التميز مُكلف
يلعب عامل الزمن دوراً مهماً في طريقة عمل وأداء الوسائل الإعلامية المختلفة، وكلما تقلصت مساحة الوقت تقلصت معها مساحة التخطيط، وهو المكون الأساسي للمنتج الجيد.
ويحتل التلفزيون المركز الأول في سرعة وصعوبة دورة العمل، لأن ساعات البث التلفزيوني عمل دائم يلتهم كل ما يدور في العالم من أخبار وصور متحركة وثابتة، وتأتي الإذاعة في المركز الثاني، لأن الثقل يرتكز على الصوت ورسم المخيلة بالكلمات الدقيقة والمدروسة.
في عالم الصحافة الورقية اليومية والأسبوعية والشهرية، الوضع مختلف تبعاً لوتيرة العمل، فبينما يلعب الخبر المحور الأساسي في الصحيفة اليومية، يأتي دور المطبوعة الشهرية في التحليل العميق للأحداث ووضع التوقعات لما هو آت، وتتحرك المطبوعة الأسبوعية بحرّية في منطقة المنتصف.
ويأتي التميّز وقوة الأداء من توظيف الخبرات المتراكمة في جعل الوسيلة الأسرع، وهي التلفزيون، يلاحق الخبر ويعززه بعشرات المواد المعمقة وكأنه امتلك خاصية إيقاف الزمن حتى يتجهز للعاجل من الأمور، لنأخذ مثالاً على قناة إخبارية لا يختلف عليها اثنان، وهي
الـ «سي إن إن»، فلو وقع أي حدث يهز العالم، سواء داخل أمريكا أو خارجها، لوجدنا أن الفارق الزمني بين توقيت بث الخبر وتوقيت التغطيات المتعلقة به قصير جداً، لأن طاقماً كاملاً من الخبرات والكوادر والمواد المصنفة بشكل سهل في البحث والاسترجاع، يقف خلف تلك العملية التنافسية مع بقية القنوات الإخبارية.
مثل هذا الوضع الذي يحدث في التلفزيون يزداد صعوبة مع القنوات الوثائقية التي تعتمد على المواد الفيلمية التي لا يمكن تجهيزها بضغطة زر، لأن كل فيلم فيها يحتاج إلى دورة عمل بطيئة لا تختلف كثيراً عن الأفلام التي نشاهدها في السينما، مدتها ساعتان أو أقل، وتصويرها وتجهيزها قد يستغرقان سنوات من الجهد والتفكير.
لقد تعلمت درساً مهماً في بداية عملي بالصحافة لا أزال أذكره وأذكّر به، وهو أن مَن يعشْ في دائرة المحلية فقد اختار جمهوراً محدوداً، ومَن يجعل العالم حدود دائرته فقد اختار متابعيه من كل أرجاء العالم، هذا الدرس يعلّمنا معنى الانفتاح الذي يمد أي وسيلة إعلامية بالمواد المشبّعة بالفائدة والاتساع والدهشة.
إن التميز عملية ليست سهلة، وهي مكلفة لمن يريد الوصول إلى المراتب الأولى، والناس تطلب المزيد، والنقاد يشكون من التكرار والتقليد، وهذا الهمّ هو الخبز اليومي للمؤسسات الإعلامية التي تعيش أجواء حرب حقيقية في مجالها، وبقدر ما يبدو الأمر سهلاً في هذا المجال أو ذاك، فإن الخوض في التفاصيل يكشف الكثير من عوالم الوسائل الإعلامية على اختلافها، وهو الواقع الذي لا يمكن الهروب منه ■