العَـرَبيُّ... أُحِـبُّـكَ أيُّـهَـا البَـرقُ اليماني

العَـرَبيُّ... أُحِـبُّـكَ أيُّـهَـا البَـرقُ اليماني

وحيداً،‭ ‬في‭ ‬تفرده‭ ‬العارم،‭ ‬وفي‭ ‬بُحبوحة‭ ‬صحرائه‭ ‬المترامية‭ ‬الأطراف،‭ ‬نظر‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬فرأى‭ ‬العـالم‭ ‬الواسع،‭ ‬بسمائه‭ ‬وأرضه،‭ ‬رآه‭ ‬دون‭ ‬حجاب‭ ‬ودون‭ ‬غطـاء،‭ ‬رأى‭ ‬الصحراء‭ ‬عارية‭ ‬عُــريَها‭ ‬الأبدي‭ ‬الآسر،‭ ‬ورأى‭ ‬السماء‭ ‬عذراء‭ ‬لا‭ ‬شية‭ ‬فيها،‭ ‬حملق‭ ‬فيها‭ ‬بخضوع‭ ‬وخشوع،‭ ‬فكان‭ ‬حقيقا‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬حــدائها‭ ‬العذب‭ ‬الشجي،‭ ‬وأن‭ ‬يرجع‭ ‬البصر‭ ‬كرّتين‭ ‬في‭ ‬جمالها‭ ‬ليرتد‭ ‬إليه‭ ‬هيبة‭ ‬وإجـلالاً‭.‬

فكان‭ ‬حرياً‭ ‬به‭ ‬ذ‭ ‬والحالة‭ ‬هذه‭ ‬ذ‭ ‬أن‭ ‬تتفتق‭ ‬موهبته‭ ‬وتجود‭ ‬قريحته‭ ‬بأدب‭ ‬رقراق،‭ ‬مفعمٍ‭ ‬بالأحاسيس‭ ‬الصادقة،‭ ‬فاضت‭ ‬بها‭ ‬صفحات‭ ‬الكـتـب‭ ‬وتحدث‭ ‬به‭ ‬الركبان‭ ‬شرقاً‭ ‬وغرباً‭.‬

فحين‭ ‬ظعن‭ ‬عن‭ ‬مقامه‭ ‬الأول‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬بكاه‭ ‬بكـاءً‭ ‬رقيقاً‭ ‬وحزيناً‭ ‬وخلاباً‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬وقف‭ ‬واستوقف‭ ‬خليله‭ ‬ليستنطق‭ ‬كلَّ‭ ‬ما‭ ‬تشخص‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬تلك‭ ‬الديار‭ ‬البالية‭.‬

بل‭ ‬مضى‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬البكاء‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬والماضي،‭ ‬ليبكيَ‭ -  ‬مدفوعاً‭ ‬بذكرياته‭ - ‬شوقاً‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭... ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬البرق‭ ‬الذي‭ ‬يلمع‭ ‬بعيداً‭ ‬حول‭ ‬منازل‭ ‬أهـله‭ ‬وأحبابه،‭ ‬ينظر‭ ‬إليه‭ ‬باحترام‭ ‬بالغ‭ ‬وقد‭ ‬شامه‭ ‬حول‭ ‬دياره،‭ ‬فيناديه‭ ‬ويستنطقه‭ ‬ويرسل‭ ‬معه‭ ‬الرسائل‭. ‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬البرق‭ ‬يُذكِّر‭ ‬العربي‭ ‬بالأهل‭ ‬ويهيّج‭ ‬الأشـواق،‭ ‬ويسَلِّي‭ ‬المكروب،‭ ‬فلا‭ ‬يجد‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يبث‭ ‬إليه‭ ‬شكواه‭ ‬ويحمله‭ ‬السـلام‭ ‬إلى‭ ‬الأحبة‭ ‬وينشر‭ ‬الوجد‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬علاقة‭ ‬العربي‭ ‬بالبرق‭ ‬مقتصرة‭ ‬على‭ ‬أيامه‭ ‬في‭ ‬نجد‭ ‬وتهامة‭ ‬وبقية‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬وهو‭ ‬بعيد‭ ‬عنها،‭ ‬ففي‭ ‬الجزيرة‭ ‬الخضراء‭ ‬حيث‭ ‬نقل‭ ‬العرب‭ ‬عـاداتهم‭ ‬إلى‭ ‬الحـاضرة،‭ ‬ظل‭ ‬البرق‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬رسول‭ ‬شوقٍ‭.‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬أرق‭ ‬مـا‭ ‬ذُكر‭ ‬فيه‭ ‬البرق‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬جحدر‭ ‬بن‭ ‬مالك‭ ‬أحد‭ ‬شعراء‭ ‬الدولة‭ ‬الأموية،‭ ‬المعروف‭ ‬بجحدر‭ ‬اللص،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬حبسه‭ ‬الحجّاج،‭ ‬فشام‭ ‬برقا‭ ‬بلغ‭ ‬من‭ ‬عظيم‭ ‬شأنه‭ ‬عنده‭ ‬أن‭ ‬أشهَـدَ‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬حبّه‭ ‬إياه‭ - ‬واصفاً‭ ‬بذلك‭ ‬حالة‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي‭ ‬الكليم‭ ‬مع‭ ‬البرق‭ -: ‬

 

أليسَ‭ ‬الله‭ ‬يعـلمُ‭ ‬أنَّ‭ ‬قلبي

يحبك‭ ‬أيـهـا‭ ‬البرقُ‭ ‬اليمـــاني

وأَهــوى‭ ‬أن‭ ‬أردَّ‭ ‬إليكَ‭ ‬طَرفي

على‭ ‬عـدواءَ‭ ‬من‭ ‬شغـلٍ‭ ‬وشـانِ‭ ‬

نظرتُ‭ ‬وناقتايَ‭ ‬على‭ ‬تعـادٍ

مطاوعة‭ ‬الأزمةِ‭ ‬ترحــلانِ

إلى‭ ‬نارَيْهما‭ ‬وهـمـا‭ ‬بعـيد

تشوقان‭ ‬المحبَّ‭ ‬وتوقدانِ

أليسَ‭ ‬الليلُّ‭ ‬يجمعُ‭ ‬أمَّ‭ ‬عَـمرو

وإيّانا‭ ‬فذاكَ‭ ‬بنا‭ ‬تـداني؟‭ ‬

بَلى،‭ ‬وترى‭ ‬الهـلالَ‭ ‬كما‭ ‬أراهُ

ويَعلوها‭ ‬النهارُ‭ ‬كما‭ ‬علاني‭ ‬■