الهوية الخليجية... وأسوار المناعة
استضافت دولة الكويت في شهر سبتمبر عام 2016، ندوة نظمتها وزارة الإعلام الكويتية، حول الهوية الوطنية في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وآليات ترسيخها مع شرح معانيها، وجاءت تلك المبادرة من الشعور العام الذي تسيده القلق من اتساع دائرة الإرهاب الذي أفرزه التطرف الديني متمثلاً في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد أن استطاع احتلال مدينة الموصل، ثاني مدن العراق، وفرض الحكم الشديد التطرف على تلك المدينة المتميزة في تنوع مشارب سكانها وأعراقهم وديانتهم وتوجهاتهم الحياتية.
ساهمت شخصياً في تلك الندوة، لأنني شعرت منذ قيام مجلس التعاون في عام 1981 باهتمام القادة بتعميق الهوية وحمايتها من تسلل النزعات الغريبة على المجتمع الخليجي، انسجاماً مع تاريخ خليجي لم يستوعب التدخلات الخارجية، من خلال حملات البرتغال وهولندا وفرنسا التي جاءت من أوربا، كما قاوم هجمات الجوار الفارسي وهزمها بالصلابة المتشددة، ليس ضد النفوذ الفارسي بل مقاومة للتأثيرات الفارسية التي يمكن لها أن تتسلل إلى البيئة الخليجية وتترك مظاهر لا تقبلها الذاتية الخليجية.
كانت هناك محاولات كثيرة من الدولة العثمانية للتأثير وصبغ الحياة الخليجية بالطابع العثماني، سواء في سلوك الفرد أو التوصل إلى المكونات الثقافية داخل هذه المجتمعات.
ولم تتوقف هذه المساعي إلا بعد اليقين بأنها لن تتوغل لا في جغرافية الخليج ولا في ذاتية أفراده.
وقد ساعدت التفاهمات الخليجية – البريطانية وتوّجت باتفاقيات تعاون وحماية منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث قام ائتلاف خليجي - بريطاني تتعهد فيه بريطانيا بإبعاد التحرشات والتدخلات الخارجية مقابل تعاون خليجي في محاربة القرصنة، ورفض خليجي للرغبات الخارجية المختلفة للوجود داخل الحوض الخليجي العربي.
وبهذا التوافق تم تأمين السلامة الخليجية من نفوذ الدخلاء، وتبنت بريطانيا نهج الحماية من دون تدخلات في الشأن الداخلي ومن دون مس بمرتكزات الشخصية الخليجية.
ومع استقلال دول الخليج تجدّدت محاولات التدخل من أطراف عربية وجدت في التحولات التي شهدتها المنطقة بعد اكتشاف النفط واكتمال استقلال الدول الخليجية مناخاً يغري لبناء علاقات متعددة الجوانب مع المجتمعات الخليجية، ليس فقط في علاقات رسمية محددة، وإنما في تدخلات واسعة ناقلة ألواناً من النظريات السياسية وتنوعات ثقافية وتوجهات فكرية بعيدة عن الطباع الخليجية، فسعت الأحزاب بمختلف الوسائل إلى التسلل وبناء فروع وقواعد لها، كما سعت الأنظمة العربية الراديكالية إلى تحويل المنطقة إلى كتلة خليجية مساندة لسياسات عربية لا تتفق بالضرورة مع الموروث الخليجي.
ولم تذعن دول الخليج للمفاهيم الأيديولوجية التي تريد الأحزاب العربية زرعها في مجتمعاتها، فقد أظهرت صلابة في التصدي، وحازت النصر في الحفاظ على الانسجام الاجتماعي المتوارث الذي يشكل عموداً قوياً في وحدة الهوية.
لكن ذلك لم يوقف التحرشات القومية الراديكالية، التي تريد الاستيطان في المنطقة والتي أفرزت في سبعينيات القرن الماضي مناخاً خليجياً مشوباً بالشك والريبة من الاستراتيجية الحزبية العربية، لاسيما من العراق وسورية وليبيا ومن توابعها من أحزاب وتجمعات عربية صغيرة.
وتصاعد الحس الخليجي بضرورة التكتل لإبعاد الأساليب الغريبة التي تريد الأحزاب تصديرها إلى الخليج، لاسيما بعد أن تزامنت واقعتان كان لهما الدور المؤثر في قيام مجلس التعاون:
الأول: توقيع الرئيس المصري الراحل أنور السادات على اتفاقية السلام مع إسرائيل في مارس 1979، وانقسام الدول العربية حولها، وبروز الدور العراقي - السوري - الفلسطيني في تشكيل تكتل عربي يعمل على إجهاض مساعي الصلح التي يتولاها السادات، وتوصلت إلى عقد قمة في بغداد تتولى مهمة التعامل مع مصر، بمبادرة مالية سياسية، وإذا فشلت فالمواجهة هي البديل.
وتولت بغداد إعلان التعبئة العربية وجندت كل ما لديها من تأثير لاستحضار عربي جماعي رافض لمساعي السادات.
وكانت الخطة الكبرى هي ضمان المشاركة الخليجية ذات الرصيد الدبلوماسي العالمي الطيب، بالإضافة إلى ما تملكه من أرصدة مالية يمكن توظيفها للحملة ضد السادات.
وعندما التقى وزراء الخارجية العرب في بغداد عام 1979، لاستكمال جدول الأعمال، كانت نبرة التسلط العراقي على الأجواء واضحة وبقوة، بما فيها اللجوء إلى اللغة الخشنة المصحوبة بالتهديد بالإضرار في حالة الإحساس بالتردد الخليجي.
وتسيد مؤتمر بغداد نوع من دبلوماسية التوحش التي توظف أي شيء للوصول إلى الهدف، وسربت أوراق تحمل تهديدات إلى غرف الوفود الخليجية، وبالرغم من خروج مؤتمر القمة بنقل الجامعة العربية إلى تونس وفرض مقاطعة على مصر وسحب السفراء وموافقة دول الخليج على هذه الإجراءات، فإن المزاج الخليجي كان مستاء من الألاعيب التي فرضت وقاحة التصرف بالتلويح بالتخريب، وقد حدث ما كانت تتوجس منه عواصم الخليج.
الثانية: انفجار الثورة في إيران وخروج الشاه وقيام جمهورية إيران الإسلامية، تحت قيادة المرشد الأعلى آية الله الخميني، بمشروع راديكالي طائفي يسعى لبناء قواعد طائفية له في المنطقة بما فيها دول الخليج، مع محاولات بسط نفوذه عبر توسلاته لشرائح طائفية داخل المجتمعات الخليجية، كل ذلك أقنع قادة الخليج بضرورة التلاقي السريع لمواجهة هذه المخاطر التي تسعى لتخريب قواعد الاستقرار وتمس وحدة المجتمع الخليجي وتخريب انسجامه.
وبدأت الخطوات لتشكيل إطار خليجي يمكِّن دول الخليج من حشد قواها للتعامل مع المخاطر بأسلوب جماعي، ومع تواصل اللقاءات توافرت الإرادة الخليجية في اجتماع عقده القادة بمدينة أبوظبي في 24 مايو عام 1981، حيث تم التوقيع في ذلك اللقاء على وثيقة قيام مجلس التعاون، ينهض بمسؤوليات الحفاظ على سلامة الدول الأعضاء ويصون هويتها ويحمي تراثها ويقي تقاليدها ويوحد مشاعرها في إطار يكون عنواناً للهوية الخليجية الجماعية.
وينص النظام الأساسي لمجلس التعاون أن تعمل دول الخليج على التعاون في ما بينها في المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتكاملها وصولاً إلى وحدتها.
ومن هذا الهدف الكبير انطلق المجلس ليصون التراث ويبرز حقائق الخليج ومن أهمها الشرعية التاريخية للأنظمة الحاكمة التي لم تأت من خارج الخليج وإنما انبثقت من تراب الوطن، وتداخلت مع شعوبها في مسار تاريخي طويل أبعد الدخلاء وبنى طوقاً ضد محاولات العبث في مضمون الشخصية الخليجية.
وصار المجلس الجديد الوعاء الذي يحتضن جهود دول الخليج لتنظيم حياتها وخط أولوياتها ورسم مستقبلها مستندة إلى الأهداف التي جاءت في النظام الأساسي وتراكم الجهد الجماعي المتنوع، فالتعاون الاقتصادي تمثل في قرار القمة بتفويض وزراء المالية في صوغ اتفاقية اقتصادية تكون جاهزة للتوقيع في شهر نوفمبر عام 1981، في القمة الثانية، وعند لقاء القادة في الرياض كانت صيغة الاتفاقية أمامهم، حيث تم التوقيع، وحولت إلى وزراء المالية لتنفيذ محتوياتها.
ولم يكتف القادة بذلك وإنما تم الاتفاق على إرسال وفد عسكري جماعي إلى سلطنة عمان لتقويم المخاطر الصادرة من جمهورية اليمن الجنوبي ضد استقرار السلطنة، وبذلك اكتملت المسارات التي تشكل السد الفعال ضد خطوات الاختراقات التي تسعى لها كل من راديكالية إيران والراديكالية العربية.
ولم يتجاهل القادة في لقائهم الأول عام 1981 انفجار الحرب العراقية – الإيرانية في سبتمبر عام 1980، حيث أرسل القادة وفداً خليجياً إلى العراق للتداول في ضرورات وقف الحرب، واتخذ القادة القرار الاستراتيجي بأولوية وقفها لأنها تهديد لجميع الفرقاء في المنطقة وتترجم إيمان القادة بحل القضايا بالوسائل السلمية والمفاوضات.
هذه المساعي مرآة تعكس قلق القيادة من أبعاد الحرب ليس فقط على أمن المنطقة وإنما على هويتها المميزة، صلب المناعة الخليجية ضد التسلل.
ولذلك ليس غريباً أن يتولى أمير الكويت سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح رئاسة اللجنة السباعية العربية التي شكّلتها الجامعة العربية وقتها في تونس لمساعدة العراق على تحقيق وقف إطلاق النار في حربه مع إيران بعد موافقته على قرار مجلس الأمن حول ذلك.
ومن الملاحظ أن مجلس التعاون في انطلاقه للحفاظ على الهوية الخليجية بنى خريطة شاملة تتداخل في محتوياتها الدبلوماسية والعلاقات النفطية، والارتباطات الاقتصادية، والمشاركة في التنمية الاقتصادية العالمية، والوجود في مؤسسات القرار العالمي الجماعي.
ومن الملاحظ سيطرة الاعتدال والنزعة السلمية على الدبلوماسية الخليجية، فغرست في أجواء العالم الظاهرة الأخلاقية في العمل الدبلوماسي التي تتحلى بحسن النوايا والسمعة العالمية والاقتناع بجدوى الحوار والوجود الإيجابي داخل المؤتمرات والمنظمات الإقليمية والعالمية، وانطلقت لكسب أصدقاء من دون خسارة وبلا خصوم.
ولعل المتابع للسلوك الخليجي الرسمي يتعرف على الثوابت التي يلتزم بها مجلس التعاون، والتي تتكون من عناصر عابرة للحدود، ودائماً تتوافق مع الإجماع العالمي، ومثال على ذلك نقدم بعض هذه العناصر:
أولاً: الإصرار الخليجي على الوجود الفعال في الائتلاف العالمي ضد التطرف والإرهاب، أينما كان، وانسجاماً مع هذا المنطق، تلاحق دول الخليج محطات الإرهاب في العراق وسورية وجميع البقاع إقليمياً وعالمياً، وتتميز المشاركة بالإسهام الملموس الذي يتجاوز الموقف السياسي.
ثانياً: الالتزام بالسلوك الدبلوماسي المعتدل في جميع القضايا الدولية والتداخل مع الدبلوماسية العالمية بالحضور الإيجابي والقرار المنسجم مع المصالح الجماعية من دون مبالغات أو تهويل ومن دون اعتراضات تؤثر على السمعة الدولية الحسنة التي يتمتع بها مجلس التعاون.
ثالثاً: انسجام دول المجلس مع التوجهات العالمية في المتابعة لحقوق الإنسان والمختصة بمراقبة الالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمشاركة في عضوية المفوضية العالمية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ومقرها جنيف.
رابعاً: يلاحظ تكثيف التنسيق والتكامل في مساري الأمن والدفاع, ليس فقط بين الدول الأعضاء، وإنما في تقوية الروابط مع الشركاء الاستراتيجيين وأبرزهم الولايات المتحدة وبريطانيا, وقد شهدت مملكة البحرين أخيراً تدشين القاعدة البحرية البريطانية لتضيف آلية فاعلة في مضمون الردع الخليجي.
كما يلاحظ أيضاً اتساع النشاط والتحرك في التعاون الثقافي بين الدول اعتماداً على أن للثقافة دوراً مميزاً في ربط الهوية وفي صون التراث وفي إحياء كل ما يضيف إلى الهوية الخليجية من فنون وتقاليد مع الفلكلور الشعبي الذي يتميز به المجتمع الخليجي، ومسابقات شعرية باللهجة المحلية أو بالشعر الفصيح، وتنظيم منافسات دورية لسباق الهجن والخيل بحضور كثيف.
وانسجاماً مع هذا الواقع, كثفت دول الخليج جوانب نشاطها الثقافي في الداخل والخارج وبعثت الفرق الفنية إلى مختلف العواصم حاملة التراث الخليجي الموحد، كما نظمت المعارض الفنية واللوحات المعبرة عن البيئة الخليجية.
كما تحركت مشاعر المواطنين الخليجيين في تنظيم دورات ثقافية وفكرية في العواصم العربية وفي مراكز الثقافة بالجامعات العالمية العريقة، مدفوعين بالرغبة في تعريف الرأي العام العالمي، بكل جوانبه، بواقع الثقافة في دول المجلس ودورها في وقاية الهوية الوطنية.
وأخيراً، فإن الإشارة إلى ما استجد في المحتوى الثقافي متمثلاً في قاعات ومراكز ثقافية حديثة تم افتتاحها في سلطنة عمان ودبي والكويت، تؤكد الإيمان الراسخ بالحفاظ على الهوية الخليجية لاسيما مع زيادة الحس الشعبي الذي يتخوف من تأثير الجاليات المختلفة التي تعمل في دول الخليج، التي تكاثرت وبدأت تنشط في استعراض ثقافتها، ما أدى إلى تعاظم الشعور الوطني بتنشيط التلاقي الخليجي الجماعي، من أجل تبني إجراءات تحمي التراث الداخلي وتبعده عن تسلل المفاهيم الغريبة وتأثيراتها على مرتكزات الممانعة الخليجية.
فمن هذه الهوية الخليجية تنبع القوة الذاتية للدول الخليجية, ومنها تترسخ السيادة وتتعمق الحدود وتبقى الخصوصيات التي هي العنوان الدائم لدول الخليج.