سويلم ومذكرات الفتى الشاعر

سويلم  ومذكرات الفتى الشاعر

لم يتحدث الشاعر أحمد سويلم كثيراً عن نفسه في هذا الكتاب الذي أسماه «مذكرات الفتى الشاعر»، والذي تساءل عنه قائلاً: «هل هذه المذكرات هي سيرة ذاتية؟ أم لقطات من الذاكرة البعيدة والقريبة، أم إضاءات حول بعض المواقف والشخصيات التي لاقيتها في حياتي أحكيها ببساطة وعفوية»؟

في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر،‭ ‬أنا‭ ‬أميل‭ ‬إلى‭ ‬استبعاد‭ ‬الكتاب‭ ‬عن‭ ‬دائرة‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬أحمد‭ ‬سويلم‭ ‬كثيراً‭ ‬به،‭ ‬فهو‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬وفي‭ ‬مشواره‭ ‬الإبداعي‭ ‬والإنساني‭ ‬والوظيفي،‭ ‬وربما‭ ‬يلقي‭ ‬عليها‭ ‬الضوء‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬إلقائه‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬الأخرى،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الأيام‮»‬‭ ‬لطه‭ ‬حسين،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الخبز‭ ‬الحافي‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬شكري،‭ ‬
أو«أنا‮»‬‭ ‬للعقاد،‭ ‬وغيرها‭.‬

قسّم‭ ‬أحمد‭ ‬سويلم‭ ‬كتابه‭ ‬إلى‭ ‬قسمين‭: ‬مذكرات‭ ‬الطفولة،‭ ‬وشخصيات‭ ‬القامات‭ ‬العالية‭. ‬ولعلنا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬استغرق‭ ‬حوالي‭ ‬45‭ ‬صفحة‭ ‬ملامح‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية،‭ ‬التي‭ ‬تحدث‭ ‬فيها‭ ‬الشاعر‭ ‬بصيغة‭ ‬الغائب‭ ‬وعبّر‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬
بـ‭ ‬‮«‬الفتى‮»‬،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬حرية‭ ‬أكبر‭ ‬وبعداً‭ ‬عن‭ ‬النرجسية‭ ‬والمبالغة،‭ ‬وهو‭ ‬ينهج‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬نهج‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬في‭ ‬‮«‬الأيام‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬‮«‬الصبي‮»‬‭ ‬أحياناً‭ ‬و«الفتى‮»‬‭ ‬أحياناً‭ ‬أخرى‭.‬

وقد‭ ‬روى‭ ‬الشاعر‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أكبر‭ ‬إخوته‭ ‬الصغار،‭ ‬لذا‭ ‬أحس‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬تجاه‭ ‬والدته‭ ‬وإخوته‭ ‬طوال‭ ‬حياته،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بيلا‭ ‬بمحافظة‭ ‬كفر‭ ‬الشيخ،‭ ‬أو‭ ‬عندما‭ ‬انتقلت‭ ‬الأسرة‭ ‬للعيش‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتقل‭ ‬الشاعر‭ ‬للعمل‭ ‬فيها‭ ‬بدار‭ ‬نشر‭.‬

كما‭ ‬يشرح‭ ‬لنا‭ ‬كيف‭ ‬اكتشف‭ ‬موهبته‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬‮«‬أحلام‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬صغير‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬‮«‬فجأة‭ ‬هاجم‭ ‬الفتى‭ ‬شيطان‭ ‬الشعر،‭ ‬جذبه‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬مذاكرته،‭ ‬لكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتذكر‭ ‬مسؤوليته‭ ‬القادمة،‭ ‬فيخفي‭ ‬أوراقه‭ ‬وقصائده‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬لمحة‭ ‬ذكية‭ ‬يحكي‭ ‬لنا‭ ‬سويلم‭ ‬كيف‭ ‬تبدت‭ ‬العلاقة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬والدته‭ ‬عندما‭ ‬أحست‭ ‬الأم‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‭ ‬يصرف‭ ‬ابنها‭ ‬عن‭ ‬المذاكرة،‭ ‬فيكتب‭ ‬قائلاً‭ ‬عن‭ ‬الفتى‭: ‬‮«‬يتذكر‭ ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬أمه‭ ‬تدخل‭ ‬عليه،‭ ‬وهو‭ ‬يجلس‭ ‬متربعاً‭ ‬على‭ ‬السرير‭ ‬وأمامه‭ ‬حقيبته‭ ‬الخشبية،‭ ‬متخذاً‭ ‬منها‭ ‬متكئاً‭ ‬لكتابه‭ ‬الذي‭ ‬يذاكر‭ ‬فيه‭ ‬ذ‭ ‬وتدخل‭ ‬الأم‭ ‬ذ‭ ‬وهي‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬أمهات‭ ‬ذاك‭ ‬الجيل‭ ‬أميّة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬القراءة‭ ‬ولا‭ ‬الكتابة‭ - ‬لكي‭ ‬تطمئن‭ ‬عليه‭.‬

لكن‭ ‬الفتى‭ ‬كان‭ ‬يندهش‭ ‬حينما‭ ‬تدخل‭ ‬عليه‭ ‬وهو‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر‭. ‬فتدرك‭ ‬أمه‭ ‬ذلك‭ ‬وتصيح‭ ‬في‭ ‬وجهه‭: ‬مش‭ ‬وقته‭ ‬يا‭ ‬ابني‭. ‬ذاكر‭ ‬الأول‭ ‬وبعدين‭ ‬اكتب‭ ‬الشعر‭ ‬اللي‭ ‬بيعطلك‭ ‬ده‭. ‬يندهش‭ ‬الفتى‭: ‬كيف‭ ‬أدركت‭ ‬الأم‭ ‬الأمية‭ ‬أنه‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر‭ ‬ولا‭ ‬يذاكر؟‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬إحساس‭ ‬الأم‭ ‬بولدها‭ ‬أعمق‭ ‬وأصدق‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬سويلم‭ ‬واقعياً‭ ‬في‭ ‬استخدامه‭ ‬العامية‭ ‬المصرية‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الأم‭ ‬غير‭ ‬المتعلمة‭ ‬أو‭ ‬الأمية،‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الفصحى‭ ‬عندما‭ ‬يتكلم‭ ‬هو‭ ‬أو‭ ‬يعلّق‭ ‬على‭ ‬كلام‭ ‬الأم‭.‬

ثم‭ ‬يتحدث‭ ‬الكاتب‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الفتى‭ ‬والبيت‭ ‬البسيط‮»‬‭ ‬و«براءة‭ ‬الدهشة‮»‬‭,‬‭ ‬حيث‭ ‬أدهشنا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شرحه‭ ‬لكيفية‭ ‬استقبال‭ ‬جهاز‭ ‬الراديو‭ ‬الذي‭ ‬يغني‭ ‬فيه‭ ‬محمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬فيتساءل‭: ‬من‭ ‬أين‭ ‬يأتي‭ ‬هذا‭ ‬الصوت؟‭ ‬ويظن‭ ‬أنه‭ ‬سيرى‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فتحة‭ ‬الراديو،‭ ‬بينما‭ ‬المرأة‭ ‬فمن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنها‭ ‬تغني‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬حجاب،‭ ‬لذا‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يراها‭.‬

ويشب‭ ‬فوق‭ ‬أطراف‭ ‬أصابع‭ ‬قدميه‭ ‬ويثبت‭ ‬عينه‭ ‬اليمنى‭ ‬فوق‭ ‬الفتحة،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬شيئاً‭. ‬فيغلق‭ ‬الجهاز‭ ‬بعصبية‭ ‬غاضبة،‭ ‬ويتكور‭ ‬فوق‭ ‬الكنبة‭ ‬في‭ ‬كآبة‭ ‬شديدة‭.‬

ويتذكر‭ ‬الفتى‭ ‬الشاعر‭ ‬ندوة‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالهادي‭ ‬التي‭ ‬تعلّم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أدب‭ ‬الحوار‭ ‬والنقاش،‭ ‬وكان‭ ‬صاحب‭ ‬الندوة‭ ‬يفخر‭ ‬بنفسه‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬أي‭ ‬شهادات‭ ‬سوى‭ ‬شهادتين‭: ‬أنه‭ ‬مسلم‭ ‬وشهادة‭ ‬الفقر‭.‬

كما‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬أول‭ ‬إحساس‭ ‬عاطفي‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬نبضة‭ ‬قلب‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬وقتها‮»‬‭ ‬حينما‭ ‬عاش‭ ‬وهم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فتاة‭ ‬سمراء‭ ‬تبتسم‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬نافذتها،‭ ‬ولم‭ ‬يعرف‭ ‬عنها‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬فبدأت‭ ‬تتحرك‭ ‬داخله‭ ‬أشياء‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬إحساسه‭ ‬بأمه‭ ‬وأخته،‭ ‬وحتى‭ ‬لأخت‭ ‬الطبيب‭ ‬اليوناني‭ ‬جورجي،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬منزلها‭ ‬فتلعب‭ ‬معه‭ ‬وتحكي‭ ‬له‭ ‬بلسانها‭ ‬الملتوي‭ ‬بالعربية،‭ ‬وتغني‭ ‬له‭ ‬أغنية‭ ‬ليلى‭ ‬مراد‭ ‬‮«‬الدنيا‭ ‬حلوة‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬صوتها‭ ‬جميلاً‭.‬

من‭ ‬تلك‭ ‬اللقطة‭ ‬الأخيرة‭ ‬وعلاقة‭ ‬الفتى‭ ‬سويلم‭ ‬البريئة‭ ‬بالفتاة‭ ‬اليونانية‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نستخرج‭ ‬هذا‭ ‬الإحساس‭ ‬بالآخر‭ ‬غير‭ ‬العربي‭ ‬والانفتاح‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬تتصف‭ ‬به‭ ‬أعمال‭ ‬الشاعر‭ ‬عامة‭.‬

ولعل‭ ‬الدارس‭ ‬لشعر‭ ‬أحمد‭ ‬سويلم‭ ‬يستطيع‭ ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬الجزئية‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬بعفوية‭ ‬تامة،‭ ‬ليستنتج‭ ‬منها‭ ‬كثيراً‭ ‬فيما‭ ‬وراء‭ ‬شعر‭ ‬الشاعر‭.‬

وقد‭ ‬بخل‭ ‬سويلم‭ ‬علينا‭ ‬بالمزيد‭ ‬من‭ ‬علاقته‭ ‬بالفتاة‭ ‬اليونانية،‭ ‬فهل‭ ‬هنالك‭ ‬شيء‭ ‬مسكوت‭ ‬عنه‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬لنا‭ ‬الاطلاع‭ ‬عليه،‭ ‬فهرب‭ ‬سريعاً‭ ‬إلى‭ ‬فتاته‭ ‬السمراء‭ ‬التي‭ ‬تبتسم‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬النافذة،‭ ‬ففجّر‭ ‬شيئاً‭ ‬كامناً‭ ‬في‭ ‬لاوعيه،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لابد‭ ‬أن‭ ‬اللاوعي‭ ‬الغامض‭ ‬كان‭ ‬يحس‭ ‬بشيء‭ ‬تفجر‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬شعراً‭ ‬وحباً‭!‬‮»‬‭.‬

إذن‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نبحث‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬سويلم‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة‭ ‬السمراء‭ ‬التي‭ ‬أيقظت‭ ‬شيئاً‭ ‬حقيقياً‭ ‬داخله‭.‬

وتمضي‭ ‬الأيام‭ ‬بالفتى‭ ‬سويلم،‭ ‬فيحدثنا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬شجرة‭ ‬التوت‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تلقَّى‭ ‬بسببها‭ ‬ضرباً‭ ‬وصفعاً‭ ‬من‭ ‬صاحب‭ ‬الحقل،‭ ‬عندما‭ ‬تسلّق‭ ‬الشجرة،‭ ‬فوجد‭ ‬الرجل‭ ‬يقف‭ ‬أسفلها،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬هرب‭ ‬أصدقاؤه‭ ‬الأطفال؛‭ ‬ومن‭ ‬يومها‭ ‬قرر‭ ‬الفتى‭ ‬ألا‭ ‬يأكل‭ ‬توتاً‭ ‬طوال‭ ‬عمره‭. ‬هل‭ ‬سنجد‭ ‬ذكراً‭ ‬للتوت‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬سويلم؛‭ ‬سواء‭ ‬للكبار‭ ‬أم‭ ‬للصغار؟

كما‭ ‬يحدثنا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الصديق‭ ‬جرجس‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الفتى‭ ‬يؤمن‭ ‬بالصداقة،‭ ‬وكان‭ ‬أصدقاؤه‭ ‬يعتزون‭ ‬به‭ ‬لأنه‭ ‬شاعر‭ ‬حساس،‭ ‬وخاصة‭ ‬جرجس‭ ‬الذي‭ ‬رحل‭ ‬في‭ ‬صباه،‭ ‬فحزن‭ ‬عليه‭ ‬الفتى‭ ‬حزناً‭ ‬شديداً،‭ ‬وكتب‭ ‬عنه‭ ‬قصيدة‭ ‬نشرها‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مجلات‭ ‬الحائط‭ ‬المدرسية،‭ ‬فقامت‭ ‬أسرته‭ ‬بدعوته‭ ‬ليلقي‭ ‬قصيدته‭ ‬في‭ ‬كنيسة‭ ‬بيلا‭ ‬في‭ ‬ذكرى‭ ‬الأربعين،‭ ‬لكنه‭ ‬انخرط‭ ‬في‭ ‬البكاء‭ ‬حزناً‭ ‬على‭ ‬رحيل‭ ‬صديقه،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬إكمال‭ ‬قراءة‭ ‬القصيدة‭.‬

هكذا‭ ‬كانت‭ ‬صداقة‭ ‬الفتى‭ ‬مع‭ ‬أصدقائه‭ ‬من‭ ‬مسلمين‭ ‬ومسيحيين‭ ‬وغير‭ ‬مصريين‭. ‬وتظل‭ ‬هذه‭ ‬سمة‭ ‬من‭ ‬السمات‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬أحمد‭ ‬سويلم‭ ‬التي‭ ‬أعرفها‭ ‬عن‭ ‬قرب‭.‬

ويذكر‭ ‬سويلم‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬إحدى‭ ‬قصائده‭ ‬عن‭ ‬الرئيس‭ ‬العراقي‭ ‬عبدالكريم‭ ‬قاسم‭ ‬أشعلت‭ ‬تظاهرة‭ ‬في‭ ‬مدينته،‭ ‬حيث‭ ‬ألقى‭ ‬قصيدة‭ ‬عام‭ ‬1958‭ ‬في‭ ‬إذاعة‭ ‬المدرسة‭ ‬مطلعها‭:‬

يا‭ ‬قاسم‭ ‬التوحيد‭ ‬يا‭ ‬بئس‭ ‬الأعادي‭ ‬والجناةْ

قسَّمت‭ ‬أحرارَ‭ ‬العراقِ‭ ‬وسرتَ‭ ‬في‭ ‬أزكى‭ ‬دماه

فوقعت‭ ‬القصيدة‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬التلاميذ،‭ ‬وفجَّرت‭ ‬فيهم‭ ‬الوطنية،‭ ‬وتعالت‭ ‬الهتافات‭ ‬وتحرك‭ ‬الجميع‭ ‬إلى‭ ‬أبواب‭ ‬المدرسة‭ ‬وخرجوا‭ ‬في‭ ‬تظاهرة‭ ‬قوية،‭ ‬فخرجت‭ ‬كل‭ ‬مدارس‭ ‬بيلا‭ ‬على‭ ‬إثرها‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬الهتاف‭ ‬ضد‭ ‬قاسم‭ ‬العراق‭.‬

وهنا‭ ‬دلالة‭ ‬أكيدة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬سويلم‭ - ‬منذ‭ ‬صغره‭ - ‬شاعر‭ ‬عروبي‭ ‬يهتم‭ ‬بقضايا‭ ‬الوطن‭ ‬الأكبر‭ ‬ويعيش‭ ‬محنه‭ ‬وآلامه،‭ ‬وأن‭ ‬له‭ ‬رؤى‭ ‬سياسية‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬مصلحة‭ ‬الوطن‭ ‬دائماً،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬يتجلى‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬قصائده‭ ‬ودواوينه‭ ‬المتتابعة‭.‬

واللافت‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬إدارة‭ ‬المدرسة‭ ‬كانت‭ ‬واعية‭ ‬للأمر،‭ ‬ولم‭ ‬تعاقب‭ ‬الفتى‭ ‬الذي‭ ‬أشعل‭ ‬التظاهرات‭ ‬سوى‭ ‬بحرمانه‭ ‬من‭ ‬الإذاعة‭ ‬أسبوعاً،‭ ‬فقط‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يعرض‭ ‬القصيدة‭ ‬على‭ ‬مشرف‭ ‬الإذاعة‭.‬

هكذا‭ ‬تمضي‭ ‬حياة‭ ‬الفتى‭ ‬الشاعر‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬حيث‭ ‬تحقيق‭ ‬الحلم،‭ ‬سواء‭ ‬حلم‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬نشر‭ ‬خاله‭ ‬محمد‭ ‬المعلم،‭ ‬واستكمال‭ ‬دراسته‭ ‬الجامعية،‭ ‬أو‭ ‬تحقيق‭ ‬الحلم‭ ‬الشعري‭ ‬بالكتابة‭ ‬والنشر‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬كبير،‭ ‬متصدراً‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬المصري‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1964،‭ ‬فكانت‭ ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬ينشرها‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬المجلات‭ ‬البيروتية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬واسطة،‭ ‬ثم‭ ‬تقدم‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬وسائل‭ ‬النشر‭ ‬بالقاهرة‭ ‬واثقاً‭ ‬بخطوه‭ ‬وإبداعه‭.‬

في‭ ‬الباب‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬شخصيات‭ ‬القامات‭ ‬العالية‮»‬‭ (‬ويقع‭ ‬في‭ ‬حوالي‭ ‬100‭ ‬صفحة‭) ‬يمضي‭ ‬الفتى‭ ‬في‭ ‬حكاياته‭ ‬عن‭ ‬شخصيات‭ ‬التقاها‭ ‬وقابلها،‭ ‬وأصبحت‭ ‬مؤثرة‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬الشخصية‭ ‬والأدبية‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬أخرى،‭ ‬وبلغ‭ ‬عددها‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬إحدى‭ ‬عشرة‭ ‬شخصية‭: ‬أنيس‭ ‬منصور‭ (‬القلم‭ ‬الرشيق‭)‬،‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ (‬اليقظة‭ ‬الفكرية‭)‬،‭ ‬يحيى‭ ‬حقي‭ (‬سيمفونية‭ ‬العشق‭)‬،‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ (‬الشاعر‭ ‬الإنسان‭)‬،‭ ‬د‭. ‬عبدالقادر‭ ‬القط‭ (‬شيخ‭ ‬النقاد‭)‬،‭ ‬عباس‭ ‬محمود‭ ‬العقاد‭ (‬شموخ‭ ‬الشخصية‭)‬،‭ ‬سعدالدين‭ ‬وهبة‭ (‬الفارس‭ ‬الذي‭ ‬مات‭ ‬واقفاً‭)‬،‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الشرقاوي‭ (‬القامة‭ ‬الشعرية‭ ‬العالية‭)‬،‭ ‬طاهر‭ ‬أبوفاشا‭ (‬آخر‭ ‬ظرفاء‭ ‬العصر‭)‬،‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬مستجير‭ (‬زراعة‭ ‬الفقراء‭)‬،‭ ‬محمد‭ ‬المعلم‭ (‬الفارس‭ ‬المعاند‭).‬

ويؤكد‭ ‬سويلم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬حفرت‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬فحسب،‭ ‬فهناك‭ ‬شخصيات‭ ‬أخرى‭ ‬ليست‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬قيمة‭ ‬وتأثيراً،‭ ‬ولكن‭ ‬مواقفه‭ ‬معها‭ ‬قليلة،‭ ‬وربما‭ ‬مرت‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬مرَّ‭ ‬بها‭ ‬سريعاً،‭ ‬ومنها‭ ‬ثروت‭ ‬أباظة،‭ ‬ونجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وفاروق‭ ‬خورشيد،‭ ‬وأمل‭ ‬دنقل،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الفتى‭ ‬علاقة‭ ‬محترمة،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬جاء‭ ‬ليستشيره‭ ‬في‭ ‬زواجه‭ ‬بعبلة‭ ‬الرويني،‭ ‬كما‭ ‬جاءت‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬لتسأل‭ ‬سويلم‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬نفسه‭.‬

بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬شخصيات‭ ‬أخرى‭ ‬عربية‭ ‬وعالمية‭ ‬مر‭ ‬عليهم‭ ‬سريعاً‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬القسم‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬لا‭ ‬يؤرخ‭ ‬لحياة‭ ‬أحمد‭ ‬سويلم‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يؤرخ‭ ‬للحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬والثقافية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬‮«‬مذكرات‭ ‬الفتى‭ ‬الشاعر‮»‬،‭ ‬لتكون‭ ‬شهادة‭ ‬شاعر‭ ‬على‭ ‬جيله‭ ‬وعلى‭ ‬عصره‭ ‬وعلى‭ ‬مصره‭. ‬إنها‭ ‬بالفعل‭ ‬إضاءات‭ ‬حول‭ ‬بعض‭ ‬المواقف‭ ‬والشخصيات‭ ‬التي‭ ‬لقيها‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬تحدث‭ ‬عنها‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬وعفوية‭ ‬بلغة‭ ‬سردية‭ ‬سهلة‭ ‬شائقة‭ ‬ومشوِّقة‭.‬

ولعله‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المذكرات‭ ‬يقدم‭ ‬لنا‭ ‬الكثير‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يقله‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ولم‭ ‬نعرفه‭ ‬بعد‭ ‬عن‭ ‬الشاعر‭ ‬وعصره‭ ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬مفاتيح‭ ‬شعره‭ ‬ونثره‭.‬

وفي‭ ‬النهاية‭ ‬أتساءل‭: ‬ترى‭ ‬لو‭ ‬ركز‭ ‬الفتى‭ ‬حكاياته‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬النشر‭ ‬والطباعة‭ ‬فحسب،‭ ‬وصنع‭ ‬منه‭ ‬عالماً‭ ‬روائياً‭ ‬واقعياً‭ ‬ومتخيلاً‭ ‬يتعاطى‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الكلمة‭ ‬وكيف‭ ‬تخرج‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬النور‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المطبوعات‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬مجلات‭ ‬وجرائد‭ ‬وكتب،‭ ‬وكشف‭ ‬لنا‭ ‬عن‭ ‬الخبايا‭ ‬والمسكوت‭ ‬عنه‭ ‬والمهمَّش‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المهنة،‭ ‬والصعوبات‭ ‬التي‭ ‬يلقاها‭ ‬من‭ ‬يعمل‭ ‬فيها‭ ‬وعلاقته‭ ‬بزملائه‭ ‬والكتَّاب‭ ‬والأدباء‭ ‬والمثقفين‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الكلمة،‭ ‬وكذا‭ ‬أصحاب‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬المختلفة،‭ ‬سواء‭ ‬الخاصة‭ ‬أو‭ ‬الحكومية،‭ ‬وأصحاب‭ ‬مصانع‭ ‬الورق‭ ‬والأحبار‭ ‬والخامات‭ ‬اللازمة‭ ‬للطباعة،‭ ‬وكذلك‭ ‬تشابكات‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬تجاربه‭ ‬الشخصية،‭ ‬وتوظيف‭ ‬لقاءاته‭ ‬بنجوم‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة‭ ‬والكشف‭ ‬عن‭ ‬شخصياتهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الوصف‭ ‬والحوار‭ ‬والسرد،‭ ‬ترى‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬سينجح‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬عمل‭ ‬روائي‭ ‬جديد‭ ‬تتضافر‭ ‬فيه‭ ‬السيرة‭ ‬الشخصية‭ ‬مع‭ ‬سيرة‭ ‬متخيلة؟

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الفتى‭ ‬كان‭ ‬سينجح‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فهو‭ ‬صاحب‭ ‬قلم‭ ‬وموقف‭ ‬وصاحب‭ ‬رؤية‭ ‬وكلمة‭■