قوس قزح

قوس قزح

كان يساهرني ذات مساء، عندما رنّ هاتفه الخلوي؛ كانت ابنته التي لم تكمل عامها الثالث بعد، فكلمها برقة وحنان وحب يفيض في الأرجاء، ولغة مشاكسة ضاحكة، وهو الصلب الحازم، العنيف أحيانًا. وعندما أنهى المكالمة بباقة من القبلات، قال: أتعرف، على الرغم من أن لي ثلاثة أبناء أكبر منها، فإنني لم أشعر بأنني أب إلا عندما أشرقت هذه الشمس في حياتي، البنت غير يا صديقي؛ البنت زينة الدار، وحبّة القلب، وزهرة فوّاحة، وندى يرطب الحياة، ويخفف من بؤسها وقسوتها.
وخزني كلامه، وتلوّى قلبي ألمًا؛ لقد سمعت هذا المعنى غير مرة من أصدقاء وزملاء وأقارب، وربما قرأته أيضًا. بلغت من العمر عتيًا، ولم يشأ الله أن أرزق ببنت لحكمة يعلمها. كنت أدرك هذا الشعور الأخضر الجميل اليانع؛ كمن يعيش في حديقة غناء، مليئة بالأشجار والأزهار، تحلق فوقها الطيور، تتنقل من غصن إلى غصن يملأ شدوها الآفاق، وترفرف فيها الفراشات بألوانها الزاهية.
البنت في البيت، رشة مطر ترطبه وتنعشه، وريحانة تعطره بالشذى، وريح صبا ونسيم عليل، وزيتونة لا شرقية ولا غربية، وظل لا يحده مدى. البنت زهرة لا تذبل، وغزالة لا تستسلم لصياد، وابتسامة دائمة، وموسم فرح، ووصفة ضد الكآبة والحزن، ومضاد للتعب والإعياء، وبلسم لكل مرض، وقمر يضيء عتمة الليل، ولحنٌ شجيٌ يُطرب ويُسعد، وقلبٌ حنونٌ يسع الكون. لم أعش هذا الشعور، ولكن بضدها تُعرف الأشياء. فبيت لا بنت فيه، يعاني مَن فيه جفاف العاطفة وعنّتها، وخشونة الطباع وربما جلافتها، وغربة الروح، وشعور دائم بالنقص، واختلال في الموازين النفسية، وصلابة في غير مكانها، وقسوة وشدة، وظلال من الكآبة والنكد، وسرعة الغضب، ونرفزة وشد أعصاب، ووحشة ووحدة.
هل يمكن أن تغير حفيدة منتظرة إرثًا مثقلًا بالجفاف؟ وحياة طافحة بالحرمان والعطش؟ وتحيي الروح اليباب؟ وتُبهج مزاجًا طال اعتكاره؟ وتُعدل ظَهرًا ركََّعه الزمن؟ أحسب أنها لن تعوّض ما فات، ولن تجبر كسر قلب أوهَنه الغياب. ولكنها ستكون قوس قزح لما تبقى من العمر، ونسمة فرح لما هو آت؛ عسى أن تروي ظمأً طال، وتطفئ نار قلب يتلظى، وتملأ حضنًا أضناه الشوق!!.