الإنفلونزا الإسبانية الكارثة التي غيرت العالم

الإنفلونزا الإسبانية  الكارثة التي غيرت العالم

اجتاحت‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1918‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أسوأ‭ ‬الكوارث‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬المعاصر،‭ ‬نجم‭ ‬عنها‭ ‬موجة‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬الجماعي‭ ‬لم‭ ‬تعهدها‭ ‬البشرية‭ ‬منذ‭ ‬حقبة‭ ‬االموت‭ ‬الأسودب،‭ ‬الذي‭ ‬دهى‭ ‬أوربا‭ ‬إبّان‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭.  ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الجائحة‭ - ‬بحسب‭ ‬تعبير‭ ‬توبنبرغر‭  ‬وهورنز‭ - ‬بمنزلة‭ ‬اأم‭ ‬الجوائحب،‭ ‬وقد‭ ‬عرفت‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الطبي‭ ‬باسم‭ ‬االإنفلونزا‭ ‬الإسبانيةب،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يربطها‭ ‬فعلا‭ ‬بإسبانيا،‭ ‬فإنها‭ ‬اكتسبت‭ ‬تسميتها‭ ‬تلك‭ ‬لأن‭ ‬صحافة‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬المحايد‭ ‬تابعت‭ ‬أخبار‭  ‬المرض‭ ‬دونما‭ ‬قيود،‭ ‬بخلاف‭ ‬صحافة‭ ‬الدول‭ ‬المتحاربة‭ ‬التي‭ ‬أُخضِعت‭ ‬أخبارها‭ ‬لرقابة‭ ‬صارمة‭.  ‬وبحساب‭ ‬بارد‭ ‬للربح‭ ‬والخسارة،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬أبلغ‭ ‬آثار‭ ‬هذه‭ ‬الكارثة‭ ‬عمقًا‭ - ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ملايين‭ ‬الأنفس‭ ‬التي‭ ‬زهقت‭ - ‬تلك‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬تفكير‭  ‬المهتمين‭ ‬بقضايا‭ ‬الصحة‭ ‬العامة،‭ ‬وبالوقاية‭ ‬من‭ ‬جوائح‭ ‬الأمراض‭ ‬المعدية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭.‬

 

حدثت‭ ‬الهجمة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬جائحة‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬عام‭ ‬1918،‭ ‬وكانت‭ ‬موجة‭ ‬معتدلة‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬الموسمية‭ ‬المعتادة،‭ ‬لكن‭ ‬الموجة‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬ضربت‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬خريف‭ ‬ذلك‭ ‬العام‭ ‬كانت‭ ‬بالغة‭ ‬العنف،‭ ‬ولم‭ ‬يصدق‭ ‬أحد‭ ‬أنها‭ ‬عين‭ ‬المرض‭ ‬الذي‭ ‬خبروه‭ ‬آنفًا‭. ‬

فقد‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬وفاة‭ ‬نسبة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬المرضى‭ ‬بلغت‭ ‬25‭ ‬ضعف‭ ‬ما‭ ‬حصدته‭ ‬جوائح‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬السابقة،‭ ‬مع‭ ‬زيادة‭ ‬نسبية‭ ‬للوفيات‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬الشباب‭ ‬الأصحاء،‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬النقيض‭ ‬مما‭ ‬يحدث‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬هجمات‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬الموسمية،‭ ‬حيث‭ ‬تتركز‭ ‬الوفيات‭ ‬في‭ ‬الشيوخ‭ ‬والأطفال‭. ‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬مسار‭ ‬المرض‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬المعتاد‭ ‬من‭ ‬صداع‭ ‬وحمى‭ ‬وألم‭ ‬في‭ ‬الحلق،‭ ‬إلّا‭ ‬أنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتطور‭ ‬إلى‭ ‬الأسوأ‭ ‬عندما‭ ‬يصاب‭ ‬المريض‭ ‬بصعوبة‭ ‬في‭ ‬التنفس‭ ‬والزرقة‭ ‬ونزوف‭ ‬الطرق‭ ‬الهوائيةً،‭ ‬فسوائل‭ ‬الالتهاب‭ ‬التي‭ ‬تغمر‭ ‬رئتيه‭ ‬تمنعهما‭ ‬من‭ ‬تلقي‭ ‬ما‭ ‬يلزم‭ ‬من‭ ‬الهواء‭ ‬لاستمرار‭ ‬الحياة،‭ ‬وينتهي‭ ‬به‭ ‬المطاف‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬موت‭ ‬محتم‭ ‬خلال‭ ‬أيام‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ساعات‭. ‬

وقريبًا‭ ‬من‭ ‬نهاية‭ ‬العام‭ ‬انحسرت‭ ‬هذه‭ ‬الموجة‭ ‬الثانية،‭ ‬لكن‭ ‬بداية‭ ‬عام‭ ‬1919‭ ‬شهدت‭ ‬موجة‭ ‬ثالثة‭ ‬كانت‭ ‬وسطًا‭ ‬في‭ ‬شدتها‭ ‬بين‭ ‬الهجمتين‭ ‬السابقتين‭. ‬وقُدّرت‭ ‬حصيلة‭ ‬ضحايا‭ ‬هذه‭ ‬الكارثة‭ ‬بين‭ ‬50‭ ‬و100‭ ‬مليون‭ ‬نسمة‭ (‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعادل‭ ‬2.5‭ ‬إلى‭ ‬5‭ ‬في‭ ‬المئة‭ ‬من‭ ‬مجمل‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭ ‬آنذاك‭). ‬

ولتوضيح‭ ‬فداحة‭ ‬هذه‭ ‬الأرقام،‭ ‬يكفي‭ ‬مقارنتها‭ ‬بما‭ ‬حصدته‭ ‬الحربان‭ ‬العالميتان‭ ‬الأولى‭ (‬حوالي‭ ‬18‭ ‬مليونًا‭) ‬والثانية‭ (‬حوالي‭ ‬60‭ ‬مليونًا‭). ‬

وقد‭ ‬تفاوتت‭ ‬نسب‭ ‬الإصابة‭ ‬بالمرض‭ ‬والوفيات‭ ‬الناجمة‭ ‬عنه‭ ‬بحدة‭ ‬بين‭ ‬أصقاع‭ ‬الأرض‭ ‬المختلفة،‭ ‬وذلك‭ ‬لمجموعة‭ ‬معقدة‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الباحثون‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الدراسات‭ ‬الوبائية‭ ‬يختلفون‭ ‬حولها‭. ‬وكالمعتاد‭ ‬تحمل‭ ‬فقراء‭ ‬العالم‭ ‬معظم‭ ‬عبء‭ ‬الكارثة،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬النخب‭ ‬لم‭ ‬تنج‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬من‭ ‬بعضه‭.‬

 

فيروس‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬

تنجم‭ ‬الإنفلونزا‭ - ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف‭ ‬لنا‭ ‬الآن‭ - ‬عن‭ ‬الإصابة‭ ‬بفيروس‭ ‬يتناقله‭ ‬الناس‭ ‬بوساطة‭ ‬الهواء‭ ‬المحمّل‭ ‬برذاذ‭ ‬من‭ ‬عطاس‭ ‬المريض‭ ‬أو‭ ‬سعاله،‭ ‬لذا‭ ‬فهو‭ ‬ينتقل‭ ‬بسهولة‭ ‬بين‭ ‬ساكني‭ ‬مدن‭ ‬الصفيح‭ ‬المزدحمة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬خنادق‭ ‬القتال‭ ‬والمعسكرات‭. ‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الفيروس‭ ‬شديد‭ ‬الفوعة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص‭ ‬وذا‭ ‬قدرة‭ ‬عالية‭ ‬على‭ ‬الانتشار،‭ ‬فأصاب‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬خُمُس‭ ‬البشرية،‭ ‬وتسبب‭ ‬في‭ ‬هلاك‭ ‬عشرات‭ ‬الملايين‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬واحد‭. ‬ومما‭ ‬زاد‭ ‬في‭ ‬العجز‭ ‬عن‭ ‬مواجهته،‭ ‬غياب‭ ‬الفحوص‭ ‬المخبرية‭ ‬التي‭ ‬تكشفه‭ ‬والصادّات‭ ‬التي‭ ‬تفتك‭ ‬به‭ ‬والتطعيمات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تقي‭ ‬منه‭. ‬

أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬نظام‭ ‬الإبلاغ‭ ‬عن‭ ‬الإصابة‭ ‬بالإنفلونزا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمرًا‭ ‬مفروضًا‭ ‬على‭ ‬الأطباء‭ ‬آنذاك،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حرم‭ ‬السلطات‭ ‬الصحية‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬الكارثة‭ ‬القادمة‭. ‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬باستطاعة‭ ‬وسائل‭ ‬الوقاية‭ ‬الصحية‭ ‬العامة‭ ‬كالحَجْر‭ ‬الصحي‭ ‬أو‭ ‬إغلاق‭ ‬أماكن‭ ‬التجمعات‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬فرقًا‭ ‬فيما‭ ‬لو‭ ‬استخدمت‭ ‬مبكرًا‭ ‬وبالكفاءة‭ ‬اللازمة،‭ ‬لكنها‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬استخدمت‭ ‬جاء‭ ‬ذلك‭ ‬متأخرًا‭ ‬وغير‭ ‬ذي‭ ‬جدوى‭. ‬

 

الدرس‭ ‬القاسي

كان‭ ‬عالم‭ ‬الطب‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬الصناعي،‭ ‬مختلفًا‭ ‬تمامًا‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬اليوم،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬نظرة‭ ‬موحدة‭ ‬ذ‭ ‬ولا‭ ‬شبه‭ ‬موحدة‭ - ‬للممارسة‭ ‬الطبية،‭ ‬ولا‭ ‬لطريقة‭ ‬تقديم‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬المثلى؛‭ ‬فالأطباء‭ ‬يمارسون‭ ‬مهنتهم‭ ‬فرادى‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬تمولها‭ ‬جمعيات‭ ‬خيرية،‭ ‬بينما‭ ‬يفتقر‭ ‬معظم‭ ‬المرضى‭ ‬إلى‭ ‬الوسيلة‭ ‬اللازمة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬خدماتٍ‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬أمسّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها‭. ‬

أما‭ ‬سياسات‭ ‬الصحة‭ ‬العامة،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬مصبوغة‭ ‬بأفكار‭ ‬عنصرية‭ ‬تتمحور‭ ‬حول‭ ‬مفهوم‭ ‬النقاء‭ ‬العرقي؛‭ ‬إذ‭ ‬اعتادت‭ ‬النخب‭ ‬أن‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬جموع‭ ‬العمال‭ ‬الفقراء‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬صنف‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬تعرضهم‭ ‬وضاعتهم‭ ‬الطبيعية‭ ‬للأمراض‭ ‬والعاهات‭. ‬

ولم‭ ‬يخطر‭ ‬ببال‭ ‬هذه‭ ‬النخب‭ ‬المستعلية‭ ‬أن‭ ‬تمعن‭ ‬النظر‭ ‬ولو‭ ‬قليلًا‭ ‬في‭ ‬الأسباب‭ ‬المؤدية‭ ‬للأمراض،‭ ‬والمتمثلة‭ ‬في‭ ‬الظروف‭ ‬المزرية‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬فيها‭ ‬طبقات‭ ‬المجتمع‭ ‬الدنيا‭ ‬من‭ ‬مساكن‭ ‬مكتظة‭ ‬وساعات‭ ‬عمل‭ ‬طويلة‭ ‬وغذاء‭ ‬سيئ‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬أنصار‭ ‬النقاء‭ ‬العرقي‭ ‬كانوا‭ ‬يجادلون‭ ‬دومًا‭ ‬بأن‭ ‬هؤلاء‭ ‬البؤساء‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يتحمل‭ ‬المسؤولية‭ ‬كاملة‭ ‬عما‭ ‬هم‭ ‬فيه،‭ ‬لأنهم‭ - ‬بزعمهم‭ - ‬كسالى‭ ‬ولا‭ ‬يتمتعون‭ ‬بالحافز‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬أفضل‭. ‬

لذلك‭ - ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬جائحة‭ ‬ما‭ - ‬كان‭ ‬مفهوم‭ ‬الصحة‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬لا‭ ‬يتعدى‭ ‬مجموعة‭ ‬الإجراءات‭ ‬التي‭ ‬صممت‭ ‬لحماية‭ ‬هذه‭ ‬النخب‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يصيبها‭ ‬التلوث‭ ‬المنتقل‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬االرعاعب‭ ‬المثقلين‭ ‬بالمرض‭. ‬

لقنت‭ ‬هذه‭ ‬الجائحة‭ ‬درسًا‭ ‬قاسيًا‭ ‬للسلطات‭ ‬الصحية‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬التي‭ ‬أيقنت‭ ‬على‭ ‬إثرها‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬المنطق‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬أن‭ ‬نلوم‭ ‬فردًا‭ ‬ما‭ ‬لإصابته‭ ‬بمرض‭ ‬معدٍ،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬نعالجه‭ ‬بمعزل‭ ‬عما‭ ‬يجري‭ ‬من‭ ‬حوله‭. ‬

كانت‭ ‬هذه‭ ‬بداية‭ ‬التحول‭ ‬نحو‭ ‬مفهوم‭ ‬جديد‭ ‬للصحة‭ ‬العامة‭ ‬يتميز‭ ‬بتقديم‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬للجميع‭ ‬دون‭ ‬تمييز،‭ ‬وقد‭ ‬شهدت‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬حركة‭ ‬نشيطة‭ ‬نحو‭ ‬اعتناق‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الحكومات‭ ‬لهذا‭ ‬المفهوم‭. ‬وكانت‭ ‬روسيا‭ ‬البلشفية‭ ‬سبّاقة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬إذ‭ ‬وضعت‭ ‬نظامًا‭ ‬مركزيًا‭ ‬للرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬العامة‭ ‬مولته‭ ‬الدولة‭ ‬عبر‭ ‬نظام‭ ‬تأمين‭ ‬خاص،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬حذت‭ ‬دول‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭ ‬حذوها‭. ‬

أما‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬فقد‭ ‬سلكت‭ ‬طريقًا‭ ‬آخر،‭ ‬حيث‭ ‬فضلت‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬تأمين‭ ‬صحي‭ ‬تحمل‭ ‬أرباب‭ ‬العمل‭ ‬نفقاته،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬القيام‭ ‬بإجراءات‭ ‬أخرى‭ ‬لتعزيز‭ ‬نظامها‭ ‬للرعاية‭ ‬الصحية‭. ‬

 

كيف‭ ‬تغير‭ ‬العالم؟

في‭ ‬غضون‭ ‬سنوات،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1924،‭ ‬أعلنت‭ ‬الحكومة‭ ‬السوفييتية‭ ‬عن‭ ‬رؤيتها‭ ‬لطبيب‭ ‬المستقبل،‭ ‬الذي‭ ‬ايتمتع‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬الظروف‭ ‬المهنية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تتسبب‭ ‬في‭ ‬المرض،‭ ‬وألّا‭ ‬يعالجه‭ ‬بقصد‭ ‬الشفاء‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يقترح‭ ‬وسائل‭ ‬الوقاية‭ ‬منهب‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬وجدت‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬قبولًا‭ ‬تدريجيًا‭ ‬لدى‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬الأخرى‭ ‬وفي‭ ‬الأوساط‭ ‬الطبية‭ ‬والأكاديمية‭. ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الطب‭ ‬الحديث‭ ‬مقتصرًا‭ ‬في‭ ‬ممارسته‭ ‬على‭ ‬الأبعاد‭ ‬الحيوية‭ ‬للمرض‭, ‬بل‭ ‬أخذ‭ ‬يبحث‭ ‬في‭ ‬متعلقاته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أيضًا‭. ‬

وهكذا‭ ‬بدأت‭ ‬مفاهيم‭ ‬الصحة‭ ‬العامة‭ ‬تترسخ‭ ‬وتقترب‭ ‬مما‭ ‬نحن‭ ‬عليه‭ ‬اليوم‭. ‬

ولأن‭ ‬علم‭ ‬الوبائيات‭ - ‬الذي‭ ‬يدرس‭ ‬أنماط‭ ‬الأمراض‭ ‬وأسبابها‭ ‬وآثارها‭ - ‬هو‭ ‬حجر‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الصحة‭ ‬العامة،‭ ‬فإن‭ ‬الخطوة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬المجتمع‭ ‬تستدعي‭ ‬جمعًا‭ ‬منهجيًا‭ ‬ومستمرًا‭ ‬للمعلومات‭ ‬الصحية‭ ‬ذات‭ ‬الصلة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬دعا‭ ‬الولايات‭ ‬الأمريكية‭ ‬جميعها‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تنتظم‭ ‬بحلول‭ ‬عام‭ ‬1925‭ ‬في‭ ‬شبكة‭ ‬وطنية‭ ‬واسعة‭ ‬للتبليغ‭ ‬عن‭ ‬الأمراض،‭ ‬كما‭ ‬أخذ‭ ‬نظام‭ ‬الإنذار‭ ‬المبكر‭ - ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬منعدمًا‭ ‬خلال‭ ‬جائحة‭ ‬1918‭ - ‬في‭ ‬التشكل‭. ‬وفي‭ ‬محاولة‭ ‬جادة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬أفضل‭ ‬للواقع‭ ‬الصحي،‭ ‬خضع‭ ‬مواطنو‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬بعد‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬إلى‭ ‬أول‭ ‬مسح‭ ‬صحي‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الأمة‭. ‬

وفيما‭ ‬يشبه‭ ‬الرد‭ ‬المباشر‭ ‬على‭ ‬كارثة‭ ‬كشفت‭ ‬عوار‭ ‬المؤسسات‭ ‬الصحية‭ ‬وضرورة‭ ‬السعي‭ ‬لإصلاحها،‭ ‬تعاقبت‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬على‭ ‬إنشاء‭ ‬وزارات‭ ‬للصحة‭ ‬أو‭ ‬تطوير‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬قائمًا‭ ‬منها،‭ ‬كما‭ ‬ترسخت‭ ‬قناعة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأوساط‭ ‬المعنية‭ ‬بالصحة‭ ‬العامة،‭ ‬ترى‭ ‬وجوب‭ ‬تنسيق‭ ‬الجهود‭ ‬لمحاربة‭ ‬المرض‭ ‬حول‭ ‬العالم،‭ ‬فالأمراض‭ ‬المعدية‭ ‬عند‭ ‬انتشارها‭ ‬لا‭ ‬تعبأ‭ ‬بحدود‭ ‬الدول‭ ‬ولا‭ ‬تكترث‭ ‬بالأنظمة‭ ‬السياسية‭ ‬القائمة‭.‬

‭ ‬وقد‭ ‬شهد‭ ‬عام‭ ‬1919‭ ‬نشوء‭ ‬المجلس‭ ‬العالمي‭ ‬لمحاربة‭ ‬الأوبئة‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬النمساوية‭ ‬فيينا،‭ ‬وهو‭ ‬الهيئة‭ ‬التي‭ ‬مهّدت‭ ‬لقيام‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭.‬

وإثر‭ ‬ظهور‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية،‭ ‬خبا‭ ‬صوت‭ ‬أدعياء‭ ‬النقاء‭ ‬العرقي،‭ ‬ونادى‭ ‬دستور‭ ‬المنظمة‭ ‬الجديدة‭ ‬بالتعاطي‭ ‬مع‭ ‬قضايا‭ ‬صحة‭ ‬المجتمع‭ ‬بروح‭ ‬من‭ ‬الالتزام‭ ‬وبطريقة‭ ‬أكثر‭ ‬عدلًا،‭ ‬وعبر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬بالقول‭: ‬اإن‭ ‬التمتع‭ ‬بأفضل‭ ‬مستوى‭ ‬للصحة‭ ‬يمكن‭ ‬بلوغه‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬الحقوق‭ ‬الأساسية‭ ‬لكل‭ ‬إنسان،‭ ‬دون‭ ‬التمييز‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬العرق‭ ‬أو‭ ‬الدين‭ ‬أو‭ ‬القناعات‭ ‬السياسية‭ ‬أو‭ ‬الحالة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعيةب‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬االحكومات‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬صحة‭ ‬شعوبها،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الوفاء‭ ‬بهذه‭ ‬المسؤولية‭ ‬إلا‭ ‬باتخاذ‭ ‬تدابير‭ ‬صحية‭ ‬واجتماعية‭ ‬كافيةب‭. ‬

وبالطبع،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬لن‭ ‬تمنع‭ ‬من‭ ‬حدوث‭ ‬المرض‭ ‬ابتداء‭ ‬أو‭ ‬تحد‭ ‬لاحقًا‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬الأوبئة،‭ ‬لكنها‭ ‬ستعدل‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬من‭ ‬طريقة‭ ‬مواجهتها‭ ‬وتجعلها‭ ‬أكثر‭ ‬نجاعة،‭ ‬فالجوائح‭ ‬الصحية‭ ‬أولًا‭ ‬وأخيرًا‭ ‬هي‭ ‬مشكلة‭ ‬المجتمع‭ ‬كله‭ ‬لا‭ ‬بضعة‭ ‬أفراد‭ ■‬

 

مرضى‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬للطوارئ‭ ‬بكنساس‭. ‬عام‭ ‬1918‭... ‬الصورة‭ ‬من‭ ‬متحف‭ ‬الصحة‭ ‬الوطني