في الرقابة والحرية

في الرقابة والحرية

‮«‬صحيحٌ‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حرية‭ ‬لم‭ ‬تصنع‭ ‬عقلاً‭ ‬كبيراً‭ ‬وليبرالياً،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬بمقدورها‭ ‬أن‭ ‬تصنع‭ ‬داعية‭ ‬ذكياً‭ ‬لقضية‭ ‬ما‮»‬‭. 

(جون‭ ‬ستيوارت‭ ‬مل)‭.‬

اعتدنا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬يقام‭ ‬فيها‭ ‬معرض‭ ‬الكتاب‭ ‬وجود‭ ‬قائمة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬الممنوعة،‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬التحفظ‭ ‬عليها‭ ‬لأسباب‭ ‬شتى‭. ‬فأصبحت‭ ‬قوائم‭ ‬الكتب‭ ‬الممنوعة‭ ‬شيئاً‭ ‬اعتيادياً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬سنة‭ ‬يقام‭ ‬فيها‭ ‬المعرض‭. ‬بل‭ ‬إننا‭ ‬لا‭ ‬نبالغ‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬إن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الكتب‭ ‬الممنوعة‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬جزءاً‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفعالية‭ ‬الثقافية‭ ‬السنوية‭. ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬والمثقفين‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬القراء‭ ‬العاديين‭ ‬يبدون‭ ‬تذمرهم‭ ‬حيال‭ ‬المنع،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬الاعتراضات‭ ‬حول‭ ‬منع‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬تستبطن‭ ‬فكرة‭ ‬المنع‭ ‬ذاتها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عدم‭ ‬قبولها‭ ‬بتبعات‭ ‬إلغاء‭ ‬فكرة‭ ‬الرقيب‭.‬

ربما‭ ‬بدا‭ ‬من‭ ‬المستغرب‭ ‬استمرار‭ ‬فكرة‭ ‬الرقابة‭ ‬الفكرية‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الانفتاح‭ ‬الإلكتروني‭ ‬الهائل،‭ ‬الذي‭ ‬تبدو‭ ‬معه‭ ‬الرقابة‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها‭ ‬عديمة‭ ‬الجدوى‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الاستغراب‭ ‬حقاً‭ ‬هو‭ ‬ألا‭ ‬تثير‭ ‬مسألة‭ ‬الرقابة‭ ‬الفكرية‭ ‬هذه‭ ‬نقاشاً‭ ‬عاماً‭ ‬حول‭ ‬الحريات‭ ‬عموماً‭ ‬وحرية‭ ‬الفكر‭ ‬بوجه‭ ‬خاص‭. ‬سأحاول‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬أن‭ ‬أبين‭ ‬فكرة‭ ‬الرقابة‭ ‬الفكرية‭ ‬وتبعاتها‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ - ‬ولو‭ ‬بسيطة‭ - ‬لإثارة‭ ‬النقاش‭ ‬عن‭ ‬موضوع‭ ‬الحرية‭ ‬والآليات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بتقييدها‭. ‬

في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الجمهورية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يرسم‭ ‬فيه‭ ‬أفلاطون‭ ‬المعالم‭ ‬التفصيلية‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬المدينة‭ ‬المثالية،‭ ‬التي‭ ‬رأى‭ ‬فيها‭ ‬تحقيقاً‭ ‬لتصوراته‭ ‬عن‭ ‬الكمال،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المخطط‭ ‬التفصيلي‭ ‬للمدينة‭ ‬نجده‭ ‬يضع‭ ‬شروطاً‭ ‬دقيقة‭ ‬ويفرض‭ ‬رقابة‭ ‬صارمة‭ ‬على‭ ‬النشاط‭ ‬الفكري‭ ‬والأدبي‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬فالشعراء‭ ‬والفنانون‭ ‬يخضعون‭ ‬لسياسة‭ ‬الدولة‭ ‬الصارمة‭ ‬التي‭ ‬تعمد‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬مواطنين‭ ‬أكفاء‭ ‬يقومون‭ ‬بواجباتهم‭ ‬بدقة،‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬تحدده‭ ‬طبيعة‭ ‬الطبقة‭ ‬التي‭ ‬ينتمون‭ ‬إليها،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يهدد‭ ‬مدينة‭ ‬أفلاطون‭ ‬بأن‭ ‬تبقى‭ ‬مدينة‭ ‬بلا‭ ‬شعراء‭ ‬حقيقيين‭. ‬هذه‭ ‬الخصومة‭ ‬التي‭ ‬يواجه‭ ‬بها‭ ‬أفلاطون‭ ‬الشعراء‭ ‬والفنانين‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬عمومية‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬يبدو‭ ‬عصياً‭ ‬على‭ ‬الانضباط‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬أفلاطون،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمثل‭ ‬جوهر‭ ‬المدينة‭ ‬الفاضلة‭. ‬إن‭ ‬تسييس‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬الثقافة‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يريده‭ ‬أفلاطون،‭ ‬فالشعر‭ ‬والفنون‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لهما‭ ‬في‭ ‬الجمهورية،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬يخدم‭ ‬ويكرس‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭ ‬لهذه‭ ‬الجمهورية،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬يدخل‭ ‬الشعر،‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬العملية‭ ‬التربوية‭ ‬اللازمة‭ ‬للأطفال،‭ ‬ما‭ ‬يضع‭ ‬قيوداً‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬نشاط‭ ‬فكري‭ ‬وثقافي‭ ‬لا‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬الأهداف‭ ‬العامة‭ ‬للدولة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬تبدو‭ ‬فيه‭ ‬الدولة‭ ‬مجرد‭ ‬آلة‭ ‬سياسية‭ ‬هائلة‭ ‬لإنتاج‭ ‬كائنات‭ ‬بشرية‭ ‬متشابهة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭. ‬ويجب‭ ‬ألا‭ ‬تؤخذ‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬الفنون‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬والسياسة‭ ‬عند‭ ‬أفلاطون‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬بهذه‭ ‬البساطة،‭ ‬ففي‭ ‬بحثه‭ ‬عن‭ ‬أركيولوجيا‭ ‬الاستبداد،‭ ‬يذهب‭ ‬كارل‭ ‬بوبر‭ ‬إلى‭ ‬ترجمة‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬إلى‭ ‬علاقة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الفردانية‭ ‬التي‭ ‬يمثلها‭ ‬الشعر‭ ‬والفن‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬والاستبداد‭ ‬الذي‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬الدولة‭ ‬آلة‭ ‬هائلة‭ ‬الحجم‭ ‬لإنتاج‭ ‬كائنات‭ ‬مطواعة‭. ‬

وتبدو‭ ‬كل‭ ‬تجليات‭ ‬الفردانية‭ ‬التي‭ ‬تستبطن‭ ‬النشاط‭ ‬الثقافي‭ ‬الحر‭ ‬خطراً‭ ‬وجودياً‭ ‬على‭ ‬الشمولية‭.‬

تعد‭ ‬هذه‭ ‬الآليات‭ ‬أهم‭ ‬الأمثلة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفلسفة‭ - ‬على‭ ‬الأقل‭ - ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬الرقابة‭ ‬الفكرية‭. ‬ولا‭ ‬أحاول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬تتبع‭ ‬الجذور‭ ‬التاريخية‭ ‬للرقابة‭ ‬الفكرية‭ ‬بإرجاعها‭ ‬إلـــى‭ ‬أفلاطون‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬آخر،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أريد‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الفكرة‭ ‬الكامنة‭ ‬خلف‭ ‬مفهوم‭ ‬الرقابة‭ ‬ذاته‭ ‬وما‭ ‬يكمن‭ ‬خلفه‭ ‬من‭ ‬تبعات‭ ‬فكــــرية‭ ‬وثقافية‭. ‬

يبدو‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬ارتباطاً‭ ‬بين‭ ‬فكرة‭ ‬الرقابة‭ ‬أو‭ ‬الوصاية‭ ‬وافتراض‭ ‬حالة‭ ‬قصور‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬الشخص‭ ‬موضوع‭ ‬الرقابة‭. ‬فهي‭ ‬تفترض‭ ‬وجود‭ ‬سلطة‭ ‬ما‭ ‬تملك‭ ‬البت‭ ‬فيما‭ ‬يصح‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬يصح‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬الآخرين‭. ‬نجد‭ ‬وفق‭ ‬هذا‭ ‬التحديد‭ ‬لفكرة‭ ‬الرقابة‭ ‬أنها‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬أبوي‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬أسري‮»‬،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬دلائل‭ ‬إيجابية‭ ‬لهذا‭ ‬المصطلح‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬أسري‭ ‬واجتماعي،‭ ‬فإنها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬ثقافي‭ ‬تعني‭ ‬العكس‭ ‬تماماً‭. ‬فالفعل‭ ‬الفكري‭ ‬أو‭ ‬الثقافي‭ ‬هو‭ ‬فعل‭ ‬حر‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال،‭ ‬فبمجرد‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬طبيعته‭ ‬النقدية‭ ‬الحرة‭ ‬إزاء‭ ‬الموضوعات‭ ‬التي‭ ‬يتناولها‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يفكر‭ ‬فيها‭ ‬فإنه‭ ‬يفقد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يصله‭ ‬بالفكر‭ ‬أو‭ ‬الثقافة‭. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬القصور‭ ‬حالة‭ ‬مؤقتة‭ ‬وعابرة‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬الأسري،‭ ‬بسبب‭ ‬زوالها‭ ‬بوصول‭ ‬القاصر‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الرشد‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬تضمنه‭ ‬الطبيعة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬فإن‭ ‬افتراض‭ ‬القصور‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬الثقافي‭ ‬هو‭ ‬افتراض‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬ضمانات‭ ‬تضمن‭ ‬انتقال‭ ‬‮«‬الشخص‭ ‬القاصر‭ ‬ثقافياً‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الرشد‭ ‬والاستقلالية‭. ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يجعلها‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬هذه‭ ‬الضمانات‭ ‬مرشحة‭ ‬لأن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬قصور‭ ‬أبدي‭. ‬فالقصور‭ ‬الطبيعي‭ ‬حالة‭ ‬عابرة‭ ‬تفرضها‭ ‬الطبيعة‭ ‬وتنتهي‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬القصور‭ ‬الثقافي‭ ‬حالة‭ ‬تقع‭ ‬المسؤولية‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الفرد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬إزالتها‭. ‬

‮«‬لو‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬جميعاً‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬واحد،‭ ‬باستثناء‭ ‬رجل‭ ‬واحد‭ ‬له‭ ‬رأي‭ ‬مخالف‭ ‬لرأيهم،‭ ‬فإن‭ ‬الناس‭ ‬جميعاً‭ ‬لن‭ ‬يكونوا‭ ‬أقوى‭ ‬حقاً‭ ‬في‭ ‬إسكات‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬الواحد‭ ‬عن‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬إسكاتهم‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بمقدوره‮»‬‭ (‬جون‭ ‬ستيوارت‭ ‬مل‭).‬

يبدو‭ ‬أن‭ ‬مسألة‭ ‬الحرية‭ ‬الفكرية‭ ‬مسألة‭ ‬إشكالية‭ ‬في‭ ‬الأساس،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬إثارة‭ ‬موضوع‭ ‬الحرية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬تتضمن‭ ‬وجود‭ ‬اختلاف‭ ‬وتعارض‭ ‬بين‭ ‬أنماط‭ ‬فكرية‭ ‬متعددة‭. ‬وتنطوي‭ ‬كذلك‭ ‬على‭ ‬التساؤل‭ ‬عن‭ ‬أكثر‭ ‬الطرق‭ ‬جدوى‭ ‬لحسم‭ ‬تصادم‭ ‬الحريات‭ ‬هذا‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬الحلول‭ ‬الشائعة‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬الانحياز‭ ‬لرأي‭ ‬الأغلبية‭ ‬باعتباره‭ ‬أقل‭ ‬كلفة‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الوقت‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬الاستقرار‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭. ‬لهذه‭ ‬الاعتبارات‭ ‬يبدو‭ ‬هذا‭ ‬الحل‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬عملياً‭ ‬جداً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الناحية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الحلول‭ ‬العملية‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬الصواب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭. ‬

لكن‭ ‬ليس‭ ‬بعيداً‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الحل‭ ‬فاشلاً‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬البعيد‭. ‬فلا‭ ‬يستبعد‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬الذي‭ ‬يحظى‭ ‬بأغلبية‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬رأي‭ ‬الأقلية‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬حدث‭ ‬تغير‭ ‬في‭ ‬الثقل‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬لتملك‭ ‬الأقلية‭ ‬الثقل‭ ‬السياسي‭ ‬ذاته،‭ ‬الــذي‭ ‬يمكنها‭ ‬من‭ ‬فرض‭ ‬رأيها‭ ‬مكان‭ ‬رأي‭ ‬الأغلبية‭ ‬السابقة‭ (‬1‭). ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يجعل‭ ‬خطاب‭ ‬الحرية‭ ‬مرهوناً‭ ‬بثنائية‭ ‬الأغلبية‭ ‬والأقلية،‭ ‬ما‭ ‬يعيق‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬الإفلات‭ ‬منها،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يصبح‭ ‬مرناً‭ ‬وقادراً‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يوسع‭ ‬من‭ ‬فضـــــائه‭ ‬الاجتــــماعي‭ ‬لا‭ ‬ليتضمن‭ ‬أفكار‭ ‬الأغلبية‭ ‬والأقلية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬ليحوي‭ ‬أوسع‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬التنوعات‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭. ‬

وقد‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الخطاب‭ ‬الداعي‭ ‬إلى‭ ‬المطالبة‭ ‬برفع‭ ‬الحظر‭ ‬وإتاحة‭ ‬الحرية‭ ‬الفكرية‭ ‬هو‭ ‬خطاب‭ ‬يعكس‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬الحرية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الاختبار‭ ‬الحقيقي‭ ‬لخطاب‭ ‬الحرية‭ ‬الفكرية‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يتضمن‭ ‬الاعتراض‭ ‬على‭ ‬منطق‭ ‬الرقابة‭ ‬نفسه‭. ‬وذلك‭ ‬بالمطالبة‭ ‬برفض‭ ‬الوصاية‭ ‬والمطالبة‭ ‬بمستوى‭ ‬الحريات‭ ‬نفسه‭ ‬للجميع،‭ ‬وجعل‭ ‬خطاب‭ ‬الحرية‭ ‬الفكرية‭ ‬يتجاوز‭ ‬ثنائية‭ ‬الأغلبية‭ ‬والأقلية‭ (‬2‭).‬

فالموقف‭ ‬الذي‭ ‬يطالب‭ ‬بحرية‭ ‬الفكر‭ ‬أو‭ ‬التسامح‭ ‬مع‭ ‬أفكار‭ ‬معينة‭ ‬طالما‭ ‬لا‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬أفكاره‭ ‬ويرفض‭ ‬التسامح‭ ‬حينما‭ ‬تتعلق‭ ‬الأمور‭ ‬بموضوعات‭ ‬لا‭ ‬تتفق‭ ‬معه،‭  ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬تناقض‭ ‬منطقي‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬وفي‭ ‬خطأ‭ ‬أخلاقي‭ ‬فادح‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬انتهازية‭ ‬واضحة‭. ‬فعندما‭ ‬يزعم‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬أحقيته‭ ‬في‭ ‬منع‭ ‬فكرة‭ ‬ما‭ ‬طالما‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬توجهاته‭ ‬الفكرية،‭ ‬فإنه‭ ‬يفقد‭ ‬مشروعية‭ ‬التعاطف‭ ‬معه‭ ‬عندما‭ ‬تتم‭ ‬مصادرة‭ ‬حريته‭ ‬الفكرية‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬كان،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يفقد‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬الشكوى‭ ‬من‭ ‬القمع‭ ‬الفكري‭. ‬فعندما‭ ‬يفرض‭ ‬التيار‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬رقابته‭ ‬على‭ ‬الآراء‭ ‬الأخرى‭ ‬–‭ ‬ذات‭ ‬الثقل‭ ‬السياسي‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والأيديولوجي‭ ‬–‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬السائد‭ ‬يضع‭ ‬نفسه‭ ‬–‭ ‬نظرياً‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬–‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬البعيد‭, ‬في‭ ‬الموقف‭ ‬ذاته‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬تغير‭ ‬الثقل‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والأيديولوجي‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬مساوئ‭ ‬في‭ ‬التسامح‭ ‬الفكري،‭ ‬فإنها‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬إجبارنا‭ ‬على‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬آراء‭ ‬ربما‭ ‬بدت‭ ‬صادمة‭ ‬ومخالفة‭ ‬لآرائنا‭ ‬مهما‭ ‬بدت‭ ‬قيمتها‭ ‬الفكرية‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬فكراً‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬نقائضه‭ ‬ومخالفيه‭ ‬لا‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬مسمى‭ ‬فكر،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬تركيبته‭ ‬اللغوية‭ ‬المحضة‭ .