الطاهر مكي والدراسات الأندلسية

الطاهر مكي  والدراسات الأندلسية

يعود للدكتور الطاهر مكي فضل كبير في تقديم الأدب الأندلسي كما يعرفه القارئ العربي اليوم، فقد وضع وحقّق وترجم، كثيراً من الأبحاث والدراسات والكتب التي تؤلف جزءاً أساسياً من المكتبة العربية حول الأندلس، ويبدو أن ما ساعده في إنجاز ما أنجز هو دراسته المعمقة للأدب الأندلسي في جامعة مدريد، وحرصه الشديد على الموضوعية، وابتعاده عن التعصب بكل صوره، والإصغاء إلى وجهة نظر الآخر، ومناقشتها، وليس رفضها مسبقاً كما يفعل كثيرون.

وقد‭ ‬كان‭ ‬لهذه‭ ‬الصفات‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬قرأ‭ ‬أبحاثه‭ ‬ودراساته‭ ‬شأن‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬دور‭ ‬مشرّف‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬الدراسات‭ ‬حول‭ ‬الأندلس‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭.‬

فقبل‭ ‬الطاهر‭ ‬مكي،‭ ‬ومعه‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬جيله‭ ‬تقريباً،‭ ‬كانت‭ ‬الأندلس‭ ‬بكل‭ ‬صورها‭ ‬شيئاً،‭ ‬ومعه‭ ‬ومع‭ ‬زملائه‭ ‬صارت‭ ‬شيئاً‭ ‬آخر‭.‬

قبل‭ ‬هذه‭ ‬النخبة‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬كانت‭ ‬الأندلس،‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬العرب،‭ ‬فردوساً‭ ‬مفقوداً‭ ‬وذكرى‭ ‬مشحونة‭ ‬بالشجن‭ ‬ورواية‭ ‬واحدة،‭ ‬ومع‭ ‬هذه‭ ‬النخبة‭ ‬انفتح‭ ‬باب‭ ‬الأبحاث‭ ‬على‭ ‬مصراعيه،‭ ‬وتكوّنت‭ ‬‮«‬ورشة‮»‬‭ ‬من‭ ‬العلماء‭ ‬العرب‭ ‬والإسبان،‭ ‬بخاصة،‭ ‬لمراجعة‭ ‬الحقبة‭ ‬الأندلسية‭ ‬الفريدة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنساني،‭ ‬مراجعة‭ ‬علمية‭ ‬بحتة‭. ‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الجهد‭ ‬الذي‭ ‬بذله‭ ‬هؤلاء‭ ‬العلماء،‭ ‬وهو‭ ‬جهد‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬حق‭ ‬المعرفة‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬اطلع‭ ‬عليه‭ ‬عن‭ ‬كثب،‭ ‬فإن‭ ‬سؤال‭ ‬الأندلس‭ ‬مازال‭ ‬مفتوحاً‭ ‬لم‭ ‬يقفل‭ ‬باب‭ ‬البحث‭ ‬والاجتهاد‭ ‬بصدده‭.‬

والطريف‭ ‬أن‭ ‬الإسبان‭ ‬الذين‭ ‬قضوا‭ ‬على‭ ‬الوجود‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬إسبانيا،‭ ‬ونفضوا‭ ‬أيديهم‭ ‬لاحقاً‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمتّ‭ ‬بصلة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الوجود،‭ ‬عادوا‭ ‬منذ‭ ‬قرنين‭ ‬ليولوا‭ ‬التراث‭ ‬الأندلسي‭ ‬عناية‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أحياناً‭ ‬عن‭ ‬عنايتهم‭ ‬بتراثهم‭ ‬الخاص‭. ‬

فقد‭ ‬أنشأوا‭ ‬كراسي‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬جامعاتهم‭ ‬لهذا‭ ‬التراث،‭ ‬وحققوا‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬مخطوطاته،‭ ‬ولديهم‭ ‬مجلات‭ ‬أكاديمية‭ ‬متخصصة‭ ‬به،‭ ‬وأقبلوا‭ ‬على‭ ‬دراسته‭ ‬إقبالاً‭ ‬غريباً،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬طلابهم‭ ‬في‭ ‬أقسام‭ ‬الأدب‭ ‬والاجتماع‭ ‬والتاريخ،‭ ‬باتوا‭ ‬يقدمون‭ ‬اليوم‭ ‬أطروحات‭ ‬حول‭ ‬مواضيع‭ ‬فرعية‭ ‬في‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬وابن‭ ‬طفيل‭ ‬وابن‭ ‬حزم‭ ‬وسائر‭ ‬هذه‭ ‬الرموز‭.‬

وأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فقد‭ ‬احتضنوا‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬واعتبروه‭ ‬حيناً‭ ‬تراثاً‭ ‬إسبانياً،‭ ‬وحيناً‭ ‬آخر‭ ‬تراثاً‭ ‬مشتركاً‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬العرب،‭ ‬وغير‭ ‬العرب‭ ‬أيضاً،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬الأندلس‭ ‬يومها‭ ‬أرض‭ ‬لقاء‭ ‬بين‭ ‬ثقافات‭ ‬وحضارات‭ ‬ولغات‭ ‬وشعوب‭ ‬مختلفة‭.‬

 

نزاهة‭ ‬العلماء‭ ‬وتجردهم

الطاهر‭ ‬مكي‭ ‬اقترب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬بنزاهة‭ ‬العلماء‭ ‬وتجردهم،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تخفى‭ ‬نزعته‭ ‬العربية‭. ‬وقد‭ ‬قدّم‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬المستعربين‭ ‬الإسبان‭ ‬بوضوح‭ ‬كان‭ ‬مفتقداً‭ ‬في‭ ‬الأبحاث‭ ‬السابقة‭. ‬فعند‭ ‬ترجمته‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬أبحاث‭ ‬هؤلاء‭ ‬المستعربين‭ ‬الذين‭ ‬يضمّون‭ ‬التراث‭ ‬الأندلسي‭ ‬إلى‭ ‬ممتلكاتهم،‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬‮«‬هذه‭ ‬الأبحاث‭ ‬تدرس‭ ‬التراث‭ ‬الأندلسي‭ ‬بوصفه‭ ‬تراثاً‭ ‬هم‭ ‬شركاء‭ ‬فيه،‭ ‬وينتمي‭ ‬إليهم‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭. ‬فقد‭ ‬ازدهر‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬الإيبيرية،‭ ‬وأبدعه‭ ‬أهلها‭ ‬وإن‭ ‬كانوا‭ ‬مسلمين،‭ ‬ويتكلمون‭ ‬العربية،‭ ‬وبها‭ ‬كتبوا‭ ‬أدبهم،‭ ‬وهي‭ ‬حقيقة،‭ ‬وإن‭ ‬لوّنوا‭ ‬أدبهم‭ ‬بالخصائص‭ ‬العربية‭ ‬والظلال‭ ‬الإسلامية،‭ ‬لا‭ ‬تجرده‭ ‬من‭ ‬أبعاده‭ ‬الجغرافية‭ ‬والعرقية‭ ‬تماماً،‭ ‬ولا‭ ‬تقطع‭ ‬صلته‭ ‬بالموروثات‭ ‬التي‭ ‬تأصلت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬من‭ ‬الدنيا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تهبطها‭ ‬العربية‭ ‬ويظلها‭ ‬الإسلام‮»‬‭.‬

ويضيف‭ ‬الطاهر‭: ‬‮«‬وبهذا‭ ‬الفهـــــم‭ ‬هم‭ ‬يدرسون‭ ‬تراثاً‭ ‬وثيق‭ ‬الصلة‭ ‬بتاريخهم،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هو‭ ‬نفسه،‭ ‬وليس‭ ‬وراء‭ ‬جهدهم‭ ‬غايات‭ ‬استعمارية،‭ ‬ولا‭ ‬تحركهم‭ ‬نوازع‭ ‬عنصرية‭ ‬أو‭ ‬عصبية‭ ‬دينية،‭ ‬للتهوين‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أو‭ ‬التحامل‭ ‬عليه،‭ ‬ولو‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬أننا‭ ‬نلتقي‭ ‬معهم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬نظرتهم‭ ‬إليه‭. ‬فهم‭ ‬يصدرون‭ ‬في‭ ‬آرائهم‭ ‬عن‭ ‬مزاج‭ ‬أوربي،‭ ‬ويتحركون‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬مناهج‭ ‬مختلفة،‭ ‬وحتى‭ ‬يتفاوتون‭ ‬كأشـــخاص‭ ‬في‭ ‬نظرتهم‭ ‬إلى‭ ‬الشيء‭ ‬الواحد‭. ‬ولكنهم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الحالات‭ ‬لا‭ ‬يجعلون‭ ‬من‭ ‬تهوين‭ ‬شأنه‭ ‬غاية‭ ‬يقصدونها،‭ ‬أو‭ ‬يسعون‭ ‬وراءها،‭ ‬لأنهم‭ ‬شركاء‭ ‬فيه،‭ ‬كما‭ ‬يقولون‮»‬‭.‬

إذا‭ ‬قرأ‭ ‬العربي‭ ‬اليوم‭ ‬دراسات‭ ‬هؤلاء‭ ‬المستعربين‭ ‬فإنه‭ ‬يسعد‭ ‬حيناً،‭ ‬ويشقى‭ ‬حيناً‭ ‬آخر‭. ‬فهو‭ ‬يسعد‭ ‬عندما‭ ‬يقرأ‭ ‬مثلاً‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬التاريخي‭ ‬العربي‭ ‬كان‭ ‬وراء‭ ‬نشأة‭ ‬الملاحم‭ ‬الإسبانية،‭ ‬وأن‭ ‬شعر‭ ‬التروبادور‭ ‬وُلد‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬الموشحات‭ ‬الأندلسية،‭ ‬وبتأثير‭ ‬منها‭. ‬ولكنه‭ ‬يشقى،‭ ‬ويعجب،‭ ‬عندما‭ ‬يقرأ‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬المستعربين‭ ‬يعتبرون‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬الأندلسي،‭ ‬وابن‭ ‬زيدون،‭ ‬وولادة‭ ‬بنت‭ ‬المستكفي،‭ ‬بل‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الداخل‭ ‬نفسه،‭ ‬أي‭ ‬صقر‭ ‬قريش،‭ ‬شخصيات‭ ‬إسبانية‭.‬

هل‭ ‬هو‭ ‬نهب‭ ‬للتــــــاريخ‭ ‬العربي،‭ ‬اعتدنا‭ ‬عليه‭ ‬مع‭ ‬شعوب‭ ‬أخرى،‭ ‬أم‭ ‬تعسّف‭ ‬في‭ ‬النـــظر‭ ‬والمعالجة،‭ ‬أم‭ ‬هما‭ ‬الاثنان‭ ‬معاً؟‭ ‬أياً‭ ‬كان‭ ‬الجواب،‭ ‬فعلينا‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬الإسبانية‭ ‬برويّة،‭ ‬وأن‭ ‬نناقشها،‭ ‬وأن‭ ‬نعمل‭ ‬على‭ ‬إحياء‭ ‬الجسور‭ ‬الثقافية‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬الإسبان‭ ‬التي‭ ‬ازدهرت‭ ‬أيّما‭ ‬ازدهار‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬عبر‭ ‬البعثات‭ ‬الدراسية‭ ‬التي‭ ‬قصدت‭ ‬إسبانيا‭ ‬زمن‭ ‬وزيــر‭ ‬المعارف‭ ‬المصرية‭ ‬د‭. ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬وزمن‭ ‬سواه‭ ‬أيضاً‭. ‬

هذا‭ ‬مع‭ ‬ملاحظة‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الدراسات‭ ‬التي‭ ‬ينقلها‭ ‬الطاهر‭ ‬مكي‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬يعود‭ ‬أكثرها،‭ ‬وربما‭ ‬كلها،‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬خوليان‭ ‬ريبيرا‭ ‬وآثين‭ ‬بلاثيوس‭ ‬وأنخل‭ ‬جونثالث‭ ‬بالنثيا،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

فإذا‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬دراسات‭ ‬المستعربين‭ ‬الإسبان‭ ‬قد‭ ‬تتابعت‭ ‬بغزارة‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬أدركنا‭ ‬مدى‭ ‬تخلفنا‭ ‬عن‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الأندلسيات‭ ‬الأكثر‭ ‬معاصرة،‭ ‬ومدى‭ ‬حاجتنا‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التواصل،‭ ‬حتى‭ ‬نتعرف‭ ‬أكثر‭ ‬إلى‭ ‬تراثنا‭ ‬الأندلسي،‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬فجعنا‭ ‬بنتائج‭ ‬تدمي‭ ‬قلوبنا‭ ‬حول‭ ‬مصادرة‭ ‬‮«‬ممتلكاتنا‮»‬‭ ‬الفكرية‭ ‬والثقافية‭ ‬والأدبية‭ ‬الأندلسية‭ ‬التي‭ ‬عاد‭ ‬الإسبان‭ ‬المعاصرون‭ ‬إلى‭ ‬ضمّها،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬إلحاقها‭ ‬بثقافتهم،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬فعلوا‭ ‬بنا‭ ‬ما‭ ‬فعلوا‭ ‬عام‭ ‬1492؛‭ ‬عام‭ ‬سقوط‭ ‬غرناطة‭.‬

طبعاً،‭ ‬العربي‭ ‬يعجب،‭ ‬وقد‭ ‬يفقد‭ ‬عقله‭ ‬عندما‭ ‬يقرأ‭ ‬في‭ ‬دراسات‭ ‬هؤلاء‭ ‬المستعربين‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬الظاهري،‭ ‬عالم‭ ‬الفقه‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يشكّل‭ ‬حلقة‭ ‬من‭ ‬حلقات‭ ‬علم‭ ‬الكلام‭ ‬الإسلامي،‭ ‬قد‭ ‬انتزع‭ ‬الإسبان‭ ‬منه‭ ‬جواز‭ ‬سفره‭ ‬العربي،‭ ‬وزودوه‭ ‬بجواز‭ ‬سفر‭ ‬إسباني‭ ‬صالح‭ ‬لا‭ ‬لسنوات،‭ ‬بل‭ ‬مدى‭ ‬الدهر‭.‬

وقد‭ ‬يفقد‭ ‬العربي‭ ‬عقله‭ ‬تماماً‭ ‬إذا‭ ‬قرأ‭ ‬الأسباب‭ ‬الموجبة‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬الإسبان‭ ‬يمنحونه‭ ‬جنسيتهم‭. ‬فهو‭ ‬عندهم‭ ‬حفيد‭ ‬لمولّدين،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬يتحدر‭ ‬أباً‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬إسبانية‭ ‬أسلمت‭. ‬وكانت‭ ‬الأم‭ ‬إسبانية‭ ‬بالتأكيد،‭ ‬لأن‭ ‬مسلمي‭ ‬الأندلس،‭ ‬حتى‭ ‬الخلفاء‭ ‬منهم،‭ ‬ولدوا‭ ‬لأمهات‭ ‬يتحدرن‭ ‬من‭ ‬سلالات‭ ‬إسبانية‭ ‬عريقة‭. ‬فهم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬إسبانيون‭ ‬جميعاً‭. ‬ولكن‭ ‬ابن‭ ‬حيان‭ ‬المؤرخ،‭ ‬وابن‭ ‬سعيد‭ ‬صاحب‭ ‬‮«‬المغرب‭ ‬في‭ ‬حلى‭ ‬المغرب‮»‬،‭ ‬يصرّحان‭ ‬بأن‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬كان‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الأب‭ ‬أيضاً‭.‬

وليس‭ ‬هذا‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬فهناك‭ ‬الملامح‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬ينسبها‭ ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬من‭ ‬كتبـــــوا‭ ‬ســيرته،‭ ‬والتي‭ ‬تؤكد‭ ‬إسبانيته‭ ‬في‭ ‬عمق،‭ ‬وهي‭ ‬كما‭ ‬يعدّدونها‭: ‬الشموخ،‭ ‬والعاطفة،‭ ‬والعنف،‭ ‬وطلاقة‭ ‬اللسان،‭ ‬واستقامة‭ ‬الكلمة،‭ ‬والوفاء،‭ ‬وتحليق‭ ‬الروح‭ ‬نحو‭ ‬الله،‭ ‬والقسوة‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬الوطن،‭ ‬وحب‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وشدة‭ ‬الخلق،‭ ‬والحماسة‭ ‬التي‭ ‬تبلغ‭ ‬حد‭ ‬التضحية‭ ‬بالحياة‭ ‬دفاعاً‭ ‬عن‭ ‬أفكاره‭ ‬وشرفه،‭ ‬والنضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المُثل‭ ‬العليا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬ناضل‭ ‬دون‭ ‬كيخوته،‭ ‬واحتقاره‭ ‬للثروة‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الشرف،‭ ‬وكراهية‭ ‬النفاق،‭ ‬واحتقار‭ ‬الملق،‭ ‬والصلابة‭ ‬في‭ ‬الشدائد‭ ‬وعبادة‭ ‬الصداقة،‭ ‬وجود‭ ‬يبلغ‭ ‬حد‭ ‬السرف،‭ ‬وسهـــــولة‭ ‬الغضـــب،‭ ‬والبلاغة‭. ‬

 

قمم‭ ‬الفكر‭ ‬الإسباني

‮«‬إنها‭ ‬صفات‭ ‬إسبانية‭ ‬عريقة‭ ‬تؤكــد‭ ‬في‭ ‬وضــوح‭ ‬أصوله‭ ‬الإسبانية‭ ‬وجدوده‭ ‬المسيــــحيين‭. ‬لقـــــد‭ ‬كان‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬إسبانياً‭ ‬في‭ ‬أخفى‭ ‬طيــــــات‭ ‬أعماق‭ ‬روحه،‭ ‬ومن‭ ‬الـــعدل‭ ‬أن‭ ‬نضـــعـــــه‭ ‬بين‭ ‬أسمى‭ ‬قمم‭ ‬الفكر‭ ‬الإسباني‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬كل‭ ‬العصور،‭ ‬لأن‭ ‬حجم‭ ‬وتعقّد‭ ‬ونفاذ‭ ‬إنتاجه‭ ‬الأدبي‭ ‬والفلسفي‭ ‬والفقهي‭ ‬والعقائدي‭ ‬تعطي‭ ‬له‭ ‬هذا‭ ‬الحق‭!‬‮»‬‭.‬

وينسى‭ ‬المستعربون‭ ‬الإسبان‭ ‬أن‭ ‬الصفات‭ ‬النفسية‭ ‬لابن‭ ‬حزم،‭ ‬التي‭ ‬اعتبروها‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬‮«‬الشخصية‭ ‬الإسبانية‮»‬،‭ ‬صفات‭ ‬نفسية‭ ‬شائعة‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬شعوب‭ ‬الأرض،‭ ‬وبخاصة‭ ‬عند‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬لديهم‭ ‬منظومة‭ ‬مكارم‭ ‬أخلاق‭ ‬تضم‭ ‬ما‭ ‬نسبوه‭ ‬لابن‭ ‬حزم‭ ‬وأكثر‭. ‬

فصفاته‭ ‬النفسية‭ ‬إذن‭ ‬ليست‭ ‬كافية‭ ‬لمنحه‭ ‬الجنسية‭ ‬الإسبانية،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أشياء‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬سيرته‭.‬

يجد‭ ‬المستعربون‭ ‬الإسبان‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬‮«‬النزعة‭ ‬العذرية‮»‬‭ ‬لابن‭ ‬حزم،‭ ‬التي‭ ‬تتبدّى‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬طوق‭ ‬الحمامة‮»‬‭.‬

يقول‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬في‭ ‬‮«‬طوق‭ ‬الحمامة‮»‬‭: ‬‮«‬إني‭ ‬ألِفتُ‭ ‬في‭ ‬صباي،‭ ‬ألفة‭ ‬محبة،‭ ‬جارية‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬دارنا،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬بنت‭ ‬16‭ ‬عاماً،‭ ‬وكانت‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬حسن‭ ‬وجهها‭ ‬وعقلها‭ ‬وعفافها‭ ‬وطهارتها‭ ‬وخفرها‭ ‬ودماثتها،‭ ‬عديمة‭ ‬الهزل،‭ ‬منيعة‭ ‬البذل،‭ ‬قليلة‭ ‬الكلام،‭ ‬مغضوضة‭ ‬البصر،‭ ‬شديدة‭ ‬الحذر،‭ ‬نقية‭ ‬من‭ ‬العيوب،‭ ‬دائمة‭ ‬القطوب،‭ ‬حلوة‭ ‬الإعراض،‭ ‬مليحة‭ ‬الصدود،‭ ‬رزينة‭ ‬القعود،‭ ‬كثيرة‭ ‬الوقار،‭ ‬تزدان‭ ‬في‭ ‬المنع‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يزدان‭ ‬غيرها‭ ‬بالسماحة‭ ‬والبذل‮»‬‭.‬

يحب‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬هذه‭ ‬الجارية‭ ‬حباً‭ ‬جارفاً،‭ ‬ولكنها‭ ‬تموت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬فيبلغ‭ ‬حزنه‭ ‬عليها‭ ‬أقصاه،‭ ‬ويستنتج‭ ‬الباحثون‭ ‬الأجانب‭ (‬ومنهم‭ ‬دوزي‭) ‬أن‭ ‬في‭ ‬حكاية‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬ملامح‭ ‬عاطفية‭ ‬رقيقة‭ ‬غير‭ ‬شائعة‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬يفضلون‭ ‬بصورة‭ ‬عامة‭ ‬الجمال‭ ‬المثير‭ ‬والعيون‭ ‬الفاتنة‭ ‬والابتسامة‭ ‬الآسرة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يستنتـــجون‭ ‬وجود‭ ‬نزعة‭ ‬عذرية‭ ‬عند‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬غير‭ ‬مألوفة‭ ‬عند‭ ‬العرب،‭ ‬غير‭ ‬متنبهين‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬النزعة‭ ‬العذرية‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬صناعة‭ ‬عربية‭ ‬بحتة‮»‬،‭ ‬وإلى‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬التماسها‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬أحد‭ ‬عناوين‭ ‬عصور‭ ‬الغزل‭ ‬العربي،‭ ‬وأي‭ ‬دراسة‭ ‬للشعر‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬ملياً‭ ‬عند‭ ‬مجنون‭ ‬ليلى‭ ‬وجميل‭ ‬بثينة‭ ‬وسائر‭ ‬شعراء‭ ‬العذرية،‭ ‬لا‭ ‬تحيط‭ ‬إحاطة‭ ‬كاملة‭ ‬بهذا‭ ‬الشعر‭.‬

أبلى‭ ‬الطاهر‭ ‬مكي‭ ‬بلاءً‭ ‬عظيماً‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الأدب‭ ‬الأندلسي‭ ‬بحثاً‭ ‬وتحقيقاً‭ ‬وترجمة،‭ ‬وإليه‭ ‬وإلى‭ ‬رفاقه‭ ‬وزملائه‭ ‬الأبرار،‭ ‬يعود‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬هذا‭ ‬الجسر‭ ‬الثقافي‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬الإسبان،‭ ‬وفي‭ ‬تمتين‭ ‬دعائمه،‭ ‬وأياً‭ ‬كانت‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا‭ ‬في‭ ‬دراسات‭ ‬المستعربين‭ ‬الإسبان،‭ ‬حول‭ ‬أدب‭ ‬الأندلس‭ ‬وتاريخها،‭ ‬فإن‭ ‬علينا‭ ‬متابعة‭ ‬النهج‭ ‬الذي‭ ‬نهجه‭ ‬الطاهر‭ ‬وزملاؤه،‭ ‬وذلك‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬إرسال‭ ‬البعثات‭ ‬إلى‭ ‬الجامعات‭ ‬والمكتبات‭ ‬الإسبانية،‭ ‬سعياً‭ ‬وراء‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الكشوف‭ ‬والمعارف‭ ‬التي‭ ‬تزيدنا‭ ‬اتصالاً‭ ‬بأحد‭ ‬أهم‭ ‬مهاجر‭ ‬أو‭ ‬مناهل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية■