خالد محمد خالد و«الدولة في الإسلام»

لا يختلف اثنان على قيمة خالد محمد خالد الفكرية، بعدما أثرى المكتبة العربية والإسلامية بما يربو على خمسة وثلاثين كتابًا على مدار ستة وأربعين عاماً منذ ظهور أول كتبه «من هنا نبدأ»، ليثير بأفكاره جدلاً لم يزايله طوال رحلته الفكرية من أجل مشروعه الثقافي القائم على مراجعات فكرية لعديد من الثوابت، وعلى رأسها مفهوم الحكومة الدينية وعلاقتها بالديمقراطية، وسوف نعرض في هذا الصدد لكتابه «الدولة في الإسلام».
ولد خالد محمد خالد في قرية العدوة بمحافظة الشرقية في 25 يونيو عام 1920م، وتلقى تعليمه في الأزهر الشريف، بعدما أتم حفظ القرآن الكريم، وحصل على العالمية من كلية الشريعة عام 1945م. عمل بعدها بالتدريس حتى عام 1954م، ثم في وزارة الثقافة حتى ترك العمل الحكومي عام 1976م، لينعم بالبعد عن قيود الوظيفة منطلقًا في آفاق الإبداع الفكري حتى وافته المنية في 29 فبراير عام 1996م عن عمر يناهز ستة وسبعين عامًا.
ومما لا شك فيه أن القرآن الكريم قد مثّل أهم عناصر الصياغة لفكر خالد محمد خالد، وقد مثل بإنتاجه المتباين منذ صدور أول كتبه «من هنا نبدأ» عام 1950، نقلة نوعية في تناول قضايا الفكر الإسلامي خاصة والإنساني عامة، والتي تعكس جميعها محنة الفكر بالملاحقة والمصادرة من قبل السلطات أو بإسباغ الوصاية والهيمنـة الفكريـة من قِبل بعض رجـال الدين وسدنة العلم والثقافة. أما النشأة الريفية فقد لعبت دوراً في تكوين شخصيته بأسسها الأخلاقية والفكرية، حيث رفض القهر على اختلاف أنواعه، بدءاً من كتّاب القرية والدراسة بالأزهر، ومروراً بالالتزام الوظيفي التقليدي، قانعاً برسالته التنويرية التي اتسمت بالشغف المعرفي المتباين.
مشروع فكري
يمثل هذا الكتاب أحد أهم إشراقات خالد محمد خالد، التي بلور فيها موقفه من حاكمية الأديان عامة والدين الإسلامي على وجه التخصيص. وقد توفّر الكاتب على كتابته حسبما ذكر تصحيحاً لأخطاء يرى أنه قد وقع فيها حيال مفهوم «الحكومة الدينية»، التي ضمنها كتابه الشهير «من هنا نبدأ»، إذ تصور أن كل ما بها من نقائص أو «غرائز» - وفق تعبيره - إنما ينسحب بدوره على «الحكومة الإسلامية». وهو ما أثار زوابع لم يهدأ أوارها على المستويين الأمني والفكري، سواء بالمصادرة غير مرة والتحقيق أمام النيابة، بل والمحاكمة للكتاب وصاحبه؛ التي كان مزمعاً عقدها أمام هيئة كبار العلماء، فضلاً عن ردود الفعل الأعنف، التي بلغت حد صدور كتابين أحدهما للشيخ محمد الغزالي بعنوان «من هنا نعلم»، تلاه كتاب للشيخ عبدالمتعال الصعيدي للرد على كليهما بعنوان «من أين نبدأ؟».
وعلى الرغم من إلغاء محكمة القاهرة الابتدائية أمر المصادرة في مايو 1950 (سنة الإصدار ذاتها)؛ فإن المحاكمة الفكرية ظلت ماثلة للعيان، لا سيما عندما تكون بين أزهريين رأوا أن واحداً منهم قد مد أعداء الإسلام بسلاح مشهر، ومن ثم فهو بما ضمنه كتابه من شطط وخلط يمثّل خروجاً على الملة، كأيسر الأسلحة المشهرة في مواجهة الاختلاف في الرأي.
ويبدو أن رد الفعل فيما نرى قد ظل صداه ماثلاً لدى شيخنا حتى انتهى إلى فكرة الكتاب، مصححاً رؤيته الأولية عن الدولة الدينية، بعدما زالت المؤثرات والظروف التي أحاطت بفكرته الأولى، وعلى رأسها الجهاز السري للإخوان الذي انتقل بهم من فضيلة القوة إلى ما دونها من الاستقواء، بجانب تهافت دعاوى الاشتراكية، ومن ثم الشيوعية في تحقيق الجنة الموعودة لأربابها، فضلاً عن إيمان الكاتب العميق بالانحياز لعقل الأمة ولجموع المظلومين فيها، إيماناً منه بأنه «حيث لا حرية... فثمّ وطني».
ملحق تطبيقي
ينتظم كتاب «الدولة في الإسلام» في طبعته الأخيرة في ثلاثة أقسام؛ الأول منها يتألف من أحد عشر مبحثاً غير معنونة، أما الثاني فعبارة عن ملحق تطبيقي للدولة في الإسلام. وهما ما يعنيانا في هذا المقال، لأن القسم الثالث عبارة عن تعريف مستفيض للكاتب، بقلم ابنه محمد.
وفيما يتعلق بمباحث القسم الأول فإنها تبدأ بمبحث عن أسباب كتابة هذا السفر الجديد متشحاً بجعل فكرة الدولة الدينية موضعاً لتفكيره لا مصدراً له، لأن الحديث المسبق عن الدولة الدينية وغرائزها قد ربط بين الفكرة والمشهد السياسي، إذ وجد لزاماً عليه أن يستدعي البعد التاريخي للحضارة الإسلامية التي اتسمت بأن الإسلام «دين ودولة».
ومن ثم كان اعتماده في المبحث الثاني على استعراض الشواهد الحية من التاريخ السياسي للإسلام وركائزه الحضارية الأساسية بالجزيرة العربية فيما قبل الإسلام، حيث باتت مرحلة الجاهلية أبعد ما تكون في معطياتها عن «الجهالة» الأوربية آنذاك.
كما يؤكد الكتاب على تداعيات مفهوم الأمة على التنظيم السياسي للمجتمع في دولة المدينة من خلال مفردات وحدة اللغة والجنس والدين والأرض أو «الوطن».
كما عرج الكتاب على وجوبية تنصيب الحاكم (الإمام) لدى معظم فقهاء المسلمين الذين عرفوا مهامه بأن «يقوم بأمر الحرب والسِّلم وتدبير الجيوش والسرايا وسد الثغور، وحماية الأمة، والأخذ من ظالمها لمظلومها، والقيام بكل مصالحها ومهامها السياسية».
وكذا حتمية الحكومة التي يراها مع الإمام من البداهة، حيث إنه لا توجد آية قرآنية تطلب ذلك صراحة. ثم يدلف إلى ركيزة الحكم الأساسية، وهي الشورى، التي يرى أن الخطأ معها أسلم من الصواب مع التفرد بالرأي. وأن الديمقراطية البرلمانية هي المفهوم الحديث للشورى، والذي ينسحب على حسن اختيار الحاكم لتحقيق أمرين؛ القدوة الصالحة والعدالة الشاملة، وأن الدولة الإسلامية بطبيعتها دولة دستورية قوام دستورها القرآن في المقام الأول، ثم السنّة والإجماع، مضافاً إليهما الاجتهاد. ومن ثم تصبح قضية الطاعة المطلقة للحاكم مقيدة بأحكام الدستور الإسلامي.
احترام المواثيق
ينتقل الكتاب إلى منحى العلاقات الدولية في الدولة الإسلامية، حيث التعايش السلمي مع من لم يقاتلوا المسلمين في الدين أو يخرجوهم من ديارهم أو يظاهروا على إخراجهم، ولنا في غزوات الرسول الكريم [ نموذج.
كما أن الأمر القرآني والتوجيهات النبوية بالوفاء بالعهد والعقود، فضلاً عن معاهدات الراشدين، إنما تنسحب على مفهوم احترام المواثيق الدولية وحماية الأقليات.
وينهي الكاتب مباحث سفره بمبحث عن الحضارة الإسلامية ودورها في دفع الحضارة الإنسانية قدماً لما وصلت إليه في العصر الحديث، مسترشداً بنماذج تستعصي على الحصر من علماء المسلمين، ومستشهداً بما ذكرته زجريد هونكه في كتابها «شمس العرب تشرق على الغرب» من فضل العرب المسلمين على الغرب بمخترعاتهم التي انطلقت منها أحدث النظريات العلمية. ومن ثم فوصية خالد هي مصادقة الدولة المسلمة لحركة العلم والتسلح به، مع الاحتفاظ بتقاليد الشخصية الإسلامية.
أما الجزء الثاني المتمثل في «الملحق» فقد جاء كدراسة تطبيقية لمفردات الدولة الإسلامية والحاكم المسلم، من خلال عرضه لأسس سيرة الخليفة عمر بن عبدالعزيز. وهو يرى أن ثمة عناصر خمسة يمكن أن نستقيها من منهج حكم بن عبدالعزيز - أو القديس، كما يحلو له أن ينعته - رغم قصر حكمه لحوالي عامين ونصف العام.
أول هذه العناصر يخص الدولة القدوة، أي التي يفرض حكامها القانون ويحمونه بالقوة الحقة والقدوة الصالحة من جميع أجهزتها التنفيذية. وثانياً حتمية الشورى لوضعها الحاكم والمحكومين أمام مسؤولياتهما المشتركة.
وثالثًا الدور المجتمعي للمال كوديعة ينبغي معها بعث حرمتها في ضمير الدولة والأمة باتباع الحق في تقاضيه والعدل في توزيعه لكل فرد في الأمة، مسلمًا كان أم كتابيًا. أما رابعًا فيختص بإقرار السلام الاجتماعي بالحفاظ على وحدة الأمة من مغبة التمييز القبلي أو العددي أو الفكري أو العقيدي، وفق أسلوب تنفيذي متميز يمثّل آخر عناصر الحكم، ويقوم على أن ساعات اليوم لدى المسؤول ينبغي أن تكون منذورة لمسؤولياته.
مراجعة فكرية
يعد الكتاب مراجعة فكرية لموقف المؤلف من الحكومة الدينية التي وصمها بالغرائز السبع التي تنحرف بها عن الجادة باسم الدين؛ وتتلخص في الغموض المطلق، ومناصبة العقل العداء، والتآمر على المستنيرين واستعداء الناس عليهم، والغرور المقدس، والواحدية المطلقة، والجمود، والقسوة المتوحشة.
والمراجعة المعنية تجعل من إدراج «الحكومة الإسلامية» تحت مفهوم «الحكومة الدينية» غبناً لها، لما يحمله الأخير من مدلول تاريخي يتمثّل في الكيان الكهنوتي الذي كان الدين يستغل فيه أبشع استغلال، بل ومن قبيل التحوط فإنه يرى أن «تسمية الحكومات الإسلامية المنحرفة بالحكومة الدينية، وتحميل الإسلام وزرها أمر مجاف للصواب».
ومن ثم فالكتاب بمنزلة الاعتذار عن موقفه الفكري من الحكومة الدينية، حيث فند الدعاوى المتهافتة للإسلام السياسي وفقاً لاصطلاحات اليوم. ولعل كثيرًا من الصخب الدائر حول قضايا الدستور والحاكمية لله ومبادئ الشريعة وأحكامها قد تناوله مباشرة أو ضمناً كتاب «الدولة في الإسلام»، مما يجعل قراءته فرض عين على كل المتصدرين للمشهد السياسي، عساهم يلتقون على كلمة سواء، ويجعل حاجتنا ماسة - على حد تعبير أحد الكتّاب المعاصرين - إلى استعادة خالد وغيره من المصلحين وأنصار العقل في تراثنا القريب والبعيد >
د. خالد محمد خالد