منهج الشك عند أبي عثمان الجاحظ

منهج الشك  عند أبي عثمان الجاحظ

يُعرّف الشك بكونه نقيض اليقين، وهو ضابط يحكم معطيات العقل، ويمنع من الاستسلام لمعطيات الحواس، ووسيلة لمعرفة الحقائق. 
وقد تنبه كثير من الباحثين المسلمين القدامى إلى أهمية الشك، خصوصاً ابن سينا في “الشفاء والتعليقات والمباحث الشرقية والإشارات والتنبيهات”، وابن الهيثم في “المناظر”، والإمام في “المنقذ من الضلال”. 

 

لعل‭ ‬أقدم‭ ‬الآراء‭ ‬التي‭ ‬تؤصل‭ ‬لمنهج‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬الأدبي‭ ‬العربي‭ ‬تعود‭ ‬لأبي‭ ‬عثمان‭ ‬الجاحظ‭ (‬255‭ ‬هـ‭) ‬صاحب‭ ‬المصنفات‭ ‬العديدة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬ضروب‭ ‬المعرفة‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬تكشف‭ ‬عنه‭ ‬آثار‭ ‬الجاحظ‭ ‬شيوع‭ ‬الروح‭ ‬المنهجية‭ ‬في‭ ‬ثناياها،‭ ‬ففكره‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬دقة‭ ‬الملاحظة‭ ‬وعمق‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬والتحليل‭ ‬والمقارنة‭ ‬والنقد،‭ ‬واللجوء‭ ‬إلى‭ ‬كشف‭ ‬المتناقضات‭ ‬والمغالطات‭ ‬في‭ ‬الأفكار‭ ‬المطروحة‭ ‬عليه‭. ‬

وقد‭ ‬توسل‭ ‬الجاحظ‭ ‬بالشك‭ ‬كآلية‭ ‬علمية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬موضوعية‭ ‬دقيقة،‭ ‬فالشك‭ ‬عنده‭ ‬يمثل‭ ‬منهجاً‭ ‬من‭ ‬مناهج‭ ‬البحث‭ ‬الذي‭ ‬يتأسس‭ ‬على‭ ‬أصول‭ ‬منطقية‭ ‬معينة‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬التسليم‭ ‬المطلق،‭ ‬ورفض‭ ‬الأجوبة‭ ‬والأحكام‭ ‬المسبقة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬معايير‭ ‬محددة،‭ ‬تقطع‭ ‬الصلة‭ ‬مع‭ ‬مظاهر‭ ‬الفكر‭ ‬التسليمي‭ ‬التي‭ ‬تسربت‭ ‬إلى‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬القديمة‭. ‬

لقد‭ ‬عُد‭ ‬الجاحظ‭ ‬مؤسساً‭ ‬لمنهج‭ ‬عقلي‭ ‬يؤمن‭ ‬بالاستدلال‭ ‬والحجاج،‭ ‬ويكشف‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬مجمل‭ ‬آرائه‭ ‬النظرية،‭ ‬التي‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬اختبارها‭ ‬وتطبيقها‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬والروايات،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الحيوان‮»‬‭. ‬

 

العوامل‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬منهج‭ ‬

الشك‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ

 

أثر‭ ‬البيئة‭ ‬الثقافية

شهد‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬الهجري‭ ‬حركية‭ ‬ثقافية‭ ‬وفكرية‭ ‬شملت‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬المجالات،‭ ‬وهي‭ ‬مرحلة‭ ‬اتسمت‭ ‬بالانفتاح‭ ‬على‭ ‬ثقافات‭ ‬الأمم‭ ‬الأخرى،‭ ‬كالثقافتين‭ ‬الفارسية‭ ‬والإغريقية‭. ‬

كما‭ ‬شهدت‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬غلياناً‭ ‬فكرياً‭ ‬ومذهبياً،‭ ‬‮«‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬سر‭ ‬عظمة‭ ‬الجاحظ‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أخذه‭ ‬عن‭ ‬أعلام‭ ‬مرحلته،‭ ‬وإلى‭ ‬انفتاحه‭ ‬على‭ ‬المجالس‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة‭ ‬في‭ ‬عصره،‭ ‬ومعايشته‭ ‬للحظة‭ ‬التجاذب‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬وبقية‭ ‬الأفكار‭ ‬الأخرى،‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬رصد‭ ‬مظاهر‭ ‬تحركات‭ ‬الطوائف،‭ ‬وتفاعلات‭ ‬المجتمع‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬مع‭ ‬تمثله‭ ‬لثقافة‭ ‬العصر‭ ‬في‭ ‬أبعادها‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وخوضه‭ ‬في‭ ‬معضلات‭ ‬عصره،‭ ‬وما‭ ‬يضطرب‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬نزاعات‭ ‬وتيارات،‭ ‬بجرأة‭ ‬فكرية‭ ‬لا‭ ‬تتأتى‭ ‬إلا‭ ‬لأمثاله‭ ‬من‭ ‬نوابغ‭ ‬العصور‭. ‬

أما‭ ‬عصره‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يضطرب‭ ‬بالمذاهب‭ ‬والنحل،‭ ‬وتصطرع‭ ‬فيه‭ ‬الأفكار‭ ‬والمناهج‭ ‬بأصولها‭ ‬المتعددة،‭ ‬وأشكالها‭ ‬المختلفة‭. ‬وهي‭ ‬لحظة‭ ‬تفاعلت‭ ‬فيها‭ ‬حضارة‭ ‬الإسلام‭ ‬مع‭ ‬الحضارات‭ ‬السابقة،‭ ‬وحصل‭ ‬تجاذب‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬العربية‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬ثقافات‭ ‬الأمم‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حركة‭ ‬الترجمة‮»‬،‭ (‬عباس‭ ‬أرحيلة،‭ ‬الكتاب‭ ‬وصناعة‭ ‬التأليف‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ‭). ‬

وقد‭ ‬أسهمت‭ ‬هذه‭ ‬التحولات‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬فكر‭ ‬الجاحظ،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أنه‭ ‬نشأ‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬البصرة‭ ‬التي‭ ‬امتازت‭ ‬بنزعتها‭ ‬العقلية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الميادين،‭ ‬ويظهر‭ ‬ذلك‭ ‬جلياً‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬التي‭ ‬انفتحت‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬وعلى‭ ‬اهتمامات‭ ‬عصره،‭ ‬فـ‭ ‬زالجاحظ‭ ‬دخل‭ ‬المعترك‭ ‬الثقافي‭ ‬حاملاً‭ ‬في‭ ‬تكوينه‭ ‬ثقافة‭ ‬القرون‭ ‬الثلاثة‭ ‬الأولى،‭ ‬ومتسلحاً‭ ‬برؤية‭ ‬منهجية‭ ‬ثاقبة‭ ‬وبقدرة‭ ‬على‭ ‬الجدل،‭ ‬وبكل‭ ‬ذلك‭ ‬دافع‭ ‬باستماتة‭ ‬عن‭ ‬مواقفه،‭ ‬وبهما‭ ‬صبغ‭ ‬ثقافة‭ ‬مرحلته،‭ ‬وجعلها‭ ‬مواكبة‭ ‬للتطورات،‭ ‬ومستوعبة‭ ‬للتحولاتس،‭ (‬عباس‭ ‬أرحيلة،‭ ‬الكتاب‭ ‬وصناعة‭ ‬التأليف‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ‭).‬

 

المذهب‭ ‬الاعتزالي

شهدت‭ ‬البصرة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬الهجري‭ ‬شيوع‭ ‬الفكر‭ ‬الاعتزالي‭ ‬الذي‭ ‬يتسلح‭ ‬بسلاح‭ ‬الفلسفة،‭ ‬والمنطق،‭ ‬وعلم‭ ‬الكلام،‭ ‬وأساليب‭ ‬الجدال‭ ‬والمناظرة،‭ ‬وقد‭ ‬أسهم‭ ‬المعتزلة‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الرؤى‭ ‬والأفكار‭ ‬والحلول‭ ‬حول‭ ‬قضية‭ ‬كانت‭ ‬تؤسس‭ ‬لفعل‭ ‬ثقافي‭ ‬جديد‭ ‬لتحل‭ ‬إشكالية‭ ‬العقل‭ ‬والمنطق‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬النقل‭ ‬والتسليم‭ ‬المطلق‭. ‬فقد‭ ‬‮«‬أخذ‭ ‬المعتزلة‭ ‬يعتبرون‭ ‬العقل‭ ‬معين‭ ‬المعرفة،‭ ‬وأنه‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يعلم‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الطبيعة،‭ ‬ولذلك‭ ‬أطلقوا‭ ‬له‭ ‬عنان‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المسائل‭ (...) ‬إننا‭ ‬نرى،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ذلك،‭ ‬كيف‭ ‬رفعوا‭ ‬العقل‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬القياس‭ ‬والدليل‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬العقيدة،‭ ‬واعتبروه‭ ‬حاسة‭ ‬سادسة‭ ‬في‭ ‬اكتساب‭ ‬المعارف‭. ‬وبما‭ ‬أن‭ ‬المعرفة‭ ‬الحقيقية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تفيد‭ ‬برد‭ ‬اليقين،‭ ‬وأن‭ ‬الشك‭ ‬مرحلة‭ ‬انتقالية‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬اليقين،‭ ‬فيتبين‭ ‬لنا‭ ‬كيف‭ ‬أنهم‭ ‬أدخلوا‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬منهج‭ ‬تفكيرهم‭ ‬وجعلوه‭ ‬الشرط‭ ‬الأول‭ ‬للمعرفة‭. ‬

ولقد‭ ‬قالوا‭ ‬إذن‭ ‬بسلطان‭ ‬العقل‭ ‬وحرية‭ ‬الإرادة،‭ ‬وحرروا‭ ‬بالتالي‭ ‬العقل‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬والوقوف‭ ‬عند‭ ‬ظاهر‭ ‬النصوص‭. ‬وهم،‭ ‬وإن‭ ‬اختلفوا‭ ‬في‭ ‬آرائهم،‭ ‬فإن‭ ‬ملامح‭ ‬حرية‭ ‬الرأي‭ ‬وتشريح‭ ‬المسائل‭ ‬ونقدها،‭ ‬حسب‭ ‬أصول‭ ‬مستقاة‭ ‬من‭ ‬المنطق،‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬نشاطهم‭ ‬الفكري‮»‬‭ (‬فيكتور‭ ‬شلحت‭ ‬اليسوعي،‭ ‬النزعة‭ ‬الكلامية‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬الجاحظ‭). ‬

لقد‭ ‬أعلى‭ ‬المذهب‭ ‬الاعتزالي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الشك‭ ‬وجعله‭ ‬منهجاً‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬اليقين،‭ ‬وقد‭ ‬نُقل‭ ‬عن‭ ‬الجبائي‭ ‬شيخ‭ ‬المعتزلة‭ ‬قوله‭: ‬‮«‬أول‭ ‬الواجبات‭ ‬هو‭ ‬الشك‭ ‬لتوقف‭ ‬القصد‭ ‬إلى‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ (...) ‬أن‭ ‬وجوب‭ ‬النظر‭ ‬والمعرفة‭ ‬مقيد‭ ‬بالشك‭ (...) ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬مقدمة‭ ‬للواجب‭ ‬المطلق‭ ‬بل‭ ‬للمقيد‭ ‬به‭ ‬كالنصاب‭ ‬للزكاة‭ ‬والاستطاعة‭ ‬للحج‮»‬،‭ (‬التفتازاني،‭ ‬شرح‭ ‬المقاصد‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الكلام‭). ‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬الجاحظ‭ ‬على‭ ‬مذهب‭ ‬الاعتزال،‭ ‬وله‭ ‬مواقف‭ ‬وآراء‭ ‬تبرز‭ ‬هذا‭ ‬الانتماء،‭ ‬وأثر‭ ‬هذا‭ ‬المذهب‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬جل‭ ‬مصنفاته،‭ ‬خصوصاً‭ ‬إعلاءه‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬العقل‭ ‬ورفضه‭ ‬للفكر‭ ‬التسليمي‭ ‬الانطباعي‭. ‬وقد‭ ‬أسهم‭ ‬بذلك‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬تيار‭ ‬أدبي‭ ‬وفكري‭ ‬ينبني‭ ‬على‭ ‬معطيات‭ ‬الفلسفة‭ ‬وعلم‭ ‬الكلام‭ ‬والمنطق‭ ‬والثقافة‭ ‬اليونانية‭.‬

 

التأثير‭ ‬الأرسطي

عُرف‭ ‬عن‭ ‬المعتزلة‭ ‬شغفها‭ ‬بالفلسفة‭ ‬والمنطق،‭ ‬واستفاد‭ ‬الجاحظ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العامل‭ ‬في‭ ‬تكوينه‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬البصرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قطباً‭ ‬فلسفياً‭ ‬وفكرياً،‭ ‬حيث‭ ‬ازدهرت‭ ‬فيها‭ ‬التيارات‭ ‬العقلية‭ ‬ونشطت‭ ‬حركة‭ ‬الترجمة،‭ ‬مما‭ ‬مكنه‭ ‬من‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬اليوناني‭ ‬ولاسيما‭ ‬تراث‭ ‬أرسطو‭. ‬

وقد‭ ‬أشار‭ ‬عباس‭ ‬أرحيلة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬اعتزالية‭ ‬الجاحظ‭ ‬سهلت‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬مسالك‭ ‬الثقافة‭ ‬اليونانية‭ ‬إلى‭ ‬فكر‭ ‬الجاحظ‮»‬‭. ‬

يقول‭ ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬‮«‬وأتت‭ ‬له‭ ‬الثقافة‭ ‬اليونانية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬علماء‭ ‬الكلام،‭ ‬ومشافهته‭ ‬لحنين‭ ‬بن‭ ‬إسحاق‭ ‬وسلمويه‭ ‬وأمثالهما‮»‬‭ ‬،‭ (‬أحمد‭ ‬أمين،‭ ‬ضحى‭ ‬الإسلام‭). ‬فـ‭ ‬‮«‬الجاحظ‭ ‬عرف‭ ‬التراث‭ ‬اليوناني‭ ‬لأنه‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الركام‭ ‬الحضاري‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬اصطدمت‭ ‬به‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬نهضتها‮»‬،‭ (‬عباس‭ ‬أرحيلة،‭ ‬الأثر‭ ‬الأرسطي‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬والبلاغة‭ ‬العربيين‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬الهجري‭).‬

‭ ‬فقد‭ ‬أسس‭ ‬الجاحظ‭ ‬منهجاً‭ ‬لإدراك‭ ‬اليقين‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬ومعايير‭ ‬محدد‭ ‬في‭ ‬التقاط‭ ‬الأخبار‭ ‬والمواضيع‭ ‬التي‭ ‬يعالجها،‭ ‬وأخذ‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الحيوان‮»‬‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬مختلفة‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عربي‭ ‬شفوي‭ ‬كمساءلة‭ ‬أصحاب‭ ‬الخبرة‭ ‬من‭ ‬الحرازين‭ ‬والحواءين‭ ‬والصيادين،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬شعري‭ ‬كبعض‭ ‬الأبيات‭ ‬التي‭ ‬قيلت‭ ‬عن‭ ‬الحيوان،‭ ‬ومنها‭ ‬أيضا‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مكتوب‭ ‬ومأخوذ‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬اليوناني‭ ‬ككتاب‭ ‬‮«‬الحيوان‮»‬‭ ‬لأرسطو‭ ‬وما‭ ‬خلّفه‭ ‬من‭ ‬مقولات‭ ‬فلسفية‭ ‬ومنطقية‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الجاحظ‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يكن‭ ‬جاهلا‭ ‬بوجود‭ ‬المنطق،‭ ‬فهو‭ ‬يذكر‭ ‬‮«‬كتاب‭ ‬المنطق‮»‬،‭ ‬ويطلق‭ ‬على‭ ‬أرسطو‭ ‬‮«‬صاحب‭ ‬المنطق‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬المنطق‭. ‬يقول‭: ‬‮«‬وهذه‭ ‬يونان‭ ‬ورسائلها‭ ‬وخطبها‭ ‬وعللها‭ ‬وحكمها،‭ ‬وهذه‭ ‬كتبها‭ ‬في‭ ‬المنطق‭ ‬التي‭ ‬جعلتها‭ ‬الحكماء‭ ‬بما‭ ‬تعرف‭ ‬السقم‭ ‬من‭ ‬الصحة‭ ‬والخطأ‭ ‬من‭ ‬الصواب‭...‬‮»‬‭ (‬عباس‭ ‬أرحيلة،‭ ‬الأثر‭ ‬الأرسطي‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬والبلاغة‭ ‬العربيين‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬الهجري‭).‬

 

أهمية‭ ‬الشك‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ

يحظى‭ ‬الشك‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ‭ ‬بأهمية‭ ‬قصوى،‭ ‬خصوصا‭ ‬أنه‭ ‬خص‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الحيوان‭ ‬بابا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬مواضع‭ ‬الشك‭ ‬واليقين‮»‬،‭ ‬مشيرا‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يقين‭ ‬قط‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬قبله‭ ‬شك،‭ ‬ولم‭ ‬ينتقل‭ ‬أحد‭ ‬عن‭ ‬اعتقاد‭ ‬إلى‭ ‬اعتقاد‭ ‬غيره‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬بينهما‭ ‬حال‭ ‬شك‮»‬‭.‬

‭ ‬ويعد‭ ‬الشك‭ ‬عند‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬الحيوان‮»‬‭ ‬من‭ ‬الأسس‭ ‬التي‭ ‬يرتكز‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬نقده‭ ‬وتمحيصه‭ ‬للأخبار‭ ‬والروايات،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يدعو‭ ‬صراحة‭ ‬إلى‭ ‬تعلم‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬العلمي،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬واعرف‭ ‬مواضع‭ ‬الشَّك‭ ‬وحالاتها‭ ‬الموجبة‭ ‬لها‭ ‬لتعرف‭ ‬بها‭ ‬مواضع‭ ‬اليقين‭ ‬والحالات‭ ‬الموجبة‭ ‬لـه،‭ ‬وتعلَّم‭ ‬الشَّك‭ ‬في‭ ‬المشكوك‭ ‬فيه‭ ‬تعلُّماً،‭ ‬فلو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬تعرُّف‭ ‬التَّوقُّف‭ ‬ثُمَّ‭ ‬التَّثبُّت،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬مما‭ ‬يُحتاج‭ ‬إليه‮»‬‭.‬

ولإبراز‭ ‬هذه‭ ‬المكانة،‭ ‬أورد‭ ‬الجاحظ‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الآراء‭ ‬التي‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬الشك،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭: ‬‮«‬قال‭ ‬ابن‭ ‬الجهم‭ ‬للمكيّ‭: ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أكاد‭ ‬أشك‭! ‬قال‭ ‬المكي‭: ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أكاد‭ ‬أوقن‭! ‬ففخر‭ ‬عليه‭ ‬المكيّ‭ ‬بالشك‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬الشك،‭ ‬كما‭ ‬فخر‭ ‬عليه‭ ‬ابن‭ ‬الجهم‭ ‬باليقين‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬اليقين‭. ‬وقال‭ ‬أبو‭ ‬إسحاق‭: ‬نازعت‭ ‬من‭ ‬الملحدين‭ ‬الشاك‭ ‬والجاحد‭ ‬فوجدت‭ ‬الشّكّاك‭ ‬أبصر‭ ‬بجوهر‭ ‬الكلام‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الجحود‭. ‬وقال‭ ‬أبو‭ ‬إسحاق‭: ‬الشاك‭ ‬أقرب‭ ‬إليك‭ ‬من‭ ‬الجاحد،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يقين‭ ‬قط‭ ‬حتى‭ ‬كان‭ ‬قبله‭ ‬شك،‭ ‬ولم‭ ‬ينتقل‭ ‬أحد‭ ‬عن‭ ‬اعتقاد‭ ‬إلى‭ ‬اعتقاد‭ ‬غيره‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬بينهما‭ ‬حال‭ ‬شك‭. ‬وقال‭ ‬ابن‭ ‬الجهم‭: ‬ما‭ ‬أطمعني‭ ‬في‭ ‬أوبة‭ ‬المتحيّر‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬اقتطعته‭ ‬عن‭ ‬اليقين‭ ‬الحيرة‭ ‬فضالته‭ ‬التبيّن،‭ ‬ومن‭ ‬وجد‭ ‬ضالته‭ ‬فرح‭ ‬بها‮»‬‭ (‬الجاحظ،‭ ‬الحيوان‭). ‬

إن‭ ‬الشك‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ‭ ‬منهج‭ ‬لا‭ ‬غاية،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬الشك‭ ‬لمحض‭ ‬الشك،‭ ‬ولا‭ ‬يقبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الشك‭ ‬كيفما‭ ‬اتَّفق‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬كلِّ‭ ‬أمرٍ‭ ‬على‭ ‬حدٍّ‭ ‬سواءٍ‭ ‬ولا‭ ‬بالطريقة‭ ‬ذاتها؛‭ ‬فهذا‭ ‬الشك‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬أبدا‭ ‬لمجرد‭ ‬الشك‭ ‬أو‭ ‬التشكك،‭ ‬بل‭ ‬سبيلا‭ ‬لليقين‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬يألف‭ ‬الشك‭ ‬يتعرض‭ ‬للهون‭ ‬والضلال‭. ‬إن‭ ‬الشَّك‭ ‬عنده‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬الشَّك‭ ‬المنهجي‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بايكون‭ ‬ورينيه‭ ‬ديكارت‭ ‬وغيرهما،‭ ‬فكل‭ ‬منهم‭ ‬أراد‭ ‬الشك‭ ‬طلبا‭ ‬للحقيقة؛‭ ‬الحقيقة‭ ‬الجلية‭ ‬الواضحة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬تفاوتاً‭ ‬في‭ ‬الدرجات‭. ‬وبهذا‭ ‬فإن‭ ‬الشك‭ ‬جلاء‭ ‬عملي‭ ‬وترجمة‭ ‬فعلية‭ ‬للعقل،‭ ‬وضرورة‭ ‬علمية‭ ‬وشرط‭ ‬كل‭ ‬بحث‭ ‬رصين،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬البشر‭ ‬ميالون‭ ‬بطبعهم‭ ‬إلى‭ ‬التحريف،‭ ‬والإنسان‭ ‬ليس‭ ‬معصوماً‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬مهما‭ ‬كان‭.‬

يؤكد‭ ‬الجاحظ‭ ‬ضرورة‭ ‬استخدام‭ ‬الشك‭ ‬باعتباره‭ ‬طريقاً‭ ‬من‭ ‬طرق‭ ‬البحث،‭ ‬ولتحقيق‭ ‬هذا‭ ‬المبتغى‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬قضية‭ ‬أساسية‭ ‬يعدها‭ ‬سلاح‭ ‬الباحث‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة‭ ‬اليقينية،‭ ‬وهي‭ ‬قضية‭ ‬‮«‬الإنصاف‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬تتخذ‭ ‬بعدين‭ ‬أساسيين‭:‬

الإنصاف‭ ‬الذاتي‭: ‬أي‭ ‬إن‭ ‬الباحث‭ ‬ملزم‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬منصفاً‭ ‬لنفسه،‭ ‬وهذا‭ ‬يقتضي‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬لذاته‭ ‬حجمها‭ ‬الطبيعي،‭ ‬فلا‭ ‬يضخمها‭ ‬لتأخذ‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬حجمها،‭ ‬ولا‭ ‬يتضاءل‭ ‬بها‭ ‬فيضعها‭ ‬دون‭ ‬مكانها‭.‬

الإنصاف‭ ‬تجاه‭ ‬ما‭ ‬يتلقاه‭ ‬الباحث‭ ‬من‭ ‬معارف‭: ‬وهذا‭ ‬يقتضي‭ ‬من‭ ‬الباحث‭ ‬أن‭ ‬يتهم‭ ‬أمرين‭ ‬في‭ ‬نفسه‭: ‬

‭- ‬أن‭ ‬يتهم‭ ‬أولا‭ ‬ما‭ ‬ألفه،‭ ‬لأن‭ ‬ألفة‭ ‬الشيء‭ ‬تجعله‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬صاحبه‭ ‬في‭ ‬منزلة‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬جدلاً‭ ‬أو‭ ‬شكاً‭. ‬

‭- ‬أن‭ ‬يتهم‭ ‬ثانياً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ميالا‭ ‬له‭ ‬بعاطفته‭ ‬أو‭ ‬بطبعه،‭ ‬لأن‭ ‬الهوى‭ ‬يكون‭ ‬مقارناً‭ ‬للميل‭ ‬وللعاطفة،‭ ‬ومنطق‭ ‬الهوى‭ ‬يجانب‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬منطق‭ ‬العقل‭. ‬

يقول‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭: ‬‮«‬وأنا‭ ‬أزعم‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬يحتاجون‭ ‬بداية‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬معرفة‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬إنصاف،‭ ‬وأول‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يبتدئ‭ ‬به‭ ‬صاحب‭ ‬الإنصاف‭ ‬أمره‭ ‬ألا‭ ‬يعطي‭ ‬نفسه‭ ‬فوق‭ ‬حقها،‭ ‬وألا‭ ‬يضعها‭ ‬دون‭ ‬مكانها،‭ ‬وأن‭ ‬يتحفظ‭ ‬من‭ ‬شيئين،‭ ‬فإن‭ ‬نجاته‭ ‬لا‭ ‬تتم‭ ‬إلا‭ ‬بالتحفظ‭ ‬منهما‭: ‬تهمة‭ ‬الإلف،‭ ‬والأخرى‭ ‬تهمة‭ ‬السابق‭ ‬إلى‭ ‬القلب‮»‬،‭ (‬الجاحظ،‭ ‬الحيوان‭). ‬

لم‭ ‬يكتف‭ ‬الجاحظ‭ ‬بالتنظير‭ ‬لمنهج‭ ‬الشك‭ ‬ووضع‭ ‬أسسه‭ ‬ومعالمه‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬تبنيه‭ ‬وتطبيقه‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الأخبار‭ ‬والروايات‭ ‬التي‭ ‬ترد‭ ‬إليه،‭ ‬سواء‭ ‬المسموعة‭ ‬أو‭ ‬المكتوبة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭. ‬

 

‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬صدق‭ ‬الروايات‭ ‬والأخبار

يعمد‭ ‬الجاحظ‭ ‬إلى‭ ‬أسلوب‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تشكيكه‭ ‬بصدق‭ ‬الراوي‭ ‬وذلك‭ ‬لإسقاط‭ ‬روايته،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كشف‭ ‬كذب‭ ‬هذا‭ ‬الراوي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬الكذب‭ ‬في‭ ‬صحة‭ ‬الرواية‭ ‬وبطلانها،‭ ‬ومن‭ ‬أمثلة‭ ‬ذلك‭: ‬شكه‭ ‬بأقوال‭ ‬طبيبين‭ ‬‮«‬زعما‭ ‬أن‭ ‬جيفة‭ ‬البعير‭ ‬أنتن‭ ‬الجيف‭ ‬وعزا‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬عصبيتهما‭ ‬على‭ ‬العرب‭ ‬وعلى‭ ‬المسلمين‮»‬‭. ‬

فقال‭ ‬‮«‬وزعم‭ ‬لي‭ ‬سلمويه‭ ‬وابن‭ ‬ماسويه‭ ‬مطببا‭ ‬الخلفاء‭ ‬أن‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬جيفة‭ ‬أنتن‭ ‬نتنا‭ ‬ولا‭ ‬أثقب‭ ‬ثقوبا‭ ‬من‭ ‬جيفة‭ ‬بعير،‭ ‬فظننت‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬وهمهما‭ ‬ذلك‭ ‬عصبيتهما‭ ‬عليه‭ ‬وبغضهما‭ ‬لأربابه،‭ ‬ولأن‭ ‬النبي‭ ‬‭[‬‭ ‬هو‭ ‬المذكور‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬براكب‭ ‬البعير‮»‬‭.‬

 

الشك‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬القصائد‭ ‬الشعرية

من‭ ‬بين‭ ‬القضايا‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬استأثرت‭ ‬باهتمام‭ ‬النقاد‭ ‬القدامى‭ ‬مسألة‭ ‬انتحال‭ ‬الشعر،‭ ‬وقد‭ ‬أدلى‭ ‬الجاحظ‭ ‬بدلوه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬متفحصاً‭ ‬ومشككاً‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬بعض‭ ‬القصائد‭ ‬والأبيات‭ ‬لقائليها،‭ ‬وقد‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬ولقد‭ ‬ولّدوا‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬خلف‭ ‬الأحمر‭ ‬والأصمعي‭ ‬أرجازاً‭ ‬كثيرة،‭ ‬فما‭ ‬ظنك‭ ‬بتوليدهم‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬القدماء‮»‬‭. ‬

ولهذا‭ ‬كان‭ ‬يعرض‭ ‬لبعض‭ ‬القصائد‭ ‬بالنقد‭ ‬ويثبت‭ ‬أنها‭ ‬لغير‭ ‬من‭ ‬نسبت‭ ‬له‭ ‬مستندا‭ ‬إلى‭ ‬حجج‭ ‬موضوعية،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬تعليقه‭ ‬على‭ ‬بيت‭ ‬للأفوه‭ ‬الأودي‭ ‬هو‭:‬

 

كَشِهَاب‭ ‬القذفِ‭ ‬يَرْمِيكُم‭ ‬بِه

فَارِسٌ‭ ‬فِي‭ ‬كَفِّهِ‭ ‬للحَرْب‭ ‬نَار

فيقول‭: ‬‮«‬وأما‭ ‬ما‭ ‬رويتم‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬الأفوه‭ ‬الأودي‭ ‬فلعمري‭ ‬إنه‭ ‬لجاهلي،‭ ‬وما‭ ‬وجدنا‭ ‬أحدا‭ ‬من‭ ‬الرواة‭ ‬يشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬مصنوعة،‭ ‬وبعد‭ ‬فمن‭ ‬أين‭ ‬علم‭ ‬الأفوه‭ ‬أن‭ ‬الشهب‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬قذف‭ ‬ورجم،‭ ‬وهو‭ ‬جاهلي،‭ ‬ولم‭ ‬يدع‭ ‬هذا‭ ‬قط‭ ‬أحد‭ ‬إلا‭ ‬المسلمون؟‭ ‬فهذا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬القصيدة‭ ‬مصنوعة‮»‬‭. ‬

لقد‭ ‬ناقش‭ ‬الجاحظ‭ ‬صحة‭ ‬نسبة‭ ‬القصيدة‭ ‬بمنطق‭ ‬الناقد‭ ‬الذي‭ ‬يمحص‭ ‬المعنى‭ ‬ويثبت‭ ‬أن‭ ‬المعنى‭ ‬الذي‭ ‬يشتمل‭ ‬عليه‭ ‬البيت‭ ‬هو‭ ‬معنى‭ ‬إسلامي‭ ‬ولم‭ ‬يسبق‭ ‬لأحد‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام‭ ‬أن‭ ‬أتى‭ ‬به،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬يعتبر‭ ‬القصيدة‭ ‬منحولة‭ ‬وأنها‭ ‬ليست‭ ‬لمن‭ ‬نسبت‭ ‬إليه،‭ ‬ويعزز‭ ‬أقواله‭ ‬بآراء‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬وصلوا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭. ‬

 

‭ ‬الشك‭ ‬فيما‭ ‬روي‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬عن‭ ‬أرسطو

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تأثر‭ ‬الجاحظ‭ ‬بالفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬عموماً‭ ‬والفكر‭ ‬الأرسطي‭ ‬خصوصاً،‭ ‬فإنه‭ ‬رفض‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬آراء‭ ‬أرسطو‭ ‬لأنها‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬التجارب‭ ‬التي‭ ‬أجراها‭ ‬ومشاهداته‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬الكائنات‭ ‬والظواهر‭ ‬الطبيعية‭. ‬فقد‭ ‬أخضع‭ ‬آراء‭ ‬أرسطو‭ ‬للبحث‭ ‬والتحليل‭ ‬والتجربة‭ ‬والاستفسار،‭ ‬فتوصل‭ ‬إلى‭ ‬آراء‭ ‬مخالفة‭ ‬للتي‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬أرسطو‭ ‬عن‭ ‬الحيوان‭. ‬

يقول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭: ‬‮«‬وقال‭ ‬صاحب‭ ‬المنطق‭: ‬ويكون‭ ‬بالبلدة‭ ‬التي‭ ‬تسمى‭ ‬باليونان‭ (‬طبقون‭) ‬حية‭ ‬صغيرة‭ ‬شديدة‭ ‬اللدغ،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تعالج‭ ‬بحجر‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬قبور‭ ‬قدماء‭ ‬الملوك،‭ ‬ولم‭ ‬أفهم‭ ‬هذا‭ ‬ولم‭ ‬كان‭ ‬ذلك؟‮»‬‭.‬

 

أسلوب‭ ‬الجاحظ‭ ‬في‭ ‬منهجه‭ ‬الشكي

استخدام‭ ‬صيغتي‭ ‬‮«‬زعم‮»‬‭ ‬و«قال‮»‬

إن‭ ‬آراء‭ ‬الجاحظ‭ ‬النظرية‭ ‬الكثيرة‭ ‬حول‭ ‬الشك‭ ‬كانت‭ ‬مدعمة‭ ‬بنماذج‭ ‬تطبيقية‭ ‬متناثرة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬فيها‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬أسلوب‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الشك،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬ينوع‭ ‬هذه‭ ‬الأساليب‭ ‬بتنوع‭ ‬الأخبار‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يوردها‭ ‬ويتناولها‭ ‬بالنقد‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يستفتح‭ ‬الأخبار‭ ‬المغلوطة‭ ‬أو‭ ‬الأسطورية‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬الخرافات‭ ‬والترهات‭ ‬بقوله‭ ‬زعم‭ ‬فلان،‭ ‬وزعموا،‭ ‬ثُمَّ‭ ‬يُعقِّب‭ ‬بتحليله‭ ‬ونقده‭ ‬بعقل‭ ‬راجح،‭ ‬ونظر‭ ‬صائب،‭ ‬وأسلوب‭ ‬سهل‭ ‬متدرج‭.‬

‭<‬‭ ‬التوقف‭ ‬والتريث‭ ‬في‭ ‬إصدار‭ ‬الحكم

من‭ ‬مظاهر‭ ‬هذا‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬أسلوبه‭ ‬التوقف‭ ‬والتريث‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬يرد‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬الأخبار،‭ ‬وما‭ ‬ينتهي‭ ‬إليه‭ ‬تفكيره‭ ‬من‭ ‬الحقائق‭ ‬والمعاني،‭ ‬وتراه‭ ‬مثلا‭ ‬يعيب‭ ‬من‭ ‬يجسر‭ ‬ويستهتر‭ ‬ويتسرع‭ ‬في‭ ‬قبول‭ ‬الأخبار‭. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬نقده،‭ ‬نستطيع‭ ‬تلمس‭ ‬كيف‭ ‬أنه‭ ‬يتوقف‭ ‬ويتريث‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬بخبر‭ ‬أو‭ ‬يصدقه‭. ‬فيروي‭ ‬لنا‭ ‬زعم‭ ‬بعضهم‭ ‬أن‭ ‬الزرافة‭ ‬خلق‭ ‬مركب‭ ‬من‭ ‬الناقة‭ ‬الوحشية‭ ‬وبين‭ ‬البقرة‭ ‬الوحشية‭ ‬وبين‭ ‬ذكر‭ ‬الضباع‭. ‬ثم‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الزعم‭ ‬ويحاول‭ ‬تعليل‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد‭ ‬الباطل‭: ‬‮«‬وذلك‭ ‬أنهم‭ ‬لما‭ ‬رأوا‭ ‬أن‭ ‬اسمها‭ ‬بالفارسية‭ ‬‮«‬اشتركاوبلنك‮»‬‭ ‬وتأويل‭ ‬‮«‬اشتر‮»‬‭ ‬بعير،‭ ‬وتأويل‭ ‬‮«‬كاو‮»‬‭ ‬بقرة،‭ ‬وتأويل‭ ‬‮«‬بلنك‮»‬‭ ‬ضبع‭... ‬فجسر‭ ‬القوم،‭ ‬فوضعوا‭ ‬لتفسير‭ ‬اسم‭ ‬الزرافة‭ ‬حديثا،‭ ‬وجعلوا‭ ‬الخلقة‭ ‬ضربا‭ ‬من‭ ‬التركيب‭ (...) ‬وهؤلاء‭ ‬وما‭ ‬أشبههم‭ ‬يفسدون‭ ‬العلم‭ ‬ويتهمون‭ ‬الكتب،‭ ‬وتغرهم‭ ‬كثرة‭ ‬أتباعهم‭ ‬ممن‭ ‬تجده‭ ‬مستهتراً‭ ‬بسماع‭ ‬الغريب،‭ ‬ومغرماً‭ ‬بالطرائف‭ ‬والبدائع‭. ‬ولو‭ ‬أعطوا‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الاستهتار‭ ‬نصيباً‭ ‬من‭ ‬التثبت،‭ ‬وحظاً‭ ‬من‭ ‬التوقي‭ ‬لسلمت‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الفساد‮»‬‭.‬

‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬يعزو‭ ‬الجاحظ‭ ‬فساد‭ ‬القياسات‭ ‬إلى‭ ‬قلة‭ ‬الشك،‭ ‬وإلى‭ ‬الجسارة‭ ‬في‭ ‬التمثيل‭ ‬والمقايسة،‭ ‬وإلى‭ ‬الاستناد‭ ‬إلى‭ ‬الظن،‭ ‬وتتجلى‭ ‬أيضا‭ ‬ظاهرة‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬منهجه،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وقوفه‭ ‬موقف‭ ‬الحذر‭ ‬الشديد‭ ‬مما‭ ‬يُنقل‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬الأخبار،‭ ‬وما‭ ‬تفيده‭ ‬الحواس‭ ‬ويفيده‭ ‬الاستدلال‭ ‬من‭ ‬المعارف‭. ‬

 

الشك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أسلوب‭ ‬التهكم

لقد‭ ‬اشتهر‭ ‬الجاحظ‭ ‬بأدب‭ ‬السخرية‭ ‬والفكاهة‭ ‬ونقْل‭ ‬الأخبار‭ ‬الغريبة‭ ‬والطريفة،‭ ‬ونقد‭ ‬بعضها‭ ‬والتشكيك‭ ‬في‭ ‬صحتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعليقات‭ ‬تهكمية‭ ‬تؤكد‭ ‬عدم‭ ‬تصديقه‭ ‬لها،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬تعليقه‭ ‬على‭ ‬الخبر‭ ‬التالي‭: ‬‮«‬‭... ‬ولكن‭ ‬العجب‭ ‬كل‭ ‬العجب‭ ‬ما‭ ‬ذكروا‭ ‬من‭ ‬إخراج‭ ‬ولد‭ ‬الكركدن‭ ‬رأسه‭ ‬واعتلافه‭ ‬ثم‭ ‬إدخال‭ ‬رأسه‭ ‬بعد‭ ‬الشبع‭ ‬والبطنة،‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬ذ‭ ‬أكرمك‭ ‬الله‭ ‬ذ‭ ‬لما‭ ‬أكل‭ ‬من‭ ‬نجو‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬بقي‭ ‬ذلك‭ ‬الولد‭ ‬يأكل‭ ‬ولا‭ ‬يروث،‭ ‬فهذا‭ ‬عجب،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يروث‭ ‬في‭ ‬جوفها‭ ‬فهو‭ ‬أعجب‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬خبر‭ ‬آخر‭ ‬يجهّل‭ ‬الجاحظ‭ ‬ناقليه،‭ ‬ثم‭ ‬يرد‭ ‬عليهم‭ ‬متهكماً‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬قلنا‭: ‬قد‭ ‬زعم‭ ‬ابن‭ ‬حائط‭ ‬وناس‭ ‬من‭ ‬جهّال‭ ‬الصوفية‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬النحل‭ ‬أنبياء‭ ‬لقوله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭: ‬‭{‬وَأَوْحَى‭ ‬رَبُّكَ‭ ‬إِلَى‭ ‬النَّحْلِ‭...‬‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬النحل‭ - ‬من‭ ‬الآية‭ ‬68‭)‬‭ ‬وزعموا‭ ‬أن‭ ‬الحواريين‭ ‬كانوا‭ ‬أنبياء‭ ‬لقوله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭: ‬‭{‬وَإِذْ‭ ‬أَوْحَيْتُ‭ ‬إِلَى‭ ‬الْحَوَارِيِّينَ‭}‬‭ (‬سورة‭ ‬المائدة‭ - ‬من‭ ‬الآية‭ ‬111‭)‬‭. ‬قلنا‭: ‬وما‭ ‬خالف‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬النحل‭ ‬أنبياء،‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬النحل‭ ‬كلها‭ ‬أنبياء‭ ‬لقوله‭ ‬عز‭ ‬وجل،‭ ‬على‭ ‬المخرج‭ ‬العام‭: ‬‮«‬وأوحى‭ ‬ربك‭ ‬إلى‭ ‬النحل‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يخص‭ ‬الأمهات‭ ‬والملوك‭ ‬واليعاسيب،‭ ‬بل‭ ‬أطلق‭ ‬القول‭ ‬إطلاقا‮»‬‭. ‬

ثم‭ ‬يعود‭ ‬الجاحظ‭ ‬إلى‭ ‬جدية‭ ‬الباحث‭ ‬فيدحض‭ ‬آراء‭ ‬الجهال‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬فإن‭ ‬كنتم‭ ‬مسلمين‭ ‬فليس‭ ‬هذا‭ ‬قول‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬المسلمين،‭ ‬وإلا‭ ‬تكونوا‭ ‬مسلمين‭ ‬فلم‭ ‬تحيلون‭ ‬الحجة‭ ‬على‭ ‬نبوة‭ ‬النحل‭ ‬كلاما‭ ‬هو‭ ‬عندكم‭ ‬باطل؟‮»‬‭.‬

إن‭ ‬الشك‭ ‬عند‭ ‬الجاحظ‭ ‬يمثل‭ ‬منهجاً‭ ‬للمعرفة‭ ‬عنده،‭ ‬وهو‭ ‬يقرر‭ ‬لهذا‭ ‬المنهج‭ ‬ملامح‭ ‬واضحة،‭ ‬تصلح،‭ ‬إذا‭ ‬نظمت‭ ‬وضمت‭ ‬أجزاؤها‭ ‬إلى‭ ‬بعض،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬نواة‭ ‬لنظرية‭ ‬للشك‭ ‬المنهجي‭ ‬تضاهي‭ ‬ما‭ ‬توصل‭ ‬إليه‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمفكرون‭ ‬من‭ ‬بعده‭. ‬والشَّك‭ ‬عنده،‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬البتة‭ ‬عن‭ ‬الشَّك‭ ‬المنهجي‭ ‬عند‭ ‬الإمام الغزالي‭ ‬والفيلسوف‭ ‬الفرنسي‮ ‬رينيه‭ ‬ديكارت،‭ ‬فكلُّ‭ ‬منهم‭ ‬أراد‭ ‬الشَّكَّ‭ ‬طلباً‭ ‬للحقيقة؛‭ ‬الحقيقة‭ ‬الجلية‭ ‬الواضحة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬تفاوتا‭ ‬في‭ ‬الدَّرجات‭.‬‭ ‬وقد‭ ‬تتبيَّنُ‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬النّقاط‭ ‬المهمَّة‭ ‬التي‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬أصالة‭ ‬الجاحظ‭ ‬وتجلو‭ ‬ملمحاً‭ ‬من‭ ‬ملامح‭ ‬عبقريَّته،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬الشَّكَّ‭ ‬لمحض‭ ‬الشَّك،‭ ‬ولا‭ ‬يقبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الشَّكُّ‭ ‬كيفما‭ ‬اتَّفق‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬كلِ‭ ‬أمرٍ‭ ‬على‭ ‬حدٍّ‭ ‬سواءٍ‭ ‬ولا‭ ‬بالطريقة‭ ‬ذاتها،‭ ‬وقـد‭ ‬أجرى‭ ‬الجاحظ‭ ‬تجارب‭ ‬ومعايناتٍ‭ ‬كثيرةً‭ ‬للتَّثبُّت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬معلومةٍ‭ ‬وردت‭ ‬إليه،‭ ‬أو‭ ‬لنفي‭ ‬خبرٍ‭ ‬تناهى‭ ‬إلى‭ ‬سمعه‭ ‬ولم‭ ‬يستسغه‭ ‬عقله،‭ ‬والأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬جدُّ‭ ‬كثيرة‭ ‬