فهم النصّ الديني

فهم النصّ الديني

نحن أمة توارثت في تاريخها تمجيد الأشخاص، ورفعهم إلى مرتبة الاعتقاد بأنه لا يمكنهم عندها ارتكاب الخطأ! مثل هذا الاعتقاد جعل النص التاريخي جزءاً من الثوابت التي يصعب على الباحث معارضتها بالعقل والمنطق أو بالتحليل وقراءة ما بين السطور على ضوء معطيات العصر الذي كُتبت فيه تلك النصوص. 

اختلطت النصوص حسب تصنيفاتها، ومعظمها صار عند بعض الفئات بمنزلة الأدلة، فمنها دليل ديني، وآخــــر لغوي، والبقــــية صارت تاريخاً. ووفقاً لذلك تفرقت عقائد الأمة، وداخل الشكُّ محتواها، وتزعزع الإيمان بين عقلٍ ونقل، والكلّ يطلب السلامة فـــي الدنيا والفوز بالآخرة، وهذا الذي نحن به منشغلون.

بدء التدوين في صدر الإسلام
أمر الرسول [ بعض صحابته بأن يكتبوا ما يمليه عليهم من القرآن. وأوّل من كتب القرآن في مكّة هو عبدالله بن سعد بن أبي السَّرح رضي الله عنهم، أمّا في المدينة فقد كان السّبق لأُبَيّ بن كعب ]. وقد كان زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما من أكثر كتّاب الوحي ملازمة للرسول [.
وكُتّاب الوحي كثيرون، وقد كان من ضمنهم الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله، وسعيد وعمرو ابنا العاص، وسعد بن أبي وقّاص وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم، وأبو سفيان وابنه معاوية، وغيرهم، رضي الله عنهم.
وقد حُفظ القرآن في صدور بعض الصحابة، الذين كانوا يسمون بالقرّاء، وقد عنوا بتلاوته وحفظه. 
ومن هؤلاء زيد بن ثابت وعبدالله بن مسعود وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم. ولم يكن هناك اختلاف في القراءات في بادئ الأمر، فالرسول [ كان بينهم يتلو عليهم القرآن في الصلاة، وكان البعض منهم يتلوه بنفسه أحياناً على الرسول [، فقد كانت القراءة موثقة منضبطة آنذاك. 
ولكن بعد وفاة الرسول [، وتفرّق صحابته في الأمصار، ووفاة كثير من حفظة القرآن، قرّر أبوبكر الصديق ] أن يجمع القرآن. وكان قراره هذا نتيجة لاقتراحٍ من عمر بن الخطاب ]، ذلك الاقتراح الذي جاء إثر وفاة كثير من القرّاء في موقعة اليمامة، من حروب الردّة، في عام 12هـ /633م. ولم يكن جمع القرآن عشوائياً، بل كان بمنهج مدروس دقيق يقرر التالي:
1 - يُوكل لزيد بن ثابت ] مهمة الإشراف على عملية جمع القرآن، لكونه من الحفظة القرّاء وكاتباً للوحي، ومن الملازمين للرسول [.
2 - قام زيد بن ثابت بتدوين ما يحفظه، وضمّ إليه ما كان محفوظاً لدى الصحابة الذين سمعوا القرآن مباشرة من الرسول [، سواء كان ذلك الحفظ في الصدور أو مكتوباً.
أمّا عثمان بن عفّان ] فقد كان جمْعه للقرآن مختلفاً عن جمع أبي بكر الصديق كمّاً وكيفاً. ففي حين أنّ أبا بكر جمع القرآن في نسخة واحدة، فقد قام عثمان بن عفان بنسخ القرآن الكريم وتوزيع تلك النُسَخ على الأمصار.
ولاختلاف القرّاء ولهجاتهم، الذي أخذ شكلاً حادّاً، فقد اعتمد عثمان بن عفّان نسخة واحدة، هي نسخة حفصة، فنسخ منها جميع النسخ التي وزّعها على الأمصار. ويروى أنّ حذيفة بن اليمان ] جاء إلى عثمان قائلاً: 
«يا أمير المؤمنين أَدرِك هذه الأمّة قبل أن يختلِفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى».
وبناء على قوله، شكّل عثمان فريقاً لنسخ المصاحف، وهم زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم.
وأمر الثلاثة بالرجوع حين الاختلاف إلى زيد، وإن بدت مشكلة واختلاف في الحروف في أي آية من آيات القرآن، فليُكتب بلسان قريش. 
وعلى الرغـم من اتخاذ نسخة مصحـــف أبــي بكـر مرجعاً أصليّاً، فإنّ اللجنــة رجعــت إلى الحفّاظ الذين كانوا أحياء وقتها. وقد أضاف عثمان إلى اللجنة أسماء أخرى كمساعدين في نسخ المصاحف، وهم أُبَيّ بن كعـب وعــبدالله بن عباس وأنــس بن مالك وكَثيـر بن أفلح رضي الله عنهم. ودُوِّنت المصاحف بطريقة تفسح المجال لتعدد القراءات. وبعد أنّ تمّ اعتماد النسخة الأصلية وإرسال نسخ المصاحف إلى الأمصار، أمر عثمان بحرق المصاحف الفردية، خشية النزاع. 
وكان أمر الحرق بعد أخذ مشورة الصحابة، ولم يُنكر حرقها عليه أحد.
 
السُّنَّة النبوية (الحديث الشريف)
السنّة النبوية هي «كل ما أُثِر عن الرسول [ من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير». وبعض العلماء في ذلك يخصّص العام، فيطلق مصطلح «الحديث» على السنّة النبوية، وهذا مقبول ولا جدال فيه. والأمّة الإسلامية تعتبر السنّة النبوية هي مصدر التشريع الثاني بعد القرآن الكريم. وقد نهى [ صحابته عن تدوين الحديث، بهدف ألا تختلط عند كُتّاب الوحي أقواله مع نصوص القرآن الكريم.
ففي الحديث: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليَمْحُه، وحدّثوا عني فلا حرج، ومن كَذب علَيّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النّار». 
وبعد وفاة الرسول [ بفترة قصيرة، ظهرت الحاجة المُلحّة إلى العمل بالأحاديث الشريفة. وتأكّد حينها أنّ التشريع الإسلامي لا غنى له عن الحديث الشريف الذي جاء ليفسّر ويفصّل القرآن الكريم، ويكمّل ويتمّم الشريعة الإسلامية. 
وقد كان لعدم تدوين الحديث لثلاثة وعشرين عاماً، من بداية الوحي وحتى وفاة الرسول [، أثره في صعوبة جمعه وحصره وتدوينه.
أضف إلى ذلك أنّ الخلافات السياسية للمجتمع الإسلامي، وخاصة بعد الفتنة الكبرى، أدت إلى أن بدأ ضعاف النفوس يستخدمون الدين ويطوّعون تعاليمه لخدمة أطماعهم ودعم أهدافهم السياسية. وبدأت المحاولات بوضع أحاديث نَسَبَها قائلوها زوراً وبهتاناً إلى الرسول [. السبب الذي أدّى إلى تحرّك علماء المسلمين للمحافظة على الدّين، فبدأوا الاشتغال بعلم الحديث، حصره وجمعه وتدوينه. 

تسجيل الحديث الشريف وتدوينه 
نستطيع أن نقــول إنّ تدوين الحديث الشريف في القـــرن الأول للهجــــرة لم يلق العناية التي لقيها تدوين القرآن الكريم. ولكن في القرن الثاني الهجري بدأت المحاولات الأولى لجمع ما صحّ من الحديث الشريف، وكان ذلك على يد كبار علماء العصر من أمثال الإمام مالك بن أنس في «الموطأ»، والإمام محمد بن إدريس الشافعي في «الرسالة» و«الأم»، والإمام أحمد بن حنبل في «المُسنَد». ثم تبعهم علماء الأمة في تسجيل الصحيح من الحديث الشريف وتدوينه. 
وإذا كان القرن الثاني الهجري هو الانطلاقة في تدوين الحديـــث، فالقرن الثالــث الهجـــري هو الذي يُعتبر بحقّ القاعدة لتأسيس قواعد علم الحديث وانتشار الصحيح منه في الأمصار.
ومن علماء هذا القرن الأئمة البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم من كبار المُحَدِّثين. وقد بذل هؤلاء العلماء أقصى جهد في التدقيق على الأحاديث وغربلتها من شوائب الموضوعات، وتمخضت جهودهم عن وضع قواعد مهمة لفحص الأحاديث. ونتيجة لذلك، نرى بعض علماء القرون اللاحقة، قد وجهوا جهودهم لجمع الضعيف والموضوع من الحديث. ويرى البعض من علماء الحديث أنّ معرفة الضعيف والموضوع تساعد إلى درجة كبيرة في معرفة الصحيح من الأحاديث. وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة، فقد بقيت معرفة «الناسخ والمنسوخ» في الحديث الشريف مشكلة من دون حلّ.

الفقه
التفقه في الدين هـــو العلــم بالأحكام الشرعية العمليــة، ومعرفــــة تطبيـــق تلـــك الأحكام وإدراك دلالاتها. وقد تأصل الفقه مع بدايات القرن الثاني للهجرة ليصبح علماً معتمداً كبقية العلوم، وكان ذلك على يد محمد الباقر ومن بعده أبي حنيفة النعمان وجعفر الصادق رضي الله عنهم ليكونوا أئمة علم الفقه وأصوله، من خلال وضعهم قواعد استنباط أحكام العبادات من القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة.
ولم يقف الأمر عند العبادات، حيث دخلت ضمنه المعاملات المالية وأحكام القضاء، خاصة التعزيرية منها، لتكوّن إطاراً أوسع وأشمل. وصارت للفقه مناهج ومدارس مشهورة، لكل مدرسة من تلك المدارس أساتذتها وتلاميذها، حتى أصبح هؤلاء التلاميذ دعاة مثقفين بالدين.
وانتشر علم الفقه بانتشار كتبه، وصار الفقه مذاهب ذات مناهـــج، فارتفعــت مكانة النصوص الفقهية على شكل فــتاوى دينية للقضايا المستجدة بما لم يرد فيه نص من القرآن والسنّة، لنفاجأ بعد حين أنّ معظم هذه الفتاوى أصبحت لها قدسية عند أتباعها، حتى في الأمور الخلافية، فشاع التعصب إلى الرأي، رأي الفقهاء، حتى وإن تقادم أو أبطأ عن مواكبة مستجدات العصر.
وتصعبت لغة القواعد الفقهية ليصبح فهمها حكراً على المتخصصين الذين خَصّوا أنفسهم بعلم الدين دون غيرهم، فاحتكروا الفتوى ولم يقبلوا الرأي الآخر.
ولعل الذي زاد الأمر سوءاً، الاختلاف بين المدارس الفقهية في مسألة ما، ليصل التعصب عند أتباع المذهب إلى نبذ الرأي الآخر ورفضه، وقد وصل هذا النبذ والرفض إلى درجة التكفير أحياناً. 
وفي التاريخ صور على ذلك، كالخلاف بين مدرستي الرأي والحديث بالعراق في القرنين الثاني والثالث الهجري، وتبعه بعد مدة الخلاف بين الأحناف والشافعية في الشام مع بدايات الاحتلال العثماني، وبين الأحناف والمالكية بالمغرب في القرن السادس الهجري، والشواهد كثيرة. 
ومهما يكن من أمر، فإنّ النصّ الديني من قرآن وحديث وفتوى اجتهادية فقهية تتدرج وفق الترتيب، فالحكم الشرعي في النص القرآني قطعي الدلالة قطعي الثبوت، لا يأتيه الباطل من قبل ولا بعد.
أما الحديث الشريف الثابتة صحته بالتواتر والنص، فلا خلاف في الأخذ بحكمه، ما لم يكن منسوخاً بنص قرآني أو حديث شريف آخر، أو خاص بفرد أو جماعة معيّنة دون أخرى. وتأتي الفتوى الاجتهادية الفقهية في آخر القائمة، فعادة ما تكون تلك الفتوى قد أقرت لظرف زمان أو مكان أو حاجة، ولا يلزم الأخذ بها أو اتباعها مع وجود فتوى أخرى تتماشى وواقع مجتمع وموطن آخر، ولا تنتهك مبادئ الفضيلة أو الأخلاق. وعادة ما يكون الاجتهاد الفقهي بمسائل لم يرد بها نص في القرآن الكريم أو السنّة.
وعلى الرغـــم من كــــل ما سبــــق، فإنّ للضـــــرورة أحكامها، ليــــسهّل الله على عباده آلام مكــــابدة العنــــاء. وحريٌّ بنا أن نذكر ما أجمع عليه عقـلاء الأمة جميعاً، بأنّ الورع مسلك خاص بالمؤمن، مسلكٌ منــدوب وغــــير مُلْزِم، وهو ليس أصلاً، إنّما الأصل في الاعتدال. 
ويأتي أحد المتنطعين ممن ظنّ علماً، بإصدار كثير من الفتاوى التي تثقل كاهل المؤمن، حتى تراه لا يدرك إلا سبيل الموسوسين؛ في الملبس والمأكل والحياة اليومية، وفي السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، حتى رأينا مجتمعاتنا الإسلامية بلا سبق ولا تقدّم ولا إبداع... وللحديث بقية... ■