إضاءة على كتاب الباحثة المغربية العالية ماء العينين «التبراع»... نساء على أجنحة الشعر

إضاءة على كتاب الباحثة المغربية العالية ماء العينين «التبراع»... نساء على أجنحة الشعر

كتاب «التبراع... نساء على أجنحة الشعر... دراسة في الشعر النسائي الحساني»، هو في الأصل أطروحة جامعية دافعت عنها د. العالية ماء العينين سنة 2009. 
ومؤلفة الكتاب هي سليلة أسرة عالية المقام من العلماء والأعيان ذوي الأصول الصحراوية، وهذا ما جعل مقاربتها لظاهرة التبراع تبتعد عن الحياد النظري البارد، وتتبنى نبرة فيها بعض الذاتية وإحساس بالمسؤولية وقدر من الفخر.
هكذا نجدها تقول عن تماسّها الأول مع موضوع هذا الكتاب: «(التبراع) هو حكاية اكتشافي أن للمرأة شعرها الخاص، وأن هذا المجتمع المحافظ يقف عند حدود هذا العالم الأنثوي الذي تفك فيه المرأة جدائل أحاسيسها وتترجمها بوحًا شعريًا».
فهذا الشعر إذن، وهذه الدراسة كذلك، يحكيان لنا كيف تدبر المرأة الصحراوية عواطفها، حينما تشعر بالأمان وكيف يكون الإبداع وثيقة ثرية ودسمة عن خصوصية مجتمع ما.

إذا ما انطلقنا من العنوان، باعتباره العتبة الأولى التي تستقبلنا، فسوف نعثر على عنوان أول يحيل إلى «التبراع» محور الدراسة وذريعتها، متبوعًا بعنوان فرعي هو «نساء على أجنحة الشعر»، في إشارة إلى أن الموضوع يخص المرأة بالأساس، وإلى أن القصائد تساعد النساء، على ما يبدو، على الانطلاق والتحرر، لنصل إلى عنوان فرعي ثانٍ يهدف إلى تأطير الموضوع المذكور تأطيرًا نظريًّا وأكاديميًا، إذ يؤكد أن الأمر يتعلق بدراسة للشعر النسائي الحساني، تحددها د. ماء العينين كما يلي: «إن اختيارنا الحديث عن هذا الشعر باعتباره إبداعًا حسانيًا يحيل على الحسانية التي هي لغة تواصل وثقافة ونمط عيش، أي أننا نتحرك في فضاء مكاني/ جغرافي يحصر أو يشمل الناطقين بالحسانية، وهو مجال شاسع ومترامي الأطراف».
وبالطبع فهذا الفضاء اللغوي والثقافي الرحب، عاشت وتعيش فيه قبائل رحَّل، ما يزيد من صعوبة التحديات الصارمة، بما أن هذه القبائل دائمة التنقل، وبما أنها تطبعت على نمط عيش متفرد أثّر في رؤيتها للعالم وأثرى هذه الرؤية.
و«التبراع» هو تغزّل المرأة الصحراوية بالرجل وخصاله الجسدية والأخلاقية وهو «نوع من الشعر الخاص بالنساء الحسانيات، وليس شعرهن عمومًا كما قد يتبادر إلى الذهن» (ص49). وكما يمكن أن نستنتج من جذره اللغوي والدلالي، فهو بوح أنثوي، عماده الإتقان وغايته اقتسام جمال الأحاسيس ولوعتها.
ومن المعروف أن لـ «التبراع» طقوسًا خاصة، إذ ينشد ويتم التغني به فيما يشبه النوادي النسائية المغلقة، مما جعله يتميز بنوع من الجرأة، لأننا لا نعرف ملامح المنشدات اللواتي يسيجن أنفسهن خلف حواجز مريحة. والنساء، عبر اختيارهن هذا النمط من التعبير، يعلنَّ عن حقهن في فسحة حريّة، وفي التعبير عن أحاسيسهن المحتجة: «كانت الفتاة تقول «التبراع» في إطار جماعي بمشاركة صديقاتها على المنوال نفسه، حتى يتفرق «دمه بينهن» ولا يعرف من المخصوصة به (...)».
وهكذا يصبح الحب نفسه، بالرغم من أنه أكثر الأشياء ارتباطًا بذاتية الفرد وبمشاعره الدفينة، أمرًا تسنده الجماعة وتمنحه بعضًا من شرعية. 
ثم إنه شعر ذو بنية بسيطة، مما يمكن النساء من مختلف الشرائح والمستويات من قرضه، مع الإشارة إلى أن المجتمع الحساني مجتمع أفرد مكانة خاصة للنساء وتعامل معهن باحترام وتقدير، فالمرأة الحسانية، مثلاً، عرفت بتعاملها الخاص مع مؤسسة الزواج، إذ «كانت تشترط في عقد زواجها بأن «لا سابقة ولا لاحقة»، أي أنه لا يتزوج عليها، ولا يكون متزوجًا حين الزواج بها»، كما أنها لم تحرم من حقها في التعليم والثقافة.
هي جملة امتيازات ومكاسب إذن جعلت وضعية المرأة الحسانية تتميز عن وضعية أخواتها في مجمل البلدان العربية والإسلامية، وجعلتها تشعر بثقة مطلوبة في النفس. كما أنها كانت تتميز بسلطة ووجاهة تستمدهما من سلطة واسم القبيلة التي تنتمي إليها.
وتؤكد الباحثة ماء العينين أن «أصول اللهجة الحسانية وارتباطها بالقبائل العربية التي دخلت المنطقة مع بدايات القرن الـ 14 الميلادي، جعلها واحدة من أقرب اللهجات العربية إلى المعجم الفصيح»، وسجلت أن المعجم الحساني الذي يحمل رصيدًا تراثيًّا غنياً وشفويًّا هو أيضًا مرآة لحياة ونمط عيش أهل الصحراء، وهو يعتمد بشكل كبير على الموسيقى «فالتبراع ومن بين كل أنواع «لغن» الحساني، كما تؤكد الباحثة، لا ينشد إلا ملحنًا أو بإيقاع موسيقي حتى في الجلسات العادية للفتيات». وهو بقدر ارتباطه باللغة العربية الفصيحة، فهو مرتبط بالمعجم المعاصر بتعابيره المتداولة التي تسعى إلى التواصل الواسع.
وبما أن الباحثة كان لها سبق التنقيب وتسليط الضوء على شعر التبراع من منظور أكاديمي، فإنها كانت مطالبة بأن تقارب هذه الظاهرة الأدبية في شموليتها وفي مختلف مستوياتها. 
ويبدو أن مسعاها الرئيس كان هو أن تساهم في صون ذاكرة أدبية نفيسة من الضياع ومن التلف. لذا ألحقت دراستها بمدونة التبراع، جمعت فيها ما تمكنت من جمعه من هذا الشعر، وبينت كيف أن هنالك استثمارًا لرموز إبداعية عربية، مثلما هي حال شخصيتي مجنون ليلى، قيس الملوح، أو شاعر المرأة نزار قباني، اللذين استثمرت صورتيهما في هذه التبريعة:
«حبك يا لقيس             
حيّر نزار وقتل بلقيس» 
كما رصدت الباحثة تأثر التبراع باللغة الأمازيغية وتسربًا لتعابير من اللغة الفرنسية واللهجة المصرية، كما نقرأ في هذه التبريعة:
«كفاية كفاية           
للصبر صبحنا ضحايا» 
أما الصور الشعرية للتبراع، فتنبني على أسس البلاغة الكلاسيكية، من مجاز وتشبيه وكناية، وتسعى إلى ضمان وصول معناها وإحداث وقع مفاجئ لدى المتلقي. تقول شاعرة حسانية لا نعرف بالطبع من تكون: 
«حبي ذا الطاري    
رواه البخاري» 
أي ما معناه: حبي الجديد ثابت في صحيح البخاري. 
والمرأة الحسانية يتم تصويرها في هذا الشعر إما باعتبارها ضحية وإما مذنبة، في حين أن الرجل يصور على أنه ذو شخصية قوية وله جاذبية لا تخطئها العين:
«عند تبسيم     
باني فيها ابليس خويم» 
(أي ما معناه استقر إبليس في ابتسامته وأقام خيمته هناك...).
وبما أن الغرض الرئيس في التبراع هو الغزل وموضوعه المركزي هو الحب وما يستتبعه من سقم ولوعة واشتياق، فإن الباحثة ترى أنه من الطبيعي أن نجد نماذج «أقرب إلى النماذج العذرية في الشعر العربي الفصيح، حيث لا مجال لخطاب حسّي أو رغبات مفضوحة». ويتم تقديم الحبيب في صورة طيف وتقديم مشاعر الحب على أنها مشاعر يصعب القبض عليها:
 «وأنا فؤادي     
طاري لـ شي ماه عادي»
كما تتم الإشارة إلى تجارب واقعية تحكي عن قصص وصال تتلوها حيرة ومعاناة
 «عاكب لـ وداع  
محرّك ياسر من لوجاع» 
(أي ما معناه: كنت في وداع حرّك كل أوجاعي). 
ولا تتردد الشاعرة التي لا نعرف ملامحها في أن تعلن ندمها وتوبتها وتطلب المغفرة: 
«يا الرب اغفر لي     
سولاني عنو واسمح لي ...» 
 أي ما معناه: يا ربي اغفر لي سؤالي عنه وسامحني.
وكخلاصة، تعتبر الباحثة أن «الارتباط بين الحب والخوف يبقى منطقيًّا في مجتمع تقليدي كالمجتمع الحساني الذي تسيجه العادات والتقاليد والروح الدينية».
والانشغال بلواعج الروح ونداءاتها لم يجعل مبدعات التبراع يغفلن في سياقات محددة التعبير عن مواقفهن حيال بعض القضايا القومية، مثل القضية الفلسطينية، حيث نقرأ في هذه التبريعة: 
«ساكن أنين
وليي ليعت فلسطين» 
(أي: يسكنني أنين دائم من لوعتي على فلسطين)
أو التوقف عند بعض المحطات المؤلمة في تاريخ الأمة العربية الإسلامية، مثلما كان الأمر مع اجتياح العراق لأرض الكويت وشعبها، فنقرأ في تبريعة إدانة لهذا العمل الظالم: 
«كاف أني ساويت    
حر النار بحرّ لكويت» 
(يكفي أن أعتبر ألم الكويت مثل الكي بالنار)
التبراع، إذن، شعر نسائي خالص، ونصوصه غير موقّعة وسرية، مما يجعل من اهتمامنا به، بمعنى من المعاني، تلصّصًا لذيذًا، وهو تسري فيه روح التحدي وقدر لا بأس به من التوق إلى الحرية، ويمنحنا معرفة غنيّة بخصوص مجتمع لا يمنح نفسه بسهولة هو المجتمع الصحراوي الحساني >