محمد زفزاف كما عهدته
محمد زفزاف كما عهدته
شهادة حول أديب راحل: وداعا زفزاف.. في الخامس من شهر يوليو الماضي فقدت المغرب واحدا من أرق وأعذب أدبائها. إنه محمد زفزاف الذي كان علامة مميزة في الأدب المغربي الحديث. وكان بقامته النحيلة ولحيته الطويلة يمثل رعيلا من الأدباء وهب حياته لصناعة الكلمة ويعتبر الأب الروحي للعديد من أدباء المغرب. ومنذ أن أصدر مجموعته الأولى (العجوز والعصا) وقد تواصل إنتاجه وحصلت روايته (بيضة الديك) على وسام الأطلسي وهو أعلى تقدير في المغرب. إن العربي وهي تعزي محبيه وقراءه تنشر هذه الشهادة المليئة بالمحبة التي أرسلها القصاص المغربي هشام حراك قبل أيام قليلة من سفر زفزاف للعلاج في فرنسا وهو الرحيل الذي لم يعد منه. رحم الله زفزاف. الآن, انتهيت من كتابة قصة جديدة.. جدتها تكمن في زمن الكتابة, وأيضا في طبيعة الرؤية التي ينبغي لها أن تتطور ـ إن هي شاءت ذلك إلى الأمام ـ وفق منطق المكاشفة: منطق مساءلة التجربة بكل موضوعية وبعيدا عن أي ذاتية ممكنة لا يمكنها في نهاية المطاف سوى أن تقذف بصاحبها وبتجربته إلى الهاوية إن هو سايرها ذاتيا على حساب كل ما هو موضوعي.. على أي حال, في هذه اللحظة التي انتهيت فيها من كتابة هذه القصة, خطر ببالي الاتصال بالأستاذ محمد زفزاف الذي يحلو لي وصفه بالأب زفزاف مثلما يصر على مناداتي وزمرة من مجايلي من كتاب الجيل الأدبي الجديد بصفة: (وليدي) أو (بابا).. الاتصال به شيء ضروري لأطمئن عليه, ولأصل معه صلة الرحم الإبداعية, ولأستشيره في زيارة كنت أرغب في القيام بها إليه رفقة بعض الأصدقاء من نادي القصة.. أمد يدي إلى الهاتف.. أضع الرقم المطلوب.. (تن, تن, تن, تن...) حرارة الهاتف تؤكد أن زفزاف بصدد الحديث عبر الهاتف.. إذن, علي أن انتظر ربع ساعة ريثما ينهي حديثه.. أشغل نفسي بقراءة الجرائد.. يمر ربع ساعة إضافي, أضع الرقم المطلوب من جديد.. ثم: (تن, تن, تن, تن...). الخط مشغول مرة أخرى.. الكل يتصل بزفزاف.. انتشار خبر الألم الذي ألم به من جديد عبر الصحافة جعل العديد من الأوفياء لحبه لا يكفون عن الاتصال به.. هكذا خمنت وهكذا قلت لنفسي وأنا أعاود تصفح الجرائد من جديد.. يمر ـ إذن ـ وقت إضافي.. أضع الرقم المطلوب.. ثم: (تييييين... تيييين.... تيييين... تييييين).. هذه المرة هاتف زفزاف ليس مشغولا هكذا قلت لنفسي وكلي شوق وحنين لسماع صوت هذا الرجل من جديد.. صوت ذو نبرة خاصة ومتفردة لا يمكن أن توهب إلا لمبدع حقيقي مقتدر... (تيييييين... تييييييين.... تيييييين... تيييييين).. ثم بتواضع كبير: ـ آلو.. ـ آلو.. أستاذ زفزاف? ـ نعم, زفزاف. ـ هشام حراك من الرباط. على التو يرد الأستاذ بحب كبير وبنوع من الحرص على معرفة مستجدات كتاب الجيل الأدبي الجديد الذين لم يكن ـ حتى في حالة الألم والمرض ـ يتوانى ولو للحظة في متابعة أخبارهم ومستجداتهم كلما تطلب الأمر ذلك: ـ أهلا بابا.. على السلامة.. قل لي... كيف كانت الرحلة إلى ليبيا? ـ سافا (ca va) على العموم. بعد دردشة عن ليبيا وعن المشهد الثقافي والأدبي الليبي, وبعد سؤالي عن أحواله الصحية وعما قرأته بالصحف من مستجدات حولها, أخبرت الأستاذ برغبتنا في زيارته ورؤيته, وأخبرته باليوم والتوقيت المقترحين, ليجيبني على التو, ورغم ظروفه الصحية التي يجتازها وانشغاله باجراءات السفر إلى فرنسا لاستئناف العلاج: ـ طبعا بابا... سأكون في انتظاركم بالبيت في اليوم والتوقيت المعينين. ببيته, وكعادته معنا دائما, استقبلنا زفزاف بحفاوة بالغة وبكرم كبير.. لا شيء ينم على أن زفزاف يعاني من مرض معين, ولا شيء ينم على أن زفزاف قد انهار أمام مرضه: غرفة مرتبة بشكل جيد.. الهاتف القار والهاتف المتنقل موضوعان أمامه على البساط حيث يجلس.. كتب وأوراق وجرائد ومجلات ورسائل على السرير المجانب للمكان حيث يجلس على البساط.. قناة الـ (A.N.N) تبث برامجها, يذهب زفزاف إلى المطبخ, يأتينا بالمشروبات, قلت لنفسي وأنا أتأمل الرجل: (هكذا هم المبدعون الحقيقيون, لا شيء يغلبهم ويجعلهم ينهارون حتى وإن تعلق الأمر بالمرض والألم), يجلس, نسأله عن أحواله, يخبرنا أنه سيسافر في بحر نفس الأسبوع إلى فرنسا لاستئناف العلاج, يسألني عن ملتقى ليبيا الأدبي, يتشعب الحوار نحو مواضيع أدبية وثقافية أخرى, يرن الهاتف, يرد زفزاف, (نعم.. أنا بالبيت.. يمكنكم المجيء الآن), تمر بضع لحظات, يرن جرس البيت, يقوم زفزاف من مكانه, يفتح الباب, نسمع, من داخل الغرفة, ترحيبه كالعادة بضيوفه, يلتحقون بنا, يعرفنا إلى بعضنا البعض, ثلاثة مبدعين شباب جاءوا لطلب المشورة, وطبعا ـ وكالعادة ـ زفزاف كان في الموعد, ولم يبخل عليهم مثلما لم يبخل علينا بنصائحه السديدة. في طريقي إلى الرباط, تذكرت ـ من شدة تركيزي على أحاديث الأستاذ ـ أنني نسيت هاتفي المتنقل على مائدته, كان يستحيل علي أن أعود حيث أتيت, قلت إن هاتفي قد يزعج زفزاف كلـما رن, عتبتـني على النسـيان, قلت لا بأس, في اليوم التالي سيتوقف الجهاز عن الاشتغال من تلقاء نفسه لأن طاقته ستنفد, هاتفته في صباح اليوم التالي: (تيييييين.. تييييين.... تيييييين.... تيييييين), الخط ليس مشغولا, لكن ليس هناك من مجيب.. من الأكيد أنه مشغول بإجراءات السفر, نفس الأمر تكرر في صباح اليوم التالي, لكن في ظهيرة نفس اليوم كان الأمر مختلفا: (تيييييييين.. تيييييين.... تيييييين... تيييييين), ثم: ـ آلو... ـ آلو... أستاذ زفزاف? ـ نعم, زفزاف. ـ هشام حراك. ـ أهلا بابا.. من أين تتكلم? ـ من الرباط.. أعتقد أنني نسيت هاتفي المتنقل في بيتكم.. أرجو ألا يكون قد أزعجكم برنينه. ـ لا... لا... ليس هناك أي إزعاج بابا.. يمكنك المجيء في أي وقت لتأخذه.. فقط أخبرك أنني سأسافر بعد غد في اتجاه فرنسا.
|