مشاهدات واقعية بعيون عربية إلى أين ستذهب كوبا بالتغيير؟

ربما كان التجوال في «هافانا الصغيرة» مدخلاً للتعرف على كوبا الحقيقية عن قرب، وهذا ما حصل في الزيارة التي قمت بها قبل أشهر، انطلاقًا من مدينة ميامي الأمريكية الأقرب إليها وهي على مرمى حجر من الساحل، ويفصل بينهما البحر.

«little Havana» عبارة عن كوبا مصغرة، لكن على الطريقة الأمريكية، كل شيء فيها يتكلم لغة أهلها، من سائق التاكسي إلى المحلات الشعبية والمقاهي المنتشرة على جانبي الشارع الرئيسي إلى وجبات الأكل وتجمع كبار السن حول لعبة «الدومينو» التي يجيدونها ولم تفارقهم أينما رحلوا.
كوبا في عام 2018 تشبه ميامي في الستينيات، فقد كانت مرتعًا لآل كابوني، حيث كانوا يتخذون من فندق «ناسيونال» مقرًا لهم قبل ثورة كاسترو. شاهدته بصحبة سفير دولة الكويت محمد فاضل خلف، كيف بات اليوم من أهم الفنادق. كانت البلاد تعيش عصر المافيات والأثرياء والاحتكار، بل الملاهي والبارات الفخمة ترتادها مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة. كوبا فعلًا كانت كميامي الآن بشواطئها وفنادقها وسهراتها ونجوم العالم الذين يقصدونها ذاك العصر، أي في عهد الحاكم باتيستا في خمسينيات القرن الماضي، الذي انتهى ومن غير رجعة، صحيح أن هناك ما يعرف بـ «هافانا الصغيرة»، الذي كان حيا لليهود من قبل وهو في قلب ميامي، لكن الأمريكيين حولوها إلى ملجأ للمنفيين المناهضين للثورة ولكاسترو، وهم في نظر الكوبيين اليوم «خونة» باعوا بلادهم للأعداء، بل و«مرتزقة» كما يسميهم الإعلام الرسمي، ومن قتل منهم في عملية خليج الخنازير الذي دبره الأمريكيون للإطاحة بكاسترو تم تخليدهم بنصب تذكاري لا يزال قائماً حتى اللحظة.
 بين ميامي وهافانا مسافة لا تتعدى الـ 45 دقيقة بالطائرة، وهي تشكل لقسم كبير منهم الحديقة الخلفية للتجارة ولجلب المال أيضا، وكأنها خشبة الخلاص لعدد كبير من الكوبيين الساعين وراء تحسين مستوى معيشتهم.
 
داخل العاصمة القديمة
جولة داخل العاصمة القديمة كافية لأن تسترجع تاريخ كوبا وآثار الدول المستعمرة التي مازالت قائمة، بل تسمع من أهلها كلامًا يشير إلى أن ما بناه وتركه الإسبان والإنجليز والأمريكان هو جزء من تاريخهم وذاكرتهم حتى لو كان من صناعة الأعداء. 
هنا أبنية تراثية تروي لك قصصًا وحكايات منذ أن اكتشفها كريستوفر كولومبوس واستعمرها الإسبان، وصولًا للثورة والانقلاب على نظام باتيستا عام 1959.
وهنا البلد الوحيد تقريبا في العالم الذي تشاهد فيه سيارات التاكسي وهي تجول بالشوارع من موديلات الأربعينيات والستينيات.
من السهولة أن تجد ضالتك وتقف على أعتاب العهد الإسباني من خلال زيارة تقوم بها إلى القلعة التاريخية، ومنها مشهد استعراضي يومي يعاد فيه تاريخ المدينة يوم كانت محاطة ببواباتها الثماني. وتجمع كوبا مناطق سياحية وحدائق استوائية تحمي الطيور والحيوانات المنقرضة.
تنتابك الدهشة عندما تتجول في شوارع هافانا التي لا تعرف زحمة للمرور بلا هدوء، مع التزام صارم بالقوانين يفرض عليك احترام هذا الشعب الذي تآلف مع العقوبات التي فرضت عليه منذ أكثر من ستين عاما، فقد خلقت منه مجتمعًا منتجًا يعتمد على نفسه.
أوقفني المرافق بسيارته في أحد الشوارع، وإذ بصاحب سيارة تاكسي يركن جانبًا يقوم بإصلاح العطل الذي منعها من السير، كان رجلًا في الستينيات من العمر، بشوش وهادئ، والركاب داخل السيارة صامتون وملتزمون بالجلوس في أماكنهم، وما هي إلا دقائق حتى علت البسمة وجهه وراح يغني ويضحك، بعد أن تمكن من إصلاح العطل وأكمل طريقه بهدوء وسلاسة. 
غالبية المواطنين يستخدمون الباصات وهي بأسعار رمزية، وهذا السلوك مرتبط بمستوى الدخل المنخفض ومنع الاستيراد للسيارات المصنوعة منذ عام 2011 وما بعده.
وأنت تدخل قلب المدينة يسترعي انتباهك نظافة الشوارع وعدد الساحات المملوءة بالنصب التذكارية الموزعة على مختلف المناطق، ويقصدها عدد كبير من السياح الأمريكيين والأوربيين.

بيت الروائي همنجواي
هافانا مدينة هادئة لا تعرف الصخب، وفي الليل تشهد حركة غير عادية في الملاهي والبارات. 
سألني المرافق الذي يتكلم العربية جيدًا ويعمل مترجماً في سفارة دولة الكويت هناك فيما إذا كان عندنا استعداد لزيارة أهم مَعْلَم ثقافي في كوبا، وهو منزل الكاتب والروائي الأمريكي الشهير أرنست همنجواي، وبالفعل شددنا الرحال في اليوم الثالث للزيارة، للتعرف على هذا البيت الذي يبعد حوالي أربعين دقيقة بالسيارة من العاصمة ويقع على تلة مرتفعة تحيط به الأشجار من كل ناحية. 
همنجواي استقر في كوبا بأواخر الأربعينيات وحتى منتصف الستينيات، كل شيء كان يستعمله بقي كما هو. الحيوانات، الكتب، المطبخ، الصالون، تتنقل في المنزل من غرفة إلى غرفة وتطالع مقتنياته وعشقه للحيوانات الموزعة على الجدران. التقى الزعيم الكوبي فيدل كاسترو وكان من المعجبين به، كتب أهم الروايات التي اشتهر بها من هناك، ومنها «الشيخ والبحر» و«الثلوج في كمنجارو».

بلد السيجار
من الصعب أن تقاوم الدعوة لزيارة مصانع السيجار وأنت في بلد السيجار.
اتجهنا صباح أحد الأيام نحو أشهر المصانع التي تنتج السيجار، وتبعد عن المدينة القديمة حوالي 15 دقيقة بالسيارة، ويسمى PARTAGAS، ويعود تاريخ إنشائه إلى عام 1845 وبصحبة المرافق «أرنولد» الذي سبق أن عمل في هذا المصنع لمدة عشر سنوات ولديه معرفة كاملة بهذه الصناعة.
الدائرة التي يوجد فيها المصنع تحيط بها سيارات التاكسي ذات الألوان الزاهية، تصطف إلى جانبي الطريق بانتظار السياح لنقلهم إلى أماكن إقامتهم، ومن هنا أي من «سان كارلوس إيبرا ليفر» وقفنا مع مجموعة من السياح الأمريكان والإسبان والفرنسيين الذين توزعوا إلى مجموعات مع دليل يصطحبهم في جولة داخل المصنع.
كنت مع مجموعة من الناطقين بالفرنسية، اصطففنا إلى جانب الدليل السياحي الذي اشترط علينا عدم التقاط صور من الداخل، على المدخل صورة كبيرة للرئيس الراحل فيدل كاسترو تتصدر الواجهة، وهو يحمل السيجار الكوبي، من نوع Lancero Cohiba ومن الأنواع المفضلة لديه جداً تماماً كما رفيقه تشي غيفارا الذي يرغب بنوع آخر يدعى «مونتي كريستو».
سيدات يجلسن أمام أوراق التبغ الخاصة بصناعة السيجار، يقمن بعملية الفرز ويؤدين عملهن بدقة وانتظام، تتراقص أجسادهن أحياناً على صوت الموسيقى الذي لا يفارقهن.
وقفت الدليلة السياحية لتشرح أن كل شخص ينتج يومياً بحدود 150 سيجاراً، أما في المصنع ككل فالعاملون فيه يصل عددهم إلى 600 شخص بين موظف ومراقب فني.
وهؤلاء يصل إنتاجهم اليومي تقريباً إلى 20 ألف سيجار، تقوم الدولة بتصدير القسم الأكبر إلى الخارج، والباقي يذهب للسوق المحلي.
قد يكون من الصعب معرفة الرقم الإجمالي للإنتاج الكلي للسيجار، لكن من واقع عدد المصانع الخمسين التي يقدر إنتاج المصنع الواحد منها بين 10 آلاف و20 ألف سيجار، يمكن القول إن هناك 750 ألف سيجار تنتجها تلك المصانع باليوم، تدر على الدولة سنوياً حوالي 500 مليون دولار، يتم تصدير القسم الأكبر من هذه الكمية للخارج، حيث المنافسة الشديدة مع السيجار الذي تنتجه مصانع فلوريدا الأمريكية ونيكارغوا وهايتي وجامايكا، لكن تبقى الشهرة الأكثر رواجاً في الأسواق العالمية للسيجار الكوبي.
أكملنا الجولة داخل المصنع وشاهدنا مراحل الإنتاج بدءاً من الفرز اليدوي ثم التجميع واللف، وبعدها ينتقل إلى التغليف ووضعها في صناديق خاصة، وبمهارة فائقة أتقنها الكوبيون جيداً.
في نهاية كل سنة يقام مهرجان مفتوح لمصانع السيجار، حيث يلتقي المنتجون مع الوكلاء والجمهور، وهي مناسبة يتم الترويج فيها لأنواع جديدة تنزل الأسواق ويتهافت عليها الجميع، خاصة السياح الأجانب الذين يأتون لهذا الغرض.
من أشهر المدن التي تقام فيها مصانع السيجار: بينار دل ريو، وبنوعيات فخمة، وسانتا كلارا، وسانتياغو دي كوبا، وغيرها من الأماكن.
أما أكثر البلدان في العالم استهلاكاً للسيجار الكوبي، كما يتردد هنا، فهما لبنان وإسبانيا بحسب خبراء أجانب يعملون في هذا القطاع، وهؤلاء يشيرون إلى اسم أحد وكلاء السيجار الكوبي وهو محمد زيدان صاحب شركة فينيسا، لبناني ارتبط بعلاقات حميمة مع الرئيس فيدل كاسترو منذ زمن، وكان أول من قام بتسويق السيجار الكوبي بكل أنواعه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ الستينيات ولايزال.

بيت العرب ودعم الكويت
منذ وطأت قدماي مطار هافانا المتواضع وأنا أتساءل مع نفسي ماذا عن الوجود العربي في كوبا؟ وما هي الجاليات الأكثر تأثيرا أو عدداً ومتى أتوا إلى هنا؟ وعندما التقيت سفير الكويت في كوبا محمد خلف أرشدني إلى عدد من الأماكن والجمعيات وأوصى بزيارتها.
هناك أقلية من العرب والمسلمين، وهؤلاء يتم التعامل معهم على أساس أنهم كوبيون من أصل عربي، وقسم منهم تزوج من كوبيات واستوطن هناك والآخر تحول إلى الإسلام، وفي كل الأحوال لا يتعدى عددهم الألف مسلم من الكوبيين. 
في هافانا القديمة وفي شارع دومينسيوس يقع مسجد عبدالله مقابل «بيت العرب».
تحدثنا مع مدير هذا المركز، ويدعى ريغيو بيرتو، الذي اصطحبنا في جولة داخل أروقة «بيت العرب» الذي أنشئ عام 1983 والمبني على الطراز المعماري الإسلامي القديم، وقال: «يقصدنا السياح من معظم الجنسيات، نشرح لهم تاريخ المسلمين والحضارة الإسلامية، وهذا البيت يتلقى دعماً ومساعدة من دول عربية، وبالأخص من الكويت»، حيث تقام خيمة تبرعت بها دولة الكويت عن طريق المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وضع فيها نماذج من سفن الغوص وأدوات العيش التي استخدمتها القبائل، وافتتحت في مايو 2014 بمناسبة السنة العالمية للمتاحف.
يضم «بيت العرب» أجنحة خاصة بالسيوف وأخرى بلوحات فنية، ومنها اللوحة المشهورة لدخول المسلمين مدينة غرناطة عام 1492.

المسجد وخطبة الجمعة
أما مسجد عبدالله، فقد بني عام 2005 بتمويل من المملكة العربية السعودية، واتخذ هذا الاسم نسبة إلى قصيدة كتبها البطل الوطني الكوبي خوسيه مارتي تحت اسم عبدالله، وهو يرمز إلى الشجاعة العربية، فكان هذا الاختيار للربط بين الرمز الوطني والكوبي واسم عبدالله وبترشيح من مؤرخ مدينة هافانا الذي أشرف على بنائه، و«بيت العرب» يتبع لمكتب المؤرخ الحكومي الذي بدوره يتبع لمجلس الدولة، أي للرئاسة، يؤمه المسلمون وأعضاء السلك الدبلوماسي العربي والإسلامي العاملين في سفارات بلادهم هنا، أما خطبة يوم الجمعة فهي مشروطة بموافقة السلطات الرسمية مسبقاً، فقد وضعت ورقة مكتوبة باللغة العربية على مدخل المسجد، إضافة إلى لوحات تشرح الدين الإسلامي باللغتين الإسبانية والإنجليزية.

الرموز العربية
عملت هافانا على تكريم عدد من الرموز العربية، وفي عهود سابقة لها دلالاتها السياسية ومن منظورها الثوري، ومنهم تمثال لجمال عبدالناصر، أما المهدي بن بركة فقد وضع تمثاله على مدخل «منظمة التعاون مع شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية»، والتي أنشأها تشي غيفارا، وهذه المنظمة تقيم علاقات مع حركات التحرر التي تتماثل مع الكوبيين في مناهضة «الاستعمار الغربي».
جلسنا مع سيدة تبلغ من العمر 62 سنة وتدعى إيفا، تدير المنظمة، جاءت من قرية «فياكلارا» حيث رفات غيفارا، كان عمرها لا يتجاوز السبع سنوات عندما انطلقت الثورة الكوبية، ونجحت عام 1959 لتسقط نظام باتيستا الدكتاتوري و«العميل» لأمريكا. 
شرحت لنا هذه السيدة التي بدت عليها تجاعيد الزمن، ماذا تعمل المنظمة وكيف تسوق إنتاجها من بوسترات وإسطوانات وصور تخص كاسترو وغيفارا، وعبرَّت عن أمنيتها فيما تبقى لها من العمر، «برفع الحصار عنا وأن يبقى التعليم والصحة مجاناً كما هما الآن وإلى الأبد».

«الاتحاد العربي» ومشوار التأسيس
أكملنا جولتنا بالتعرف على «المركز الثقافي العربي - الكوبي»، الذي يقع في أهم شوارع المدينة القديمة والقريب من «مبنى الكابيتول»، وهو الشارع الذي تنبأ له الرئيس الأمريكي السابق أوباما عندما زاره، بأنه سيصبح «شارع الذهب» نسبة إلى موقعه والمستقبل الزاهر الذي ينتظره.
التقينا رئيس «الاتحاد العربي في كوبا» المهندس ألفريدو درويش، وهو من أصل فلسطيني جاء والده عام 1920 إلى كوبا ليحدثنا عن تاريخ الاتحاد الذي يخضع لأعمال الترميم وله ثلاثة فروع في عدد من المحافظات.
يقول إن المركز أسس عام 1997، والمبنى المجاور له كان مقراً للاتحاد الصهيوني أغلقته الحكومة بعدما خرج أثرياء اليهود من هنا إلى ميامي، حاملين معهم كل الأموال وحولته إلى مركز ثقافي عربي، وهو ما سبب السخط عليهم، أما الاسم فقد اختارته الحكومة، بعدما رأت أن العرب منقسمون ومشتتون، فقامت بتجميع الأندية اللبنانية والفلسطينية والسورية تحت اسم يجمع الكل وهو الاتحاد العربي، بعدما قطعت علاقاتها السياسية مع إسرائيل عام 1974 أثناء قمة عدم الانحياز بالجزائر.
ويندرج هذا الاتحاد تحت المنظمات غير الحكومية، ويعتمد على التمويل الذاتي والمساعدات التي تقدمها دول عربية يعمل فيها حوالي 50 شخصاً يخدمون أكثر من 50 ألف كوبي من أصول عربية.
وعن العلاقة مع الكويت، أوضح أنها أهدتهم مطبعة كاملة عن طريق السفير الأسبق بدر العوضي الذي كان يشجع السفراء العرب على دعمه، في حين أن المملكة العربية السعودية وليبيا قدمتا أيضاً مساعدات وتبرعات.

أهم الشخصيات العربية
في هذا المقر غرفة وضعت فيها أهم الشخصيات الكوبية من أصول عربية كانت لها مساهماتها ودورها في حروب التحرير، وفي الثورة تم تخليدهم، وهم فيلكس الموسى (فلسطين)، بيرو زيدان (سوري)، يوسف السيف (لبناني)، خوسيه بو حسن مارادي (لبناني)، الشيخ سعيد سلمان حسين عيسى (لبناني)، بيرو خوري (لبناني)، بترو خوري (لبناني)، ألفريدو جبور معلوف (لبناني)، أوفالدو نعمة (سوري)، فياض خميس (لبناني)، نيولا سعيد (لبنانية)، خاسنتو رزق (لبناني)، فرانديت (لبنانية)، وألبرتو دانييل (المغرب).

«بيروت» في قلب هافانا
زادنا الفضول إلى زيارة أحد المطاعم العربية ما سمعناه عن مطعم بيروت على لسان السفير خلف، الذي تعرف على صاحبه اللبناني الذي عاش وولد في الكويت، ويدعى هلال يونس.
ذهبنا إلى حيث يجلس في المطعم مرحباً بنا، وسط أجواء عربية، وزبائن يأتون إليه من كندا وأميركا خصيصا، لكونه المطعم العربي الوحيد الذي يقدم الأكل اللبناني والشاورما، فيقول: ابتكرت نوعًا جديدًا من الشاورما أسميته «سوتشي شاورما»، وهي مرغوبة جداً مع التبولة والحمص والفتوش ومشاوي اللحم.
جاء هلال يونس إلى كوبا أوائل التسعينيات قادماً من كندا، حيث يحمل جنسيتها، وكان يقوم بجولة سياحية في مدينة فيراديرو أعجبته تلك البيئة وقرر البقاء والعمل هنا.
تعلم الإسبانية وحصل على بيت، حوّله إلى مطعم هو الأول من نوعه على مستوى كوبا، عمره الآن لم يصل إلى السنة، معظم زبائنه من العاملين بالسفارات العربية والإسلامية. وحول السماح له بفتح مطعم قال: «هذا بيت أساساً، الحكومة تسمح لك بأن تستخدمه مطعما وبعدد محدود من الناس لا يتجاوز الخمسين شخصاً».
أن تأكل الشاورما والفلافل في كوبا، فهذا حلم كما يروي صاحب المطعم، لكنه تحقق على الأرض.
إلى جانب عمله في التجارة والمطاعم والشركات، يعمل على تسويق دواء كوبي يعالج الغرغرينا في الأرجل من خلال توكيله الذي يملكه في المنطقة العربية, ويقوم بزيارة عدد من الدول لهذا الغرض، وطوال الفترة التي أمضاها في كوبا، (أكثر من 25 سنة)، أقام علاقات جيدة مع الحكومة ومعرفة عميقة بالمجتمع والعادات القائمة.
يروي أبوهادي جانباً من سيرة حياته، فهو من مواليد الكويت عام 1965، ودرس بمدرسة الجميل، عمل أشقاؤه في الكويت، ثم ذهب إلى أمريكا لدراسة الفندقة والمطاعم ليعود إلى الكويت من جديد عام 1988 ويهاجر إلى كندا عام 1989.

أطباء كوبيون
جاليات عربية استقرت هنا، هاجرت أيام العهد العثماني وعلى أعتاب الحرب العالمية الأولى، هم اليوم يتمتعون بإقامات دائمة ويعاملون كمواطنين، فهم كوبيون من أصول عربية.
وتعمل كوبا على إرسال أطباء متخصصين إلى العالم العربي والخليجي، فهناك حوالي 200 طبيب يعملون في قطر وآخرون في الكويت، وهؤلاء يشكلون ثروة تعمل على تأهيلهم جيدًا في جامعاتها وهم قوة بشرية لا يستهان بها، فقد انتهت الترتيبات لإرسال مجموعة منهم إلى الجزائر مقابل عقد استيراد كميات من النفط لمدة 5 سنوات مع الجزائر، ليصح القول «النفط مقابل الأطباء».

الجالية اللبنانية ومساهمتها
وفي إطار الإلمام بجوانب الحضور العربي كان لا بد من زيارة السفير اللبناني لدى كوبا نمير نورالدين، بعد أن تعرفنا عليه بالحفل الذي أقامه السفير خلف تكريماً له ولسفيري مصر والسعودية، تبادلنا معه أحوال الجالية اللبنانية، فقد عمل قائماً بالأعمال في الأوروغواي والباراغواي، ثم وزارة الخارجية في بيروت، وفي السفارة هنا لمدة 5 سنوات، إلى أن تم تعيينه سفيراً لدى كوبا عام 2017 وهو يجيد التحدث باللغة الإسبانية منذ كان يدرس «هندسة الاتصالات وإدارة الأعمال في الاتحاد السوفييتي، ومن هنا تعرف على زوجته التي اصطحبها من أوديسا إلى هافانا بالباخرة، وفي رحلة استغرقت 18 يوماً.
ويقال إن الهجرة الأولى للبنانيين  تمت بعد الحرب العالمية الأولى وأغلب العائلات أتت من كسروان وغزير والبترون وعدد محدود من  الجنوب، ثم كانت الهجرة الثانية بعد انتصار الثورة الكوبية ومعظمهم طلاب جامعات تزوجوا كوبيات واستقروا هنا.
أغلب اللبنانيين استقروا في مدينة أولغين ويقدر عددهم اليوم بحوالي 40 ألفاً من أصول لبنانية، لكنهم باتوا مواطنين كوبيين عملوا في التجارة والمجوهرات، ومنهم من عاد إلى ميامي بعد الثورة وبالأخص أميليو اسطفان.
وأشار السفير نورالدين إلى أن التمثيل الدبلوماسي بين البلدين بدأ عام 1962، وكان لبنان ثاني دولة عربية بعد مصر تقيم سفارة لها في هافانا، أما أول قنصل فخري للبنان فهو ناتالي شدياق حتى قيام الثورة، وقد هاجر بعدها إلى أمريكا.
استعرض السفير أسماء عدد من الأصول اللبنانية الذين تبوأوا مراكز عالية وكانت لهم بصمات في مجال أعمالهم، منهم فياض خميس، الملقب بشاعر الثورة ضد الاستعمار الأمريكي، وبطرس خوري رئيس أهم معهد أبحاث للأمراض المدارية المعدية، وألفريدو معلوف جبور، وزير عدل سابق، وليفي فرح، وزير أشغال سابق، ومسؤول البعثة الكوبية في قطر والخليج العربي لويس نافع وشقيقه مانويل نافع رئيس قسم زراعة القلب في أهم مستشفى لزراعة القلب على مستوى أمريكا اللاتينية.

اتجاهات التغيير
في اليومين الأخيرين من الجولة، كان السؤال الذي يشغلني، إلى أين ستذهب كوبا بالتغيير؟ 
سؤال ليس بالبساطة التي يتخيلها البعض، فملامح التغيير يمكن الوقوف عليها، إذا ما تيسر للزائر التجول فيها، ولقاء شخصيات لها معرفة بالداخل وعلى اطلاع بما يحدث من تطورات.
وأنت تسير في شوارع هافانا، يلفت نظرك منظر تجمعات بشرية قرب الحدائق العامة، وفي محطات البنزين، وعندما تستفسر يأتيك الجواب، هنا يستطيع الناس استخدام الإنترنت (نقاط اتصال توزعها شركة الاتصالات، للتواصل مع العالم الخارجي بعد شراء بطاقات لهذا الغرض، تبلغ تكلفة الساعة حوالي دولار ونصف الدولار).
في السابق لم يكن مسموحا للمواطن الأمريكي بزيارة كوبا، اليوم أصبح زائرًا مرحبًا به، وإن تم تحديد الفئات وأنواع الزيارات في عهد ترامب، بعد أن أعاد أوباما التمثيل الدبلوماسي، وبالعكس بات بمقدور المواطن الكوبي السفر إلى ميامي مثلاً منذ عام 2010، بعد أن كان ممنوعا عليه ذلك منذ الثورة، من دون أن يتعرض لأي إجراء، وإن كان يتطلب منه الأمر الحصول على تأشيرة من سفارة كولومبيا هنا، أو عبر المكسيك ومن ثم الدخول إلى الأراضي الأمريكية للعمل.
هناك انتقادات تحدث داخل البرلمان لأداء الحزب الحاكم والحكومة، هي أشبه بمعارضة الداخل، لكنها معارضة مقبولة من السلطة، وفي هذا الإطار يشير المراقبون إلى تقبّل الحكومة لآراء عدد من الكتّاب، لم يكن مسموحًا لهم في السابق بنشر وتوزيع مؤلفاتهم، وعلى سبيل المثال كتاب لأشهر مؤلف كوبي، وهو ليوناردو بادورا الذي كانت كتبه تنشر في الخارج. 
أدخلت الدولة بعض التعديلات على القوانين, ومنها قانون الاستثمارات، وهذا من شأنه تشجيع رأس المال الأجنبي على العمل في كوبا وفق ضوابط وضعتها الحكومة. 
وهنا نلقي نظرة سريعة على موديلات السيارات في الشوارع، فقد عرفت البلاد أنواعا من السيارات الأوربية والآسيوية، وإن توقف استيرادها منذ فترة، حيث لم يكن متاحا لأحد شراؤها باستثناء الحكومة، وفيما يخص السيارات الأمريكية الصنع، فهي لم تدخل كوبا منذ 1962. 
أما في الأماكن السياحية فقد باتت المطاعم والحانات تدار من قبل المواطنين، وتعرض فيها سلع ومواد وأطعمة لم تكن متوافرة من قبل.
لكن هل تكفي تلك الملامح للقول إن التغيير قد حصل? أغلب الظن أن المسألة أصعب وأعقد من ذلك بكثير، فنحن أمام نظام مضى عليه أكثر من ستين عاما، كانت فيه الدولة هي كل شيء بالنسبة للمواطن، تقدم له التموين كل شهر (بطاقة تموينية) والصحة والتعليم، وكل الخدمات تقريبًا، وبالمجان، وتلك امتيازات يعيش عليها 12 مليون كوبي، وسيكون الأمر في غاية الصعوبة أن يتخلى عن ذلك النمط من العيش.
التغيير موجود، لكنه بطيء جدًا وقد يسير بالتدرج، وليس على الطريقة السوفييتية، أو كما حصل في بلدان اشتراكية، والبعض يتحدث عن التجربتين الفيتنامية والصينية وهما الأقرب إلى التغيير الكوبي، هناك تخوف حقيقي من أن تتحول كوبا إلى روسيا ثانية أو رومانيا أخرى، فالنظام ممســوك بإحكام، والمسألة تحتاج إلـــى تغييــر في الـSYSTEM، وهذا أمر غير محمود العواقب.
قد يبدو الإجماع على التغيير يتجه نحو تحسين المستوى المعيشي وليس في أي منحى آخر، فالدولة تعمل على إبعاد ما يعرف بـ «الكارتل» أي تجمع الاحتكار بيد مراكز أو أشخاص، وإن كانت ترغب في إشراك الشعب والأفراد بالملكية، وهذا فيه ضمانات للمستقبل وقد حصنت الناس وجعلتهم أقوياء، واهتمت بالتعليم والخدمات الصحية ووفرت لهم العيش الكريم، فقد رعى كاسترو شعبًا متعلمًا بإمكانات تجعله يعتمد على نفسه. 
خلق الحصار الذي خلقته أمريكا نوعا من التحدي وأوجد حالة من الاعتماد على النفس، فسيارة الشيفورليه موديل 1945 بقيت تعمل، تغلب على مصاعبها المواطن باستبدال الموتور بآخر ياباني، ومن الصعب أن تجد أطفالًا أو كبارًا يتسولون في الشوارع، بل صارت كوبا اليوم دولة مصدرة للأطباء، نظرًا إلى المستوى المتقدم الذي وصلت إليه في جامعاتها المنتشرة في أربع عشرة محافظة.
وقد نالت الدولة شهادة اعتراف من الأمم المتحدة بأنها نظيفة تماما من تشغيل الأطفال الصغار السن في مهن صعبة، إضافة إلى خلوها من أي نوع من الاتجار بالبشر. 
الناس وأجيال ما بعد الثورة، خصوصا الشباب يريدون التغيير، ربما، لكن ليس على حساب امتيازات ومكتسبات تحققت لهم على مدى الستين عاما، هم فقط يسعون نحو بحبوحة العيش، وتحسين أوضاعهم المادية، فقد سألت سائق تاكسي في مدينة ميامي الأمركية، بعدما عرفت أنه كوبي: لماذا جئت إلى هنا؟ قال: لدي بيت وسيارة أملكهما في بلدي، لكنني أسعى إلى جمع المال لأعود مرتاحًا إلى حيث نشأت. 

ماكدونالدز أمريكية
هناك حقيقة خوف من التغيير، فمزاج المواطن والرأي العام لا يستسيغان أبدًا أن تصبح بلادهم «ماكدونالدز» أمريكية، وبالتالي من الصعب أن تستجيب للتغيير على تلك الطريقة، فعامل الوقت لم يكن حجر عثرة في مواجهة الحصار الأمريكي، فقد تحدثت مع أحد المعاصرين لعهد الرئيس فيدل كاسترو، حيث يروي لي قصة معبرة، عندما التقى أحد الكبار، وكانت بلاده في أزمة مع إسبانيا عام 1988.
قال: «42 عاما عشنا دونهم، ليس لدينا مشكلة أن نعيش 40 سنة أخرى» للدلالة على مناعة وصبر الشعب، الذي يرتعد منه الظلم خوفًا، كما وصفه كاسترو يومًا. 
تتحدث التوقعات عن تغييرات بطيئة جدًا وقد تأخذ وقتًا طويلًا إن حصلت، والخوف من التغيير السريع والمفاجئ يعني خسارة كل شيء، وهذا لا يتمناه غالبية الكوبيين، «فا الفيداليسم» كما يسميها البعض، نسبة إلى الرئيس فيدل كاسترو جعلت الدولة في موقع الواثق بقدرته على جعل النظام قويًا ولديه ركائز هبت عليه عواصف وأعاصير جاءته من أمريكا، كأزمة خليج الخنازير عام 1961، استطاع الرد عليها، بل القضاء على أدواتها فـ «السيستم» محكم الإغلاق ومن فوق وبشكل كامل ■

رجل على شكل تمثال حقيقي لفت نظر المارة للتوقف عنده، وفجأة بدأ جسمه بالتحرك ليظهر على حقيقته

مبنى الكابيتول الكوبي، حيث بات مقصداً للسياح والطلبة

تجمع لمواطنين كوبيين يشاركون في قداس مفتوح غصت به الكنيسة فوقفوا خارجها ليؤدوا الاحتفال بشكل علني وهو 

أحد شوارع هافانا القديمة حيث مقر الاتحاد العربي الكوبي وهو الشارع الذي تنبأ به الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بأنه سيصبح شبيهاًً بالشانزليزيه الفرنسي

ريغيو بيرتو مدير مركز «بيت العرب» في  هافانا

سيدة كوبية ترتدي الزي الوطني مزينة بالحلي والمجوهرات وتضع السيجار في فمها بصورة استعراضية ويلتقط المارة صوراً معها