة العربية بأنهم مثقفون وأبان تناقض مواقفهم الذي يدعو إلى السخرية وربما الاشمئزاز.

حكايات القسوة والقمع

وقبل الدخول في تفاصيل ذلك النقد لنقم بجولة سريعة في ثنايا هذا الكتاب الذي وضع صاحبه بين دفتيه عدداً من القضايا العربية التي تحتاج إلى طول أناة وتفكير لأنها قضايا عامة وليست خاصة.

في الاستهلال يقول الكاتب إن كتابه "القسوة والصمت" أراد به أن يكون تسجيلا للتاريخ الشفهي للانتفاضة التي قام بها الشعب العراقي في الجنوب والشمال مباشرة بعد وقف إطلاق النار - في حرب تحرير الكويت - أي الفترة التي امتدت من أواخر فبراير 1991 إلى منتصف مارس من ذلك العام، ولكنه عندما أوغل في الكتاب وجد أن الموضوع متشعب وأن من واجبه تجاه نفسه أن يحيط بظروف ما قبل تلك الحوادث وما بعدها مشيرا إلى موقف المثقفين العرب، ويخص بالذكر منهم أولئك القادرين على أن يقولوا وجهة نظرهم دون خوف من حساب، خاصة من يعيش منهم في أوربا حيث تتوافر حرية الرأي والكتابة ويكُفل حق الاختلاف.

يختار الكاتب مجموعة من القصص الواقعية ويسردها على لسان أصحابها مع تغيير أسمائهم لأسباب معروفة (حيث تسقط لدى النظام الدكتاتوري عادة التقاليد القانونية في الفصل بين "المتهم" وأهله وذويه إذ يطول البطش عشيرته من الأقارب والأباعد)!! ولأن القصص التي يرويها الكاتب في كتابه تأخذ أسماء: خليل، أبوحيدر، عمر، مصطفى، تيمور، وكل واحد من هؤلاء له قصة خاصة مع القمع والقسوة، وبعضهم يمثل فئته الاجتماعية سواء كان في العراق من الطائفة السنية أو الشيعية أو من الأكراد، فإن قصصهم وخبراتهم مع النظام العراقي تتجاوز أشخاصهم، وتغلف دائما بقسوة منقطعة النظير في بلاد حولها حكامها إلى سجن كبير لا يأكل أهله فقط ولكنه يأكل جنوده ومناصريه بعد فترة. يقول الكاتب: "فاضل البراك وهو المدير العام للأمن الداخلي العراقي في الثمانينيات ألف كتابا حاول أن يوثق فيه كيف أن القوى التوسعية الشيطانية تعمل على زرع جواسيس ومخربين لها بين اليهود العراقين والمدارس الإيرانية، مع قائمة طويلة أخرى بالاتهامات. واختلف حظ البراك بعد حرب تحرير الكويت، وسقط من نظر رؤسائه من البعث العراقي وتحت التعذيب الذي أجاده جهازه في الماضي اعترف أنه هو نفسه جاسوس للاتحاد السوفييتي السابق وألمانيا! وفي صيف 1992 وصل جثمانه إلى أهله في تكريت داخل صندوق مشمع".

سياسة الصمت

صمت المثقفون العرب بشكل عام على سياسات النظام العراقي القمعية تجاه شعبه. وابتكر بعضهم خرافة اسمها "صدام المثقف" مع خرافات أخرى أن هناك مؤامرة غربية ضد العرب وكانت هذه الاختلاقات هي وجه العملة الآخر لصمت المثقفن وتجاهلهم للحقائق الموضوعية، وكذلك التخلي عن دورهم الحقيقي، على أساس الموافقة الضمنية أو على أساس عدم فضح النفس أمام الغير، كل ذلك قاد إلى كارثة سيظل العرب لفترة طويلة يعانون من آثارها. وإن كان الاختلاف من حق الجميع في تفسير الأحداث فإن الكاتب يواجهنا بحقيقة مفادها أن من حقنا جميعا أن نختلف حول ما هي الحقيقة ولكن لا أحد يختلف حول ما هو القمع!!

تتباين قصص القمع الطويلة التي يعرضها لنا الكاتب في القسم الأول من كتابه، وهي كما قلت آنفا ليست قصصاً فردية وإن بدت كذلك، فلها بعد عاطفي وعرقي وأيديولوجي وهي تراوح بين ضرب النجف وكربلاء وسكانهما بالنابالم بل وبصواريخ "سكود" إلى اغتصاب الفتيات أمام أعين آبائهن حتى فضل بعضهم الانتحار على مواجهة الحياة بالعار الذي لحق بهم. وتتوالى وقائع البطش من حرق المكتبات في المدن المقدسة التي لا تقدر موجوداتها بثمن إلى القتل الجماعي حتي أن جون سمبسون مراسل ال B.B.C (الإذاعة البريطانية) أكد نقلاً عن أحد كبار المسئولين العراقيين أن عدد قتلى الانتفاضة في الجنوب أكثر من الجنود الذين قتلوا في الحرب (حرب تحرير الكويت).

عمر

ولأن القصص كثيرة فإنه يكاد يصبح لكل عراقي مع هذا النظام القمعي قصة، ولكن قصة عمر هي مثال لما يمكن أن يحدث لمواطن في هذا السجن الكبير، عمر استطاع أن يروي قصته لأنه أوقف فقط لمدة اثنين وأربعين يوما في مبنى المخابرات وحقق معه. عمر من حي الأعظمية في بغداد، الحي الذي تسكنه الطبقة الوسطى وسكانه غالبا ليسوا موضع شبهات كبيرة كسكان حي الثورة مثلا أو بقية المناطق الأخرى الأكثر تبنيا للأفكار المناهضة للنظام، عمر أصغر الأبناء في عائلة تضم ثلاثة أولاد وثلاث بنات، والده ضابط متقاعد اشترك في ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 وسجن أربع سنوات في سجون ذلك العهد وهو الآن قعيد الكرسي المتحرك.

عمر بعد تخرجه من كلية الهندسة في السبعينيات استدعي للدخول في الجيش وسرح من الخدمة بعد خمس سنوات وسبعة أشهر، وكان اشتراكه في الحرب عملا مرغما عليه "كرهت كل دقيقة فيه" كما يقول، وبعد خروجه إلى الحياة المدنية عمل مشرفا هندسيا على أحد المباني الحكومية المهمة وكان يقضي أوقاته بعد ذلك مع رفاقه ليروح عن نفسه ويبحث عن لذة تبعده عن التفكير في حاضره وحاضر بلده. وفي ليلة من ليالي الشتاء القاسية في نهاية الثمانينيات رجع إلى البيت متأخرا. وما أن أوقف سيارته حتى انقض عليه أربعة مخبرين من كل جانب وسمع أمه تقول هلعة : انتبه يا عمر لقد أخذوا أخاك!! ويصف عمر كيف اقتيد إلى مبنى المخابرات معصوب العينين، ثم تبين أن معه مجموعة كبيرة أخرى منها أخوه الأكبر الذي ترك زوجته وأدخلوه إلى حجرة التحقيق معصوب العينين. سألوه سؤالا واحدا: ما الذي كنتم تتآمرون عليه؟ وعندما تبين أنه قد فوجىء بهذا السؤال بدأت أسئلة أخرى عن علاقاته الشخصية، وعرف أن هناك عينا قد وشت به وكان الواشي ملفوفا بدثار في قاع السيارة التي اعتقل فيها.

أمر عمر بأن ينزع ملابسه.. كل ملابسه حتى أصبح عريانا كما ولدته أمه، لم يعذب عمر كما يقول، بل ضرب وركل وأهن وشتم شتيمة مقذعة، لم يعذب لأن التعذيب في هذه المؤسسة شيء آخر عرف عنه بعد ذلك.

أودع عمر الزنزانة مع مجموعة أخرى من المسجونين ليبيت ليلته، وأدخل أخوه زنزانة أخرى وكذلك بقية المقبوض عليهم، وفي الزنزانة المكتظة بالنزلاء لم يكن عمر يكلم أحدا.. بادره شخص أبيض البشرة بالحديث، فلم يرد عليه حيث خمن أنه "عين" أخرى للسلطة، في الزنزانة هذه المرة.

ولكن هذا الأخير لم يأبه بصمت عمر فقال له خذ هذه الخرقة وغط عورتك، وهي خرقة من بقايا ثوب كان يمسح فيه قيء ودم السجناء بعد حفل التعذيب.

وقال المتحدث لعمر: "أنا عراقي كنت أعمل مع المعارضة العراقية في إسبانيا ومتزوج من إسبانية.. في يوم دعيت للسفارة العراقية هناك من أجل التفاهم! وشربت كأسا من الشاي ثم فتحت عيني ووجدت نفسي هنا في هذه الزنزانة!! غدا سوف يقومون باستجوابك، سوف تجد مسجلا أمام المستجوب لا تأبه به.. وعليك أولا أن تنادي المستجوب ب (يا سيدي) في كل مرة، وسوف يقومون بتهديدك، أنت لست مضطرا أن تقول شيئا لا تريد أن تقوله، فكلما قلت اسما طال عذابك وبقاؤك هنا.

هنا في هذا السجن هناك قواعد عليك أن تلتزم بها، فإن أردت أن تذهب إلى الغائط فإن المدة لا تتجاوز عشر ثوان فلا تتجاوز ذلك وإلا ذقت الضرب والإهانة، كما أن الذهاب إلى الغائط وأنت عار يكون ركضا "كالقرود" يداك مدلاة إلى الأرض ووجهك ناظر إلى أسفل، وإياك أن تتعدى الثواني العشر، اقض حاجتك واغسل ماعون الأكل الذي تأكل فيه"، كل ذلك في عشر ثوان!!

الموت على كلمة!

كانت تهمة عمر أنه يحضر مع آخرين اجتماعات سياسية، أما المبلغ عنه فهو واحد ممن كانوا يغشون "شلة الأنس" وهو كردي هارب من الجيش كان يريد الهرب من العراق.

وبعد استجواب طويل وقضاء اثنتين وأربعين ليلة في السجن في وضع أقل من إنسانية الإنسان، عاريا في برد قارس مع آخرين، وبعد أن تشكك في كل الأصدقاء والمعارف، لأنه رأى البعض يعترفون على البعض الآخر ظلما في محاولة لإنقاذ النفس، ينتهي الأمر إلى أن المحققين يطلقون عددا قليلا من المتهمين من بينهم عمر ويسجن أخوه خمس سنوات ويعدم ثلاثة ويسجن الباقون لفترات مختلفة. ويصف عمر مهزلة خروجه من السجن إذ أبلغوه أنه سيخرج على أن يقول هو وغيره من الذين أطلق سراحهم إنهم كانوا في إجازة !! وسأل أحدهم الضابط: سيدي أنا موظف حكومة هل هناك ورقة لرؤسائي تبين سبب تخلفي؟ قال الضابط: كل شيء قد أعد سلفا، فقط اذهب إلى عملك غدا وقل لكل من يسألك لقد كنت في إجازة!!

يصف عمر بعض أقرانه في السجن بمن فيهم مجموعة تسمى سخرية "جماعة العفو" فالنظام العراقي بين فترة وأخرى يصدر قرارا بالعفو عن الهاربين ومن تركوا البلاد لأن وطنهم بحاجة إليهم!!

ويصدق بعض السذج تلك الإعلانات ويعودون إلى العراق، أو يبادرون إلى تسليم أنفسهم إن كانوا فارين في أرجائه، ويخُتار منهم القليل لإظهار صورهم في التلفزيون وكيف أن النظام عفا عنهم وينتظر الأغلبية في "جماعات العفو" طابور طويل في السجن تمهيدا لإعدامهم!!

تبين عمر فيما بعد أن القضية كلها التي أعدم بسببها ثلاثة وسجن وعذب عدد كبير من المواطنين كان سببها زلة لسان في إحدى السهرات عندما ناقش البعض "صعوبة عودة الفاو" بعد أن سقطت في يد الإيرانيين!!

الكلمات فقط قد تؤدي بك إلى المهالك والموت في عراق صدام حسين فما بالك بالأفعال، ناهيك عن أنه في بعض الأوقات يكون الحساب على النوايا؟!

ويذكر الكاتب في الفصل نفسه قصة أخرى: كانت هناك امرأة تريد الطلاق من زوجها فلم تتمكن من ذلك لرفضه، وعندما ضاق عليها الأمر جاءت بمسجل وسجلت له في وقت غضب شتمه للنظام ولصدام حسين وقدمت ذلك التسجيل إلى السلطات فقبضت على الزوج وتم إعدامه، وأصبحت طليقة وتزوجت من تريد!!

هذان المثالان مجرد نموذجين مخففين مما يحفل به الكتاب من قصص دامية ومريرة تنمو في قلب المأساة التي يوسع رقعتها باستمرار نظام صدام حسين وفي مثل هذا النظام تتحول العلاقات الإنسانية إلى علاقات مشوهة: الزوجة تتخلص من زوجها والأطفال يشون بآبائهم، ثم يصفق بعض المثقفين العرب خارج نطاق سجن العراق الكبير لمثل هذا النظام.

قصة عمر رويتها باختصار وكذلك الزوجة التي وشت بزوجها، أما قصص الإبادة في الجنوب والشمال والاعتقال العشوائي في بقية مدن العراق فإن لها مكانا موثقا في صلب الكتاب الذي نحن بصدده فمئات الآلاف من الأكراد الذين هجروا مناطقهم وقراهم ومئات الآلاف من الشيعة والسنة، وأشكال القمع التي تأخذ الطابع الجماعي وتسمى بتسميات العمليات العسكرية مثلما سميت حملة إبادة الأكراد في الشمال سنة 1988 باسم "عملية الأنفال"، كل هذه الفظائع ارتكبت تحت مظلة أيديولوجيات وأسماء براقة، ودفع العراقيون أثمانا باهظة من حياتهم فيها.

ليس الماضي فحسب هو ما يؤرق الكاتب، ولكن يؤرقه أيضا - وأحسب أنه يؤرق كل صاحب ضمير - المستقبل، فقد بنى النظام العراقي إحدى استراتيجياته الشيطانية على استخدام الفئات المختلفة عرقيا وطائفيا ضد بعضها مما سبب ألما وجرحا مازال ينزف وجعل التربص وعدم الثقة بين هذه الطوائف والأعراق كالقنابل الموقوتة.

ويعتقد الكاتب أن الخطوة الأولى لتجاوز ما حدث هي الاعتراف به.

"لقد صوت العراقيون بأقدامهم" كما يقول المثل الغربي، فهناك حوالي المليوني عراقي خارج العراق، معظمهم من المثقفين والفنيين والفنانين وأصحاب الرأي موزعين في دول عديدة، هذه الهجرة القسرية وترك البلاد والنفي لها دلالة عميقة لما يجري في العراق، لقد بعثر النظام العراقي خيرة أبناء العراق في الشتات، ولا يوجد إلا الخوف حتى بين من هم في السلطة اليوم، فالواحد منهم لا يعرف متى سوف يتخلص منه وترسل جثته في صندوق مقفل ويمنع أهله حتى من إقامة شعائر جنازته!!

لقد أخرج النظام العراقي في بداية الحرب العراقية الإيرانية عشرات الآلاف من العراقين إلى إيران بحجة أنهم من "أصول إيرانية" ضاربا عرض الحائط بالواقع القانوني والشرعي لمثل هؤلاء، والتجأ إلى قوات التحالف الدولي عشرات الألوف من الجنود دون أن يطلقوا طلقة واحدة هربا من جحيم القمع ولا يزال بعضهم يفتش عن مكان يلجأ إليه غير وطنه، وتشوهت صورة الأطفال العراقين نتيجة القمع المنظم، فالقلق والضغط والسلوك المرضي من الظواهر المعروفة عند الأطفال العراقيين.

وأثبتت دراسة لمتخصصين في علم النفس - كانوا جزءا من فريق دولي - أن ثمانين بالمائة من العينة التي قابلوها من أطفال العراق يعيشون في خوف يومي من فقدان عائلاتهم بالموت أو الفراق، وحوالي الثلثين منهم لا يعرفون إن كانوا سيصلون إلى سن الرجولة أم لا! وأطفال العراق هم الأحياء الأموات نتيجة العسف والقمع والحروب التي تحشرهم في نيرانها مغامرات هذا النظام الدكتاتوري.

خوف المؤلف - وخوف العقلاء أيضا - يكمن في أن مخلفات صدام سوف تعيش بعد ذهابه. لقد زرع الخوف والقسوة التي تولد بدورها الخوف والقسوة والقمع، فإن هاجمت شخصا لأنه كردي أو لأنه شيعي - يقول المؤلف - فإن تلك المواقف لا تتلاشى، فهي تتجمع في الشعور الجماعي للطائفة أو العرق وينتج عنها رد فعل فئوي وطائفي جماعي، من أجل الدفاع عن الذات العرقية أو الطائفية، فماذا سيحدث في عراق الغد؟ يجيب المؤلف - في معرض تأمل الاحتمالات - أن القومية الكردية على سبيل المثال هى أقوى اليوم مما كانت في السابق، مثلها مثل القومية الفلسطينية التي تأكدت وأخذت شكلها الواضح بعد ظهور دولة إسرائيل سنة 1948، وتلك قضايا لا يصح تجاهلها عندما يطرحها كاتب مثل مكية يعرف أكثر من غيره ماذا يدور داخل العراق!!

تجاوز حدود الخوف

لقد تمخضت حرب تحرير الكويت عن "حرية جديدة" للمعارضين العراقيين فمن كان يتظاهر بالصمت ويتحدث من خلف الكواليس أو يكتب بأسماء مستعارة أصبح يجاهر بوضع اسمه على ما يكتبه ولا يخاف إرهاب الدولة العراقية، ليس لأن هذه الماكينة قد تآكلت فقط، ولكن لأن هناك وعيا جديدا بأن الأمور لا يمكن تغييرها إلا بالحديث عنها في العلن، ولم يعد العراقيون في المنفى يخبرون أصدقاءهم أن ينتظروهم خارج مبنى السفارة أو يبلغوا عن اختفائهم إن هم تأخروا في الخروج من المبنى لفترة. لم يعودوا يخافون الصناديق المغلقة التي تطير من العواصم إلى بغداد حاملة نعوش من جاهروا بآرائهم وتعرفت ماكينة القمع الصدامية على أسمائهم.

الخوف أن هذه المعارضة ما زالت "عاطفية" بمعنى أن بعضها لا يريد أن يتجاوز حدود الخوف الأيديولوجي، مثل الاعتراف بالحدود الدولية بين العراق والكويت، والعمل بشكل جاد والتعاون مع المجتمع الدولي للإطاحة بملامح هذا النظام، وهو خوف نفسي مبني على تثقيف خاطئ بما هو الوطن وما هي مصلحة المواطنين. النظام العراقي لم يبن حتى دولة تقليدية في العراق، الدولة التقليدية العراقية في كل مراحلها كانت تحزم حقوق الأقليات وتحترم حماية هذه الأقليات أو المجموعات العرقية والطائفية المختلفة، إضافة للاحترام التقليدي للاتفاقيات والقوانين الدولية.

دولة البعث العراقي ضربت بعرض الحائط الحدود الدنيا التى كانت الدولة العراقية التقليدية تحترمها. النظام العراقي يطلب من كل العراقيين أن يصبحوا متماثلين ومطيعين لأوامره، إن لم يكن بالحسنى فبالقمع والسجن والقتل. وهذا ينطبق على كل الفئات وكل المجموعات الاجتماعية في العراق. "المجتمع المدني" في العراق نتيجة الهجوم عليه من كل جانب في العشرين سنة الأخيرة تكسر واختفى، وورط النظام مجاميع من كل الفئات في جرائمه، وأصبح العراقي منفذا وضحية لهذا النظام في الوقت نفسه.

من هنا يبرز منطق المعارضة العراقية في الداخل والخارج، فبدون نقد لما هو قائم ليس فقط نقدا للأشخاص وإنما للممارسات والمواقف والأهداف التي قامت عليها الدولة العراقية تحت قيادة البعث العراقي، دون ذلك ليس هناك آفاق مؤملة قريبة لنظام عادل ومتوازن داخليا وإقليميا في العراق.

من أجل زيادة العزلة القانونية والنفسية حول معارضيه سن النظام العراقي مجموعة من القوانين تستهدف إخراج البعض من حق المواطنة وحددت هذه القوانين هؤلاء بأنهم "الذين يأخذون مواقف سياسية واقتصادية أو ثقافية معادية للثورة وبرنامجها" وهذا النص حتى في ظاهره يقف ضد فكرة الدولة التي يؤمن بها - ظاهريا - ذلك النظام! المطالبة بالنقد هي أحد المسارات الأساسية لفكرة الكاتب للخروج من جحيم هذا النظام ولكنه يعود إلى لوم المثقفين العرب على تقاعسهم عن ذلك. لأن (أعظم تهديد للنقد والنظر إلى الأمور بمنظار عقلاني يأتي من أولئك الذين من المفروض أن يقودوا المجتمع العربي، وهم الذين نصبوا أنفسهم كمثقفين عرب).

من هو المثقف العربي؟

لعل النقد السلبي الذي حظي به الكاتب والكتاب الذي بين أيدينا هو موقفه من بعض المثقفين العرب فهو يطرح بكل وضوح الدور المتقاعس لجمهرة من المثقفين العرب وتناقضهم الداخلي وكيف أنهم سكتوا عن ممارسات دكتاتورية قمعية للنظام العراقي ضد شعبه أولا بينما يدافعون عن سياساته العامة ويبررونها، هذا الكشف الذي يواجه النفس بمرآة مكبرة تظهر عورات الادعاءات الكاذبة لدى البعض، ففي الوقت الذي يقف فيه مع حقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية يقف فيه أيضا مع الدكتاتورية ومسخ الإنسان بالبطش والقمع.

يشير الكاتب - كمثال للتناقض الحادث للمثقفين العرب - أن عدداً من أكثر المثقفين تحمساً للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان تحولوا إلى ناقدين قساة للمساهمة العربية في تحرير الكويت بحجة "مجابهة الغرب"، ومن بين هؤلاء من كتب قصيدة أسماها "صرخة في متاهة" يزعم فيها أنه يضع نفسه مع الوطن حتى لو كان هذا الوطن "بيتا للذبح"!

إنها فكرة خداع النفس في الاضطرار للتعامي عن الحقائق في سبيل أيديولوجيات غامضة ونقص في شجاعة القول. المنصف المرزوقي وهو رئيس جمعية حقوق الإنسان التونسية - من المفروض فيه بداهة أن يدافع عن حقوق الإنسان - تشكل عليه الرؤية فيطالب بالإبادة للآخرين! أثناء حرب تحرير الكويت وما بعدها أصبح بعض دعاة الحرية العرب "كائنات منقرضة" بينما انخرط كثيرون في الغناء مع الجوقة لصالح الدكتاتورية وإن تحت شعارات خادعة.

هشام جعيط مؤرخ تونسي عرف بمواقفه المتحررة يقف مع المبررين للاجتياح مدافعا عن فعل "غابة الجماجم" في العراق.

مرارات السكوت

لقد حصل لكثير من المثقفين كما يقول الكاتب "تحجر عاطفي" بصرف النظر عن موقفهم السياسي، فالشيخ التميمي قائد جماعة الجهاد الإسلامى في الأردن ينتقل بعد سنوات من تأييد إيران إلى تأييد صدام حسين لأن الأخير أظهر "يقظة إسلامية"!

أسماء عديدة يأتي على مواقفها الكاتب بجانب من ذكرت، وقفوا ذلك الموقف المتجاهل للحقائق وبدلوا عقلهم الناقد بعواطفهم المشبوبة فسقطوا في جب المغالطات.

بعضهم أراد أن يزيح المسئولية عن عقله وضميره فألحقها بالغرب وحماقاته ومؤامراته وبعضهم تناقض مع المنطق فراح ينتقد مجتمعات لم يزرها ولم يعاينها بل سمع عنها سماعا عابرا من طرف ثالث!! فنفى عن هذه المجتمعات - ظلما - أنها عربية!!

أمثلة عديدة لأسماء براقة ونماذج موثقة من كتاباتهم المتناقضة والمنطفئة ذكرها الكاتب للدلالة على الخلط الكبير الذي وقع في ساحة الثقافة العربية في مواجهة أزمة عربية واضحة المعالم لكل ذي بصر فما بالنا بأصحاب البصيرة !

حملة المؤلف على بعض المثقفين العرب وموقفهم المساند للنظام العراقي إذن، هي حملة مبررة لأنه وجد أن هناك تناقضا بين الدعوة لحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والتعددية وبين تأييد غير مشروط لنظام هو قمة في الدكتاتورية والقمع، إلا أن الأسباب التي يرجعها المؤلف لتلك المواقف هي أن العديد من المثقفين "المؤيدين" كانوا نتاجا لسنوات الحرب الباردة وهزيمة 1967 والحرب الأهلية في لبنان وسنوات الثمانينيات وآثار الاحتلال الإسرائيلي المدمرة.

وإذا كانت تلك أسبابا خاضعة للتحليل إلا أن مركزية النقاش الذي يقودنا إليه الكتاب تشير إلى أنه لو وقف المثقفون العرب مع ضمائرهم وابتعدوا عن "شعور القطيع" وأنصفوا الحق وشجبوا - سياسيين ومثقفين - هجمة النظام العراقي على الكويت، لو وقفوا ذلك الموقف بدلا من تبريره لدى البعض والدعوة إليه لدى البعض الآخر لكانت المرارة أقل مما هي الآن لدى كثيرين.

إن المثقفين في الأوقات العصيبة غالبا ما يتطلع إليهم قومهم كي يمثلوهم ويتحدثوا باسمهم ويشهدوا بالحق ضد عذاباتهم ويرفعوا عنهم ظلم الظالمين.

وهل كان هناك - ومازال - أظلم من ممارسات صدام القمعية ضد مواطنيه وضد جيرانه بل ضد الحلم العربي برمته؟!

لا أظلم ولا أقسى. فما أشد جرم السكوت.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





كنعان مكية (سمير الخليل)