سيكولوجيا الحشود

سيكولوجيا الحشود

هذه‭ ‬ترجمة‭ ‬كاملة‭ ‬عن‭ ‬الإنجليزية‭ ‬لمقال‭  ‬‮«‬The‭ ‬Intimacy‭ ‬of‭ ‬Crowds‮»‬‭ ‬للكاتب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬مايكل‭ ‬بوند‭ ‬Michael‭ ‬Bond‭ ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬والسلوك،‭ ‬وينشر‭ ‬مقالاته‭ ‬في‭ ‬مجلات‭ ‬مرموقة‭ ‬مثل‭ ‬نيو‭ ‬ساينتيست‭ ‬New‭ ‬Scientist،‭ ‬ونيتشر‭ ‬Nature،‭ ‬وبروسبيكت‭ ‬Prospect‭. ‬ويتعرض‭ ‬المقال‭ ‬لنفسية‭ ‬الحشود‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تساهم‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬تاريخ‭ ‬الثورات‭ ‬أخيراً،‭ ‬ويستشهد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ببعض‭ ‬الصور‭ ‬من‭ ‬ثورة‭ ‬يناير‭ ‬2011‭ ‬في‭ ‬مصر‭. ‬جدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أن‭ ‬للمؤلف‭ ‬كتاباً‭ ‬مهماً‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬قوة‭ ‬الآخرين‮»‬‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2015‭ ‬.

الحشود‭ ‬ليست‭ ‬فاقدة‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭. ‬إنها‭ ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬التعاون،‭ ‬توحدهم‭ ‬أهداف‭ ‬واهتمامات‭ ‬مشتركة‭. ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يثير‭ ‬شهية‭ ‬الاختصاصي‭ ‬النفسي‭ ‬المبتدئ‭ ‬مثل‭ ‬مثيري‭ ‬الشغب‭. ‬فلننظر‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬أغسطس‭ ‬2011‭ ‬بعدما‭ ‬قتلت‭ ‬الشرطة‭ ‬مارك‭ ‬دوجان،‭ ‬الشاب‭ ‬البالغ‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬29‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬ضاحية‭ ‬توتنهام‭ ‬في‭ ‬لندن‭. ‬حينذاك‭ ‬اندفع‭ ‬الآلاف‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬وعديد‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬أسوأ‭ ‬اضطرابات‭ ‬شهدتها‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬وعندما‭ ‬نجحت‭ ‬الشرطة‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬أخيراً‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬بعد‭ ‬ستة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬والتخريب،‭ ‬دان‭ ‬الجميع‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬وقتها‭ ‬ديفيد‭ ‬كاميرون‭ ‬وحتى‭ ‬كتَّاب‭ ‬الأعمدة‭ ‬الصحفية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬توجّه‭ ‬سياسي‭ ‬ذلك‭ ‬الجنون‭ ‬الأهوج‭ ‬المرتاب‭ ‬الذي‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يُشعل‭ ‬حريقاً‭ ‬من‭ ‬حادثة‭ ‬قتل‭ ‬وحيدة،‭ ‬مع‭ ‬التسليم‭ ‬ببشاعتها‭. ‬النظرية‭ ‬الشائعة‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬مثيري‭ ‬الشغب‭ ‬قد‭ ‬أسلموا‭ ‬عقلانيتهم‭ ‬ووعيهم‭ ‬الذاتي‭ ‬لعقلية‭ ‬الحشد‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬المتعلقة‭ ‬بسلوك‭ ‬الجماهير‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬المهيمنة‭ ‬منذ‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬واقتحام‭ ‬سجن‭ ‬الباستيل‭. ‬اعتبر‭ ‬جابريل‭ ‬تارد‭ ‬Gabriel‭ ‬Tarde‭ - ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الجريمة‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬‭- ‬أنه‭ ‬حتى‭ ‬أكثر‭ ‬الحشود‭ ‬تحضراً‭: ‬‮«‬دودة‭ ‬وحشية‭ ‬ذات‭ ‬إدراك‭ ‬غير‭ ‬متجانس‭ ‬تتحرك‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬منتظمة‭ ‬باستمرار‭ ‬وفقاً‭ ‬لإملاءات‭ ‬رأسها‮»‬‭. ‬وحاول‭ ‬جوستاف‭ ‬لوبون‭ ‬Gustave Le Bon؛‭ ‬عالم‭ ‬النفس‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المعاصر،‭ ‬أن‭ ‬يشرح‭ ‬سلوك‭ ‬الجماهير‭ ‬كشلل‭ ‬في‭ ‬الدماغ‭: ‬‮«‬يصبح‭ ‬الفرد‭ ‬المنوم‭ ‬مغناطيسياً‭ ‬بوساطة‭ ‬الجماعة‭ ‬عبداً‭ ‬للدوافع‭ ‬اللاواعية‭. ‬هو‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬نفسه؛‭ ‬لكنه‭ ‬صار‭ ‬إنساناً‭ ‬آلياً‭ ‬لا‭ ‬تقوده‭ ‬إرادته‮»‬،‭ ‬هكذا‭ ‬كتب‭ ‬لوبون‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1895‭.‬

‮«‬منعزلاً‭ ‬وربما‭ ‬مهذباً‭ ‬بطبيعته،‭ ‬يتحول‭ ‬ذلك‭ ‬الفرد‭ ‬إلى‭ ‬همجي‭ ‬بين‭ ‬الحشود‭... ‬ذرة‭ ‬رمل‭ ‬وسط‭ ‬ذرات‭ ‬رمال‭ ‬أخرى‭ ‬يمكن‭ ‬للرياح‭ ‬أن‭ ‬تعبث‭ ‬بها‭ ‬كيفما‭ ‬تشاء‮»‬‭.‬

 

فكرة‭ ‬خاطئة

هذه‭ ‬هي‭ ‬الفكرة‭ ‬السائدة‭ ‬عن‭ ‬سلوك‭ ‬الغوغاء،‭ ‬التي‭ ‬تبيّن‭ ‬أنها‭ ‬خاطئة‭. ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية،‭ ‬اكتشف‭ ‬متخصصو‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الاجتماعي‭ ‬أنه‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬العقلانية‭ ‬وإدراك‭ ‬الذات،‭ ‬فإن‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الحشود‭ ‬يعيدون‭ ‬تعريف‭ ‬أنفسهم‭ ‬طبقاً‭ ‬لمن‭ ‬حولهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬إن‭ ‬هويتهم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬تحدد‭ ‬كيف‭ ‬يتصرفون‭. ‬

يقول‭ ‬ستيفن‭ ‬ريتشر‭ ‬Stephen Reicher،‭ ‬المتخصص‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬سانت‭ ‬أندروز،‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬لسلوك‭ ‬الجماهير‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حالة‭ ‬اضطراب‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الثلاثة‭ ‬الماضية،‭ ‬حيث‭ ‬جُمعت‭ ‬المعلومات‭. ‬إنه‭ ‬يتفق‭ ‬أيضاً‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬خرجت‭ ‬به‭ ‬أعمق‭ ‬التحقيقات‭ ‬حول‭ ‬الاضطرابات‭ ‬الأهلية‭ ‬التي‭ ‬حدثت،‭ ‬وهي‭ ‬لجنة‭ ‬كيرنر‭ ‬Kerner commission‭ ‬التي‭ ‬تقصّت‭ ‬أحداث‭ ‬شغب‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬لوس‭ ‬أنجلوس‭ ‬وشيكاغو‭ ‬ونيوآرك‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬1965‭ ‬حتى‭ ‬1967‭. ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬أشدّها‭ ‬خطورة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬ديترويت‭ ‬في‭ ‬يوليو‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬حينما‭ ‬أغارت‭ ‬الشرطة‭ ‬على‭ ‬بار‭ ‬غير‭ ‬مرخص،‭ ‬وتجمع‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬الزبائن‭ ‬والمقيمين‭ ‬المحليين‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬للتظاهر‭. ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬بين‭ ‬المتظاهرين‭ ‬والقائمين‭ ‬على‭ ‬تطبيق‭ ‬القانون‭ ‬مات‭ ‬43‭ ‬شخصاً،‭ ‬وأصيب‭ ‬1189‭ ‬وتم‭ ‬تدمير‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬2000‭ ‬مبنى‭.‬

لقد‭ ‬استنتج‭ ‬تقرير‭ ‬كيرنر‭ ‬أن‭ ‬العامل‭ ‬الرئيس‭ ‬وراء‭ ‬ذلك‭ ‬الاضطراب‭ ‬الأسوأ‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬منذ‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬كان‭ ‬الحرمان‭ ‬المتفشّي‭ ‬داخل‭ ‬المجتمعات‭ ‬السوداء‭. ‬لقد‭ ‬لوحظ‭ ‬أن‭ ‬نسبة‭ ‬السود‭ ‬من‭ ‬العاطلين‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬ضعف‭ ‬مثيلتها‭ ‬في‭ ‬البيض،‭ ‬أما‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالفقر‭ ‬فكانت‭ ‬النسبة‭ ‬حوالي‭ ‬أربعة‭ ‬أضعاف‭ ‬مقارنة‭ ‬بالبيض‭. ‬

أشار‭ ‬التقرير‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مثير‭ ‬الشغب‭ ‬التقليدي‭ ‬كان‭ ‬أفضل‭ ‬تعليماً‭ ‬من‭ ‬الشخص‭ ‬العادي‭ ‬في‭ ‬مجتمعه،‭ ‬وأكثر‭ ‬اندماجاً‭ ‬معه،‭ ‬وأن‭ ‬احتمالية‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬سجل‭ ‬إجرامي‭ ‬قليلة‭. ‬واستنتج‭ ‬تقرير‭ ‬كيرنر‭: ‬‮«‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬مثيري‭ ‬الشغب‭ ‬كانوا‭ ‬يبتغون‭ ‬المشاركة‭ ‬الكاملة‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والمنافع‭ ‬المادية‭ ‬التي‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬غالبية‭ ‬المواطنين‭ ‬الأمريكيين‮»‬‭. ‬‮«‬فبدلاً‭ ‬من‭ ‬رفض‭ ‬النظام‭ ‬الأمريكي،‭ ‬كان‭ ‬هؤلاء‭ ‬قلقين‭ ‬حيال‭ ‬إيجاد‭ ‬مكان‭ ‬لأنفسهم‭ ‬داخله‮»‬‭.‬

 

جنون‭ ‬أم‭ ‬تعاون؟‭!‬

يتماهى‭ ‬هذا‭ ‬بدقة‭ ‬مع‭ ‬نظرية‭ ‬ستيفن‭ ‬ريتشر‭ ‬القائلة‭ ‬إن‭ ‬الناس‭ ‬داخل‭ ‬الحشد‭ ‬لا‭ ‬يتصرفون‭ ‬بجنون‭ ‬أو‭ ‬بلا‭ ‬عقل،‭ ‬وإنما‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬حولهم‭. ‬إنهم‭ ‬لا‭ ‬يفقدون‭ ‬عقولهم‭ ‬وإنما‭ ‬يحكم‭ ‬سلوكهم‭ ‬هدف‭ ‬عقلاني‭ ‬كلياً‭. ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬كان‭ ‬الكثيرون‭ (‬وليس‭ ‬الكل‭ ‬برغم‭ ‬هذا‭) ‬من‭ ‬مثيري‭ ‬الشغب‭ ‬مدفوعين‭ ‬بالشعور‭ ‬المشترك‭ ‬بالظلم‭ ‬حيال‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬تتعامل‭ ‬بها‭ ‬الشرطة‭ ‬مع‭ ‬مجتمعاتهم‭ ‬في‭ ‬الشهور‭ ‬والسنين‭ ‬السابقة،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬ازدياد‭ ‬معدل‭ ‬توقيف‭ ‬الشباب‭ ‬السود‭ ‬وتفتيشهم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشرطة‭ ‬بلا‭ ‬مبرر‭ ‬وجيه‭. ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬التظاهرات،‭ ‬شعر‭ ‬كثيرون‭ - ‬وكجزء‭ ‬من‭ ‬جماعة‭ ‬ساخطة‭ - ‬بأن‭ ‬لديهم‭ ‬سبباً‭ ‬شرعياً‭ ‬للانضمام‭ ‬إليها‭.‬

من‭ ‬المدهش‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬يفسّر‭ ‬أيضاً‭ ‬لم‭ ‬لا‭ ‬تُصاب‭ ‬الحشود‭ ‬بالذعر‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬الطارئة‭ ‬فيعرّض‭ ‬الناس‭ ‬أنفسهم‭ ‬للمخاطر‭ ‬الشديدة‭. ‬عندما‭ ‬ضربت‭ ‬الطائرتان‭ ‬المختطفتان‭ ‬برجي‭ ‬مركز‭ ‬التجارة‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬في‭ ‬11‭ ‬سبتمبر‭ ‬2001،‭ ‬أجَّل‭ ‬معظم‭ ‬الموجودين‭ ‬بالداخل‭ ‬خروجهم‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬التوجه‭ ‬نحو‭ ‬أقرب‭ ‬مخرج‭. ‬حتى‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬خططوا‭ ‬للهرب‭ ‬انتظروا‭ ‬لست‭ ‬دقائق‭ ‬قبل‭ ‬التحرك‭ ‬نحو‭ ‬السلالم‭. ‬البعض‭ ‬تسكّع‭ ‬لنصف‭ ‬ساعة‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬المعلومات،‭ ‬أو‭ ‬جمع‭ ‬أشياء‭ ‬لأخذها‭ ‬معهم،‭ ‬أو‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬الحمام،‭ ‬والانتهاء‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬الإلكترونية،‭ ‬أو‭ ‬إجراء‭ ‬مكالمات‭ ‬هاتفية‭.‬

على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬يؤكد‭ ‬الباحثون‭ ‬أن‭ ‬الركاب‭ ‬يموتون‭ ‬في‭ ‬الحوادث‭ ‬لمجرد‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يحاولوا‭ ‬الخروج‭. ‬خذ‭ ‬مثلاً،‭ ‬حادثة‭ ‬حريق‭ ‬الطائرة‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬مانشستر‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬22‭ ‬أغسطس‭ ‬1985،‭ ‬عندما‭ ‬ظل‭ ‬55‭ ‬شخصاً‭ ‬جالسين‭ ‬في‭ ‬مقاعدهم‭ ‬وسط‭ ‬النيران‭. ‬يقول‭ ‬جون‭ ‬ليتش‭ ‬John Leach‭ ‬الذي‭ ‬درس‭ ‬سيكولوجية‭ ‬الكوارث‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬أوسلو،‭ ‬إنه‭ ‬ربما‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نعزو‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الذهول‭ ‬المشتركة‭ ‬التي‭ ‬أصابتهم‭. ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬الاعتقاد‭ ‬الشائع‭ ‬بأن‭ ‬الجماهير‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تصاب‭ ‬بالذعر‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الكوارث،‭ ‬فإن‭ ‬المجموعات‭ ‬الأكبر‭ ‬تهيم‭ ‬بلا‭ ‬وجهة‭ ‬ولا‭ ‬هدف،‭ ‬لأنها‭ ‬تستغرق‭ ‬وقتاً‭ ‬أطول‭ ‬للخروج‭ ‬بخطة‭.‬

 

فهم‭ ‬جديد

لقد‭ ‬ساعد‭ ‬الفهم‭ ‬الجديد‭ ‬لديناميكيات‭ ‬الحشود‭ ‬السلطات‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬تدوين‭ ‬القواعد‭ ‬الخاصة‭ ‬بإدارة‭ ‬الحشود‭. ‬في‭ ‬الحالات‭ ‬الطارئة،‭ ‬يتم‭ ‬تشجيع‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬تجنب‭ ‬الركون‭ ‬إلى‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن‭ ‬والتفكير‭ ‬في‭ ‬خطة‭ ‬للهروب‭. ‬بالمثل،‭ ‬يتم‭ ‬تدريب‭ ‬قوات‭ ‬الشرطة‭ ‬على‭ ‬تبني‭ ‬أسلوب‭ ‬أكثر‭ ‬حساسية‭ ‬وتواصلية‭ ‬مع‭ ‬الحشود‭ ‬الكبيرة‭. ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬سلوك‭ ‬الجماهير‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للأغلبية‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬القلة‭ ‬الإجرامية،‭ ‬فإن‭ ‬إرسال‭ ‬قوات‭ ‬مكافحة‭ ‬الشغب‭ ‬للتعامل‭ ‬معهم‭ ‬سوف‭ ‬يجعل‭ ‬الأمور‭ ‬أسوأ،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬يعامل‭ ‬وكأنه‭ ‬معتدٍ‭. ‬من‭ ‬المحتمل‭ ‬أن‭ ‬المعتدين‭ ‬المفترضين‭ ‬سوف‭ ‬يردون‭ ‬المعاملة‭ ‬بالمثل،‭ ‬مما‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تفاقم‭ ‬العنف‭.‬

استُلهمت‭ ‬تلك‭ ‬التغييرات‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كليفورد‭ ‬ستوت‭ ‬Clifford Stott‭ ‬الباحث‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬ليدز‭. ‬لقد‭ ‬أنجز‭ ‬ستوت‭ ‬معظم‭ ‬عمله‭ ‬بالاندماج‭ ‬مع‭ ‬الحشود،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬مشجعي‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬الإنجليز‭ ‬في‭ ‬المباريات‭ ‬المقامة‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬موطنهم‭ ‬وتسجيل‭ ‬ما‭ ‬يفعلون‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬موجوداً،‭ ‬مع‭ ‬ديكتافون‭ ‬في‭ ‬جيبه،‭ ‬في‭ ‬أشرس‭ ‬وأهم‭ ‬نوبات‭ ‬عنف‭ ‬ملاعب‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬التي‭ ‬تورط‭ ‬فيها‭ ‬مشجعون‭ ‬إنجليز‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬نهائيات‭ ‬كأس‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬في‭ ‬1990،‭ ‬وفي‭ ‬فرنسا‭ ‬في‭ ‬1998‭. ‬ستوت‭ ‬لديه‭ ‬بعض‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬حوادث‭ ‬عنف‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬يمكن‭ ‬فهمها‭ ‬جيداً‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬هويات‭ ‬المجموعات‭ ‬الكبيرة‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬التابعين‭ ‬معدومي‭ ‬العقل‭ ‬السائرين‭ ‬وراء‭ ‬قلة‭ ‬مثيرة‭ ‬للشغب‭. ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬كان‭ ‬غالبية‭ ‬المشجعين‭ ‬الإنجليز‭ ‬في‭ ‬مسابقات‭ ‬الدوري‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬وفرنسا‭ ‬مسالمين‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬ولكنهم‭ ‬جميعاً‭ ‬غيروا‭ ‬موقفهم‭ ‬حينما‭ ‬بدأوا‭ ‬يشعرون‭ ‬بأن‭ ‬الشرطة‭ ‬المحلية‭ ‬تستهدف‭ ‬المشجعين‭ ‬الإنجليز‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬ولهذا‭ ‬السبب‭ ‬نفسه،‭ ‬فإن‭ ‬مشجعي‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬الأسكتلنديين‭ ‬نادراً‭ ‬ما‭ ‬يقعون‭ ‬في‭ ‬المشكلات‭ ‬برغم‭ ‬شربهم‭ ‬الكحول‭ ‬بشراهة،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬اللاعنف‭ ‬أصبح‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬هويتهم‭. ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تجنب‭ ‬الصراع،‭ ‬فإن‭ ‬مشجعي‭ ‬اسكتلندا‭ ‬يميزون‭ ‬أنفسهم‭ ‬عن‭ ‬المشجعين‭ ‬الإنجليز‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬يعاقبون‭ ‬الذين‭ ‬يرتكبون‭ ‬العنف‭ ‬منهم‭.‬

لقد‭ ‬قدم‭ ‬ستوت‭ ‬ومعاونوه‭ ‬بحثهم‭ ‬لقوات‭ ‬الشرطة‭ ‬البرتغالية‭ ‬قبل‭ ‬بطولة‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬الأوربية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المزمع‭ ‬إقامتها‭ ‬في‭ ‬البرتغال‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2004‭. ‬لقد‭ ‬نصحوا‭ ‬قوات‭ ‬الشرطة‭ ‬بالتخلّي‭ ‬عن‭ ‬تكتيكات‭ ‬قوات‭ ‬مكافحة‭ ‬الشغب‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬مسابقات‭ ‬الدوري‭ ‬الماضية،‭ ‬واستخدام‭ ‬أسلوب‭ ‬هادئ‭ ‬لا‭ ‬يلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬وحازم‭ ‬لكن‭ ‬ودوداً‭ ‬بدلاً‭ ‬منها‭. ‬تقبل‭ ‬البرتغاليون‭ ‬النصيحة‭ ‬وطوَّروا‭ ‬برنامجاً‭ ‬للتأكد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬ضباط‭ ‬شرطتهم‭ ‬فهموا‭ ‬النظرية‭ ‬والكيفية‭ ‬التي‭ ‬يترجمون‭ ‬بها‭ ‬إياها‭ ‬إلى‭ ‬سياسة‭ ‬عدم‭ ‬مجابهة‭. ‬كانت‭ ‬النتيجة‭ ‬هي‭ ‬الغياب‭ ‬الكامل‭ ‬تقريباً‭ ‬لأي‭ ‬اضطرابات‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬المباريات‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬‮«‬يورو‭ ‬2004‮»‬‭.‬

اليوم‭ ‬أصبح‭ ‬نموذج‭ ‬الهوية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لسلوك‭ ‬الجماهير‭ ‬هو‭ ‬الإطار‭ ‬الذي‭ ‬تُرَاقب‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬جميع‭ ‬مباريات‭ ‬الاتحادات‭ ‬الأوربية‭ ‬لكرة‭ ‬القدم،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬وأوربا‭ ‬الشرقية‭ ‬مازال‭ ‬يطبق‭ ‬بشكل‭ ‬متقطع‭. ‬يعمل‭ ‬ستوت‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬تطبيق‭ ‬النموذج‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭. ‬في‭ ‬2009،‭ ‬طلبت‭ ‬الهيئة‭ ‬الشرطية‭ ‬لصاحبة‭ ‬الجلالة‭ (‬HMIC‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬جهة‭ ‬تفتيش‭ ‬رقابية‭ ‬مستقلة‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬تراقب‭ ‬عمل‭ ‬الشرطة،‭ ‬من‭ ‬ستوت‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬تقريراً‭ ‬عن‭ ‬تطبيق‭ ‬سيكولوجية‭ ‬الحشد‭ ‬على‭ ‬عمليات‭ ‬حفظ‭ ‬الأمن‭ ‬والنظام‭ ‬العام‭. ‬لقد‭ ‬تبّنت‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬توصياته،‭ ‬وجاءت‭ ‬إحدى‭ ‬النتائج‭ ‬بإنشاء‭ ‬نقاط‭ ‬تواصلية‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬ترسل‭ ‬ضباطاً‭ ‬في‭ ‬زي‭ ‬موحد‭ ‬مميز‭ ‬إلى‭ ‬جموع‭ ‬المتظاهرين‭ ‬لفتح‭ ‬باب‭ ‬للتواصل‭ ‬معهم‭ ‬لا‭ ‬للتجسس‭ ‬عليهم‭ ‬كما‭ ‬يظن‭ ‬بعض‭ ‬النشطاء‭. ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬مشكلات‭ ‬متعلقة‭ ‬بالثقة‭ ‬بشرطة‭ ‬لندن‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬أعمال‭ ‬شغب‭ ‬2011،‭ ‬فقد‭ ‬تمت‭ ‬الاستعانة‭ ‬بالضباط‭ ‬التواصليين‭ ‬بنجاح‭ ‬حوالي‭ ‬50‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬دورة‭ ‬الألعاب‭ ‬الأولمبية‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬2012‭. ‬

 

ندرة‭ ‬لاعقلانية‭ ‬الحشود

لقد‭ ‬علمت‭ ‬سنوات‭ ‬البحث‭ ‬الميداني‭ ‬ستوت‭ ‬وريتشر‭ ‬ومتخصصي‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الآخرين‭ ‬أن‭ ‬اللاعقلانية‭ ‬معدومة‭ ‬المخ‭ ‬نادرة‭ ‬داخل‭ ‬الحشود،‭ ‬وأن‭ ‬التعاون‭ ‬والإيثار‭ ‬هما‭ ‬القاعدة‭ ‬عندما‭ ‬تتعرض‭ ‬حيوات‭ ‬البشر‭ ‬للخطر‭. ‬عندما‭ ‬فجر‭ ‬متطرفون‭ ‬أربع‭ ‬قنابل‭ ‬داخل‭ ‬نظام‭ ‬النقل‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬الذروة‭ ‬الصباحية‭ ‬في‭ ‬7‭ ‬يوليو‭ ‬2005‭ ‬وقتلوا‭ ‬52‭ ‬شخصاً،‭ ‬وجرحوا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬770‭ ‬آخرين،‭ ‬انبثقت‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬الاستثنائية‭ ‬حول‭ ‬سلوك‭ ‬التعاون‭ ‬وسط‭ ‬تلك‭ ‬المجزرة‭ ‬والفوضى‭. ‬في‭ ‬الظلام،‭ ‬في‭ ‬الأنفاق‭ ‬المليئة‭ ‬بالسخام‭ ‬تحت‭ ‬الأرض،‭ ‬حيث‭ ‬علق‭ ‬المئات‭ ‬مُجَرَّدين‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وسيلة‭ ‬لمعرفة‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانوا‭ ‬سينجون،‭ ‬كان‭ ‬هنالك‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬الذعر،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬شعور‭ ‬عام‭ ‬بـ«أننا‭ ‬جميعا‭ ‬في‭ ‬القارب‭ ‬نفسه‮»‬‭ ‬كما‭ ‬عبر‭ ‬أحد‭ ‬الناجين‭.‬

في‭ ‬جامعة‭ ‬ساسيكس،‭ ‬دشَّن‭ ‬الباحثون‭ ‬بقيادة‭ ‬عالم‭ ‬النفس‭ ‬الاجتماعي‭ ‬جون‭ ‬دروري‭ ‬John‭ ‬Drury‭ ‬مصطلح‭ ‬المطاوعة‭ ‬الجمعيةCollective‭ ‬Resilience،‭ ‬وهي‭ ‬التوجّه‭ ‬نحو‭ ‬التعاون‭ ‬المتبادل‭ ‬والوحدة‭ ‬وسط‭ ‬المخاطر‭ ‬لوصف‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬تتصرف‭ ‬بها‭ ‬الحشود‭ ‬تحت‭ ‬الضغط‭ ‬غالباً‭. ‬هناك‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬النماذج‭ ‬الموثقة‭ ‬بخصوص‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭. ‬في‭ ‬2008،‭ ‬أجرى‭ ‬فريق‭ ‬‮«‬دروري‮»‬‭ ‬مقابلات‭ ‬مع‭ ‬11‭ ‬من‭ ‬الناجين‭ ‬من‭ ‬المآسي‭ ‬خلال‭ ‬الأربعين‭ ‬عاماً‭ ‬السابقة‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬كارثة‭ ‬استاد‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬في‭ ‬هيلزبره‭ ‬حينما‭ ‬مات‭ ‬96‭ ‬من‭ ‬مشجعي‭ ‬ليفربول‭ ‬بعدما‭ ‬احتجزوا‭ ‬في‭ ‬حظائر‭ ‬مزدحمة،‭ ‬وتفجيرات‭ ‬الجيش‭ ‬الجمهوري‭ ‬الأيرلندي‭ ‬التي‭ ‬قتلت‭ ‬ستة‭ ‬خارج‭ ‬هارودز‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬خلال‭ ‬1983،‭ ‬في‭ ‬كلتا‭ ‬الحالتين،‭ ‬استعاد‭ ‬أولئك‭ ‬الناجون‭ ‬شعوراً‭ ‬قوياً‭ ‬بالتآزر‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الأزمة‭ ‬واستعداداً‭ ‬لمساعدة‭ ‬الغرباء‭. ‬يقول‭ ‬‮«‬دروري‮»‬‭ - ‬الذي‭ ‬يطلق‭ ‬على‭ ‬الحشود‭ ‬اسم‭ ‬خدمة‭ ‬الطوارئ‭ ‬الرابعة‭ ‬وهو‭ ‬توجه‭ ‬لا‭ ‬تشاركهم‭ ‬فيه‭ ‬الشرطة‭ - ‬إنه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭ ‬التعاون،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬ترتفع‭ ‬معدلات‭ ‬الخسائر‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭. ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬دروري،‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬أن‭ ‬نلوم‭ ‬الجماهير‭ ‬على‭ ‬سلوكها‭ ‬في‭ ‬الحشود‭ ‬بصفته‭ ‬سببا‭ ‬فيما‭ ‬ينتج‭ ‬من‭ ‬كوارث‭. ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬المشكلة‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬ضعف‭ ‬التنظيم‭: ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد،‭ ‬أو‭ ‬تصميم‭ ‬رديء‭ ‬للمكان‭.‬

لقد‭ ‬أوضح‭ ‬دروري‭ ‬أن‭ ‬الكارثة‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬صغيرة‭ ‬مثل‭ ‬تعطّل‭ ‬قطار‭ ‬في‭ ‬نفق،‭ ‬فإنها‭ ‬تخلق‭ ‬‮«‬حشداً‭ ‬سيكولوجياً‮»‬‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬غرباء‭ ‬فيما‭ ‬سبق‭. ‬‮«‬تتشاركون‭ ‬فجأة‭ ‬المصير‭ ‬المشترك،‭ ‬وتتحول‭ ‬دائرة‭ ‬اهتماماتكم‭ ‬من‭ ‬الشخصي‭ ‬إلى‭ ‬العام‮»‬‭.‬

‮«‬أنا‭ ‬أعتقد‭ ‬أننا‭ ‬كلنا‭ ‬نقبل‭ ‬بأن‭ ‬المرء‭ ‬قد‭ ‬تجاوز‭ ‬تعريف‭ ‬أو‭ ‬تصنيف‭ ‬الشخص‭ ‬بوصفه‭ ‬مشجع‭ ‬كرة‭ ‬قدم‮»‬‭ ‬قال‭ ‬أحد‭ ‬الناجين‭ ‬من‭ ‬مأساة‭ ‬هيلزبره‭. ‬‮«‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬رأى‭ ‬مشجعي‭ ‬ليفربول‭ ‬أو‭ ‬مشجعي‭ ‬نوتس‭ ‬فوريست‭... ‬لقد‭ ‬كف‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬كمشجعي‭ ‬كرة‭... ‬لقد‭ ‬كانوا‭ ‬أناسا‭ ‬فقط‮»‬‭.‬

 

شعور‭ ‬بالارتقاء

هذا‭ ‬الشعور‭ ‬بالمشاركة‭ ‬والإحساس‭ ‬بانهيار‭ ‬الحواجز‭ ‬هو‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الحشود‭ ‬الأكثر‭ ‬شيوعاً‭. ‬الحشود‭ ‬السيكولوجية‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬ناجزة‭ ‬وتسبب‭ ‬شعوراً‭ ‬بالارتقاء‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬توجد‭ ‬فيها‭. ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬مقابلاتي‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2011،‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أسمع‭ ‬المشاركين‭ ‬يقولون‭ ‬إن‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬قضوها‭ ‬في‭ ‬التظاهر‭ ‬بميدان‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬كانت‭ ‬أفضل‭ ‬أيام‭ ‬حياتهم‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬‮«‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬الثورة‭ ‬أعظم‭ ‬حدث‭ ‬مر‭ ‬في‭ ‬حياتي‮»‬‭. ‬هكذا‭ ‬أخبرني‭ ‬الصحفي‭ ‬محمد‭ ‬يحيى‭. ‬‮«‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬الجنة‮»‬؛‭ ‬قالها‭ ‬باسم‭ ‬فتحي‭ ‬أحد‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬ساعدوا‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬التظاهرات‭ ‬المبكرة‭. ‬‮«‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يفكر‭ ‬فيك‭ ‬باعتبارك‭ ‬مسلماً‭ ‬أو‭ ‬مسيحياً،‭ ‬فقيراً‭ ‬أو‭ ‬غنياً‮»‬‭.‬

الصحفية‭ ‬المقيمة‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬أورسولا‭ ‬ليندسي‭ ‬Ursula Lindsey‭ ‬تتذكر‭ ‬ذلك‭ ‬المشهد‭ ‬كالآتي‭: ‬‮«‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬ذلك‭ ‬الحشد،‭ ‬تشعر‭ ‬بأن‭ ‬المد‭ ‬في‭ ‬جانبك‭. ‬تشعر‭ ‬بأنك‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬كلياً‭. ‬لقد‭ ‬جعلت‭ ‬الجموع‭ ‬الناس‭ ‬تشعر‭ ‬بالروعة‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬معنوياتهم‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬بسبب‭ ‬رؤيتهم‭ ‬لأنفسهم‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الجماعة‭ ‬الضخمة‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬لا‭ ‬نهائية،‭ ‬منفتحة‭ ‬العقل‭ ‬وإيجابية‭. ‬لقد‭ ‬رأيت‭ ‬تبخّر‭ ‬الخوف،‭ ‬وهذا‭ ‬الانتشاء‭ ‬بسبب‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬كانوا‭ ‬معك‭. ‬تلك‭ ‬الـ‭ ‬18‭ ‬يوماً‭ ‬أخرجت‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الناس‭. ‬لقد‭ ‬قدم‭ ‬الناس‭ ‬أفضل‭ ‬‮«‬إصداراتهم‮»‬‭.‬

الفكرة‭ ‬القائلة‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬الحشود،‭ ‬قد‭ ‬نقدم‭ ‬أفضل‭ ‬‮«‬إصداراتنا‮»‬‭ ‬هي‭ ‬الصورة‭ ‬المعاكسة‭ ‬لوجهة‭ ‬النظر‭ ‬التي‭ ‬شاعت‭ ‬منذ‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬ولأن‭ ‬العلم‭ ‬يؤيد‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬التآزر‭ ‬في‭ ‬حشود‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬إلى‭ ‬الإيثار‭ ‬في‭ ‬ضحايا‭ ‬الكوارث‭ ‬والتضامن‭ ‬بين‭ ‬المتظاهرين،‭ ‬فإن‭ ‬الدليل‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬عقل‭ ‬الحشود‭ ‬وتآلف‭ ‬الجماهير‭ ‬له‭ ‬الغلبة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سواه‭ ‬الآن‭ .