«جلسة تصوير» رحلة من غياب اليقين والبكاء بالكلمات

«جلسة تصوير»  رحلة من غياب اليقين والبكاء بالكلمات

«بمن تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات؟»، جملة قالها أبو حامد الغزالي وتشابه بها كثيرا مع ابن رشد عندما دب الشك في نفسه، وفي كتابه «المنقذ من الضلال»، يعرض لنا الغزالي - رغم هجومه على ابن رشد - كيف انتهى شكه إلى إبطال ثقته بالحواس، ثم تجاوز ذلك إلى شكه في العقل، فيقول: «قالت المحسوسات: وقد كنت واثقاً بي فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر  إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه».

ذلك هو نفسه الهم الإنساني الناتج عن الضائقة النفسية التي استقرت في صدر علي المسعودي في مجموعته القصصية الجديدة «جلسة تصوير» الصادرة حديثاً عن دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع، إثر حالة من التأمل لمشوار الحياة، بإخفاقاته ونجاحاته، معبراً عن غياب اليقين في ما يعيشه الإنسان من محسوسات وعقليات، ويصل من ذلك إلى حالة من الشك في حواسنا التي نميز بها تلك المحسوسات، وبالتالي لا معنى لمعايير العقل التي نحتكم بها، وكأن هناك حاكماً آخر لهذا العقل، وذلك من خلال عشرين قصة قصيرة جداً ونحو تسع قصص قصيرة أخرى، متأملاً تفاصيل تلك المحطات التي مر بها قطار العمر، وقد تعدى الآن الخمسين، متخذاً من السخرية من الحياة وأقدارها نوراً يعيد إلى النفس صحتها واعتدالها، وهو النور الإلهي الذي يصفه الغزالي نفسه بقوله: «ورجعت الضروريات العقلية مقبولةً موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر».
وما بين كذب العقل في حكمه وكذب الحس في حكمه، يبدأ المسعودي دورة التأمل لمنمنمات الحياة من محطة الطفولة في قصة «الغريب المنتظر»، وذلك الطفل ذو الملامح القديمة الذي يملأ عينيه الشجن، وهو الشجن الذي يعبّر عمّا صار إليه ذلك الطفل عند الشيخوخة، معبراً عن رحلته في البحث عن براءة تلك الطفولة المفقودة في زمن يولد فيه الأطفال أشقياء، حتى يصل في القصة الأخيرة «أفكار» إلى بنات أفكاره، معبراً عن الهواجس التي تطارد الإنسان مع الكبر، حين تتزاحم فوق كتفيه مسؤوليات الحياة ويلاحقه ما على عاتقيه من مهام، وذلك في كل لحظات الحياة، حين يقود سيارته وحين يكون في اجتماع عمل وحين يخلد إلى النوم، وفي غير ذلك من اللحظات، حيث يطير بتفكيره في كل ما يشغله.
ويتوقف المسعودي طويلاً متأملاً محطة المنتصف، ولعله منتصف العمر، أو لعله المنتصف بين الحياة والموت، حيث اللحظة الحاسمة قبل الانتقال إلى الحياة الآخرة، في قصة «جلسة تصوير»، التي تحمل عنوان المجموعة، ويستدعي من الذاكرة عبر شريط سينمائي، أو قل دفتر الأحوال، ما كتب فيه من أحداث في كل تاريخ حياته، لحظة بلحظة، وسجل في سطوره انتصاراته وهزائمه، وما كسره وما جبره، وما أعزه وما أذله، إلى غير ذلك من بقايا الشروخ التي أصابت إنسانيته، منذ شقاوة المراهقة ومروراً بالمشاجرات العابرة أو العنيفة التي نحتها القدر في ثناياه وحتى النضج، وكيف أن هذه التفاصيل تمثل الصورة الإجمالية لرحلة الحياة قبل أن تنتهي، وكيف أن كل إنسان لا يعبر الحياة إلا بهذه التفاصيل التي تحملها صورته، وكلنا هذا الرجل، وكأنه يدعونا عبر هذه القصة بالذات إلى أن نتوقف في جلسة تصوير، أو بتعبير أدق جلسة حساب مع النفس قبل الرحيل، لنرى ما وثقه التاريخ في دفترنا، وهل كان يقيناً أم نوعاً من الزيف والوهم والكذب؟

بناء قصصي هندسي
من ثم نصبح أمام بناء قصصي هندسي يبدأ من نقطة البحث عن الطفولة والبراءة المفقودة في زمن الماديات، وينتهي بمرحلة الشيخوخة التي تصيب الإنسان، ليس بالتجاعيد والآلام والأمراض والأوجاع فحسب، إنما بالقلق والهواجس والإحساس بالمطاردة في كل لحظة من لحظات الحياة، وما على الإنسان بينهما أن يتوقف ليسجل ملامح الرحلة وما بها من إخفاقات ونجاحات، وكأنه يستعد لإعداد جواز سفره لرحلة السفر النهائي والأخير، وهو جواز سفر مزيف ومزور بكل تفاصيله، إذ يكتشف الإنسان في النهاية أن الحياة بكل أحداثها ما كانت إلا عبارة عن رحلة من الوهم والجري وراء السراب، ولا حقيقة واحدة سوى الموت. 
ولعلي حين سألت نفسي: ما الجديد الذي يقدمه المسعودي في هذه المجموعة؟، وقد ظل وفيّاً لفن القصة طويلاً، رغم تنوع كتاباته بين السیرة والمقالة الأدبیة والقراءات النقدية والحوارات والمسلسلات التلفزيونية، وقد أنتج  من قبل «مملكة الشمس» 1992م، و«رجوع» 1994م، و«تقاطيع» 1998م، و«شغب» 2002م، و«ذاكرة الجدران» 2008م، جاءت الإجابة كاشفة عن ذلك النسق الفكري والمكون الإبداعي المفعم بتجربة الحياة، والمغزول بهمومها، والذي يدور في فلك الأسئلة التي بلا جواب.
المسعودي كاتب وقاص محترف بجدارة في فن القصة القصيرة التي تحمل طعم ولون ونفس الحياة، بل هي قصص تتنفس الحياة، تخترق الكوامن الحياتية لدى البشر بمعرفة إنسانية تأملية، وتستهدف الكشف عن الحقيقة الغائبة في تلك الكوامن الحياتية، وتنشد تفسير ما يلتبس علينا تفسيره، كما أن قصصه تتسم بالمحلية ومستمدة من عالمنا المعاصر، ترصد مشاعرنا وتقف على أحاسيسنا وترقب فواجعنا النفسية والروحية، في ذلك الزمن المادي الذي يسحق كل القيم الإنسانية، لعلنا نقف على بيت الداء، فنصبح قادرين على التفرقة بين الحق والباطل والغث والثمين والخير والشر والمظهر والجوهر والصالح والطالح.

المحلية... دلالة ومعنى
تتجلى المحلية على سبيل المثال في استخدامه لأسماء الأبطال والشخصيات، فنجد «أبو مناحي» في قصة «حداء الصفيح»، و«فهد» في قصة «ليلة قران»، و«حمد» في قصة «بسكويت الطفولة، ونجد المحلية كذلك في الأحداث التي تعالجها القصص، ففي «حداء الصفيح» خيبة الأمل في الاستقرار والسكنى حين تزيل البلدة ذلك البيت الذي بناه أبو مناحي من الصفيح وأنفق عليه كل ما يملك من مال، وفي «ما تخفي قلوبهم» تلك المدينة التي امتلأت بالنفاق والغش والخداع إلى غير ذلك من مظاهر التلوث الأخلاقي، في إشارة إلى ما ساد أرضنا من نواقص إنسانية في شخصية المواطن، حيث تغيرت النفوس وسادت السلبيات، وكأن الأرض قد امتلأت بالذئاب والضباع والثعابين والعقارب والنمور والحشرات والصراصير، إلى غير ذلك من الكائنات الضارة.
ونجد كذلك في قصة «شخص ثالث» البطل حين ينطلق إلى البحر، والبحر من موجودات الحياة المحلية، وفي «عروس الخليج» تبين القصة عن مدلولها من اسمها، وفي قصة «تهريب» نجد وصفاً للطرق بين الرياض والطائف، حيث جبال الهدا وطريق عشيرة، وهي منطقة في نواحي مكة المكرمة، حيث يتعامل الشخوص في هذه القصة بالريال كعملة، وفي قصة «تضاريس على الأرجح» نجد الأم التي ترتدي العباءة، والعباءة زي محلي، حتى إننا في قصة «سيد الكلب» التي تتحدث عن وقائع تجري في منطقة يقطنها الخبراء الأمريكيون نجد أن المنطقة تتلون بالمحلية من قاطنيها الذين يرتدون الغتر والدشاديش، وفي قصة «بسكويت الطفولة» نجد أماكن محلية مثل مدرسة الحسن البصري المتوسطة المطلة على منطقة جليب الشيوخ في دولة الكويت، وكلمة «المتوسطة» مفردة محلية يقابلها كلمة «الإعدادية» في بلدان عربية أخرى، وهكذا في غير موضع.  
وتعبر المحلية عن ذاتها في المفردات أيضا، فنجد مثلاً في قصة «حداء الصفيح» مفردات مستمدة من البيئة المحلية، مثل الربعة، وهو مكان الضيافة في بيت الشعر، يليه المحرم ثم الرقة، والمخومس، وهو بيت الشعر بخمسة أعمدة، والتودية وهي صوت الراعي وهو ينادي إبله، والمفرود، وهو وليد الناقة الذي تجاوز السنة من عمره ولم يكمل سنتين، والمظهر، وهو الجمل القوي الذي يُحمل عليه المتاع، والحلال، وهي ممتلكات البدوي من جمال أو أغنام، والخلوج، وهي الناقة التي فقدت وليدها واستخدمها الشعراء كثيراً كرمز للفاجعة.
وفي قصة «الذود وهدرة الفحل»، تأتينا مفردة الذود، وهي مجموعة من الإبل، ويسمى صاحبها راعي الذود، ومفردة البؤ، وهي جلد الحوار الميت المحشو بالقش، الذي يخدع به الراعي الناقة التي فقدت وليدها، لكي تظن وليدها حيّاً فتدر اللبن، والحوار صغير الناقة، والوسم عبارة عن علامة توضع على الإبل بطريقة الكي ليعرفها مالكها، وفي قصة «بسكويت الطفولة» نجد العلامة التجارية للبسكويت الذي كان يأكله الكبار الآن حين كانوا صغاراً، وهو بسكويت الطفولة ماركة «أبو نجوم».
بل إن المسعودي يعود بالذاكرة إلى مرحلة الطفولة ويستدعي لنا «حمد» بطل كتاب اللغة العربية في مرحلة رياض الأطفال أو ربما المرحلة التعليمية الابتدائية، وحيث يشتم من ذلك الزمن رائحة ورق الكتاب المدرسي، ورائحة رقائق الخشب المبري من القلم الرصاص، الأشبه بورق حمد وقلم حمد، عندما كان الورق والقلم مادة العلم لا الصفائح الإلكترونية.

المعاصرة والظواهر الحداثية
على الرغم من سمة المحلية التي تنطلق من كنفها المجموعة، فإننا نجد سمة أخرى واضحة أيضاً في معظم القصص وهي سمة المعاصرة، وتبدو تلك السمة مثلاً في قصة «حداء الصفيح»، التي تجسد فكرة إقناع البطل بترك الصحراء إلى المدينة، وكيف خسر كل شيء حين ضحى بحبه للإبل والصحراء وملاحقة الماء والكلأ.
 وفي قصة «طريق الحرير» نجد موجودات معاصرة مثل الكاميرا والشاشة التلفزيونية وجهاز التحكم أو الريموت كنترول وعقارب الساعة.
 وفي قصة «شخص ثالث» نجد الهاتف المحمول الذي يسمح بتصفح الرسائل والصور والأسماء والمواضيع في كل مواقع التواصل الاجتماعي الحديثة والقديمة، ويعني الـ «فيسبوك» على سبيل المثال، وهو من الظواهر الحداثية المعاصرة.
وفي قصة «تهريب» نجد السيارة الحديثة التي تتمدد فوق الأسفلت ذهاباً وإياباً وهي تسير أكثر من 800 كيلومتر من دون ملل في المرة الواحدة، وتنقل الحجيج إلى مكة المكرمة. وفي قصة «الوهم ذاته بإحساس آخر» نجد وصفاً لمحتويات المؤسسة الصغيرة، حيث المكاتب والأنوار وأجهزة الكمبيوتر ووحدات التكييف والأقفال على الأبواب.
أما في قصة «ليل ربما» فنجد قوارير العطر والمرآة والسرير المريح والأمشاط وألبومات الصور، وفي قصة «شاهد وشهيد» نجد الموت بالرصاص، من أجل الوطن، والرصاص من الوسائل المعاصرة في الحروب. وفي قصة «سارق الفرح» يسوق لنا المسعودي بين خلجات المشاعر التي تجمع شتات الأب مع ولده معلومات علمية عدة توصل إليها العلم الحديث، ومنها أن تأثير جاذبية القمر على طفل رضيع أقل بـ 12 مليون مرة من التأثير ذاته على الطفل من قبل أمه التي تضمه بين ذراعيها على مسافة 15 سم منه.
وفي قصة «حافة الحياة» هناك السيارة التي تتأرجح والفرامل وصرخة الإطارات على جلد الطريق ورائحة شواء البلاستيك وبقايا الإطار المحروق فوق الأسفلت. وفي قصة «جلسة تصوير» الصورة الفوتوغرافية التي تسجل تفاصيل رحلة الحياة. وفي قصة «ذاكرة الجدران» مسمار الحائط الذي يحمل الساعة ومفاتيح الإضاءة. وفي «حفلة زواج» الصحف التي تنشر قصة الجريمة التي يروح ضحيتها رجل الأعمال والفنانة الشهيرة وجميعها ظواهر حداثية.

تقنيات أدب الواقعية
لا يكتفي المسعودي بذلك، بل يضع أمامنا مجموعة أخرى من العناصر الفنية ذات الدلالة على تمكنه من فن القص، يمكننا أن نركز في ما بينها على ثلاثة عناصر؛ هي: الاختزال، ودهشة الخواتيم وتحولات المصائر، واللغة الشاعرية، وجميعها ينطلق من جعبة أدب الواقعية الذي انطلق بدوره من تربة غنية بتقاليد أدبية عريقة في فن القص.
وحين نتأمل الاختزال نجد أنه يفي بأغراضه في التشويق والإيقاع والاستمرار، فضلاً عن الدوافع الأخرى مثل السببية والتتابع واختيار الأحداث، وهي الدوافع التي ترتبط بزمن القص، والمعروف أن الزمن هو القصة وهي تتشكل، وهو الإيقاع، ومن أبرز ما يصنعه الاختزال بالزمن، هو خلط المستويات الزمنية من ماضٍ وحاضر ومستقبل خلطاً تاماً، مما يؤدي إلى تداخل وتلاحم بين المستويات المتعددة للقص، وفي مقدمها المستوى البسيط، وفي معظم قصص المجموعة يتلاشى الزمن ويذوب.
ومثلما نجد الاختزال في الزمن، نجده في المكان، حيث تتجسد الخلفية التي يقع فيها الحدث، ونلاحظ أن الاختزال لدى المسعودي يجعل هناك اختلافاً بين طريقة إدراك الزمن وطريقة إدراك المكان، فالأول يرتبط بالإدراك النفسي، والثاني يرتبط بالإدراك الحسي، ففي قصة «حداء الصفيح» نجد اختزالاً للحدث في تركيز شديد يختصره المسعودي في جملتين، يقول فيهما: «تداعت عليه الأصوات وتنوعت، أولادك يجب أن ينتظموا في المدارس»، وتكون النتيجة أن يتنازل الأب الذي يعبر عن الزمن الجميل بكل تقاليده وقيمه وتمسكه بأخلاقيات البر والرعي والتنقل في البدو، عن رغبته من أجل ألا يضيع أولاده، فهو غير راضٍ عن أميته ولا يريد أن تتكرر في أبنائه، وفي ذلك لا تأخذ مقاطع السرد معناها الحقيقي سوى بارتباطها بغيرها من المقاطع، زمنياً ومكانياً، والزمن في القصة يستمر عبر جيلين، والمكان يتعدد من حيث البداوة والمدينة.
وفي قصة «حياة في حياة»، يختزل المسعودي كثيراً من التفاصيل في خمسة سطور تعبر عن مدارات تحكم المرأة في حياة الرجل حين تلاحقه في كل حركاته وتصرفاته وتطارده حتى في أنفاسه، غيرة عليه وخوفاً من أن يتعلق بأخرى، ويبرر ذلك متعاطفاً مع المرأة بأنها لا تفرض نفسها عليه بقدر ما أنها تعتبر تفاصيل حياته هي حياتها، ويعبر عن إحساس المرأة بالضيم والغبن والحسرة من عدم فهم الرجل لمشاعرها بذلك الخيط الدخاني الذي بدأ يندلع من طرف الورقة، وكأنها تعلن النهاية.
والأمر نفسه نجده في كثير من القصص، ففي قصة «القائد» اختزال لأوجه الشخصيات المتعددة والمتناقضة والمتضاربة التي بات المرء يحيا بها، وربما في لحظة واحدة، فقد يكون طيباً ونمّاماً أو مغروراً وشحيحاً أو كريماً أو مغروراً.
 وفي قصة «ليلة قران» نجد التوأمين اللذين عاشا معاً وافترقا بالموت، ويتشكل في هذه القصة عالم من المحسوسات تطابق عالم الواقع ولا تخالفه، بالقدر الذي نجده في قصة «الغريب المنتظر»، و«ما تخفي قلوبهم»، و«شخص ثالث»، و«عروس الخليج»، و«تهمة»، و«تضاريس على الأرجح»، و«ليل ربما» و«نكبر نتلوث»، و«وجهة نظر»، ففي كل هذه القصص لوحات سردية يمكن الوقوف على تفاصيلها عبر وحدات مفردة مطولة تأخذ مساحات من الحكي، لكن المسعودي آثر اختزال تلك الوحدات السردية في مقاطع قليلة لها طبيعتها وصياغتها.

الاختزال في العناوين
لم يكن الاختزال في الحكي فحسب، بمكوناته القصصية الثابتة كالشخصيات أو الأحداث أو الوصف، حيث تدور القصة أحياناً حول بؤرة بلا بطل كما في قصة «طريق الحرير» أو قصة «الطرف الآخر» التي تعبر عن مخزون تجارب من الحياة، وفلسفة مستمدة من الخبرة بالحياة، وقد تخلو القصة من الوصف كما في قصة «ما تخفي قلوبهم» وقصة «حياة في حياة» و«القائد» وغيرها، بل كان الاختزال في العناوين أيضاً. 
ويأتي العنوان في كثير من القصص عبارة عن مفردة واحدة مثل «القائد» و«سباق» و«تهريب» و«تهمة» و«الذود» و«أفكار»، أو ربما مفردتين مثل «الغريب المنتظر» و«حداء الصفيح» و«ليلة قران» و«طريق الحرير» و«شخص ثالث» و«عروس الخليج» و«ليل ربما» وغيرها، ولا يتجاوز العنوان ذلك العدد القليل إلا في ثلاث قصص هي «ما تخفي قلوبهم» و«الوهم ذاته بإحساس آخر» و«تضاريس على الأرجح»، وفي القصص جميعها يكثف العنوان مضمون القصة ودلالتها معاً، بحيث لا يبدو حقيقة مجردة، بل يشغل الحيز أو الفراغ الذي يرتبط بالحدث أو الفعل وأسلوب عرضه، وما ينتج عن ذلك من إضفاء الظلال والدلالات على مسار القص.

الخواتيم الباهرة
تبهرنا الخواتيم التي تعبّر عن تحولات المصائر لدى الشخصيات، وقد تجاوز المسعودي بهذا النوع من الخواتيم ما كنا نعرفه عن النهايات، سواء المغلقة أو المفتوحة، حيث يتعمد إبهارنا بنوع من الخواتيم المدهشة التي تعتمد على النهاية المفاجئة غير المتوقعة، أو النهاية المغايرة لسير الأحداث، وهو بهذه النهاية يجعل شخصيات قصصه منطلقة حرة، وليست حبيسة الأحداث، وله في هرمان هيس في ذلك القدوة بما فعله في روايته «ذئب الفيافي»، وبخاصة وهو يوظفها توظيفاً جمالياً متقناً، ويكشف هذا النوع من الخواتيم السردية رؤية الكاتب لعالمه، ولأهم ما يرى أنه هو مشكلة الإنسان. وعلى سبيل المثال تأتي النهاية في قصة «ليلة قران» مغايرة للمتوقع، حيث يموت أحد التوأمين ليلة زفافه في حادث سيارة، فتظن العروس أن المتوفى شقيق العريس، بينما هو في الحقيقة عريسها، فلا يصحح الناجي لها هذا الخطأ، مستهدفاً من ذلك أن يعيد توازنه، واعتباره الذي ربما فقده حين اختار شقيقه زميلته الجميلة وقرر الارتباط بها، وكانت هي المرة الأولى التي يسبق فيها الشقيق شقيقه إلى فعل لم يشاركه فيه.
وفي قصة «عروس الخليج» يفاجئنا المسعودي بخاتمة تعبر عن الشتات الذي تعيشه تلك العجوز المتصابية، التي يقرر أنها تبدو من طريقتها في الكلام أنها ابنة دلع قديم ودلال مبكر، وهي لا تريد أن تصدق أن الزمن مر سريعاً، وبدت آثار مسيره على رقبتها ويديها وكل تفاصيلها، وتكشف الخاتمة عن أن هذه العجوز المتصابية هي الوطن، وفي قصة «الوهم ذاته بإحساس آخر» نكتشف أن الحياة ما هي إلا حالة من الوهم نعيشها مثل ذلك الرجل الذي تعود أن يقفل أبواب مبنى عمله بالأقفال في نهاية كل يوم، مطمئنا بأن هذه الأقفال توفر لمؤسسته الصغيرة ومحتوياتها من مكاتب وأجهزة كمبيوتر ووحدات تكييف الأمان والحماية، بينما يكتشف في اختبار بسيط لتلك الأقفال أنها تُفتح بسهولة، وأن هذه الأقفال كذبة، فيضيع الإحساس بالأمان، ويستقر في نفسه أن الحياة برمتها ما هي إلا كذبة كبيرة.

المقاطع الوصفية
يستخدم المسعودي الإيماءات ذات الدلالة في توظيف المعنى، لتبدو المقاطع السردية وكأنها مقاطع وصفية تخدم التحول في سياق المعنى، وبخاصة أن الوصف يغيب كثيراً في معظم القصص، كما نجد مثلاً في رواية «موبي ديك» لميلفيل، حيث الانتقال من مكان إلى مكان، أو الانتقال من حالة إلى أخرى، يصاحبه تحول في مصائر الشخصيات، وربما تماثل هذه الأبنية أو الإيماءات الموظفة في تحول الشخصيات ما نجده في رواية «رحلات جاليفر» لسويفت، ورواية «التحول» لميشيل بوتور.
ويتجلى ذلك في قصة «جلسة تصوير» التي تحمل عنوان المجموعة، وفيها تقول الخاتمة: «كل هذه التفاصيل أريدها أن تظهر في الصورة التي ستلتقطها لي، وأعطيها لرجل محترف في تزوير جوازات السفر»، وكأنه يؤكد ذلك المعنى الذي تقوم عليه الحياة في مبناها ومغزاها، وهو انتفاء اليقين وغياب الحقيقة، وما كل شيء إلا ويخضع لقانون الزيف والتزوير.
وتتبدل الحياة فلا تستقر على حال، فها هو بطل قصة «بسكويت الطفولة» التي يستشرف بها المسعودي ختام مجموعته القصصية، وقد لوثته تصاريف الحياة، ويتكئ المسعودي كثيراً على تلك التيمة في أغلب القصص، فلا الطفل قد استمر طفلاً، ولا استمر في فقره فقيراً، ولا احتفظ بأهله وأقرب الناس إليه، يقول: «ذهبت أمك ولم تعد، ومضى العمر ولم يعد، تغير اسم المدرسة، أصبح لديك مال أكثر، ولم تعد تختبئ عن أصحابك، وأنت لم تعد أنت»، وفي ذلك يعبر المسعودي عن حالنا جميعاً، حين تنتقل بنا الحياة من حال العوز إلى حال الوفرة، وتعطينا بقدر ما نحتاج، لكنها في المقابل تأخذ منا ما هو أهم، تفقدنا الإحساس بالراحة والأمان، والإحساس بعدم تحمل المسؤولية، وقد كنا ننعم به في الطفولة، وتفقدنا براءة الطفولة ولهوها ومرحها، وتفقدنا الحضن الدافئ الذي كنا ننعم فيه بالأمان، كحضن الأم أو الأب، بل تفقدنا إحساسنا بأنفسنا ذاته.
يقول في قصة «تضاريس على الأرجح»: «هنا يرمي بك المكان الدافئ إلى حضن أمك الحنون، عندما تستلقي متوسداً ركبتها، ورويداً يسرقك النعاس حتى تسدل عليك العباءة، فيدوخك العطر الأخاذ وتغفو في أجواء تشبه الجنة، نم ولا تسمع لزوجتك، ابحث عن أمك وطفولتك في تضاريس العباءة».
كما أن الفقد أحياناً يصل إلى الإحساس بالوطن، فيقول في قصة «شاهد وشهيد»: «لم أذهب إلى الحرب مثلك، ولم أحارب من أجل الوطن»، ثم يقول: «لكني نسيت أن أخبرك، الوطن تنازل عن كل قضاياه التي كنت تدافع عنها»، إنه الوهم أو النضال من أجل ما يبدو في النهاية وهماً، وكأننا نجري وراء السراب أو نمسك بأيدينا قبض الريح. 
وقضية اجتماع الأشياء لمقاييس البشر ومنطقهم، ثم افتقاد تلك الأشياء وما يعبر ذلك عن تحولات المصائر، أمر يكاد يكون سائداً لدى الإنسان حتى في عهود بدائية أولى، ونجد هذا أوضح ما يكون في فلسفة الإنسان للحياة والموت، ويظل الإنسان بينهما كائناً متحركاً، لا يلبث أن يستقر ما بين الصعود والهبوط، أو الاندفاع والتقهقر، أو تحقيق النجاحات والإخفاقات، ثم ما يلبث ثانية أن يكتشف أن ما مر به عبر الحياة ما هو إلا حالة من الخداع والزيف، ولا تبقى هناك حقيقة سوى الموت، على الرغم مما يشوب ذلك من جدل.

حقيقة ثابتة
في كتابه «نحو قراءة ثانية للنص» يقول د. محمد أحمد النهاري، إن مصادر الديانات السماوية ذكرت ذلك الجدل الذي يدور بين الرسل وأقوامهم عند الحديث عن البعث، فالرميم وهي العظام النخرة لا يمكن أن تستوي على سوقها بشراً سوياً، وليس بالإمكان أن يعود هذا الذي أصبح عظاماً نخرة بشراً، يُسأل عما كسبت يداه في دار الدنيا من خير أو شر، وهو المعنى الذي يراه المسعودي في قصص المجموعة حقيقة ثابتة، حيث لا يمكن أن يعود الرجل المسن الذي أكل الزمن عليه وشرب شاباً يافعاً أو طفلاً مدللاً، ولا يمكن للمرأة العجوز التي مر بها العمر أن تعود إلى بهائها وتألقها وجمالها، كما لا يمكن للوطن بعد أن يشيخ أن يعود إلى مجده.
وبروح الطفولة وبراءتها يمارس المسعودي حالة التأمل لمفردات الحياة، من عمر يمضي سريعاً، ومن أحداث تذهب ولا تعود، مستأنساً أو قل متحسراً على تلك الأيام التي مضت، ولا نملك أن نعيدها ثانية، ولعله تعمد أن يتأمل الحياة بعين الطفولة، لأن الأطفال هم أكثر الناس حزناً على وفاة قريب، ومن ثم هم أكثر الناس حزناً على ما مضى من العمر، لأن الطفل في هذه العتمة الضيقة لن يكون قادراً على التنفس، وتظل روحه مقيدة وحبيسة داخل الحيز المحدود لهذه العتمة الضيقة، وربما كان ذلك هو السبب فيما نراه لدى الفراعنة، حيث تميز عمرانهم بالامتداد الرأسي، ولا يزال هذا المعمار حتى اليوم يحرص على أن تكون غرف النوم سامية السقف، لتستطيع الروح عند النوم التحليق بحرية، ولا تشعر بالاختناق.
المسعودي يشعر الآن عبر قصصه بالاختناق، على الرغم مما أصبح في حوزته من جاه وسلطان ومال، وكأنه ذلك السمك الذي نراه داخل الماء في البحر، قادراً على المناورة والحركة بانسياب ملحوظ، لكنه لا يفعل ذلك بمفرده، إنما لابد أن يكون ضمن جماعة، ولا يفتأ المرء أن يسأل نفسه رغم تقدم علم الأحياء: إن كان هذا الحيوان الانسيابي الظريف يعيش في الماء من دون هواء أو أوكسجين، أو إن كان قادراً على أن يتغذى من منطقة أخرى غير فمه، نظراً لكونه لا يستطيع أن يفتح فمه لأنه يسبح في الماء، وتخفيه مجاهل اليم، فماذا يملك الإنسان أن يفعل لو كان هو نفسه في الحياة، مقابل السمك في الماء؟
هذا السؤال البديهي يطرحه منطق الإنسان الذي لا يستطيع أن يعيش داخل الماء من دون تنفس، كما لا يستطيع أن يعيش في الحياة من دون حرية، وغياب ذلك يشعره بالاختناق.
وهكذا تبدو النصوص داخل المجموعة وكأنها صلاة تفضي إلى الصمت والسكون، تنساب كما تنساب الدموع صامتة هادئة، لا يسمع لها حتى مجرد همس، حزناً وحسرة على ضياع كل معنى جميل، وافتقاد كل معطى نبيل، والشوق والتوق إلى كل لحظة اتسمت في يوم من الأيام الخوالي بالصدق والحميمية والدفء، وكأنها إيذان بفراغ القلب من شغل الدنيا، وما ذلك إلا تشكيل آخر للموت، فكل نص ينمو من أول سطر حتى ينتهي إلى الموت.

اللغة الشاعرية
تجدر الإشارة إلى تلك اللغة الشاعرية الخاصة التي استخدمها المسعودي في معظم نصوص المجموعة، وهي ذات دلالة قوية على الاكتسابات الروحية والمعنوية والوجدانية والتعبيرية التي اختزنتها تصاريف الحياة، عبر الأيام الجميلة والليالي البهيجة البهية، المعمورة بالأنس والسعادة، والتي انصرمت مولية مسرعة كأنها خلسة من الزمن، أو طيف حلم مر كالسحاب، بل إنه أحياناً يختار لبعض قصصه الصياغة على النسق الشعري في أبيات عمودية، مثل قصة «الغريب المنتظر» و«القائد» و«سباق» و«حياة في حياة» و«ما تخفي قلوبهم» و«شخص ثالث» و«عروس الخليج» و«تهريب» و«تهمة» وغيرها. في قصة «شاهد وشهيد» نجد الكثير من العبارات الشاعرية، من بينها «أشتاق لروح الأرض في رائحتك»، و«أتحرّق لأسمع وشوشة عصافيري في صدرك»، و«أقصى العذاب أن عذابك لا يعذب أحداً»، و«عانقت الرصاص المقابل بفرح، وأبقيتني أحاور حزن الوحشة والغياب والانتظار الطويل»، و«عندما خلا الوطن من عينيك تحول إلى غربة متلاطمة».
 وفي قصة «سارق الفرح» يقول: «أرخيت يدي ورجلي، أرخيت جسدي كله، خبأت نبضي، ربطت قلبي، واستجمعت غرفه استعداداً لشلال سيأتي الآن منهمراً»، و«أذني الآن تسمع حديث قلبه، القلب الكتوم الذي لا يفصح». ويقول في قصة «الطرف الآخر»: «لكن مرض تكسر الروح أكثر ألماً»، و«أتمنى أن يطول حزنك حتى تكتب، فحبرك الحزن».
ويسعني الوقوف طويلاً أمام هذه العبارة التي تشكل مساراً ملبياً لحالة التأمل على طول المجموعة، كاشفة عن حالة الحزن الأكيدة التي ترتدي عباءة الإبداع، في رهان على قوة غيبية يتعلق بها الأمل في استعادة المفقود، والغيب على كل حال اتكال يدل على العجز، وما الحزن إلا نتيجة للفقد، ومحاولة استرجاعية، ويظل المسعودي لا يملك أمام حالة الفقد تلك إلا البكاء بالكلمات.

الاحتفاء بالحياة
«جلسة تصوير» ليست - في رأيي - مجرد مجموعة قصصية تجسد تأملات الإحساس بالنهاية، كما يصف لنا الروائي الإنجليزي جوليان بارنر في روايته التي تحمل هذا الاسم «جلسة النهاية»، بل هي بمنزلة رواية تجسّد ذلك الإحساس عبر مشاهد متصلة منفصلة، جاء كل منها في صورة قصة قصيرة، ويبدو لي أن علي المسعودي يتجلى بهذه المجموعة في أفضل حالاته، على الرغم من المرارة التي تقطر من ثنايا الحالات الإنسانية التي يستعرضها، وبها يقدم رؤيته أو تصوره للحياة، ويطلعنا على ما وصل إليه أسلوبه من نضج في الكتابة، وخططه في تكوين القصص وتشكيلها، عبر اللغة والخواتيم والعناوين والاختزال ودهشة المفاجأة.
وقد جمع المسعودي في مجموعته القصصية، وفقاً لهذه الرؤية، بين الحسنيين، التعبير عن مشاعر الذوات الأخرى التي يتمثلها القارئ والمتلقي، وثقافة التجويد الفني، واستطاع من خلال ذلك أن يمارس القدرة على التأثير العقلي والتذوق الفني معاً، ومعنى هذا أيضاً أنه احتفى بالصورة المعنوية بقدر ما احتفى بالصورة الحسية، وهي صورة يمكن تمثيلها من خلال استقطابات تجريبية ماثلة في الذهن.
وعلى هذا النحو يسعني أن أعبر عن إعجابي بما قدمه المسعودي من تقنيات وفنيات في نصوص المجموعة، وهو إعجاب غير مبني على المجاز وإنما على الموضوعية، لأنه بدا بمجموعته واحداً ممن يقوم إبداعهم على التَّماس مع الواقع، بدرجة أكبر من الاستلهام من الخيال.
  لقد كان المسعودي يغرّد عبر مجموعته القصصية في صمت، وحسبه أن ينتقل عبر هذا التغريد من الجيد إلى الأجود، مستعيناً بمقامات لحنية تقوم على الجمع بين النقيضين، الفرح والحبور والمرارة والألم، ثم هذا التجاوز لمثيرات الأحزان، وهي مثيرات تصدر عن التفكير، فيما كان وما سيكون، حسب تلك المقامات اللحنية لهذا الطائر المغرّد، ومن تغريده يتجلى الاحتفاء بالزمن والبكاء عليه في الوقت ذاته.
إن التغريد في الأساس هو شدو وغناء وطرب، احتفاء بجمال الحياة، وقد كان المسعودي في مجموعته يحتفي بالحياة، على الرغم مما بها من مرارات، كدعاء الكاهن في محراب الإله المقدس■