أُمَّة وحدَه... سعد مصلوح شذرات من شهادة لم تكتمل بعد

أُمَّة وحدَه... سعد مصلوح شذرات من شهادة لم تكتمل بعد

حَيّهم إِنْ جئتهم يا سعد حَيّ
فـهم أهــل الحيا في كلِّ حيّ
(إبراهيم الرياحي)
حين يتعلق الأمر بالكتابة عن معلمي سعد مصلوح أجدني متحيراً ومضطرباً، أقدم رجلاً رغبة في رغيبة، وأُؤخّر أخرى رهبة للمعاطب - كما يقول ابن الرومي - لا أعرف من أين أبدأ؟ ولا كيف أبدأ؟ ولا عن أيّ شيء أكتب؟ فهو كثير لدي، وهو كثير في كلَّ شيء؛ في إنسانيته، في علمه، في محبته، في ترحيبه، في علاقته بتلاميذه، في عطائه العلمي، في سماحته في اللقاء، وثرائه في الحديث، في تورعه، في تراحمه، في رعايته لأسرته، في علاقته بزملائه، في محبته لأبنائه، في سؤاله عنك حين تغيب عنه، وفي ردّه عليك حين تهاتفه، في حسن طويته ونقاء سريرته، في تواضعه معرفياً وفي تحدّيه علمياً.

 

جمع‭ ‬في‭ ‬شخصه‭ ‬بين‭ ‬صفتين‭ ‬تكفلان‭ ‬له‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬والفناء‭ ‬في‭ ‬الموجود،‭ ‬هما‭: ‬العالم‭ ‬والمُتَعلِّم‭. ‬لذا‭ ‬كان‭ ‬سعد‭ ‬مصلوح‭ ‬أمة‭ ‬وحدهُ،‭ ‬وما‭ ‬هذه‭ ‬الشهادة‭ ‬سوى‭ ‬شذرات‭ ‬أدونها‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬العلاقة‭ ‬بيننا،‭ ‬وعن‭ ‬صدى‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬مازلت‭ ‬أكتبها‭ ‬عنه،‭ ‬وأحملها‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬خاطري‭ ‬بروايته‭ ‬وبصوته‭.‬

مدى‭ (‬1‭)‬

ألا‭ ‬من‭ ‬يريني‭ ‬غايتي‭ ‬قبل‭ ‬مذهبي‭ ‬

ومن‭ ‬أين؟‭! ‬والغاياتُ‭ ‬بعد‭ ‬المذاهب

  (‬ابن‭ ‬الرومي‭)‬

عندما‭ ‬تخرجت‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وآدابها‭ ‬بجامعة‭ ‬الكويت‭ ‬عام‭ ‬1987‭ ‬يممت‭ ‬وجهي‭ ‬شطر‭ ‬الدراسات‭ ‬اللغوية،‭ ‬إذ‭ ‬كنتُ‭ ‬يومها‭ ‬أُعِدُّ‭ ‬نفسي‭ ‬للدراسات‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬اللسانيات،‭ ‬وحدث‭ ‬أن‭ ‬التقيت‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬بالدكتور‭ ‬سعيد‭ ‬بحيري‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬الكويت‭ ‬تواً‭ ‬ليدرس‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬سعد‭ ‬العبدالله‭ ‬للعلوم‭ ‬الأمنية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حصل‭ ‬عام‭ ‬1984‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬من‭ ‬ألمانيا‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الجملة‭ ‬في‭ ‬رسائل‭ ‬إخوان‭ ‬الصفا‭.‬

توثقت‭ ‬علاقتي‭ ‬بالرجل‭ ‬وصرت‭ ‬أختلف‭ ‬إليه‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وحين؛‭ ‬إذ‭ ‬أيقنت‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أن‭ ‬الدراسات‭ ‬اللغوية‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬هي‭ ‬الاختيار‭ ‬الأجدر‭ ‬خاصة‭ ‬لدراسة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬فرحت‭ ‬أدرس‭ ‬اللغة‭ ‬الألمانية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الكويت‭ ‬مساء،‭ ‬وأسعى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بعثتي‭ ‬الدراسية‭ ‬إلى‭ ‬الجمهورية‭ ‬الألمانية‭. ‬وأخذت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الدراسات‭ ‬اللغوية‭ ‬الحديثة،‭ ‬وبتُ‭ ‬أقرأ‭ ‬ما‭ ‬أنجزه‭ ‬أساتذة‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬العربية‭ ‬تأليفاً‭ ‬وترجمة،‭ ‬من‭ ‬أمثال‭: ‬إبراهيم‭ ‬أنيس،‭ ‬تمام‭ ‬حسان،‭ ‬محمود‭ ‬فهمي‭ ‬حجازي،‭ ‬أحمد‭ ‬مختار‭ ‬عمر،‭ ‬كمال‭ ‬بشر‭ ‬وغيرهم‭.‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬جلساتي‭ ‬وأحاديثي‭ ‬المتواترة‭ ‬مع‭ ‬الدكتور‭ ‬سعيد‭ ‬بحيري‭ ‬ذكر‭ ‬لي‭ ‬الدكتور‭  ‬سعد‭ ‬مصلوح‭ ‬وأثنى‭ ‬عليه‭ ‬ثناء‭ ‬منقطع‭ ‬النظير،‭ ‬وكنتُ‭ ‬حينها‭ ‬مأخوذاً‭ ‬بالأسلوبية‭ ‬مجالاً‭ ‬للدراسة،‭ ‬شغوفاً‭ ‬بالتعرف‭ ‬إلى‭ ‬أدواتها‭ ‬واتخاذها‭ ‬منهجاً‭ ‬علمياً‭ ‬تنضبط‭ ‬معه‭ ‬الدراسة‭ ‬وتحقق‭ ‬به‭ ‬النتائج،‭ ‬وكان‭ ‬حينها‭ ‬قد‭ ‬أصدر‭ ‬كتابه‭ ‬الرائد‭ ‬عن‭ ‬الأسلوبية،‭ ‬وعنوانه‭ ‬‮«‬الأسلوب‭... ‬دراسة‭ ‬لغوية‭ ‬إحصائية‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬حسن‭ ‬الطالع‭ ‬أن‭ ‬الدكتور‭ ‬سعد‭ ‬مصلوح‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬قدم‭ ‬الكويت‭ ‬وقتها‭ (‬1987م‭) ‬ليعمل‭ ‬أستاذاً‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬التربية‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬اسمها‭ ‬القديم‭ (‬معهد‭ ‬المعلمين‭) ‬وباتت‭ ‬كلية‭ ‬تمنح‭ ‬درجة‭ ‬البكالوريوس‭ ‬في‭ ‬التربية‭.‬

رحْتُ‭ ‬أسعى‭ ‬لقراءة‭ ‬دراساته‭ ‬والتعرف‭ ‬إليه‭ ‬علمياً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ألقاه‭ ‬شخصياً،‭ ‬لأنني‭ ‬أؤمن‭ ‬أن‭ ‬خير‭ ‬معرفة‭ ‬تقيمها‭ ‬بينك‭ ‬وبين‭ ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إنتاجه‭ ‬الفكري‭ ‬والمعرفي،‭ ‬وأن‭ ‬اللقاء‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬يكون‭ ‬مبنياً‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المعرفة‭ ‬القَبْلية‭ ‬التي‭ ‬تعين‭ ‬على‭ ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬بينك‭ ‬وبينه‭ ‬للتحاور‭ ‬والحديث‭ ‬المفيد‭ ‬الذي‭ ‬يتجدد‭ ‬دوماً‭ ‬بتجدد‭ ‬السؤال‭ ‬والانتفاع‭ ‬من‭ ‬الإجابة‭.‬

صدى‭ (‬1‭)‬

يَهْنيكَ‭ ‬يا‭ ‬سعدُ‭ ‬الوصولُ‭ ‬إِليهمُ

فَلَقَدْ‭ ‬بلغْتَ‭ ‬منَازِلَ‭ ‬الأبْرَار

‭ (‬أبو‭ ‬الحسن‭ ‬الششتري‭)‬

قال‭ ‬لي‭ ‬مرة‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬مدين‭ ‬لاثنين‭ ‬في‭ ‬قصتي‭ ‬من‭ ‬أولها‭ ‬إلى‭ ‬آخرها؛‭ ‬في‭ ‬النشأة‭ ‬مدين‭ ‬للوالد،‭ ‬وفي‭ ‬التكوين‭ ‬العلمي‭ ‬مدين‭ ‬لعبدالرحمن‭ ‬أيوب‮»‬‭.‬

والده‭ ‬هو‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬مصلوح‭ (‬1900‭ ‬ــ‭ ‬1984‭) ‬كان‭ ‬شاعراً‭ ‬ومترجماً‭ ‬وعالماً،‭ ‬حفظ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وثقف‭ ‬نفسه‭ ‬بمطالعته‭ ‬لكتب‭ ‬التراث،‭ ‬أجاد‭ ‬اللغتين‭ ‬الإنجليزية‭ ‬والفرنسية،‭ ‬وترجم‭ ‬عنهما،‭ ‬تزعم‭ ‬جمعية‭ ‬‮«‬أنصار‭ ‬الحق‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بدور‭ ‬رائد‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬الفلاحين‭ ‬ونشر‭ ‬الوعي‭ ‬الوطني‭ ‬بينهم،‭ ‬كما‭ ‬عمل‭ ‬محرراً‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الإنذار‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬في‭ ‬المنيا‭ (‬1933‭-‬1954‭)‬،‭ ‬وَفْديُ‭ ‬الهوى‭ ‬والنزعة‭.‬

كان‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬مصلوح‭ ‬مريداً‭ ‬متابعاً‭ ‬للطريقة‭ ‬الصوفية،‭ ‬تربى‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬الطريقة‭ ‬وتخلق‭ ‬بأخلاق‭ ‬شيخه‭ ‬محمد‭ ‬الرملي‭- ‬رضوان‭ ‬الله‭ ‬عليه‭- ‬حتى‭ ‬غدا‭ ‬مريداً‭ ‬يعرف‭ ‬آداب‭ ‬الحوار‭ ‬والتعامل‭ ‬مع‭ ‬شيخه‭. ‬ولم‭ ‬تزل‭ ‬تلك‭ ‬الحكاية‭ ‬التي‭ ‬رواها‭ ‬لي‭ ‬د‭. ‬سعد‭ ‬مصلوح‭ ‬عن‭ ‬والده‭ ‬أرددها‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬وأذيعها‭ ‬في‭ ‬النادي،‭ ‬لأنها‭ ‬من‭ ‬أبلغ‭ ‬الدروس‭ ‬التربوية‭ ‬التي‭ ‬نفتقر‭ ‬إليها‭ ‬اليوم‭.‬

كان‭ ‬والده‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬جالساً‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬شيخه،‭ ‬والشيخ‭ ‬يتحدث‭ ‬حديثاً‭ ‬مرسلاً‭ ‬فجاء‭ ‬على‭ ‬لفظة‭ ‬فالتفت‭ ‬إلى‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالعزيز‭ - ‬باعتباره‭ ‬عارفا‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬ونحوها‭- ‬قائلاً‭:‬

يا‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬هذه‭ ‬اللفظة‭ ‬مرفوعة‭ ‬أم‭ ‬مخفوضة؟‭ ‬فأجابه‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬بنباهة‭ ‬العالم‭ ‬وخلق‭ ‬المريد‭ ‬قائلاً‭: ‬أنتم‭ ‬الذين‭ ‬ترفعون‭ ‬وتخفضون‭ ‬يا‭ ‬سيدي‭. ‬إذ‭ ‬أدرك‭ ‬بحسه‭ ‬الروحي‭ ‬وسلوكه‭ ‬الصوفي‭ ‬أن‭ ‬الشيخ‭ ‬لم‭ ‬يسأله‭ ‬سؤال‭ ‬الجاهل‭ ‬وإنما‭ ‬سأله‭ ‬سؤال‭ ‬المختبر،‭ ‬فالعلم‭ ‬وسيلة‭ ‬والخُلُقُ‭ ‬غاية،‭ ‬ومتى‭ ‬كانت‭ ‬الوسيلة‭ ‬أشرف‭ ‬من‭ ‬الغاية؟

فنشأ‭ ‬سعد‭ ‬مصلوح‭ ‬نشأة‭ ‬صوفية‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬والده‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬عنه‭ ‬العلم‭ ‬والمعرفة‭ ‬ومحبة‭ ‬الشعر‭ ‬وقرضه،‭ ‬وكان‭ ‬سعد‭ ‬صبياً‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يقف‭ ‬رائدا‭ ‬للمنشدين‭ ‬وهو‭ ‬ينشد‭ ‬بصوت‭ ‬عال‭:‬

يا‭ ‬آلَ‭ ‬طه‭ ‬عليكمُ‭ ‬حملتي‭ ‬حسبت

إِنَّ‭ ‬الضعيفَ‭ ‬على‭ ‬الأجْوادِ‭ ‬محمولُ

وجِئْتُكمْ‭ ‬بانكساري‭ ‬نحو‭ ‬حَيِّـــكـُـــمُ

أرجوُ‭ ‬القبولَ‭ ‬فقولـوا‭: ‬أنـتَ‭ ‬مقـبولُ

ويردد‭ ‬معه‭ ‬المنشدون‭ ‬متمايلين‭ ‬متواجدين‭ ‬شاخصة‭ ‬أبصارهم‭ ‬وبصيرتهم‭ ‬لمعاني‭ ‬الحق‭ ‬فيهم‭ ‬وسعد‭ ‬بينهم‭ ‬يميل‭ ‬معهم‭ ‬بجسده‭ ‬الغض‭ ‬النحيل‭ ‬يذكر‭ ‬شاكراً‭ ‬حامداً‭ ‬مستغفراً‭:‬

وَاللَّهِ‭ ‬ما‭ ‬طَلَبوا‭ ‬الوُقوفَ‭ ‬بِبابِهِ

حَتّى‭ ‬دعوا‭ ‬فَأَتاهُم‭ ‬المفتاحُ‭ ‬

لا‭ ‬يَطربونَ‭ ‬بِغَيرِ‭ ‬ذِكر‭ ‬حَبيبِهم

أَبَداً‭ ‬فَكُلُّ‭ ‬زَمانِهم‭ ‬أَفراحُ

حَضَروا‭ ‬وَقَد‭ ‬غابَت‭ ‬شَواهِدُ‭ ‬ذاتِهم

فَتَهَتّكوا‭ ‬لَمّا‭ ‬رَأوه‭ ‬وَصاحوا

أَفناهُم‭ ‬عَنهُم‭ ‬وَقَد‭ ‬كشفَت‭ ‬لَهُم

حجبُ‭ ‬البقا‭ ‬فَتَلاشتِ‭ ‬الأَرواحُ

فَتَشَبّهوا‭ ‬إِن‭ ‬لَم‭ ‬تَكُونوا‭ ‬مِثلَهُم

إِنَّ‭ ‬التَّشَبّه‭ ‬بِالكِرامِ‭ ‬فَلاحُ

‭(‬السهروردي‭... ‬المقتول‭ ‬ت‭ ‬587هـ‭)‬

سألته‭ ‬يوماً‭ ‬هل‭ ‬لديك‭ ‬صورة‭ ‬لوالدك؟‭ ‬فنظر‭ ‬إليّ‭ ‬بأسى،‭ ‬ثم‭ ‬أردف‭ ‬قائلاً‭: ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعتني‭ ‬كثيراً‭ ‬بالتوثيق‭ ‬للحظات‭ ‬التي‭ ‬أقضيها‭ ‬معه‭. ‬إنّ‭ ‬والدي‭ ‬كان‭ ‬لدي‭ ‬أشبه‭ ‬بالحضرة‭ ‬أهيم‭ ‬فيها‭ ‬شوقاً‭. ‬وأنهل‭ ‬منها‭ ‬شهداً‭. ‬كانت‭ ‬صورة‭ ‬والدي‭ ‬لدي‭ ‬تسمو‭ ‬على‭ ‬التجسيد‭ ‬لتقترب‭ ‬من‭ ‬التجريد‭. ‬

أوقفه‭ ‬في‭ ‬صباه‭ ‬شيخه‭ ‬ووضع‭ ‬يده‭ ‬الشريفة‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬سيكون‭ ‬لابنك‭ ‬‮«‬سعد‮»‬‭ ‬شأن‭ ‬كبير‭. ‬وقد‭ ‬حَقَّت‭ ‬كلمة‭ ‬ربّك،‭ ‬وصار‭ ‬عالماً‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬اللسانيات‭ ‬وعلما‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬الصوتيات،‭ ‬ورائدا‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬التطبيقية‭ ‬الأسلوبية‭ ‬الإحصائية‭ ‬ونحو‭ ‬النص‭ ‬وغيرها‭.‬

مدى‭ (‬2‭)‬

الكون‭ ‬يا‭ ‬رب‭ ‬الوجود‭ ‬صنعتك

وحدك‭ ‬والأرض‭ ‬جميعاً‭ ‬قبضتك

تهبها‭ ‬قوماً‭ ‬فإما‭ ‬يُسرفوا

تورثها‭ ‬الذين‭ ‬فيها‭ ‬استضعفوا

‭(‬الشيخ‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬مصلوح‭)‬

أشعل‭ ‬فيّ‭ ‬الدكتور‭ ‬بحيري‭ ‬جذوة‭ ‬الالتفات‭ ‬لهذا‭ ‬العالم‭ ‬الجليل،‭ ‬الذي‭ ‬اتسمت‭ ‬دراساته‭ ‬بالجدة‭ ‬والحداثة‭ ‬والمنهجية،‭ ‬وابتعدت‭ ‬عن‭ ‬التكرار‭ ‬والنمطية‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1989‭ ‬قَدّر‭ ‬الله‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أُقبل‭ ‬معيد‭ ‬بعثة‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وآدابها‭ ‬بجامعة‭ ‬الكويت‭ ‬في‭ ‬تخصص‭ ‬الأدب‭ ‬المقارن‭ (‬عربي‭ - ‬فارسي‭)‬،‭ ‬ففتر‭ ‬اهتمامي‭ ‬بالدراسات‭ ‬اللغوية،‭ ‬إذ‭ ‬بدأت‭ ‬أنكب‭ ‬على‭ ‬الدراسات‭ ‬المقارنة‭ ‬استعداداً‭ ‬وإعداداً‭ ‬للبعثة‭ ‬الدراسية‭.‬

وتدور‭ ‬الأرض‭ ‬دورتها‭ ‬لتحملنا‭ ‬الشواديف‭ ‬من‭ ‬هدأة‭ ‬النهر‭ ‬لتلقي‭  ‬بنا‭ ‬في‭ ‬جداول‭ ‬أرض‭ ‬الغرابة‭- ‬على‭ ‬حدّ‭ ‬قول‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭- ‬ويتحقق‭ ‬اللقاء‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬الدكتور‭ ‬سعد‭ ‬مصلوح‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1991م‭ ‬وتبدأ‭ ‬بيننا‭ ‬علاقة‭ ‬أُلْفَةٍ‭ ‬حميمة‭ ‬تأتلف‭ ‬فيها‭ ‬الأرواح،‭ ‬وتطيب‭ ‬النفس،‭ ‬ويسمو‭ ‬العقل،‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬مقاعد‭ ‬المتعلمين‭ ‬في‭ ‬حضرته،‭ ‬أُقَيّد‭ ‬ما‭ ‬يُتاح‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬علمه‭ ‬الغزير،‭ ‬وأنهل‭ ‬من‭ ‬روحه‭ ‬الجميلة‭ ‬التي‭ ‬تفيض‭ ‬حُبّاً،‭ ‬وتغمرنا‭ ‬وِداً‭ ‬وتمنحنا‭ ‬علماً‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬تعقدت‭ ‬الأمور‭ ‬وتعثرتُ‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬قبول‭ ‬لدراسة‭ ‬الأدب‭ ‬المقارن‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬قدمت‭ ‬استقالتي‭ ‬من‭ ‬البعثة‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وآدابها‭ ‬بجامعة‭ ‬الكويت‭ ‬عام‭ ‬1992،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء‭ ‬تعلن‭ ‬كلية‭ ‬التربية‭ ‬الأساسية‭ ‬عن‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬مبعوثين‭ ‬في‭ ‬تخصصات‭ ‬شتى‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ضمنها‭ ‬تخصص‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي،‭ ‬فتقدمت‭ ‬وتمت‭ ‬مقابلتي‭ ‬من‭ ‬لجنة‭ ‬البعثات‭ ‬في‭ ‬القسم،‭ ‬وكان‭ ‬الدكتور‭ ‬سعد‭ ‬مصلوح‭ ‬أحد‭ ‬أعضائها،‭ ‬وحين‭ ‬رأيته‭ ‬في‭ ‬اللجنة‭ ‬انتابتني‭ ‬طمأنينة‭ ‬وتفاءلت‭ ‬كثيراً،‭ ‬ليأتي‭ ‬بعدها‭ ‬قبولي‭ ‬في‭ ‬بعثة‭ ‬دراسية‭ ‬وحدي‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يُقْبَل‭ ‬أحد‭ ‬معي‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الاحتياطي‭.‬

ومن‭ ‬وقتها‭ ‬صار‭ ‬لي‭ ‬الدكتور‭ ‬سعد‭ ‬مصلوح‭ ‬الأستاذ‭ ‬والأب‭ ‬والمعلم‭ ‬والمرشد‭ ‬الذي‭ ‬يعلمني‭ ‬ويهديني‭ ‬سبيل‭ ‬الرشاد‭ ‬علمياً،‭ ‬ويفتح‭ ‬لي‭ ‬آفاقاً‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬والعلم‭ ‬عبر‭ ‬جلسات‭ ‬حميمة،‭ ‬ونظرات‭ ‬ومطالعات‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬والمصادر،‭ ‬جعلتني‭ ‬أعيد‭ ‬تأسيس‭ ‬ذاتي،‭ ‬وعلمني‭ ‬كيف‭ ‬تكون‭ ‬الدراسة‭ ‬العليا‭ ‬سبيلاً‭ ‬للترقي‭ ‬علمياً،‭ ‬وليست‭ ‬غايتها‭ ‬محصورة‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الدرجة‭ ‬العلمية‭.‬

لقد‭ ‬قيض‭ ‬الله‭ ‬لي‭ ‬به‭ ‬أستاذاً‭ ‬رائداً‭ ‬وعالماً‭ ‬جليلاً‭ ‬يعمل‭ ‬لوجه‭ ‬العلم‭ ‬والعلم‭ ‬وحده،‭ ‬يفتح‭ ‬قلبه،‭ ‬ويفتح‭ ‬بيته،‭ ‬ويهديك‭ ‬وقته‭ ‬دون‭ ‬ملل‭ ‬أو‭ ‬كلل‭ ‬أو‭ ‬مِنّة،‭ ‬يأخذ‭ ‬بيدك‭ ‬إلى‭ ‬مجاهل‭ ‬العلوم،‭ ‬يفتح‭ ‬لك‭ ‬أبوابها‭ ‬ويولجك‭ ‬في‭ ‬محرابها،‭ ‬لتتعلم‭ ‬وتدرك‭ ‬وتفهم‭ ‬وتصقل‭ ‬في‭ ‬أتون‭ ‬العلم‭.‬

كان‭ ‬يفلح‭ ‬أرض‭ ‬ذواتنا‭ ‬علمياً‭ ‬ومعرفياً‭ ‬ويوجهنا‭ ‬التوجيه‭ ‬السليم‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬النتائج‭ ‬الناجعة‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬وحدي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المحراب؛‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يجاورني‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬طلبة‭ ‬العلم‭ ‬وطوالبه،‭ ‬فلا‭ ‬يضيق‭ ‬بهم‭ ‬ذرعاً،‭ ‬ولا‭ ‬ينشغل‭ ‬عنهم،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬دائماً‭ ‬منشغل‭ ‬بهم،‭ ‬وبما‭ ‬حققوه‭ ‬وأنجزوه‭ ‬في‭ ‬أبحاثهم‭ ‬ودراساتهم‭. ‬ومن‭ ‬ملاحظاتي‭ ‬التي‭ ‬لاحظتها‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬إجازته‭ ‬الدورية‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬ويعلم‭ ‬طلبته‭ ‬وتلاميذه‭ ‬بوجوده‭ ‬يتصلون‭ ‬به‭ ‬ويذهبون‭ ‬إليه‭ ‬ليتدارسوا‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬موضوعات‭ ‬علمية‭ ‬شتى،‭ ‬وكان‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬المرحبين،‭ ‬تطول‭ ‬ساعات‭ ‬مكوثهم‭ ‬وربما‭ ‬تصل‭ ‬حتى‭ ‬الفجر‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬معهم‭ ‬يهديهم‭ ‬سبيل‭ ‬الرشاد‭ ‬علمياً،‭ ‬ويعطيهم‭ ‬مما‭ ‬فتح‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬معرفياً،‭ ‬وتمضي‭ ‬إجازته‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬لقاء‭ ‬مستمر‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬وهو‭ ‬بذلك‭ ‬جَدّ‭ ‬سعيد‭.‬

لن‭ ‬أبالغ‭ ‬إن‭ ‬قلت‭ ‬إن‭ ‬الدكتور‭ ‬مصلوح‭ ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬أولئك‭ ‬الأساتذة‭ ‬المحرابيين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬سوى‭ ‬العلم‭ ‬ولا‭ ‬يعملون‭ ‬بسواه‭.‬

صدى‭ (‬2‭)‬

عبدالرحمن‭ ‬أيوب‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬اللغة‭ ‬والصوتيات،‭ ‬آنس‭ ‬في‭ ‬مصلوح‭ ‬خيراً‭ ‬وآمن‭ ‬به‭ ‬طالب‭ ‬علم،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬أن‭ ‬يؤمن‭ ‬بأحد،‭ ‬وتعتبر‭ ‬رسالة‭ ‬الماجستير‭ ‬لسعد‭ ‬مصلوح‭ ‬هي‭ ‬الرسالة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬أنجزها‭ ‬بإشرافه‭ ‬الفعلي‭ ‬طوال‭ ‬فترة‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬‮«‬دار‭ ‬العلوم‮»‬‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يشرف‭ ‬على‭ ‬أحد‭ ‬قط،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬القسم‭ ‬كان‭ ‬يذود‭ ‬عنه‭ ‬الإشراف‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬صارماً‭ ‬في‭ ‬إشرافه‭ ‬يرهق‭ ‬من‭ ‬يشرف‭ ‬عليه‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬اقتناعه‭ ‬بأكثر‭ ‬الطلبة‭ ‬الدارسين‭.‬

روى‭ ‬لي‭ ‬الدكتور‭ ‬سعد‭ ‬مصلوح‭ ‬قائلاً‭: ‬لقد‭ ‬آمنتُ‭ ‬بالدكتور‭ ‬أيوب‭ ‬كما‭ ‬آمن‭ ‬بي،‭ ‬وحاولت‭ ‬ألا‭ ‬أخيب‭ ‬أمله‭ ‬بي،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬دعاه‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬علنا‭ ‬في‭ ‬‮«‬دار‭ ‬العلوم‮»‬‭ ‬في‭ ‬جلسة‭ ‬عامة‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يتحملني‭ ‬أحد‭ ‬غير‭ ‬سعد‭ ‬مصلوح‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1968‭ ‬كان‭ ‬أيوب‭ ‬رئيساً‭ ‬للقسم،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬لي‭: ‬لو‭ ‬خرجتُ‭ ‬بك‭ ‬وحدك‭ ‬علمياً‭ ‬أضمن‭ ‬لثلاثين‭ ‬عاما‭ ‬أن‭ ‬القسم‭ ‬يصبحُ‭ ‬بخير‭.‬

ويروي‭ ‬الأستاذ‭ ‬أبو‭ ‬أوس‭ ‬إبراهيم‭ ‬الشمان‭ ‬عن‭ ‬الدكتور‭ ‬مصلوح‭ ‬بأنه‭ ‬عندما‭ ‬نشر‭ ‬الدكتور‭ ‬أيوب‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬العربية‭ ‬ولهجاتها‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1968‭ ‬طلبت‭ ‬مجلة‭ ‬المجلة‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يرشح‭ ‬من‭ ‬يكتب‭ ‬عن‭ ‬كتابه،‭ ‬فرشح‭ ‬تلميذه‭ ‬النجيب‭ ‬سعد‭ ‬مصلوح،‭ ‬ولما‭ ‬انتهى‭ ‬مصلوح‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬مضى‭ ‬إليه‭ ‬ليأخذ‭ ‬رأيه‭ ‬فيما‭ ‬كتب،‭ ‬فأبى‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬ما‭ ‬كتب‭ ‬وهو‭ ‬منشور‭ ‬في‭ ‬المجلة،‭ ‬فلما‭ ‬نشر‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬المجلة‭ ‬عدد‭ ‬يونيو‭ ‬1969،‭ ‬جاء‭ ‬ليقول‭ ‬على‭ ‬الملأ‭: ‬يا‭ ‬سعد‭ ‬أنت‭ ‬فهمت‭ ‬كتابي‭ ‬أفضل‭ ‬مني‭.‬

اعتنى‭ ‬الدكتور‭ ‬أيوب‭ ‬بمصلوح‭ ‬عناية‭ ‬فائقة‭ ‬وسعى‭ ‬إلى‭ ‬إعداده‭ ‬إعداداً‭ ‬علمياً‭ ‬متميزاً‭ ‬ليباري‭ ‬فيه‭ ‬ويفاخر‭ ‬به‭ ‬الآخرين‭. ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬مصلوح‭ ‬في‭ ‬أطروحة‭ ‬الماجستير‭ ‬أخذه‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬العلوم‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬وكان‭ ‬رئيس‭ ‬القسم‭ ‬آنذاك‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬النادي‭ - ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ - ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يدع‭ ‬مصلوح‭ ‬يحضر‭ ‬مع‭ ‬طلبة‭ ‬كلية‭ ‬العلوم‭ ‬مادة‭ ‬فيزياء‭ ‬الصوت،‭ ‬وحضر‭ ‬مصلوح‭ ‬لمدة‭ ‬نصف‭ ‬عام‭ ‬دراسي‭ ‬مع‭ ‬طلبة‭ ‬العلوم،‭ ‬كما‭ ‬ذهب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬معهد‭ ‬الدراسات‭ ‬الإحصائية‭ ‬ليأخذ‭ ‬دورة‭ ‬في‭ ‬الإحصاء‭.‬

يصفه‭ ‬الدكتور‭ ‬مصلوح،‭ ‬قائلاً‭: ‬كان‭ ‬الدكتور‭ ‬أيوب‭ ‬حادّ‭ ‬الرأي‭ ‬صعب‭ ‬المراس،‭ ‬ويتسم‭ ‬بصراحة‭ ‬غير‭ ‬عادية،‭ ‬وإذا‭ ‬قيل‭ ‬منْ‭ ‬اللغوي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬فإنه‭ ‬‮«‬عبدالرحمن‭ ‬أيوب‮»‬‭.‬

مدى‭ (‬3‭)‬

وكنتَ‭ ‬إذا‭ ‬أرسلتَ‭ ‬طرفكَ‭ ‬رائداً

لقلبكَ‭ ‬يوماً‭ ‬أتبعتكَ‭ ‬المناظرُ

رأيتَ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬كله‭ ‬أنتَ‭ ‬قادرٌ

عليه‭ ‬ولا‭ ‬عنْ‭ ‬بعضهِ‭ ‬أنتَ‭ ‬صابرُ

‭(‬مجهول‭)‬

جاء‭ ‬قبولي‭ ‬لدراسة‭ ‬السنة‭ ‬التمهيدية‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وآدابها‭ ‬في‭ ‬آداب‭ ‬القاهرة‭ ‬في‭ ‬أواسط‭ ‬شهر‭ ‬فبراير‭ ‬1993،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يتبق‭ ‬على‭ ‬العام‭ ‬الدراسي‭ ‬سوى‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر،‭ ‬فآثرتُ‭ ‬الالتحاق‭ ‬بالجامعة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬اختبارات‭ ‬شهر‭ ‬مايو،‭ ‬إذ‭ ‬توجد‭ ‬فرصة‭ ‬أخرى‭ ‬لدخول‭ ‬اختبارات‭ ‬شهر‭ ‬سبتمبر،‭ ‬فنصحني‭ ‬أستاذي‭ ‬مصلوح‭ ‬بأن‭ ‬ألتحق‭ ‬بالجامعة‭ ‬وأدخل‭ ‬اختبارات‭ ‬مايو‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬طرائق‭ ‬الاختبار‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أفكر‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬اجتيازه‭.‬

وكانت‭ ‬خير‭ ‬نصيحة‭ ‬أسداها‭ ‬لي،‭ ‬إذ‭ ‬ما‭ ‬وطأت‭ ‬قدماي‭ ‬قسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وآدابها‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬وجدتني‭ ‬أجِدُّ‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬والتحصيل‭ ‬عازماً‭ ‬على‭ ‬اجتياز‭ ‬الاختبارات‭ ‬في‭ ‬مايو،‭ ‬وما‭ ‬برحت‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬اجتزت‭ ‬السنة‭ ‬التمهيدية‭ ‬خلال‭ ‬شهرين‭ ‬ونصف‭ ‬الشهر،‭ ‬فحمدتُ‭ ‬لمعلمي‭ ‬وأستاذي‭ ‬مصلوح‭ ‬نصيحته‭ ‬وبصيرته‭ ‬في‭ ‬دفعي‭ ‬لاجتياز‭ ‬السنة‭ ‬التمهيدية‭.‬

وعندما‭ ‬اخترت‭ ‬موضوعاً‭ ‬لأطروحة‭ ‬الماجستير‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬تجليات‭ ‬الأنا‭ ‬الشعرية‭ ‬عند‭ ‬ابن‭ ‬الفارض‭ (‬ت‭ ‬632 هـ‭) ‬بارك‭ ‬اختياري‭ ‬للموضوع‭ ‬وآنس‭ ‬وحشتي‭ ‬في‭ ‬دراسته،‭ ‬وأجلسني‭ ‬منه‭ ‬مجلس‭ ‬التلميذ،‭ ‬إذ‭ ‬أخذ‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬الإشراف‭ ‬عَليَّ‭ ‬حُبَّاً‭ ‬وكرامة‭ ‬لا‭ ‬تكليفاً،‭ ‬فأقال‭ ‬عثرتي‭ ‬العلمية،‭ ‬وصار‭ ‬يتابعني‭ ‬فصلاً‭ ‬بفصل‭ ‬ويعطيني‭ ‬ملاحظاته‭ ‬القيمة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أكتب‭ ‬حتى‭ ‬أتممت‭ ‬الرسالة‭ ‬ونوقشت‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬1999م‭.‬

ولما‭ ‬أقبلت‭ ‬على‭ ‬اختيار‭ ‬موضوع‭ ‬لأطروحة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬وكان‭ ‬عن‭ ‬العذل‭ ‬الديني‭ ‬والمعرفي‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الصوفي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬الهجري‭ ‬جلستُ‭ ‬معه‭ ‬جلسات‭ ‬مستفيضة،‭ ‬وأطلعته‭ ‬على‭ ‬نصوص‭ ‬شعرية‭ ‬جمة‭ ‬لبعض‭ ‬شعراء‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وأشهدته‭ ‬موضوعي‭ ‬في‭ ‬شعرهم،‭ ‬وأبنت‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬أقصد‭ ‬وما‭ ‬أعني‭ ‬في‭ ‬العذل،‭ ‬فآزر‭ ‬فكرتي،‭ ‬وفتح‭ ‬لي‭ ‬آفاقاً‭ ‬ومهد‭ ‬لي‭ ‬طرقاً‭ ‬للسير‭ ‬قدماً‭ ‬في‭ ‬إنجاز‭ ‬دراستي،‭  ‬وجعلني‭ ‬أقدم‭ ‬قراءة‭ ‬للشعر‭ ‬الصوفي‭ ‬تعتمد‭ ‬ركيزتين‭:‬

الأولى‭: ‬الانطلاق‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬النص‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬تأويله‭.‬

الثانية‭: ‬استثمار‭ ‬المنجز‭ ‬اللساني‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬النص‭ ‬بما‭ ‬يتيحه‭ ‬من‭ ‬إجراءات‭ ‬نقدية‭ ‬يمكن‭ ‬بتوظيفها‭ ‬فحص‭ ‬ظاهرتي‭: ‬السبك‭ ‬والحبك‭ ‬في‭ ‬النص‭. ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬وجوه‭ ‬التعدد‭ ‬والاحتمال‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬التأويل‭ ‬معتمداً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الصيغة‭ ‬التي‭ ‬قدمها‭ ‬روبرت‭ ‬آلان‭ ‬دي‭ ‬بيوجراند‭ ‬وولفجانج‭ ‬أولرخ‭ ‬دريسلار‭ ‬وما‭ ‬اقترحاه‭ ‬من‭ ‬معايير‭ ‬يتحقق‭ ‬بها‭ ‬شروط‭ ‬النصية‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬عليَّ‭ ‬استخدام‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭ ‬الإجرائي‭ ‬التحليلي‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬استخدمه‭ ‬الدكتور‭ ‬مصلوح‭ ‬في‭ ‬دراسته،‭ ‬‮«‬نحو‭ ‬أجرومية‭ ‬للنص‭ ‬الشعري‭: ‬دراسة‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬جاهلية‮»‬‭ ‬مطبقاً‭ ‬معيارين‭ ‬من‭ ‬معايير‭ ‬نحو‭ ‬النص‭ ‬بصيغة‭ ‬بيوجراند‭ ‬هما‭ ‬معيارا‭: ‬السبك‭ ‬والحبك‭. ‬فآثر‭ ‬أن‭ ‬أطبق‭ ‬في‭ ‬تحليلي‭ ‬لنص‭ ‬شعري‭ ‬صوفي‭ ‬المعايير‭ ‬السبعة‭ ‬المقترحة‭ ‬في‭ ‬صيغتيهما‭ (‬جراند‭ ‬ذ‭ ‬دريسلار‭)‬،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬التطبيق‭ ‬هو‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬ينجز‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو،‭ ‬ولولا‭ ‬الدكتور‭ ‬مصلوح‭ ‬ودعمه‭ ‬وجهده‭ ‬المضني‭ ‬معي‭ ‬لإنجاز‭ ‬الدراسة‭ ‬عامة،‭ ‬وهذا‭ ‬التطبيق‭ ‬التحليلي‭ ‬النصي‭ ‬خاصة‭ ‬لما‭ ‬أنجزت‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬القياسي‭ ‬وأصبحت‭ ‬مستعداً‭ ‬للمناقشة‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬2004م‭.‬

اختار‭ ‬مشرفي‭ ‬على‭ ‬الرسالة‭ ‬الدكتور‭ ‬جابر‭ ‬عصفور‭ ‬الدكتور‭ ‬مصلوح‭ ‬والدكتور‭ ‬سليمان‭ ‬العطار‭ ‬عضوين‭ ‬في‭ ‬لجنة‭ ‬مناقشة‭ ‬أطروحة‭ ‬الدكتوراه،‭ ‬وفي‭ ‬ليلة‭ ‬المناقشة‭ ‬اتصلت‭ ‬بالدكتور‭ ‬مصلوح‭ ‬فقال‭ ‬لي‭: ‬ماذا‭ ‬عساني‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬غداً‭ ‬في‭ ‬مناقشتك‭ ‬وقد‭ ‬كنت‭ ‬معك‭ ‬فيها‭ ‬فصلاً‭ ‬فصلاً‭ ‬حتى‭ ‬أنجزتَها،‭ ‬فظننتُ‭ ‬أنه‭ ‬يقول‭ ‬ذلك‭ ‬حائراً،‭ ‬وما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬أظهر‭ ‬وجهاً‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬مناقشة‭ ‬الأطروحة‭ ‬ولاسيما‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬المتحدثين‭ ‬والمناقشين،‭ ‬إذ‭ ‬بات‭ ‬منفصلاً‭ ‬عن‭ ‬الدراسة‭ ‬وصاحبها‭ ‬فوجه‭ ‬لي‭ ‬انتقادات‭ ‬منهجية‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬تضاعيف‭ ‬الدراسة،‭ ‬وذكر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الملاحظات‭ ‬وناقشني‭ ‬فيها‭ ‬وكأنه‭ ‬لم‭ ‬يقرأ‭ ‬الدراسة‭ ‬ولم‭ ‬يشرف‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

وكان‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يعطيني‭ ‬درساً‭ ‬عملياً‭ ‬آخر‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬الدروس‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬يعلمني‭ ‬إياها‭ ‬ولم‭ ‬يزل،‭ ‬يعلمني‭ ‬كيف‭ ‬أستطيع‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬الدراسة‭ ‬ونقدها‭ ‬والنظر‭ ‬إليها‭ ‬بمنهجية‭ ‬وموضوعية‭ ‬متجرداً‭ ‬عما‭ ‬أكتب،‭ ‬متطلعاً‭ ‬نحو‭ ‬النقد‭ ‬المستمر‭ ‬والمراجعة‭ ‬المستمرة‭ ‬المثمرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تجعل‭ ‬الدارس‭ ‬يركن‭ ‬إلى‭ ‬شيء،‭ ‬ويتوقف‭ ‬عند‭ ‬نتيجة،‭ ‬سعياً‭ ‬نحو‭ ‬الإبحار‭ ‬في‭ ‬آفاق‭ ‬أرحب،‭ ‬وتطور‭ ‬مستمر‭ ‬في‭ ‬الدرس‭ ‬النقدي‭ ‬