لن تجفَّ الأقلام

لن تجفَّ الأقلام

كُتِب على أمّتنا أن تعيش قرناً من الزمان في برزخ الأحلام بين الفكرة والكلام، الفكرة هي الوحدة، أما الكلام فلم يزل اجتراراً سمجاً لكل مفردات الماضي، من شعر وأمثال وحِكَم ومواعظ وأقوال لكبار أهل الزهد والورع والشِّعر والدين. 
ها نحن نعيش في دائرة، يكبر محيطها ويتسع، ولا نزال نعانق نقطة المركز، شوقاً إلى الماضي وإهمالاً للواقع وخوفاً من المستقبل. تعاقب الفشل على مشاريعنا وكثرت عثراتنا عندما سفّهنا الحكمة واحتقرنا العمل. تكاثرت أعيادنا وقلّت أفراحنا، وتجري بنا الأيام والأعوام، ولا ندري على أي صورة أو حال نكون فيها غداً. لقد سهل على الدول العظمى تطويعنا، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وبعد أن نُفِذَت خطة «الفوضى الخلاقة»، تخاصمنا وافترقنا ثم تقاتلنا، فعاثت يد الفساد بالبلاد والعباد، الأمر الذي ساعد الأعداء على هدم ثقافتنا واستغلال ثرواتنا.

 

التدوين‭ ‬كتابة

بدأ‭ ‬التدوين‭ ‬المنهجي‭ ‬للكتابة‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬مع‭ ‬صدر‭ ‬الإسلام،‭ ‬للقرآن‭ ‬الكريم‭ ‬ثم‭ ‬الحديث‭ ‬الشريف‭. ‬ولعل‭ ‬منهج‭ ‬تدوين‭ ‬الحديث‭ ‬هو‭ ‬المنهج‭ ‬الذي‭ ‬اعتمد‭ ‬عليه‭ ‬تدوين‭ ‬العلوم‭ ‬النقلية‭ ‬كاللغة‭ ‬العربية‭ ‬والتاريخ،‭ ‬فنرى‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬تدوين‭ ‬التاريخ‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬السَنَد‭ ‬قبل‭ ‬المَتْن،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬نشوء‭ ‬علم‭ ‬جديد‭ ‬سُمي‭ ‬بعلم‭ ‬الرجال‭.‬

وقد‭ ‬نهى‭ ‬الرسول‭ ‬‭(‬‭ ‬صحابته‭ ‬عن‭ ‬تدوين‭ ‬الحديث،‭ ‬بهدف‭ ‬ألا‭ ‬تختلط‭ ‬عند‭ ‬كُتّاب‭ ‬الوحي‭ ‬أقواله‭ ‬مع‭ ‬نصوص‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬ففي‭ ‬الحديث‭: ‬

‮«‬لا‭ ‬تكتبوا‭ ‬عني،‭ ‬ومن‭ ‬كتب‭ ‬عني‭ ‬غير‭ ‬القرآن‭ ‬فليمحُه،‭ ‬وحدّثوا‭ ‬عني‭ ‬ولا‭ ‬حرج،‭ ‬ومن‭ ‬كَذب‭ ‬علَيّ‭ ‬متعمداً‭ ‬فليتبوأ‭ ‬مقعده‭ ‬من‭ ‬النّار‮»‬‭. (‬انظر‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬صحيحي‭ ‬البخاري‭ ‬ومسلم‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬المعتمدة‭). ‬

إلاّ‭ ‬أنّه‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬الرسول،‭ ‬‭)‬،‭ ‬ظهرت‭ ‬الحاجة‭ ‬المُلحّة‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬بالحديث‭ ‬الشريف،‭ ‬ليفسّر‭ ‬ويفصّل‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وليكون‭ ‬مصدراً‭ ‬تشريعياً‭ ‬بعد‭ ‬القرآن‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭. ‬حينها‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الأحاديث‭ ‬محفوظة‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الصحابة‭. ‬وتأكّد‭ ‬حينها‭ ‬أنّ‭ ‬التشريع‭ ‬الإسلامي‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬الحديث‭ ‬الشريف‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬ليكمّل‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬ويتمّمها‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬لعدم‭ ‬تدوين‭ ‬الحديث‭ ‬لثلاثة‭ ‬وعشرين‭ ‬عاماً،‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬الوحي‭ ‬وحتى‭ ‬وفاة‭ ‬الرسول‭ ‬الكريم،‭ ‬أثره‭ ‬في‭ ‬صعوبة‭ ‬جمعه‭ ‬وحصره‭ ‬وتدوينه‭. ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬الخلافات‭ ‬السياسية‭ ‬للمجتمع‭ ‬الإسلامي،‭ ‬وخاصة‭ ‬بعد‭ ‬الفتنة‭ ‬الكبرى،‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬ضعاف‭ ‬النفوس‭ ‬يستخدمون‭ ‬الدين‭ ‬ويطوّعون‭ ‬تعاليمه‭ ‬لخدمة‭ ‬أطماعهم‭ ‬ودعم‭ ‬أهدافهم‭ ‬السياسية‭. ‬وبما‭ ‬أنّ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينجح‭ ‬امرؤ‭ ‬في‭ ‬تحريفه،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنّه‭ ‬محفوظ‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه،‭ ‬فإنّ‭ ‬المحاولات‭ ‬بدأت‭ ‬بوضع‭ ‬أحاديث‭ ‬نَسَبَها‭ ‬قائلوها‭ ‬زوراً‭ ‬وبهتاناً‭ ‬إلى‭ ‬الرسول‭ ‬‭)‬‭.‬

وقد‭ ‬أدّى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تحرّك‭ ‬علماء‭ ‬المسلمين‭ ‬للمحافظة‭ ‬على‭ ‬الدّين،‭ ‬فبدأوا‭ ‬الاشتغال‭ ‬بعلم‭ ‬الحديث،‭ ‬حصره‭ ‬وجمعه‭ ‬وتدوينه،‭ ‬والتدقيق‭ ‬في‭ ‬سنده‭ ‬ومتنه‭. ‬وقد‭ ‬قسّم‭ ‬علماء‭ ‬الحديث‭ ‬الإطار‭ ‬العام‭ ‬للحديث‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مَتْن‮»‬‭ ‬و«سَنَد‮»‬‭. ‬فأمّا‭ ‬المتن‭ ‬فهو‭ ‬نصّ‭ ‬الحديث‭ ‬ومحتواه،‭ ‬وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬يكون‭ ‬السَنَد‭ ‬هو‭ ‬سلسلة‭ ‬رواة‭ ‬الحديث‭ ‬نفسه‭. ‬

ومن‭ ‬ناحية‭ ‬المتن،‭ ‬فقد‭ ‬عُني‭ ‬علماء‭ ‬الحديث‭ ‬كلّ‭ ‬العناية‭ ‬باللفظ‭ ‬والمعنى،‭ ‬وذلك‭ ‬بأن‭ ‬يوافق‭ ‬الحديث‭ ‬لغة‭ ‬الرسول‭ ‬‭)‬‭ ‬وأسلوبه‭ ‬بلاغة‭ ‬وأدباً‭. ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬الحديث‭ ‬دالاً‭ ‬إلى‭ ‬معاني‭ ‬الفضيلة‭ ‬وصلاح‭ ‬الأمة،‭ ‬ولا‭ ‬تعلق‭ ‬فيه‭ ‬شوائب‭ ‬الشكّ‭ ‬والدسيسة‭. ‬أمّا‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬السند،‭ ‬فقد‭ ‬عُني‭ ‬العلماء‭ ‬بتفصيل‭ ‬قدرات‭ ‬رواة‭ ‬الحديث‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬شخصية‭ ‬ودينية،‭ ‬فاستنبطوا‭ ‬بذلك‭ ‬علم‭ ‬‮«‬الجرح‭ ‬والتعديل‮»‬،‭ ‬ومنه‭ ‬ظهر‭ ‬ما‭ ‬يسمّى‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬كتب‭ ‬الرجال‮»‬‭. ‬

وقد‭ ‬تطوّر‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬تطوّراً‭ ‬كبيراً،‭ ‬حتى‭ ‬صُنّفت‭ ‬فيه‭ ‬كتب‭ ‬كثيرة،‭ ‬مثل‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬التاريخ‭ ‬الكبير‮»‬‭ ‬و«التاريخ‭ ‬الصغير‮»‬‭ ‬للبخاري،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬اختيار‭ ‬معرفة‭ ‬الرجال‮»‬‭ ‬للكَشِّي‭. ‬

واتسع‭ ‬إطار‭ ‬هذا‭ ‬العلم‭ ‬حتى‭ ‬ظهرت‭ ‬كتب‭ ‬‮«‬الطبقات‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تحكي‭ ‬أنساب‭ ‬وسِير‭ ‬بعض‭ ‬الشخصيات‭ ‬المهمة،‭ ‬سواء‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬مثل‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬جمهرة‭ ‬أنساب‭ ‬العرب‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬حزم،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬وَفَيات‭ ‬الأعيان‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬خِلِّكَان،‭ ‬و«سِيَر‭ ‬أعلام‭ ‬النبلاء‮»‬‭ ‬للذهبي‭. ‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬بعضها‭ ‬تاريخاً‭ ‬لرجال‭ ‬منطقة‭ ‬معينة،‭ ‬مثل‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬نسب‭ ‬قريش‮»‬‭ ‬للزبيري،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬بغداد‮»‬‭ ‬للخطيب‭ ‬البغدادي‭. ‬وكان‭ ‬بعضها‭ ‬خاصاً‭ ‬بحقبة‭ ‬زمنية‭ ‬معينة،‭ ‬أو‭ ‬تاريخ‭ ‬لرجال‭ ‬عصر‭ ‬محدد،‭ ‬مثل‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬أُسد‭ ‬الغابة‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الصحابة‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬الأثير،‭ ‬و«الإصابة‭ ‬في‭ ‬تمييز‭ ‬الصحابة‮»‬‭ ‬و«الدرر‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬أعيان‭ ‬المئة‭ ‬الثامنة‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬حجر‭ ‬العسقلاني‭. ‬

ونستطيع‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬تدوين‭ ‬الحديث‭ ‬الشريف‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الأول‭ ‬للهجرة‭ ‬لم‭ ‬يلاقِ‭ ‬العناية‭ ‬التي‭ ‬لاقاها‭ ‬تدوين‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭. ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬الهجري‭ ‬بدأت‭ ‬المحاولات‭ ‬الأولى‭ ‬لجمع‭ ‬ما‭ ‬صحّ‭ ‬من‭ ‬الحديث‭ ‬الشريف‭.‬

وكان‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬كبار‭ ‬علماء‭ ‬العصر‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬الإمام‭ ‬مالك‭ ‬بن‭ ‬أنس‭ ‬في‭ ‬‮«‬الموطأ‮»‬،‭ ‬والإمام‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬إدريس‭ ‬الشافعي‭ ‬في‭ ‬‮«‬الرسالة‮»‬‭ ‬و«الأم‮»‬،‭ ‬والإمام‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬حنبل‭ ‬في‭ ‬‮«‬المُسنَد‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬تبعهم‭ ‬علماء‭ ‬الأمة‭ ‬في‭ ‬تسجيل‭ ‬وتدوين‭ ‬الحديث‭ ‬الشريف‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬الهجري‭ ‬هو‭ ‬الانطلاقة‭ ‬في‭ ‬تدوين‭ ‬الحديث،‭ ‬فإنّ‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬الهجري‭ ‬يُعتبر‭ ‬بحقّ‭ ‬قاعدة‭ ‬تأسيس‭ ‬علم‭ ‬الحديث‭ ‬وانتشار‭ ‬الصحيح‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الأمصار‭.‬

ومن‭ ‬علماء‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ ‬الأئمة‭ ‬البخاري‭ ‬ومسلم‭ ‬والترمذي‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬المُحَدِّثين‭. ‬وقد‭ ‬بذل‭ ‬هؤلاء‭ ‬العلماء‭ ‬أقصى‭ ‬جهد‭ ‬في‭ ‬التدقيق‭ ‬على‭ ‬الأحاديث‭ ‬وغربلتها‭ ‬من‭ ‬شوائب‭ ‬الموضوعات،‭ ‬وتمخضت‭ ‬جهودهم‭ ‬عن‭ ‬وضع‭ ‬قواعد‭ ‬مهمة‭ ‬لفحص‭ ‬الأحاديث‭. ‬ونتيجة‭ ‬لذلك،‭ ‬نرى‭ ‬بعض‭ ‬علماء‭ ‬القرون‭ ‬اللاحقة،‭ ‬قد‭ ‬وجّهوا‭ ‬جهودهم‭ ‬لجمع‭ ‬الضعيف‭ ‬والموضوع‭ ‬من‭ ‬الحديث‭. ‬

ويرى‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬الحديث‭ ‬أنّ‭ ‬معرفة‭ ‬الضعيف‭ ‬والموضوع‭ ‬تساعد‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الصحيح‭ ‬من‭ ‬الأحاديث‭. ‬حتى‭ ‬البسطاء‭ ‬من‭ ‬العامة‭ ‬وضعوا‭ ‬أحاديث‭ ‬بقصد‭ ‬ترويج‭ ‬بيعهم،‭ ‬فمن‭ ‬بائع‭ ‬البطيخ‭: ‬‮«‬البطيخ‭ ‬يغسل‭ ‬البطن‭ ‬غسلاً‭ ‬ويُذهب‭ ‬بالداء‭ ‬أصلاً‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬بائع‭ ‬الباذنجان‭: ‬‮«‬عليكم‭ ‬بالباذنجان‭ ‬فإنه‭ ‬يشفي‭ ‬البواسير‮»‬‭ (‬انظر‭ ‬الأحاديث‭ ‬الموضوعة‭ ‬للألباني‭). ‬

وليس‭ ‬غريباً‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬تلك‭ ‬الحكاية‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬منتجات‭ ‬يروج‭ ‬لها‭ ‬بائعوها‭ ‬أنّها‭ ‬تُشفي‭ ‬من‭ ‬أغلب‭ ‬الأمراض‭ ‬أو‭ ‬كلّها،‭ ‬ليكون‭ ‬العطّار‭ ‬أكثر‭ ‬شهرة‭ ‬من‭ ‬الصيدلي،‭ ‬ويكون‭ ‬بائع‭ ‬البطيخ‭ ‬أو‭ ‬الباذنجان‭ ‬أكثر‭ ‬ثراء‭ ‬من‭ ‬المُعَلّم‭.‬

‭ ‬

مفسرو‭ ‬القرآن‭ ‬ومؤرخو‭ ‬الأديان

أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬كتب‭ ‬التفسير‭ ‬والتاريخ‭ ‬هو‭ ‬الانجذاب‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الجهد‭ ‬الجبار‭ ‬المبذول‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬توصيل‭ ‬المعلومة‭ ‬إلى‭ ‬القارئ‭ ‬المتلقي‭. ‬إنّ‭ ‬المفسرين‭ ‬الأوائل‭ ‬للقرآن،‭ ‬بعد‭ ‬الصحابة‭ ‬والتابعين،‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬الإمام‭ ‬جعفر‭ ‬الصادق‭ ‬الذي‭ ‬دونت‭ ‬تفاسيره‭ ‬لآيات‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬كتبها‭ ‬غيره،‭ ‬ومحمد‭ ‬بن‭ ‬جرير‭ ‬الطبري‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬جامع‭ ‬البيان‭ ‬في‭ ‬تأويل‭ ‬آي‭ ‬القرآن‮»‬،‭ ‬والزمخشري‭ ‬مؤلف‭ ‬‮«‬الكشاف‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬اعتمد‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬اعتمد‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لتفسير‭ ‬النصّ‭ ‬القرآني،‭ ‬والخطيب‭ ‬فخر‭ ‬الدين‭ ‬الرازي‭ ‬مؤلف‭ ‬التفسير‭ ‬الكبير‭ ‬‮«‬مفاتيح‭ ‬الغيب‮»‬،‭ ‬وشمس‭ ‬الدين‭ ‬القرطبي‭ ‬صاحب‭ ‬تفسير‭ ‬‮«‬الجامع‭ ‬لأحكام‭ ‬القرآن‮»‬،‭ ‬وعبدالله‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ ‬البيضاوي‭ ‬وكتابه‭ ‬‮«‬أنوار‭ ‬التنزيل‭ ‬وأسرار‭ ‬التأويل‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬القرن‭ ‬العاشر‭ ‬الهجري‭ ‬اجتهد‭ ‬الحافظ‭ ‬إسماعيل‭ ‬بن‭ ‬كثير‭ ‬في‭ ‬جمع‭ ‬ودمج‭ ‬ما‭ ‬رآه‭ ‬صحيحاً‭ ‬من‭ ‬شروحات‭ ‬المفسرين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬قبل‭ ‬زمانه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬تفسير‭ ‬القرآن‭ ‬العظيم‮»‬‭.‬

وهناك‭ ‬كتب‭ ‬تفاسير‭ ‬للقرآن‭ ‬بعضها‭ ‬باطنية‭ ‬وأخرى‭ ‬صوفية،‭ ‬اختفى‭ ‬منها‭ ‬كثير‭ ‬في‭ ‬كهوف‭ ‬التّقِيّة،‭ ‬وضاع‭ ‬بعضها‭ ‬الآخر،‭ ‬وكادت‭ ‬البقية‭ ‬تبيد‭ ‬إلا‭ ‬قليلاً‭. ‬ولولا‭ ‬جهد‭ ‬المحققين‭ ‬لما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬تلك‭ ‬التفاسير‭ ‬سوى‭ ‬النادر،‭ ‬نتيجة‭ ‬الأهواء‭ ‬والتعصب‭ ‬واختلاف‭ ‬الأمة‭ ‬فِرقاً‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اللغط‭ ‬المنتشر‭ ‬في‭ ‬الساحتين‭ ‬الفكرية‭ ‬الدينية‭ ‬الإسلامية‭ ‬عن‭ ‬التصوف‭ ‬والمتصوفين،‭ ‬بين‭ ‬الهجوم‭ ‬والدفاع‭ ‬والحياد،‭ ‬وبين‭ ‬الغلو‭ ‬والاعتدال،‭ ‬نرى‭ ‬كتباً‭ ‬في‭ ‬التفسير‭ ‬عدها‭ ‬البعض‭ ‬محظورة،‭ ‬واتخذها‭ ‬البعض‭ ‬صورة‭ ‬للعلم‭ ‬الإلهي،‭ ‬شروح‭ ‬نصوصها‭ ‬مقصورة‭ ‬على‭ ‬أهل‭ ‬الكشف‭ ‬والعرفان‭ ‬محصورة‭. ‬منها‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الكشف‮»‬‭ ‬للداعي‭ ‬الإسماعيلي‭ ‬جعفر‭ ‬بن‭ ‬منصور‭ ‬اليمن،‭ ‬الذي‭ ‬استخدم‭ ‬في‭ ‬شروحه‭ ‬أحياناً‭ ‬خطّ‭ ‬المُسْنَد‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التَّقِيّة‭ ‬والسَتْر،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬مفاتيح‭ ‬الأسرار‭ ‬ومصابيح‭ ‬الأنوار‮»‬‭ ‬لمحمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالكريم‭ ‬الشهرستاني‭ ‬صاحب‭ ‬الكتاب‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬الملل‭ ‬والنحل‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬شرحه‭ ‬لكتاب‭ ‬التفسير‭ ‬نراه‭ ‬يستخدم‭ ‬مصطلحات‭ ‬النخبة‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمتكلمين،‭ ‬أما‭ ‬‮«‬تفسير‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‮»‬‭ ‬لمحيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي،‭ ‬فتتضح‭ ‬فيه‭ ‬النزعة‭ ‬العرفانية‭ ‬الوجدانية‭ ‬التي‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬المعاني‭ ‬الباطنية،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الصوفية،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فهمها‭ ‬إلا‭ ‬عمّن‭ ‬ارتقت‭ ‬روحه‭ ‬لإدراك‭ ‬مفاتيح‭ ‬تلك‭ ‬المعرفة‭.‬

وليس‭ ‬هناك‭ ‬أدنى‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬محيي‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬عربي‭ ‬كان‭ ‬قطباً‭ ‬من‭ ‬أقطاب‭ ‬الصوفية،‭ ‬ولكنّ‭ ‬الشكّ‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬هوية‭ ‬الشهرستاني،‭ ‬الذي‭ ‬عدّه‭ ‬البعض‭ ‬أشعري‭ ‬العقيدة‭ ‬شافعي‭ ‬المذهب،‭ ‬وعدّه‭ ‬آخرون‭ ‬إسماعيلياً،‭ ‬وصنّفه‭ ‬الباقون‭ ‬على‭ ‬أنّه‭ ‬صوفي‭ ‬المشرب‭. ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر،‭ ‬فإنّ‭ ‬منهج‭ ‬ابن‭ ‬عربي‭ ‬في‭ ‬تفسيره‭ ‬اعتمد‭ ‬على‭ ‬تأويل‭ ‬شرح‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬معاني‭ ‬الكلمات‭.‬

أما‭ ‬الشهرستاني،‭ ‬فكان‭ ‬يعتمد‭ ‬المنهج‭ ‬التقليدي‭ ‬في‭ ‬التفسير،‭ ‬وهو‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬‮«‬العنعنة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬التواتر‭ ‬في‭ ‬السند‭ ‬عن‭ ‬ثقاة‭ ‬نقَلَة‭ ‬التفسير‭ ‬والحديث،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ما‭ ‬ذكراه‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬المصطلحات‭ ‬الفلسفية‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬لم‭ ‬يُعتمد‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الكتابين‭ ‬كمرجع‭ ‬أصيل‭ ‬من‭ ‬مراجع‭ ‬تفسير‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭. ‬ولربما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بسبب‭ ‬الخوض‭ ‬في‭ ‬تثبيت‭ ‬‮«‬الغنوصية‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬الفكرة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬‮«‬الباطن‮»‬،‭ ‬بأنّ‭ ‬لكل‭ ‬ظاهر‭ ‬شكلي‭ ‬معنىً‭ ‬باطنياً‭ ‬أكثر‭ ‬عمقاً،‭ ‬وهذا‭ ‬المعنى‭ ‬لا‭ ‬يدركه‭ ‬عامة‭ ‬الناس،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬خاص‭ ‬بأهل‭ ‬العلم‭ ‬والعرفان‭ ‬وأصحاب‭ ‬الكرامات‭. ‬ومهما‭ ‬تنازعت‭ ‬المدرستان،‭ ‬مدرسة‭ ‬الظاهر‭ ‬والباطن،‭ ‬تظلّ‭ ‬الحقيقة‭ ‬القائمة‭ ‬بأنّ‭ ‬أكثر‭ ‬الناس‭ ‬لا‭ ‬يتدبرون‭ ‬تلاوة‭ ‬القرآن،‭ ‬ولا‭ ‬يعرفون‭ ‬تفسيره،‭ ‬فإنّ‭ ‬أشكل‭ ‬عليهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أمر،‭ ‬رجعوا‭ ‬إلى‭ ‬كتب‭ ‬التفسير،‭ ‬وإن‭ ‬ضاق‭ ‬عليهم‭ ‬الفهم‭ ‬أكثر‭ ‬سألوا‭ ‬بذلك‭ ‬خبيراً‭.‬

 

خصوصية‭ ‬النصوص

وأكثر‭ ‬من‭ ‬يُجيب‭ ‬ويُفَسِّر‭ ‬القرآن‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬تفاسير‭ ‬علماء‭ ‬التفسير‭ ‬القدامى،‭ ‬وكلما‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬الرسول‭ ‬‭(‬‭ ‬ظنّ‭ ‬السائل‭ ‬والمسؤول‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬التفسير‭ ‬أصوب‭ ‬وأحكم‭. ‬لا‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬القرآن‭ ‬هو‭ ‬الرسول‭ ‬الأعظم‭ ‬‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬القاعدة‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬صلاحيته‭ ‬لكل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬طبعاً‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يخالف‭ ‬أساس‭ ‬النصّ‭ ‬الديني‭ ‬القطعي‭ ‬الدلالة‭ ‬والثبوت‭.‬

ونصوص‭ ‬القرآن‭ ‬لها‭ ‬خصوصية‭ ‬في‭ ‬التلاوة‭ ‬وشرح‭ ‬المعاني‭ ‬اللغوية‭ ‬والأحكام،‭ ‬وفيها‭ ‬الناسخ‭ ‬والمنسوخ،‭ ‬فلا‭ ‬يستطيع‭ ‬المرء‭ ‬اعتماد‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬حُكْمٍ‭ ‬ورَد‭ ‬في‭ ‬آية‭ ‬منسوخة،‭ ‬لذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الواجب‭ ‬معرفة‭ ‬الناسخ‭ ‬والمنسوخ‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام،‭ ‬هناك‭ ‬محاولات‭ ‬حثيثة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬رجال‭ ‬مخلصون‭ ‬في‭ ‬تسهيل‭ ‬تناول‭ ‬وتداول‭ ‬معاني‭ ‬مفردات‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬وتفسير‭ ‬نصوصه،‭ ‬وذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الحاسوب‭ ‬وبرامجه‭ ‬وأجهزته‭ ‬الإلكترونية‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬شائعاً‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭. ‬

ويبقى‭ ‬الرفض‭ ‬قائماً‭ ‬من‭ ‬علماء‭ ‬المدرسة‭ ‬التقليدية‭ ‬النقلية‭ ‬ضد‭ ‬تدخّل‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬في‭ ‬تصنيف‭ ‬وترتيب‭ ‬وشرح‭ ‬ومقابلة‭ ‬وتحليل‭ ‬وتعليل‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الرفض‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬عدم‭ ‬الاستئناس‭ ‬بالنتائج‭ ‬الإيجابية‭ ‬من‭ ‬مخرجات‭ ‬برامج‭ ‬الحواسيب‭.‬

 

تطويع‭ ‬النصّ‭ ‬القرآني

رغم‭ ‬الادعاءات‭ ‬السمجة‭ ‬والساذجة‭ ‬بتحريف‭ ‬القرآن‭ ‬أو‭ ‬زيادة‭ ‬آياته‭ ‬أو‭ ‬نقصانها،‭ ‬فإنّ‭ ‬تلك‭ ‬الادعاءات‭ ‬قد‭ ‬تهالكت‭ ‬برفع‭ ‬راية‭ ‬الحق‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬الله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭: ‬{‮ ‬إِنَّا‭ ‬نَحْنُ‭ ‬نَزَّلْنَا‭ ‬الذِّكْرَ‭ ‬وَإِنَّا‭ ‬لَهُ‭ ‬لَحَافِظُونَ‭ ‬}‭ (‬سورة‭ ‬الحجر‭: ‬الآية‭ ‬9‭).‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬عاثت‭ ‬أيادي‭ ‬الفساد‭ ‬والأهواء‭ ‬بتفسير‭ ‬وتأويل‭ ‬وتبديل‭ ‬مفردات‭ ‬القرآن‭ ‬على‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يقتضيه‭ ‬معنى‭ ‬النص،‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬تتحمله‭ ‬العبارة‭ ‬من‭ ‬تعبير،‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬تعنيه‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬تفسير‭. ‬

وقام‭ ‬آخرون‭ ‬بتحميل‭ ‬النصّ‭ ‬القرآني‭ ‬مفاتيح‭ ‬خزائن‭ ‬المستقبل‭ ‬والغيب‭ ‬والتنبؤات‭. ‬بينما‭ ‬اختار‭ ‬آخرون‭ ‬بعض‭ ‬آيات‭ ‬القرآن‭ ‬للتشافي‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬الجسدية‭ ‬والنفسية،‭ ‬مستدلين‭ ‬بأوهام‭ ‬تأويلية‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬القرآنية،‭ ‬فآية‭ ‬تبطل‭ ‬السحر‭ ‬وأخرى‭ ‬توقف‭ ‬الحسد،‭ ‬وتلك‭ ‬تشفي‭ ‬من‭ ‬الحمى‭ ‬وأخرى‭ ‬تحفز‭ ‬الهمة‭.‬

خرافات‭ ‬وخزعبلات‭ ‬وتُرّهات‭ ‬وسخافات،‭ ‬ما‭ ‬أنزل‭ ‬الله‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬سلطان‭. ‬عندها‭ ‬كَثُر‭ ‬الدجالون،‭ ‬رقاة‭ ‬يتاجرون‭ ‬بآيات‭ ‬القرآن،‭ ‬ومفسرو‭ ‬أحلام‭ ‬لَبِسوا‭ ‬ثوب‭ ‬التقوى،‭ ‬وأصحاب‭ ‬كشف‭ ‬يُخرجون‭ ‬الجان‭ ‬من‭ ‬الأبدان‭! ‬كلّ‭ ‬أولئك‭ ‬اتخذوا‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬تجارة،‭ ‬هم‭ ‬حقاً‭ ‬{اشْتَرَوْا‭ ‬بِآَيَاتِ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬ثَمَنًا‭ ‬قَلِيلًا‭ ‬فَصَدُّوا‭ ‬عَنْ‭ ‬سَبِيلِهِ‭ ‬إِنَّهُمْ‭ ‬سَاءَ‭ ‬مَا‭ ‬كَانُوا‭ ‬يَعْمَلُونَ}‭ (‬سورة‭ ‬التوبة‭: ‬الآية‭ ‬9‭).‬

 

عدو‭ ‬الإنسان‭ ‬الأول‭ ‬والأخير

لن‭ ‬نناقش‭ ‬سطحية‭ ‬النصوص،‭ ‬بل‭ ‬سنقف‭ ‬على‭ ‬معناها‭ ‬الأعمق،‭ ‬دون‭ ‬تخطٍّ‭ ‬على‭ ‬قدسية‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬إهمال‭ ‬للعقل‭ ‬والمنطق‭. ‬ولعل‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬البداية‭ ‬تكون‭ ‬إرشاداً‭ ‬لمعرفة‭ ‬أوصاف‭ ‬العدو،‭ ‬أي‭ ‬عدو‭.‬

إنّ‭ ‬العدو‭ ‬الأول‭ ‬للإنسان‭ ‬هو‭ ‬‮«‬إبليس‮»‬‭ ‬لفظاً،‭ ‬ممثلا‭ ‬معنى‭ ‬‮«‬الكُفْر‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬جميع‭ ‬القوى‭ ‬السلبية،‭ ‬النفسية‭ ‬والعقلية،‭ ‬التي‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تلبس‭ ‬الحق‭ ‬بالباطل‭ ‬والحقيقة‭ ‬بالوهم‭ ‬والخير‭ ‬بالشر‭ ‬والإيمان‭ ‬بالشرك‭.‬

إنها‭ ‬قوى‭ ‬التعطيل‭ ‬الفكري‭ ‬لنعمة‭ ‬الله‭ ‬التي‭ ‬أسبغها‭ ‬على‭ ‬الإنسان،‭ ‬نعمة‭ ‬‮«‬العقل‮»‬‭. ‬مَن‭ ‬منا‭ ‬لم‭ ‬يسمع‭ ‬عن‭ ‬إبليس؟‭ ‬وفي‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬آيات‭ ‬بيّنات،‭ ‬وجاءت‭ ‬كتب‭ ‬الرسالات‭ ‬بمثلها،‭ ‬إنّ‭ ‬{‭... ‬إِبْلِيسَ‭ ‬كَانَ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْجِنِّ‭ ‬فَفَسَقَ‭ ‬عَنْ‭ ‬أَمْرِ‭ ‬رَبِّهِ}‭ (‬سورة‭ ‬الكهف‭: ‬من‭ ‬الآية‭ ‬50‭) ‬وبفسوق‭ ‬إبليس‭ ‬صار‭ ‬رمزاً‭ ‬للشرّ‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬والزمان،‭ ‬ومعلماً‭ ‬للكِبْرِ‭ ‬والعصيان‭ ‬والتمرد‭ ‬والكراهية‭ ‬والحسد‭ ‬والحقد‭ ‬والخداع‭ ‬والغواية‭ ‬والكذب‭ ‬والنفاق،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ضد‭ ‬التعاليم‭ ‬الربانية‭ ‬والأخلاق‭ ‬والمبادئ‭ ‬الإنسانية‭.‬

آدم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬وإبليس،‭ ‬كلاهما‭ ‬خرج‭ ‬عن‭ ‬طاعة‭ ‬الله‭ ‬وتعاليمه،‭ ‬وكلاهما‭ ‬مرتكب‭ ‬للذنب‭ ‬والمعصية،‭ ‬لكن‭ ‬الأوّل‭ ‬عصى‭ ‬واستغفر،‭ ‬أما‭ ‬الثاني‭ ‬فعصى‭ ‬وتكبّر‭. ‬وقد‭ ‬استطاع‭ ‬إبليس‭ ‬غواية‭ ‬السفهاء‭ ‬من‭ ‬الإنس‭ ‬والجن‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الكذب،‭ ‬وذلك‭ ‬بأنّ‭ ‬يُلبس‭ ‬الحقّ‭ ‬بالباطل،‭ ‬ويُزيّن‭ ‬الخبيث‭ ‬الذي‭ ‬حرّمه‭ ‬الله،‭ ‬حتى‭ ‬قال‭ ‬الجنّ‭: ‬{َوأنَّهُ‭ ‬كَانَ‭ ‬يَقُولُ‭ ‬سَفِيهُنَا‭ ‬عَلَى‭ ‬اللَّهِ‭ ‬شَطَطًا‭ (‬4‭) ‬وَأَنَّا‭ ‬ظَنَنَّا‭ ‬أَنْ‭ ‬لَنْ‭ ‬تَقُولَ‭ ‬الْإِنْسُ‭ ‬وَالْجِنُّ‭ ‬عَلَى‭ ‬اللَّهِ‭ ‬كَذِبًا‭ (‬5‭)‬ً}‭ (‬سورة‭ ‬الجن‭: ‬الآيتان‭ ‬4‭ ‬و5‭).‬‭ ‬لن‭ ‬ينتصر‭ ‬الشر،‭ ‬فإنّ‭ ‬للباطل‭ ‬جولة‭ ‬