«النهضة الأوربية ورعاتها الأوائل»

«النهضة الأوربية ورعاتها الأوائل»

تُعدُّ النهضة الكبرى التي شهدتها أوربا من أواسط القرن الرابع عشر إلى أواسط القرن السادس عشر الميلاديين تراثاً إنسانياً وعالمياً. ولهذا لم تكن موضع اهتمام المفكرين الأوربيين فحسب، وإنما حظيت أيضاً باهتمام باحثين من بلدان العالم كافة، وذلك رغبة في معالجة قضايا بلدانهم والنهوض بها في ضوء التجربة الأوربية، ولا سيما أن كثيراً من القضايا التي واجهتها أوربا في عصر النهضة تواجهها بلدان كثيرة في عصرنا، مثل قضايا الحرية والتعصب والتسامح والتراث والمعاصرة.

 

يشغل‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬فيها‭ ‬أوربا‭ ‬من‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬إلى‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬1350‭ ‬و1550م‭ ‬تقريباً‭. ‬ويجمع‭ ‬الباحثون‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تطورات‭ ‬كبيرة‭ ‬حدثت‭ ‬خلالها‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭ ‬والعلوم‭ ‬والسياسة‭ ‬والدين‭ ‬والجغرافيا‭. ‬وكان‭ ‬مفتاح‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬هو‭ ‬إحياء‭ ‬تراث‭ ‬اليونان‭ ‬والرومان‭ ‬القديم‭ ‬المعروف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‮»‬‭. ‬ولهذا‭ ‬أُطلق‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬النهضة،‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الرينسانس‮»‬‭ ‬بمعنى‭ ‬‮«‬الإحياء‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬المولد‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬لأنها‭ ‬اعتبرت‭ ‬بمنزلة‭ ‬إحياء‭ ‬للأفكار‭ ‬والقيم‭ ‬التي‭ ‬اشتمل‭ ‬عليها‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭.      

موطن‭ ‬النهضة‭:‬‭ ‬كانت‭ ‬إيطاليا‭ ‬موطن‭ ‬النهضة‭ ‬الأوربية‭ ‬ومركز‭ ‬انطلاقها‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬بلدان‭ ‬أوربا‭. ‬ويعود‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬احتفاظ‭ ‬إيطاليا‭ ‬بقدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬الرومان‭ ‬القديم،‭ ‬وإلى‭ ‬موقعها‭ ‬الجغرافي‭ ‬الذي‭ ‬جعلها‭ ‬على‭ ‬اتصال‭ ‬بحضارات‭ ‬عالم‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬القديمة‭ ‬منها‭ ‬والوسيطة،‭ ‬وإلى‭ ‬هجرة‭ ‬العلماء‭ ‬اليونان‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬احتلال‭ ‬العثمانيين‭ ‬للقسطنطينية‭ ‬عام‭ ‬1453،‭ ‬ورعاية‭ ‬أمراء‭ ‬إيطاليا‭ ‬وبعض‭ ‬البابوات‭ ‬للآداب‭ ‬والفنون‭. ‬كما‭ ‬لعب‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬والتراث‭ ‬اليوناني‭ ‬المترجم‭ ‬من‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬اللاتينية‭ ‬دوراً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النهضة‭.‬

 

الحركة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والنهضة

إن‭ ‬جوهر‭ ‬النهضة‭ ‬الأوربية‭ ‬كان‭ ‬تغيير‭ ‬نظرة‭ ‬إنسان‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬وإلى‭ ‬نفسه‭. ‬وقاد‭ ‬هذا‭ ‬التغيير‭ ‬‮«‬الحركة‭ ‬الإنسانية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬أدباء‭ ‬وعلماء‭ ‬وفنانين‭ ‬وأمراء‭. ‬وقد‭ ‬ظهرت‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬في‭ ‬أواسط‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬عشر،‭ ‬ثم‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬بلدان‭ ‬أوربا‭ ‬الأخرى‭. ‬ويُقصد‭ ‬بمصطلح‭ ‬‮«‬الإنسانية‮»‬‭ ‬هنا‭ ‬الاهتمام‭ ‬بشؤون‭ ‬‮«‬الإنسان‮»‬‭ ‬وتأكيد‭ ‬قيمته‭. ‬ولهذا‭ ‬عمل‭ ‬الإنسانيون‭ ‬على‭ ‬إحياء‭ ‬‮«‬العلوم‭ ‬الإنسانية‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬المعنية‭ ‬بالإنسان‭ ‬والتي‭ ‬حظيت‭ ‬بمكانة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬اليوناني‭ ‬والروماني‭. ‬وكان‭ ‬لهذا‭ ‬الإحياء‭ ‬ما‭ ‬يبرره،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬حرَّمت‭ ‬الكنيسة‭ ‬تداوله‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬بحجة‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬قبل‭ ‬المسيحية‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهو‭ ‬تراث‭ ‬وثني‭. ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬رجال‭ ‬الحركة‭ ‬الإنسانية‭ ‬إنقاذ‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭. ‬فجابوا‭ ‬إيطاليا‭ ‬واليونان‭ ‬ومصر‭ ‬يجمعون‭ ‬المخطوطات‭ ‬اليونانية‭ ‬والرومانية،‭ ‬وعكفوا‭ ‬على‭ ‬دراستها‭ ‬وشرحها‭ ‬ونقدها‭ ‬ثم‭ ‬استلهموا‭ ‬منها‭ ‬أفكارا‭ ‬وإبداعات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فيها‭. ‬وبذلك‭ ‬يكون‭ ‬العلماء‭ ‬‮«‬الإنسانيون‮»‬‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬أسس‭ ‬هذه‭ ‬النهضة‭.‬

 

ميادين‭ ‬النهضة

أدى‭ ‬إحياء‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬إلى‭ ‬تطورات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الفكرية‭ ‬الأوربية‭. ‬ففي‭ ‬ميدان‭ ‬الأدب‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يُكتفى‭ ‬بالأدب‭ ‬اللاتيني‭ ‬المسيحي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سائداً‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬وإنما‭ ‬قرأ‭ ‬علماء‭ ‬النهضة‭ ‬أعمال‭ ‬الأدباء‭ ‬والفلاسفة‭ ‬اليونان‭ ‬والرومان‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬قبل‭ ‬المسيحية،‭ ‬واتخذوا‭ ‬من‭ ‬مؤلفاتهم‭ ‬نماذج‭ ‬لأعمالهم‭ ‬في‭ ‬الأسلوب‭ ‬والمحتوى‭. ‬كما‭ ‬بدأوا‭ ‬باستعمال‭ ‬لغاتهم‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬مؤلفاتهم‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬اللاتينية‭. ‬وكانت‭ ‬النهضة‭ ‬الأدبية‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬مع‭ ‬دانتي‭ (‬ت‭ ‬1321‭) ‬الذي‭ ‬مزج‭ ‬في‭ ‬مؤلفاته‭ ‬بين‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬وتراث‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭. ‬وكان‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬الأدباء‭ ‬الذين‭ ‬استخدموا‭ ‬لغتهم‭ ‬الوطنية،‭ ‬حيث‭ ‬كتب‭ ‬‮«‬الكوميديا‭ ‬الإلهية‮»‬‭ ‬باللغة‭ ‬العامية‭ ‬الإيطالية‭. ‬كذلك‭ ‬يُعدُّ‭ ‬الشاعر‭ ‬الإيطالي‭ ‬بترارك‭ (‬ت‭ ‬1374‭) ‬من‭ ‬رواد‭ ‬النهضة‭ ‬ومن‭ ‬أوائل‭ ‬الأدباء‭ ‬الإنسانيين‭ ‬الذين‭ ‬جعلوا‭ ‬الأدب‭ ‬وسيلة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬مباهج‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬بوكاشيو‭ (‬ت‭ ‬1375‭) ‬من‭ ‬أقطاب‭ ‬النهضة‭ ‬وشارك‭ ‬في‭ ‬إحياء‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬واستخدم‭ ‬العامية‭ ‬الإيطالية‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬أقاصيصه‭. ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬لا‭ ‬خوف‭ ‬على‭ ‬مسيحية‭ ‬الشاعر‭ ‬إذا‭ ‬استلهم‭ ‬تراث‭ ‬اليونان‭ ‬والرومان‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬أثر‭ ‬الأدب‭ ‬الإيطالي‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬الأوربية‭. ‬ففي‭ ‬إنجلترا‭ ‬ظهر‭ ‬الشاعر‭ ‬شوسر‭ (‬ت‭ ‬1400‭) ‬مؤلف‭ ‬‮«‬حكايات‭ ‬كانتربري‮»‬‭ ‬ورسخ‭ ‬أدبه‭ ‬قواعد‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭. ‬وظهر‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬رابليه‭ (‬ت‭ ‬1553‭) ‬وهو‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الإنسانيين‭ ‬وأول‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬كتابا‭ ‬بالفرنسية‭ ‬العامية‭. ‬وفي‭ ‬هولندا‭ ‬ظهر‭ ‬الكاتب‭ ‬الإنساني‭ ‬أرازموس‭ (‬ت‭ ‬1536‭) ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬مدح‭ ‬الجنون‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تهكم‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬أنظمة‭ ‬أوربا‭ ‬في‭ ‬عصره‭. ‬كما‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬إنجلترا‭ ‬الكاتب‭ ‬الإنساني‭ ‬توماس‭ ‬مور‭ (‬ت‭ ‬1540‭) ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬المدينة‭ ‬الفاضلة‮»‬‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الفن‭ ‬فقد‭ ‬تجلت‭ ‬النهضة‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‭ ‬بفنون‭ ‬العصر‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬من‭ ‬تماثيل‭ ‬ونقوش‭ ‬وفنون‭ ‬معمارية‭. ‬وأشهر‭ ‬فناني‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬هم‭ ‬دافنشي‭ (‬ت‭ ‬1519‭)‬،‭ ‬ورفائيل‭ (‬ت‭ ‬1520‭)‬،‭ ‬وأنجلو‭ (‬ت‭ ‬1564‭). ‬

  ‬كما‭ ‬تجلت‭ ‬النهضة‭ ‬في‭ ‬اختراع‭ ‬الطباعة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الألماني‭ ‬جوتنبرج‭ ‬عام‭ ‬1438‭. ‬والتطور‭ ‬المذهل‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الفلك‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬العالم‭ ‬البولندي‭ ‬كوبرنيق‭ (‬ت‭ ‬1543‭) ‬الذي‭ ‬أثبت‭ ‬دوران‭ ‬الكواكب‭ ‬حول‭ ‬نفسها‭ ‬وحول‭ ‬الشمس‭. ‬وظهر‭ ‬المفكر‭ ‬والسياسي‭ ‬الإيطالي‭ ‬مكيافلي‭ (‬ت‭ ‬1527‭) ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الأمير‮»‬‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬الديني،‭ ‬فقد‭ ‬شكَّل‭ ‬نقد‭ ‬الإنسانيين‭ ‬لمؤلفات‭ ‬آباء‭ ‬الكنيسة‭ ‬خطراً‭ ‬على‭ ‬البابوية،‭ ‬والذي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬ذروته‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني‭ (‬البروتستانتية‭) ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬التي‭ ‬قادها‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ (‬ت‭ ‬1546‭). ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬اكتشاف‭ ‬كولومبس‭ ‬لأمريكا‭ ‬عام‭ ‬1492‭ ‬ووصول‭ ‬دو‭ ‬غاما‭ ‬إلى‭ ‬الهند‭ ‬بالدوران‭ ‬حول‭ ‬رأس‭ ‬الرجاء‭ ‬الصالح‭ ‬عام‭ ‬1498،‭ ‬ليشكلا‭ ‬انقلاباً‭ ‬في‭ ‬طرق‭ ‬التجارة‭ ‬الدولية‭ ‬والاقتصاد‭ ‬العالمي‭.‬

‭ ‬وتجلت‭ ‬النهضة‭ ‬أيضا‭ ‬فيما‭ ‬أحدثه‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬من‭ ‬تغير‭ ‬في‭ ‬أفكار‭ ‬الناس‭ ‬ونظرتهم‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬وإلى‭ ‬أنفسهم‭ ‬‮«‬فالمرء‭ ‬حسبما‭ ‬يفكر‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬اكتشف‭ ‬علماء‭ ‬النهضة‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬حضارات‭ ‬عريقة‭ ‬قامت‭ ‬قبل‭ ‬المسيحية،‭ ‬وأن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬قيمها‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬القيم‭ ‬والأفكار‭ ‬التي‭ ‬اعتاد‭ ‬الناس‭ ‬عليها‭. ‬كما‭ ‬تبين‭ ‬لهم‭ ‬أن‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬يحترم‭ ‬الإنسان‭ ‬ويعترف‭ ‬بحقه‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬والتمتع‭ ‬بمباهج‭ ‬الدنيا‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬إنسان‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬يشعر‭ ‬بضآلة‭ ‬نفسه‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬الدنيا‭ ‬فانية،‭ ‬وأن‭ ‬التمتع‭ ‬بمباهجها‭ ‬معصية‭ ‬تستوجب‭ ‬التوبة‭. ‬ولهذا‭ ‬فإن‭ ‬إحياء‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬أنقذ‭ ‬إنسان‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القيود‭ ‬وجعله‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬بإمكانه‭ ‬تحقيق‭ ‬السعادة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بما‭ ‬منحه‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬عقل‭ ‬وإمكانات‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬إيمانه‭.‬

 

رعاة‭ ‬النهضة‭ ‬الأوائل

‭ ‬أولاً‭:‬‭ ‬الأمراء،‭ ‬قام‭ ‬أمراء‭ ‬المدن‭ ‬الإيطالية‭ ‬بدور‭ ‬متميز‭ ‬في‭ ‬النهضة‭ ‬الأوربية‭. ‬وكان‭ ‬في‭ ‬مقدم‭ ‬هؤلاء‭ ‬أمراء‭ ‬فلورنسا‭ ‬من‭ ‬آل‭ ‬ميديتشي‭ ‬الذين‭ ‬اشتهروا‭ ‬بشغفهم‭ ‬بالآداب‭ ‬والفنون‭. ‬ومنهم‭ ‬الأمير‭ ‬كوزيمو‭ ‬ميديتشي‭ (‬ت‭ ‬1464‭) ‬الذي‭ ‬أنفق‭ ‬أموالاً‭ ‬طائلة‭ ‬لشراء‭ ‬المخطوطات‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬من‭ ‬إيطاليا‭ ‬وخارجها،‭ ‬واستخدم‭ ‬عشرات‭ ‬النساخين‭ ‬ورحَّب‭ ‬بالأدباء‭ ‬والفنانين،‭ ‬وأسس‭ ‬في‭ ‬فلورنسا‭ ‬مكتبتين‭ ‬ومركزاً‭ ‬للدراسات‭ ‬الأفلاطونية‭. ‬كما‭ ‬قام‭ ‬حفيده‭ ‬الأمير‭ ‬لورنزو‭ (‬ت‭ ‬1492‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتقن‭ ‬اليونانية‭ ‬واللاتينية،‭ ‬برعاية‭ ‬الأدباء‭ ‬والفنانين،‭ ‬أمثال‭ ‬مايكل‭ ‬أنجلو‭ ‬الذي‭ ‬أقام‭ ‬في‭ ‬قصره‭ ‬وخصص‭ ‬له‭ ‬مرتباً‭ ‬شهرياً‭. ‬وجمع‭ ‬لورنزو‭ ‬المخطوطات‭ ‬اليونانية‭ ‬واللاتينية‭. ‬وكتب‭ ‬مجموعات‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬والأغاني،‭ ‬باللغة‭ ‬الإيطالية،‭ ‬وكانت‭ ‬تغنى‭ ‬في‭ ‬الاحتفالات‭ ‬مثل‭ ‬أغنيته‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬فليمرح‭ ‬كل‭ ‬راغب‭ ‬في‭ ‬المرح‭ ‬فمن‭ ‬يدري‭ ‬ماذا‭ ‬يجلب‭ ‬الغد‮»‬‭. ‬وبذلك‭ ‬تحولت‭ ‬فلورنسا‭ ‬في‭ ‬أيامه‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أثينا‭ ‬أوربا‮»‬‭ ‬ولُقِّبَ‭ ‬بجدارة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬النهضة‮»‬‭.‬

ثانياً‭:‬‭ ‬البابوية،‭ ‬تولى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬بابوات‭ ‬روما‭ ‬رعاية‭ ‬النهضة‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬البابا‭ ‬نيقولا‭ ‬الخامس‭ (‬ت‭ ‬1455‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬أنفق‭ ‬ثروته‭ ‬في‭ ‬شراء‭ ‬المخطوطات‭ ‬اليونانية‭ ‬واللاتينية،‭ ‬الوثنية‭ ‬منها‭ ‬والمسيحية‭. ‬وأسس‭ ‬مكتبة‭ ‬الفاتيكان‭ ‬التي‭ ‬اشتملت‭ ‬على‭ ‬خمسة‭ ‬آلاف‭ ‬مجلد‭. ‬وأحاط‭ ‬نفسه‭ ‬بالعلماء‭ ‬الإنسانيين‭ ‬وأجزل‭ ‬لهم‭ ‬العطاء،‭ ‬ومنح‭ ‬مكافآت‭ ‬لمن‭ ‬ترجم‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬اليونانية‭ ‬إلى‭ ‬اللاتينية‭. ‬وينبغي‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬بابوات‭ ‬آخرين‭ ‬كانوا‭ ‬رعاة‭ ‬للنهضة‭ ‬مثل‭ ‬البابا‭ ‬ليو‭ ‬العاشر‭ (‬ت‭ ‬1521‭) ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬الأمير‭ ‬لورنزو‭ ‬ميديتشي‭.‬

ثالثاً‭:‬  ‬قدَّم‭ ‬العلماء‭ ‬اليونانيون،‭ ‬الذين‭ ‬هاجروا‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬بعد‭ ‬الاحتلال‭ ‬العثماني‭ ‬لبلادهم،‭ ‬الرعاية‭ ‬العلمية‭ ‬للنهضة‭ ‬الأوربية‭ ‬عامة‭. ‬فقد‭ ‬امتلك‭ ‬هؤلاء‭ ‬العلماء‭ ‬مفتاحاً‭ ‬للتراث‭ ‬اليوناني‭ ‬وهو‭ ‬اللغة‭ ‬اليونانية‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬الألفاظ‭ ‬الدخيلة،‭ ‬لغة‭ ‬أفلاطون‭ ‬وأرسطو‭. ‬وقام‭ ‬هؤلاء‭ ‬بتعليم‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬مدارس‭ ‬إيطاليا‭ ‬وجامعاتها‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬مدخلاً‭ ‬لقراءة‭ ‬التراث‭ ‬اليوناني‭ ‬بلغته‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬الترجمات‭ ‬اللاتينية‭ ‬والعربية‭. ‬ثم‭ ‬قام‭ ‬الطلاب‭ ‬الأوربيون،‭ ‬الذين‭ ‬وفدوا‭ ‬إلى‭ ‬إيطاليا‭ ‬لتعلم‭ ‬اليونانية،‭ ‬بتدريسها‭ ‬بعد‭ ‬عودتهم‭ ‬في‭ ‬جامعات‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭. ‬والمعروف‭ ‬أن‭ ‬جامعة‭ ‬أكسفورد‭ ‬أدخلت‭ ‬تدريس‭ ‬اليونانية‭ ‬إلى‭ ‬مناهجها‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭.‬

رابعاً‭:‬‭ ‬الناشرون،‭ ‬كان‭ ‬اختراع‭ ‬المطبعة‭ ‬حدثاً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬النهضة‭. ‬وقد‭ ‬أقبل‭ ‬أثرياء‭ ‬أوربا‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬المطابع‭ ‬ونشر‭ ‬الكتب‭. ‬وسبقت‭ ‬إيطاليا‭ ‬الأمم‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الميدان‭. ‬فقبل‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬كانت‭ ‬قد‭ ‬تأسست‭ ‬مطابع‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬مدن‭ ‬مثل‭ ‬فلورنسا‭ ‬والبندقية‭ ‬وروما‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬البلاد‭ ‬الأوربية،‭ ‬فقد‭ ‬انتشرت‭ ‬المطابع‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭. ‬ولعل‭ ‬أشهر‭ ‬الناشرين،‭ ‬الذين‭ ‬شملوا‭ ‬برعايتهم‭ ‬الآداب‭ ‬والفنون،‭ ‬آلدوس‭ ‬ماتيوس‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تعلم‭ ‬اللاتينية‭ ‬واليونانية‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬مسقط‭ ‬رأسه‭ ‬مدينة‭ ‬روما‭ ‬فقد‭ ‬أسس‭ ‬عام‭ ‬1490‭ ‬داراً‭ ‬للنشر‭ ‬في‭ ‬البندقية،‭ ‬باعتبارها‭ ‬أفضل‭ ‬مركز‭ ‬لتوزيع‭ ‬المطبوعات‭ ‬بحكم‭ ‬علاقاتها‭ ‬التجارية‭ ‬الواسعة‭. ‬وبلغ‭ ‬عدد‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬خلال‭ ‬العقد‭ ‬التالي‭ ‬على‭ ‬تأسيسها‭ ‬ثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬كتاب‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭. ‬وكانت‭ ‬مطبوعات‭ ‬آلدوس‭ ‬تتميز‭ ‬بالدقة‭ ‬العلمية‭ ‬وجمال‭ ‬الإخراج‭. ‬وكان‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬اسمه‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬الروماني‭ ‬محب‭ ‬اليونان‮»‬‭. ‬وقد‭ ‬ترتب‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬المطابع‭ ‬ورعاية‭ ‬الناشرين‭ ‬انتشار‭ ‬التراث‭ ‬الكلاسيكي‭. ‬وغدا‭ ‬الكتاب‭ ‬المطبوع‭ ‬أرخص‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬المنسوخ‭. ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬امتلاك‭ ‬الكتاب‭ ‬وقفاً‭ ‬على‭ ‬الأثرياء‭. ‬وهذا‭ ‬كله‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬استمرار‭ ‬التطورات‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭. ‬ولذا‭ ‬كان‭ ‬الناشرون‭ ‬بحق‭ ‬من‭ ‬رعاة‭ ‬النهضة‭.‬

كانت‭ ‬النهضة‭ ‬الأوربية‭ ‬تجربة‭ ‬إنسانية‭ ‬خصبة،‭ ‬ومحورها‭ ‬تأكيد‭ ‬قيمة‭ ‬الإنسان‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هذا‭ ‬الإنجاز‭ ‬ليتحقق‭ ‬لولا‭ ‬إحياء‭ ‬التراث‭ ‬اليوناني‭ ‬والروماني‭ ‬ودراسته‭ ‬ونقده‭ ‬واستلهام‭ ‬قيم‭ ‬وأفكار‭ ‬جديدة‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬قواعد‭ ‬الحضارة‭ ‬الأوربية‭ ‬الحديثة‭ ‬■