فيلم «اختفاء» التلاشي أو الانبثاق من جديد
أن تختفي معناه أن تتلاشى، أن تذهب وتذوب في اللامكان، أن تُدير الخيار في ذهنك وتُقرر السفر عبر المجهول، أن تجازف بما تبقّى لترى ما لا تتوقع، تضع حداً للألم، وتقول بصوت مرتفع، «أنا أتألم... أنا غير موجود... لذا سأختفي لأنبثق من جديد»، في دائرة هذا المعنى، تأسست فكرة الفيلم الروائي الهولندي/النرويجي «اختفاء» Disappearance ، للمخرج بودفين كول، والذي شارك أخيراً في المسابقة الرسمية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي انعقدت دورته الـ39 الأخيرة، من 21 إلى 30 نوفمبر 2017، وحصد من خلالها جائزة أحسن إسهام فني.
تدور أحداث هذا الفيلم، في أحد فضاءات النرويج الثلجية، عندما تُقرر الشابة روز (أدت الدور ريفكا لوديزن) زيارة والدتها «إلسي دي براو» كما تفعل سنويا، لكن رحلة هذه السنة ستكون مختلفة، لأنها تحمل في طياتها الكثير، يعكسها المرض الخبيث والقاتل الذي ألمّ بروز، لكن العلاقة القديمة التي كانت بين الأم وابنتها تحول دون أن تفصح لها بهذا السر، من هنا وجبت المصالحة بينهما، بعد أن يبلغ السيل زباه، من خلال النبش في الماضي والكشف عن خباياه، وتفتيت العلاقة بين الأم وابنتها والأخ غير الشقيق «ماركوس هانسن»، في هذا الجو العائلي «المكهرب» تتوالى الأحداث وتنكشف، لتتضح العلاقة الأسرية بينهم، ومدى التباعد والتقارب.
الماضي/ خزّان الألم والذكرى
يُشكّل الماضي حاضر الفرد ومستقبله، ومن خلاله تتضح الصورة الشاملة، ويتكون الفعل والتصرف، وهذا ما حدث لروز التي عادت إلى مرتع طفولتها ونشأتها، كي تعود لماضيها وتعرف تفاصيله، لتتصالح مع حاضرها، هذا الماضي الذي صُنع في هذه القرية الجبلية المُثلجة، ولها فيها أحداث وحكايات، أرادت أن تتصالح مع خزّان الذكريات، الذي امتلأ بقليل من الفرح وكثير من الألم، الأول صنع جزءاً منه حبيبها الذي بات متزوجا، والثاني عكسته الأم القاسية، من هنا حاكت الطبيعة الباردة بشكلها المادي، برودة العلاقات الأسرية بشكلها المعنوي، تجمّدت المشاعر، وأضحت تنجب الألم باستمرار، لكن رغم كل هذا لم تختر روز مكاناً آخر غير هذه البقعة كي تضمحل فيها وتتلاشى، قبل هذا باتت تبحث عن حنان بأثر رجعي، يعطيها القليل من الطاقة وهي تحتضر، تأخذه كذكرى جميلة قبل أن ترحل عن هذا العالم القاسي، وقد أظهر الفيلم أن القسوة والجفاف العاطفي تصنعهما البيئة البشرية والأسرة بشكل خاص، إذ انعكست القسوة التي عاشتها الأم في طفولتها، من خلال والدها القاسي، الذي لم يعطها حقها في الرعاية والحنان، حيث كان يتعامل معها كشيء، فقط يأخذها من مكان إلى آخر، كي تعزف على آلة البيانو، لكن في المقابل لم يهتم بها كما ينبغي، ولم يلعب دوره كوالد، ومن هنا نشأت وتربت على هذه القسوة، ونفس التصرف عكسته الأم على ابنتها، فأعادت إنتاج الألم الذي تلقته من والدها عليها، كما علّمت ابنتها العزف على البيانو، وهناك تنعكس رسائل الفيلم، وكأن المخرج يعقد مقارنة، تفيد بأن الألم والقسوة يتم تعليمهما كما يتم تعليم أي شخص حرفة أو مهارة ما، كمهارة العزف على البيانو، وكي تكون حجته أعمق، فقد أظهر حنان الأم وعطفها الكبير على مجموعة الكلاب التي تربيها، وكأنه يقول إن هذه القسوة والجفاء مع ابنتها هما صنيعة بشرية، لم يخلقان مع البشر، بل تلقوهما خلال مراحل حياتهم المختلفة، ولم تكن روز وحدها من عانت هذا الجفاء، بل هناك أخوها غير الشقيق الصغير، الذي صنع لنفسه عوالم من الموسيقى، وفي نفس الوقت يبحث هو الآخر كي تكون علاقته مع أخته كعلاقة الأم مع ابنها، وكأنه لم يجد هذه العلاقة مع أمه البيولوجية، فبات يبحث عنها مع أخته التي تزوره من حين لآخر، وتصنع معه عوالم من الفرح والذكريات، ثم تختفي فجأة دون أن تودعه.
سوناتا الخريف/ سوناتا الشتاء
خيارات المخرج بودفين كول في الفيلم كانت محدودة نسبياً، خصوصاً وأنه اختار فضاء جغرافياً محدود المناظر والألوان، عكسها الثلج ولونه الأبيض الممتد، وبعض الأشجار والشخصيات، لكنه استطاع أن يستثمر هذه الأشياء المتوافرة، وولّد منها فضاءات موازية، مثل خيوط البلور التي تخلقها الثلوج والمياه، والتي جعل منها ملجأ للطفل، الذي خلق منها عوالم موسيقية، وكأنه يرشدنا إلى سيمفونيات تؤلفها الطبيعة، وفي نفس الوقت استثمرها كي تكون خيط وصل بين روز وألمها وماضيها، وحتى تحديد خياراتها المستقبلية، فضلاً عن خلق موازنات ضدّية، بين النفس البشرية وما يقابلها من أشياء جامدة في الطبيعة، إذ من حين لآخر يُظهر الحالة النفسية السيئة لروز، عن طريق الألم الذي يعتصرها، وخوفها من الموت، وفي نفس الوقت يظهر المساحات الممتدة للثلج، وكأنه امتداد لحالتها النفسية، وما هي سوى نقطة صغيرة في هذا الامتداد الطبيعي، فضلا عن منظر الطريق المثلج وبينها سلسلة من الأشجار السامقة، وقد أظهر هذا «الكادر» من خلال مشهد هروب روز بسيارتها، ولحاق أخيها بها، فضلا عن البحيرة المتجمدة، وطريقة صيد السمك «اصطادت واحدة ثم أعادتها»، في هذا المشهد هناك مقارنة وجودية، وكأن حياة السمكة كانت بيدها لهذا تركتها تعيش، وهذا ما لم يكن مع حالتها، وفي نفس هذا السياق صدمت بسيارتها أحد الأيائل، حيث أصيب وفر، وبعد اللحاق به تم قتله ليرتاح، وهي إشارة واضحة لما ستفعله بنفسها على خلفية المرض المميت الذي أصابها.
شخصيات المخرج بودفين كول في هذا الفيلم مريضة، مضطربة وضائعة، يحاول أن يستخرج منها حلولاً لمشاكل أسرية وحتى البحث في خيارات البشر العميقة، ويعطيها الحق في أن تختار أن تكون على هذه الأرض أو تحتها، فقط أن تكون خيارات مبررة كخيار روز، وفكرة فيلم «اختفاء» تتقاطع كثيراً مع فيلم «سوناتا الخريف» 1978، للمخرج السويدي انجمان بريجمان، حتى أن شخصية فيلمه إيفا «ليف أولمان» تشبه كثيراً مشاكل روز، وكلتاهما غارقتان في مشاكل الأم، فضلا عن اشتراكهما في نفس الهوس بالموسيقى والعزف على البيانو، يعني روز وأمها، و«إيفا» وأمها، حيث فتت بريجمان من خلاله نفسيّة بطلة الفيلم إيفا، بتبرير ما هي فيه، بمعطيات ما كانت عليه، ومن هنا أبرز العلاقة التنافرية بينها وبين والدتها شارلوت، بالإضافة إلى أن المخرج بريجمان اختار مكاناً شبه معزول غير بعيد عن البحيرة، وهو تقريباً نفس الفضاء في فيلم «اختفاء»، إلا أنه مغطى بالثلوج، أي إن الفيلمين يتقاطعان في نفس المشاكل الجوهرية.
تعلم روز جيداً أن السرطان الذي اقتحم جسدها لن ينفع معه أي دواء، لهذا قررت بعد أن تصالحت مع والدتها ومع ذاتها أن تختار الطريقة التي تموت بها، وهي أن تختفي بين سلسلة من الجبال الثلجية التي لا تعرف منتهاها، بمعنى أنها قررت إيجاد الطريقة التي ستموت بها، وهي الاختفاء وسط الثلوج وبين الجبال، بعيداً عن خيارات المرض ومصيره، ومن هناء جاء عنوان الفيلم «اختفاء»، وهو الفيلم الشجاع الذي قامت به روز، وكأن المخرج يشجع على أحقية كل فرد في إيجاد الطريقة المناسبة لإنهاء حياته، خصوصاً إذا كان هذا الخيار مبرراً، وهي دعوة صريحة منه إلى تبني فكرة «القتل الرحيم» ■