في الرقابة والحرية
«صحيحٌ أن الثقافة من دون حرية لم تصنع عقلاً كبيراً وليبرالياً، إلا أن بمقدورها أن تصنع داعية ذكياً لقضية ما».
(جون ستيوارت مل).
اعتدنا في كل مرة يقام فيها معرض الكتاب وجود قائمة طويلة من الكتب الممنوعة، التي يتم التحفظ عليها لأسباب شتى. فأصبحت قوائم الكتب الممنوعة شيئاً اعتيادياً في كل سنة يقام فيها المعرض. بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إن الحديث عن الكتب الممنوعة قد أصبح جزءاً لا يتجزأ من هذه الفعالية الثقافية السنوية. كثير من الكتاب والمثقفين بل وحتى القراء العاديين يبدون تذمرهم حيال المنع، إلا أن أغلب الاعتراضات حول منع الكتب في الواقع تستبطن فكرة المنع ذاتها، من خلال عدم قبولها بتبعات إلغاء فكرة الرقيب.
ربما بدا من المستغرب استمرار فكرة الرقابة الفكرية بعد كل هذا الانفتاح الإلكتروني الهائل، الذي تبدو معه الرقابة بحد ذاتها عديمة الجدوى. غير أن ما يدعو إلى الاستغراب حقاً هو ألا تثير مسألة الرقابة الفكرية هذه نقاشاً عاماً حول الحريات عموماً وحرية الفكر بوجه خاص. سأحاول من خلال هذا المقال أن أبين فكرة الرقابة الفكرية وتبعاتها الثقافية في محاولة - ولو بسيطة - لإثارة النقاش عن موضوع الحرية والآليات المتعلقة بتقييدها.
في كتابه «الجمهورية» الذي يرسم فيه أفلاطون المعالم التفصيلية لما يمكن أن يطلق عليه المدينة المثالية، التي رأى فيها تحقيقاً لتصوراته عن الكمال، في هذا المخطط التفصيلي للمدينة نجده يضع شروطاً دقيقة ويفرض رقابة صارمة على النشاط الفكري والأدبي في المدينة، فالشعراء والفنانون يخضعون لسياسة الدولة الصارمة التي تعمد إلى خلق مواطنين أكفاء يقومون بواجباتهم بدقة، حسب ما تحدده طبيعة الطبقة التي ينتمون إليها، الأمر الذي يهدد مدينة أفلاطون بأن تبقى مدينة بلا شعراء حقيقيين. هذه الخصومة التي يواجه بها أفلاطون الشعراء والفنانين بشكل أكثر عمومية تكمن في أن الشعر يبدو عصياً على الانضباط السياسي في نظر أفلاطون، وهو ما يمثل جوهر المدينة الفاضلة. إن تسييس الشعر أو الثقافة بشكل عام هو ما كان يريده أفلاطون، فالشعر والفنون لا وجود لهما في الجمهورية، إلا إذا كانت في إطار يخدم ويكرس الواقع السياسي لهذه الجمهورية، وعلى هذا الأساس يدخل الشعر، كجزء من العملية التربوية اللازمة للأطفال، ما يضع قيوداً على كل نشاط فكري وثقافي لا يتناسب مع الأهداف العامة للدولة، الأمر الذي تبدو فيه الدولة مجرد آلة سياسية هائلة لإنتاج كائنات بشرية متشابهة إلى حد كبير. ويجب ألا تؤخذ العلاقة بين الشعر أو الفنون من جهة والسياسة عند أفلاطون من جهة أخرى بهذه البساطة، ففي بحثه عن أركيولوجيا الاستبداد، يذهب كارل بوبر إلى ترجمة هذه العلاقة إلى علاقة ما بين الفردانية التي يمثلها الشعر والفن بشكل عام، والاستبداد الذي يكمن في جعل الدولة آلة هائلة الحجم لإنتاج كائنات مطواعة.
وتبدو كل تجليات الفردانية التي تستبطن النشاط الثقافي الحر خطراً وجودياً على الشمولية.
تعد هذه الآليات أهم الأمثلة في تاريخ الفلسفة - على الأقل - على فكرة الرقابة الفكرية. ولا أحاول في هذا المقال تتبع الجذور التاريخية للرقابة الفكرية بإرجاعها إلـــى أفلاطون ولا إلى أي شخص آخر، بقدر ما أريد التركيز على الفكرة الكامنة خلف مفهوم الرقابة ذاته وما يكمن خلفه من تبعات فكــــرية وثقافية.
يبدو أن ثمة ارتباطاً بين فكرة الرقابة أو الوصاية وافتراض حالة قصور كامنة في الشخص موضوع الرقابة. فهي تفترض وجود سلطة ما تملك البت فيما يصح وما لا يصح نيابة عن الآخرين. نجد وفق هذا التحديد لفكرة الرقابة أنها تميل إلى الانتماء إلى مصطلح «أبوي» أو «أسري»، وإذا كان ثمة دلائل إيجابية لهذا المصطلح في سياق أسري واجتماعي، فإنها في سياق ثقافي تعني العكس تماماً. فالفعل الفكري أو الثقافي هو فعل حر بطبيعة الحال، فبمجرد أن يفقد طبيعته النقدية الحرة إزاء الموضوعات التي يتناولها أو تلك التي يفكر فيها فإنه يفقد كل ما يصله بالفكر أو الثقافة. فإذا كان القصور حالة مؤقتة وعابرة في السياق الأسري، بسبب زوالها بوصول القاصر إلى مرحلة الرشد وهذا ما تضمنه الطبيعة على كل حال، فإن افتراض القصور في السياق الثقافي هو افتراض من غير ضمانات تضمن انتقال «الشخص القاصر ثقافياً» إلى حالة الرشد والاستقلالية. الأمر الذي يجعلها في غياب هذه الضمانات مرشحة لأن تتحول إلى حالة قصور أبدي. فالقصور الطبيعي حالة عابرة تفرضها الطبيعة وتنتهي بعد فترة. في حين أن القصور الثقافي حالة تقع المسؤولية فيها على عاتق الفرد نفسه في إزالتها.
«لو كان الناس جميعاً على رأي واحد، باستثناء رجل واحد له رأي مخالف لرأيهم، فإن الناس جميعاً لن يكونوا أقوى حقاً في إسكات هذا الشخص الواحد عن حقه في إسكاتهم إن كان ذلك بمقدوره» (جون ستيوارت مل).
يبدو أن مسألة الحرية الفكرية مسألة إشكالية في الأساس، بمعنى أن إثارة موضوع الحرية بشكل عام تتضمن وجود اختلاف وتعارض بين أنماط فكرية متعددة. وتنطوي كذلك على التساؤل عن أكثر الطرق جدوى لحسم تصادم الحريات هذا. غير أن أحد أهم الحلول الشائعة يتمثل في الانحياز لرأي الأغلبية باعتباره أقل كلفة من ناحية الوقت ومن ناحية الاستقرار السياسي والاجتماعي. لهذه الاعتبارات يبدو هذا الحل في الواقع عملياً جداً من هذه الناحية، على الرغم من أن الحلول العملية لا تعني الصواب في كل الأحوال.
لكن ليس بعيداً أن يكون هذا الحل فاشلاً على المدى البعيد. فلا يستبعد أن يصبح هذا الرأي الذي يحظى بأغلبية في مكان ما هو ذاته رأي الأقلية في مكان آخر، أو ربما حدث تغير في الثقل السياسي والاجتماعي، لتملك الأقلية الثقل السياسي ذاته، الــذي يمكنها من فرض رأيها مكان رأي الأغلبية السابقة (1). من الواضح أن ذلك يجعل خطاب الحرية مرهوناً بثنائية الأغلبية والأقلية، ما يعيق المجتمع من الإفلات منها، ما لم يصبح مرناً وقادراً على الدوام على أن يوسع من فضـــــائه الاجتــــماعي لا ليتضمن أفكار الأغلبية والأقلية فقط، بل ليحوي أوسع قدر من التنوعات الفكرية والثقافية.
وقد يبدو أن الخطاب الداعي إلى المطالبة برفع الحظر وإتاحة الحرية الفكرية هو خطاب يعكس رغبة في الحرية، إلا أن الاختبار الحقيقي لخطاب الحرية الفكرية لابد أن يتضمن الاعتراض على منطق الرقابة نفسه. وذلك بالمطالبة برفض الوصاية والمطالبة بمستوى الحريات نفسه للجميع، وجعل خطاب الحرية الفكرية يتجاوز ثنائية الأغلبية والأقلية (2).
فالموقف الذي يطالب بحرية الفكر أو التسامح مع أفكار معينة طالما لا تتعارض مع أفكاره ويرفض التسامح حينما تتعلق الأمور بموضوعات لا تتفق معه، فإنه لا يقع في تناقض منطقي فحسب، بل وفي خطأ أخلاقي فادح ينطوي على انتهازية واضحة. فعندما يزعم شخص ما أحقيته في منع فكرة ما طالما كانت هذه الفكرة تتعارض مع توجهاته الفكرية، فإنه يفقد مشروعية التعاطف معه عندما تتم مصادرة حريته الفكرية من أي كان، وبالتالي يفقد حقه في الشكوى من القمع الفكري. فعندما يفرض التيار السائد في المجتمع رقابته على الآراء الأخرى – ذات الثقل السياسي أو الاجتماعي والأيديولوجي – فإن هذا التيار السائد يضع نفسه – نظرياً على الأقل – على المدى البعيد, في الموقف ذاته في حال تغير الثقل السياسي والاجتماعي والأيديولوجي. وإذا كان ثمة مساوئ في التسامح الفكري، فإنها تكمن في إجبارنا على الاستماع إلى آراء ربما بدت صادمة ومخالفة لآرائنا مهما بدت قيمتها الفكرية. إلا أن فكراً لا يستطيع الاستماع إلى نقائضه ومخالفيه لا يستحق أن يطلق عليه مسمى فكر، إلا من ناحية تركيبته اللغوية المحضة .