ملامح القاهرة منتصف القرن التاسع عشر

ملامح القاهرة  منتصف القرن التاسع عشر

هناك مدن تسكنها، وأخرى تسكن أهلها وزائريها... تلك هي القاهرة؛ المدينة التي ذكر اسمها في آلاف الصفحات والعديد من المؤلفات. كان للقاهرة وسحرها شأن آخر في كتابات الأجانب منذ أن توافدوا تباعاً مع مطلع القرن الثامن عشر، وبحلول القرن التالي صارت بؤرة الاهتمام الأوربي، ومحطة الحّل والترحال، وموضع الاكتشافات، وأرض الطموح والخيال الذي لا حد له.

في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬كانت‭ ‬القاهرة‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬مرحلة‭ ‬مهمة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬تاريخها،‭ ‬حين‭ ‬بدأت‭ ‬المظاهر‭ ‬الأوربية‭ ‬تسود‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬الشرقية‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬المجالات،‭ ‬ونفذت‭ ‬الحداثة‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬والعمران،‭ ‬لتتحول‭ ‬تدريجياً‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬مزدوجة؛‭ ‬واحدة‭ ‬تلهث‭ ‬نحو‭ ‬حضارة‭ ‬أوربا،‭ ‬والأخرى‭ ‬تتمسك‭ ‬بتلابيب‭ ‬ماضيها‭ ‬وأصالتها‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬كان‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الشغوف‭ ‬إدوارد‭ ‬وليم‭ ‬لين‭ ‬في‭ ‬الانتظار‭ ‬بشوق‭ ‬ليزور‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬سمع‭ ‬عن‭ ‬ألقها،‭ ‬وتناقض‭ ‬أخبار‭ ‬شعبها،‭ ‬فما‭ ‬أن‭ ‬وطأت‭ ‬قدماه‭ ‬أرضها‭ ‬إلا‭ ‬وقرر‭ ‬أن‭ ‬يخوض‭ ‬المغامرة‭ ‬لنهايتها‮…‬‭ ‬مغامرة‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬القاهرة،‭ ‬ووصف‭ ‬مصر،‭ ‬وعادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬أهلها‭.‬

ترك‭ ‬لين‭ ‬إرثاً‭ ‬مهماً‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الاستشراق‭ ‬والثقافة‭ ‬العربية‭ ‬ذ‭ ‬الإسلامية‭ ‬بمؤلفاته،‭ ‬وأبرزها‭: ‬عادات‭ ‬المصريين‭ ‬المحدثين‭ ‬وتقاليدهم،‭ ‬ووصف‭ ‬مصر،‭ ‬ودراسته‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬وترجمته‭ ‬لكتاب‭ ‬‮«‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‮»‬‭ ‬المعروف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الليالي‭ ‬العربية‮»‬،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬حاول‭ ‬فيه‭ ‬إلقاء‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬آثار‭ ‬وطبوغرافيا‭ ‬القاهرة‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬القاهرة‭ ‬منذ‭ ‬خمسين‭ ‬عاماً‮»‬‭.‬

هكذا‭ ‬ينقل‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬سالم،‭ ‬الأثري‭ ‬والباحث‭ ‬في‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬ومترجم‭ ‬ومحقّق‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬القاهرة‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬حديثاً،‭ ‬سيرة‭ ‬موجزة‭ ‬لأعمال‭ ‬هذا‭ ‬المستشرق‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬مخطوط‭ ‬‮«‬وصف‭ ‬مصر‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬القاهرة‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‮»‬،‭ ‬أفرد‭ ‬فيه‭ ‬لين‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬العاصمة‭ ‬المصرية‭ ‬عام‭ ‬1847،‭ ‬وتناول‭ ‬خلاله‭ ‬مظاهر‭ ‬المدينة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬بين‭ ‬أرجائها،‭ ‬ونقل‭ ‬إلينا‭ ‬ما‭ ‬طرأ‭ ‬أو‭ ‬استحدث‭ ‬على‭ ‬عمارة‭ ‬المدينة‭ ‬وعمرانها‭ ‬في‭ ‬زمنه‭. ‬

‭ ‬ومما‭ ‬يجدر‭ ‬ذكره،‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الترجمة‭ ‬هي‭ ‬الأولى‭ ‬لنقل‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬العربية،‭ ‬مصحوبةً‭ ‬بتعليقات‭ ‬قيّمة‭ ‬للمترجم،‭ ‬وكذلك‭ ‬تحقيقات‭ ‬وافية،‭ ‬وخرائط‭ ‬ولوحات‭ ‬وصور‭ ‬فوتوغرافية‭ ‬تتصل‭ ‬بموضوع‭ ‬الكتاب‭ ‬وتفسر‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬فيه‭.  

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬وضعه‭ ‬لين‭ ‬عن‭ ‬القاهرة‭ ‬صغير‭ ‬الحجم،‭ ‬ولم‭ ‬يتطرق‭ ‬لتفاصيل‭ ‬الأنماط‭ ‬المعمارية‭ ‬والفنية‭ ‬لمنشآت‭ ‬القاهرة‭ ‬الإسلامية؛‭ ‬تبرز‭ ‬قيمته‭ ‬فيما‭ ‬نقله‭ ‬لصورة‭ ‬القاهرة‭ ‬كمدينة‭ ‬تاريخية،‭ ‬والإشارة‭ ‬لأهم‭ ‬آثارها‭ ‬وشواهدها،‭ ‬مع‭ ‬تسجيله‭ ‬الدقيق‭ ‬للروافد‭ ‬الأوربية‭ ‬الوافدة‭ ‬للمجتمع‭ ‬المصري،‭ ‬وظهور‭ ‬الازدواج‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬شرقي‭ ‬وغربي‭ ‬في‭ ‬منطقتي‭ ‬الأزبكية‭ ‬وبولاق،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اكتست‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬بمظهر‭ ‬أوربي،‭ ‬حتى‭ ‬ليخال‭ ‬إلى‭ ‬الرائي‭ ‬أنهما‭ ‬تنتميان‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬المدن‭ ‬الأوربية‭.‬

‭ ‬كما‭ ‬تكمن‭ ‬أهمية‭ ‬هذا‭ ‬المؤّلف‭ ‬في‭ ‬رصده‭ ‬للوصف‭ ‬التاريخي‭ ‬لمعالم‭ ‬العاصمة‭ ‬الإسلامية‭ ‬الذي‭ ‬حفظ‭ ‬لنا‭ ‬بعض‭ ‬ملامح‭ ‬المنشآت‭ ‬التي‭ ‬اختفت‭ ‬بعدما‭ ‬امتدت‭ ‬إليها‭ ‬يد‭ ‬الإهمال‭. ‬فقد‭ ‬حاول‭ ‬لين‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬شمول‭ ‬الوصف‭ ‬ودقته،‭ ‬وكان‭ ‬يهدُف‭ ‬لتقديم‭ ‬مادة‭ ‬طبوغرافية‭ ‬محقّقة‭ ‬بالاستناد‭ ‬إلى‭ ‬المتون‭ ‬التاريخية‭ ‬العربية،‭ ‬كخطط‭ ‬المقريزي‭ ‬المعروفة‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬المواعظ‭ ‬والاعتبار‭ ‬في‭ ‬ذكر‭ ‬الخطط‭ ‬والآثار‮»‬‭.‬

وبعد‭ ‬الفاطميين‭ ‬يأتي‭ ‬حُكم‭ ‬سلاطين‭ ‬الأيوبيين‭ ‬فالمماليك،‭ ‬وتتغير‭ ‬العاصمة‭ ‬المصرية‭ ‬لتضم‭ ‬العواصم‭ ‬السابقة‭ ‬وتنمو‭ ‬المدينة‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق،‭ ‬ويحميها‭ ‬سور‭ ‬يتسع‭ ‬ويتمدد‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭ ‬كشاهد‭ ‬على‭ ‬التغيرات‭ ‬العمرانية‭ ‬التي‭ ‬طرأت‭ ‬على‭ ‬العاصمة‭ ‬المصرية‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬فرغ‭ ‬إدوارد‭ ‬وليم‭ ‬لين‭ ‬من‭ ‬وصف‭ ‬حدود‭ ‬العاصمة‭ ‬وتطورها؛‭ ‬شرع‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬ما‭ ‬داخل‭ ‬المدينة؛‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬بولاق‭ ‬ومينائها‭ ‬حتى‭ ‬قلب‭ ‬العاصمة؛‭ ‬أبواب‭ ‬القاهرة‭ ‬القديمة‭ ‬وأسوارها‭ ‬وما‭ ‬مسها‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬أو‭ ‬تجديد‭ ‬أو‭ ‬إزالة‭. ‬ولما‭ ‬كانت‭ ‬القلعة‭ ‬مقر‭ ‬حُكم‭ ‬العاصمة‭ ‬المصرية،‭ ‬وموضع‭ ‬الحل‭ ‬والعقد‭ ‬والسلطة؛‭ ‬فقد‭ ‬أورد‭ ‬تاريخها‭ ‬ووصف‭ ‬منشآتها‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬شيدها‭ ‬السلطان‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الأيوبي‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬بناه‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬باشا‭ ‬حاكم‭ ‬المحروسة‭ ‬بين‭ ‬أرجائها‭.‬

يقودنا‭ ‬لين‭ ‬لزيارة‭ ‬المساجد‭ ‬التاريخية‭ ‬الكبرى‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬المدينة‭ ‬التاريخية،‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬بُني‭ ‬بمنطقة‭ ‬قصبة‭ ‬العاصمة‭ ‬أو‭ ‬الشارع‭ ‬الأعظم،‭ ‬مثل‭ ‬جامع‭ ‬الحاكم‭ ‬بأمر‭ ‬الله،‭ ‬ومجموعة‭ ‬السلطان‭ ‬قلاوون‭ ‬المعمارية،‭ ‬ومسجد‭ ‬السلطان‭ ‬المؤيد‭ ‬شيخ‭. ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬بالقرب‭ ‬منها‭ ‬كالجامع‭ ‬الأزهر،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬المساجد‭ ‬الأخرى‭ ‬كجامع‭ ‬السلطان‭ ‬حسين‭ ‬بمنطقة‭ ‬ميدان‭ ‬الرميلة‭ (‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬حالياً‭)‬،‭ ‬ومسجد‭ ‬ابن‭ ‬طولون‭ ‬بالسيدة‭ ‬زينب،‭ ‬ومساجد‭ ‬آل‭ ‬البيت‭ ‬كمسجدي‭ ‬السيدة‭ ‬سكينة‭ ‬والسيدة‭ ‬نفيسة‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭. ‬ولم‭ ‬يفته‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬يبرز‭ ‬الفروق‭ ‬الجوهرية‭ ‬بين‭ ‬المساجد‭ ‬والجوامع،‭ ‬والزوايا‭ ‬وتخطيطها‭.‬

ولأن‭ ‬القاهرة‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالنيل‭ ‬وفيضانه،‭ ‬كانت‭ ‬المحطة‭ ‬التالية‭ ‬من‭ ‬محطات‭ ‬الرحلة‭ ‬في‭ ‬قاهرة‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬بجزيرة‭ ‬الروضة،‭ ‬حيث‭ ‬يوجد‭ ‬مقياس‭ ‬النيل‭ ‬القديم،‭ ‬وأطلال‭ ‬قلعة‭ ‬الروضة‭ ‬التي‭ ‬شيدها‭ ‬السلطان‭ ‬الصالح‭ ‬نجم‭ ‬الدين‭ ‬أيوب،‭ ‬آخر‭ ‬سلاطين‭ ‬بني‭ ‬أيوب،‭ ‬والقصر‭ ‬العيني،‭ ‬ذلك‭ ‬القصر‭ ‬الواسع‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬لاحقاً‭ ‬كمقر‭ ‬لمدرسة‭ ‬الطب‭ ‬ومشفى‭ ‬للعلاج‭ ‬باقياً‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭.‬

وإلى‭ ‬الجنوب‭ ‬تقع‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬الممتدة‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬ضفة‭ ‬النيل،‭ ‬حيث‭ ‬الفسطاط؛‭ ‬العاصمة‭ ‬الأولى‭ ‬للديار‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬عصرها‭ ‬العربي،‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬مسجد‭ ‬للإسلام‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وإفريقيا،‭ ‬هنا‭ ‬الكنائس‭ ‬القبطية‭ ‬وحصن‭ ‬بابليون‭. ‬ومن‭ ‬الجيزة‭ ‬يختتم‭ ‬المؤلف‭ ‬رحلته‭ ‬عبر‭ ‬العاصمة‭ ‬المصرية‭... ‬ليكون‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬وثيقة‭ ‬ترصد‭ ‬وتؤرخ‭ ‬لوجه‭ ‬وملامح‭ ‬القاهرة‭ ‬في‭ ‬مفترق‭ ‬تاريخها‭ ‬الحديث‭... ‬قاهرة‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ■