طائرة خاصة... وماذا بعد؟

طائرة خاصة... وماذا بعد؟

يتندّر‭ ‬المتندرون‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬بعض‭ ‬الأثرياء،‭ ‬فيقولون‭ ‬إن‭ ‬فلانًا‭ ‬يتناول‭ ‬إفطاره‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬ووجبة‭ ‬الغداء‭ ‬في‭ ‬روما،‭ ‬والعشاء‭ ‬في‭ ‬برشلونة،‭ ‬هذه‭ ‬المخيلة‭ ‬التي‭ ‬تغذيها‭ ‬الصور‭ ‬النمطية‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬المعيشية‭ ‬الباذخة‭ ‬لبعض‭ ‬الأثرياء‭ ‬لا‭ ‬تلامس‭ ‬بالضرورة‭ ‬رغبة‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬الكثير‭ ‬في‭ ‬عيش‭ ‬حياة‭ ‬مماثلة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الشعور‭ ‬بالرضا‭ ‬متفاوت‭ ‬لدى‭ ‬البشر،‭ ‬وللسعادة‭ ‬مفاهيم‭ ‬متعددة‭ ‬الأوجه،‭ ‬ولا‭ ‬تعني‭ ‬فقط‭ ‬التنقل‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬وتناول‭ ‬الوجبات‭ ‬الرئيسة‭ ‬فيها‭.‬

هناك‭ ‬صنف‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬سعادتهم‭ ‬تتحقق‭ ‬بالسفر‭ ‬واكتشاف‭ ‬العالم،‭ ‬ولا‭ ‬يريدون‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الأثرياء‭ ‬غير‭ ‬الطائرة‭ ‬الخاصة‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬تحمُّل‭ ‬مصاريف‭ ‬التنقل‭ ‬العشوائي‭ ‬بين‭ ‬قارات‭ ‬العالم،‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬جميل‭ ‬حتى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة،‭ ‬ومليء‭ ‬بالخيال‭ ‬ولذة‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬متلاحقة‭ ‬مع‭ ‬البشر‭ ‬والأمكنة،‭ ‬ولكن‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭: ‬وماذا‭ ‬بعد‭ ‬ذلك؟‭ ‬سفر‭ ‬بلا‭ ‬نهاية‭ ‬وحياة‭ ‬محصورة‭ ‬داخل‭ ‬الطائرة‭ ‬الخاصة‭!‬

إن‭ ‬متعة‭ ‬السفر‭ ‬لها‭ ‬إطار‭ ‬زمني‭ ‬محدود‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬ينتهي،‭ ‬لأن‭ ‬عوامل‭ ‬الحنين‭ ‬للموطن‭ ‬والأقرباء‭ ‬والأصدقاء‭ ‬تتفاعل‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬لتنتج‭ ‬مركّبًا‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬مجرى‭ ‬الدم،‭ ‬وظيفته‭ ‬امتصاص‭ ‬الشعور‭ ‬بالسعادة،‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬بعض‭ ‬الأنفس‭ ‬متناغمة‭ ‬مع‭ ‬حالة‭ ‬الابتعاد‭ ‬وبعضها‭ ‬الآخر‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬العودة‭ ‬إليه،‭ ‬ولكن‭ ‬هؤلاء‭ ‬هم‭ ‬القلة،‭ ‬والأكثرية‭ ‬عندما‭ ‬يوضعون‭ ‬على‭ ‬المحك‭ ‬تجدهم‭ ‬يطلبون‭ ‬العودة‭ ‬لما‭ ‬كانوا‭ ‬عليه،‭ ‬مع‭ ‬تعديلات‭ ‬بسيطة‭ ‬تجعل‭ ‬حياتهم‭ ‬وحياة‭ ‬من‭ ‬يحبون‭ ‬أفضل‭ ‬قليلاً‭.‬

أصل‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬المكمن‭ ‬الأساسي‭ ‬الذي‭ ‬دفعني‭ ‬لكتابة‭ ‬هذه‭ ‬الأسطر،‭ ‬وهو‭ ‬كيفية‭ ‬تحوّل‭ ‬حرية‭ ‬السفر‭ ‬والتنقل‭ ‬إلى‭ ‬كابوس‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬متعة‭ ‬إذا‭ ‬ارتبطت‭ ‬بالديمومة،‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬المعقول‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬امتلاك‭ ‬طائرة‭ ‬خاصة‭ ‬والسفر‭ ‬الدائم‭ ‬لكل‭ ‬بقاع‭ ‬الدنيا‭ ‬عذاباً‭ ‬وعقوبة‭ ‬مبتكرة‭ ‬لم‭ ‬تطبّق‭ ‬من‭ ‬قبل؟

إن‭ ‬الطائرة‭ ‬الخاصة‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬مجهزة‭ ‬بأفضل‭ ‬وسائل‭ ‬الراحة‭ ‬والترفيه‭ ‬ليست‭ ‬كالمنزل،‭ ‬وتناول‭ ‬الوجبات‭ ‬اللذيذة‭ ‬في‭ ‬أفخم‭ ‬مطاعم‭ ‬لندن‭ ‬ونيويورك‭ ‬لا‭ ‬يضاهي‭ ‬الشعور‭ ‬بتناول‭ ‬طعام‭ ‬المنزل‭ ‬مع‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة،‭ ‬والعلاقات‭ ‬العابرة‭ ‬مع‭ ‬مَن‭ ‬تكون‭ ‬وظيفتهم‭ ‬مجاملة‭ ‬من‭ ‬يدفع‭ ‬حسابه‭ ‬بالكامل‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بديلة‭ ‬عن‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬المصالح‭ ‬ولغة‭ ‬الأرقام،‭ ‬وأصعب‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬على‭ ‬مَن‭ ‬يجد‭ ‬سعادته‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الطائرة‭ ‬الخاصة‭ ‬عندما‭ ‬يسأل‭ ‬نفسه،‭ ‬أين‭ ‬أنا؟‭ ‬أين‭ ‬الناس؟‭ ‬مَن‭ ‬أنا؟‭ ‬

إن‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬الطائرة‭ ‬الخاصة‭ ‬عذاب‭ ‬حقيقي‭ ‬إذا‭ ‬بقيت‭ ‬الطائرة‭ ‬معلّقة‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬بلا‭ ‬نزول،‭ ‬فحتى‭ ‬الطيور‭ ‬تهبط‭ ‬على‭ ‬الأشجار‭ ‬وتبني‭ ‬أعشاشها‭ ‬وتربّي‭ ‬صغارها،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬موسم‭ ‬الهجرة،‭ ‬لتسافر‭ ‬في‭ ‬أسراب‭ ‬متجاورة‭. ‬

ختامًا،‭ ‬سيبقى‭ ‬الإنسان‭ ‬يعيش‭ ‬حالة‭ ‬القلق‭ ‬طالما‭ ‬بقي‭ ‬عاجزًا‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬كمّ‭ ‬السعادة‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬والندم‭ ‬المضاعف‭ ‬بعد‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭ ■‬