عوالم مصغرة
يعرف فنانو المنمنمات والإبداعات المصغرة - miniature - جيدًا بأن الأمر ليس مجرد تصغير، بل عمل دؤوب ومتقن، وقدرة فائقة على إبراز أعقد التفاصيل باستخدام تقنيات وأدوات خاصة. فإلى جانب الناحية الجمالية التي تغمر الصانع والناظر بمتعة لا متناهية، تحمل عديد من النماذج الصغيرة والمتناهية الصغر رسائل مهمة ذات مضامين تربوية واجتماعية مؤثرة. وباتساع التنوع في الحياة، يتسع هذا الفن ليبدع أعمالا فنية مصغرة بصورة مدهشة، يمكن أن تسكن بيوتنا وقلوبنا وتستقر في راحات أيادينا بكل ما فيها من قدرة هائلة على إثارة التداعيات والذكريات بحلوها ومرها.
على سبيل المثال، يمكن أن يتذكر إنسان رحلته العابرة إلى هولندا فور أن يقع بصره على طاحونة هوائية صغيرة تقبع على الرف. وتظل زيارة باريس حلمًا نابضًا لآخر يبث فيه الحياة كنموذج مصغر لبرج إيفل معلقًا في سيارته. ومن أحد أركان البيت قد يستمتع الجالس بنموذج مرمري لتاج محل بالقرب من فيل هندي متشكل على هيئة إبريق شاي. ومع مجموعة تماثيل صغيرة لـ «لوريد» و«هاردي»، لابد أن ترسم ابتسامات، وتتدفق تداعيات لمشاهد أفلام لطالما بعثت على البهجة. وغير ذلك، كثير كمجسمات مصغرة لسفن ولوحات صغيرة لأعمال عالمية شهيرة لا تمل العيون من النظر إليها والتأمل فيها؛ وسيارات متقنة الصنع لماركات فاخرة أثيرة تحمل معها عبق أيام من زمن ولى أو زمن قادم. وفي مكان آخر نموذج لعروسين كانا يقفان يومًا ما على قمة تورتة زفاف؛ ومجسم عربة طفل صغير جاءت هدية لمولود قبل أعوام طويلة. وتمتد هذه الأعمال في تفاصيل حياتنا اليومية وحيوات من سبقونا من المهد إلى اللحد، بدءا من ألعاب الطفولة، وأدوات المدرسة - كممحاة على شكل بسكوتة، وقلم ينتهي بوجه مبتسم لشخصية كرتونية محببة، ومفكرة صغيرة جدًا مزينة بنجوم عالم ديزني - وتذكارات جميلة متنوعة مستقرة على الرفوف والمكاتب من بينها نسخ مصغرة لصناديق وكتب تؤنس أصحابها بلا ضجيج.
أماكن تقليدية
«ليم بوي وان» فنانة ماليزية عرفت بتميزها في عمل مجسمات صغيرة تمثل تفاصيل ثقافة بلادها بصورة متقنة. هدفها الرئيسي حفظ بعض الأماكن والمشاهد قبل أن تتلاشى مع مرور الزمن. بدأ شغفها بهذا النوع من فن المنمنمات عندما كانت في المرحلة الثانوية بعد أن قرأت كتاباً أهدته لها أختها حول هذا الفن. وبعد تخرجها في الجامعة فضلت احتراف عمل المجسمات الصغيرة على العمل في الهندسة الميكانيكية التي تخصصت فيها. وفي 2014 أطلقت موقعًا وصفحات تواصل اجتماعي لعرض إبداعاتها وبيعها.
يتطلب هذا العمل - من وجهة نظر ليم - قدرة فائقة على رصد التفاصيل وتنفيذها بأيد ثابتة لا تعرف الارتعاش. ويحتاج النجاح إلى الكثير من الدقة والصبر وتحمل سلسلة من الأخطاء والمحاولات غير الموفقة، غير أن ذلك في خاتمة المطاف أمر ممتع للغاية، ويمكن أن يدر دخلاً جيدًا أيضًا، لوجود من يقدره بين الأفراد والمتاحف. وعادة ما تلتقط ليم أفكارها أثناء مرورها في الشوارع والزوايا التقليدية القديمة، حيث ترصد مباني آيلة للسقوط ومقاهي متداعية، فتقوم بتصويرها أحيانًا أو تحفظ بعض تفاصيلها في مفكرتها أو ذاكرتها، ثم تعكف على تجسيدها فإذا ما أزيلت تجد ما يعزيها.
مدن صغيرة جدًا
تخصص «جوشا سميث» - نحات المجسمات المصغرة الأسترالي - في تضاريس المدن. فجسد لوس أنجلوس، وسيدني، وهونغ كونغ مسجلاً تفاصيل دقيقة عن معالمها مثل تنوع السكان والعمالة وتفاصيل أخرى في الشوارع كالأضواء ونظم الإنذار، وصناديق القمامة والقاذورات، وأكواب المشروبات، والملصقات، وأكياس البلاستيك. واستخدم في أعماله مواد الخشب وورق الكرتون والبلاستيك. واستلهم ملاحظاته المتعمقة من مفردات الحياة اليومية، ليمضي أوقاتًا طويلة في تنفيذ مئات القطع الصغيرة بمقياس 1: 20 التي مكنته من المشاركة في معارض عديدة في لندن وباريس وبرلين وملبورن وهونغ كونغ.
كان «سميث» مبهورًا في طفولته بالعوالم المصغرة والنماذج المعبرة. وساعده شغفه على مواجهة تحديات كبرى على طريق اكتساب مهارة حل المشكلات التي مكنته من جعل أعماله الفنية أقرب إلى الواقع، ولاسيما تلك المتصلة بفترتي الثمانينيات والتسعينيات التي يفضلها. ومن بين الدروس العميقة التي تعلمها من ممارسة هذا الفن الدقيق، رؤية التفاصيل الصغيرة، والانضباط، ورفع شعار: «لا تتوقف مطلقًا، ولا تسمح لأحد أن يملي عليك ما ينبغي فعله».
اهتمامات متعددة
هناك مجموعة أخرى من الفنانين حول العالم ممن تخصصوا في جوانب مختلفة من هذا الفن الجميل. فقد اشتهر البعض - مثل الأمريكي «وماس دويل» بنحت مساحات فخمة معزولة وكائنات متناهية في الصغر دمرتها الكوارث؛ وبمقياس 1: 43 نفذ أشخاصًا ومسطحات خضراء، وبيوتا مدفونة، ومباني محطمة. وبنى «تشيسكو» مدينة بريتانيكا الخيالية من الخشب ومواد أخرى. أما «دانيال» أغداغ، فقد تخصص في أعمال مصممة من ورق الكرتون أطلق عليها: «مواقع لفيلم لن أصنعه مطلقا»، وراح يجسد المباني وآلات المصنع وكأنها معالم حقيقة ناطقة في صور بالأسود والأبيض. كما عبرت الفنانة «روزا دي جونغ» من خلال سلسلة من النماذج الصغيرة جدًا عن لقاء المصنع بالطبيعة فوضعت بيوتا في داخل أنابيب اختبار. وصممت «جيل أورلوف» مطابخ من المعادن والخشب بما في ذلك من تفاصيل الرفوف والأدراج وأدوات المطبخ والمفارش بمقياس 1: 12.
ومن جانب آخر برز إبداع بعض الفنانين، مثل «ويلا رد ويجان» في منحوتات متناهية الصغر يصعب رؤية بعضها من دون مكبرة؛ قام من خلالها بإعادة صياغة مشاهد تلفزيونية من الثقافة الشعبية فوضع سنو وايت والأقزام السبعة، مثلاً، في عين إبرة. وعرفت «أنجا مار كيوكز» الألمانية بنحت نماذج صغيرة مدهشة من الورق يصل حجمها لمليمترات مثلت زهورًا وحيوانات بكل التفاصيل الدقيقة. كما اشتهر «مايكل يوركوفيك» بتصميم قطع أثاث بمقياس 1: 12 وأصغر تبدو جميعها كما في الحياة الحقيقية. وعشقت «ليليان» الخبز والطبخ ونحتت ألواناً من الأطعمة كقطع البسكويت والفطائر والشطائر. كما راق لـ «هلن ساندو» تصنيع نماذج ملابس الهوت كوتور المرصعة بالكريستال والتي لا يتجاوز حجمها الإبهام ونجحت في عرض تصميماتها في متحف تايوان.
وفي لفتة إنسانية عكفت «لوسي فرانسيس مالوني» على تصنيع نماذج لكلاب فقدها أصحابها معتمدة على صورها، كنوع من التذكار؛ بينما ركزت «راشيل ديك» على عمل تذكارات تورت الزفاف بحجم الكف.
آخرون، مثل «يغويل زافوالا»، تخصصوا في مجال الألعاب ثلاثية الأبعاد وأبدعوا في تصميم كائنات غريبة وتنانين ووحوش.
معارض بيت الدمى
يجتمع عديد من الفنانين في معارض دولية سنوية لعرض مجسماتهم المصغرة، كمعارض بيت الدمى التي تتضمن تفاصيل مذهلة لبيوت كاملة بكل ما فيها من حدائق وشرفات وغرف مفروشة ومزينة بقطع أثاث وديكورات مصنوعة من مواد مختلفة وفقًا لطرازات متباينة. هذا، إلى جانب المطابخ ودورات المياه والحيوانات الأليفة والأشخاص- بملابسهم وحقائبهم وقبعاتهم المعبرة عن الزمن الذي ينتمون إليه- والسيارات القابعة في المرائب. ويندهش المراقب من تنوع التخصصات الدقيقة في هذا العالم الصغير، وكأنه يجد ضالته في أبواب ونوافذ بيوت الدمى، أو في مهمات البناء والأرضيات، وفي إكسسوارات الحدائق، وفي الملابس بمختلف أنواعها.
ومن الطريف أن نجد على اليوتيوب فيديوهات الممارسات المصغرة كالطبخ المصغر الذي تظهر فيه أيدي تطبخ بأوان صغيرة جدًا وباستخدام مكونات غذائية صغيرة والنتيجة بالطبع وجبة مصغرة لوجبة حقيقية. ويبقى هدف هؤلاء سواء المحترفون أو الهواة في النهاية إبراز مهاراتهم في تصغير أحجام الأشياء لمزيد من فهم التفاصيل وتقديرها مما قد لا يتضح في الكيانات الضخمة كالمباني والأعمال الكبيرة. كما يتيحون فرصا لعموم الناس لامتلاك هذه النماذج المصغرة والاستمتاع بجمالها عن قرب وبحميمية أكبر >