سيكولوجيا الحشود
هذه ترجمة كاملة عن الإنجليزية لمقال «The Intimacy of Crowds» للكاتب الإنجليزي مايكل بوند Michael Bond المتخصص في شؤون علم النفس والسلوك، وينشر مقالاته في مجلات مرموقة مثل نيو ساينتيست New Scientist، ونيتشر Nature، وبروسبيكت Prospect. ويتعرض المقال لنفسية الحشود التي أصبحت تساهم بقوة في صنع تاريخ الثورات أخيراً، ويستشهد في ذلك ببعض الصور من ثورة يناير 2011 في مصر. جدير بالذكر أن للمؤلف كتاباً مهماً بعنوان «قوة الآخرين» في عام 2015 .
الحشود ليست فاقدة العقل في الحقيقة. إنها مكونة من أفراد غاية في التعاون، توحدهم أهداف واهتمامات مشتركة. لا شيء يثير شهية الاختصاصي النفسي المبتدئ مثل مثيري الشغب. فلننظر بعين الاعتبار إلى ما حدث في أغسطس 2011 بعدما قتلت الشرطة مارك دوجان، الشاب البالغ من العمر 29 عاماً من ضاحية توتنهام في لندن. حينذاك اندفع الآلاف إلى لندن وعديد من المدن البريطانية في أسوأ اضطرابات شهدتها البلاد في عقد من الزمان، وعندما نجحت الشرطة في السيطرة أخيراً على الأوضاع بعد ستة أيام من العنف والتخريب، دان الجميع بداية من رئيس الوزراء وقتها ديفيد كاميرون وحتى كتَّاب الأعمدة الصحفية من كل توجّه سياسي ذلك الجنون الأهوج المرتاب الذي يمكنه أن يُشعل حريقاً من حادثة قتل وحيدة، مع التسليم ببشاعتها. النظرية الشائعة هي أن مثيري الشغب قد أسلموا عقلانيتهم ووعيهم الذاتي لعقلية الحشد.
لقد كانت وجهة النظر المتعلقة بسلوك الجماهير تلك هي المهيمنة منذ الثورة الفرنسية واقتحام سجن الباستيل. اعتبر جابريل تارد Gabriel Tarde - المتخصص في علم الجريمة الفرنسي في القرن التاسع عشر - أنه حتى أكثر الحشود تحضراً: «دودة وحشية ذات إدراك غير متجانس تتحرك بطريقة غير منتظمة باستمرار وفقاً لإملاءات رأسها». وحاول جوستاف لوبون Gustave Le Bon؛ عالم النفس الاجتماعي المعاصر، أن يشرح سلوك الجماهير كشلل في الدماغ: «يصبح الفرد المنوم مغناطيسياً بوساطة الجماعة عبداً للدوافع اللاواعية. هو لم يعد نفسه؛ لكنه صار إنساناً آلياً لا تقوده إرادته»، هكذا كتب لوبون في عام 1895.
«منعزلاً وربما مهذباً بطبيعته، يتحول ذلك الفرد إلى همجي بين الحشود... ذرة رمل وسط ذرات رمال أخرى يمكن للرياح أن تعبث بها كيفما تشاء».
فكرة خاطئة
هذه هي الفكرة السائدة عن سلوك الغوغاء، التي تبيّن أنها خاطئة. في السنوات القليلة الماضية، اكتشف متخصصو علم النفس الاجتماعي أنه بدلاً من التخلي عن العقلانية وإدراك الذات، فإن الناس في الحشود يعيدون تعريف أنفسهم طبقاً لمن حولهم في ذلك الوقت، إن هويتهم الاجتماعية تحدد كيف يتصرفون.
يقول ستيفن ريتشر Stephen Reicher، المتخصص في علم النفس الاجتماعي في جامعة سانت أندروز، إن هذا النموذج لسلوك الجماهير ينطبق على كل حالة اضطراب عامة في العقود الثلاثة الماضية، حيث جُمعت المعلومات. إنه يتفق أيضاً مع ما خرجت به أعمق التحقيقات حول الاضطرابات الأهلية التي حدثت، وهي لجنة كيرنر Kerner commission التي تقصّت أحداث شغب وقعت في لوس أنجلوس وشيكاغو ونيوآرك وغيرها من المدن الأمريكية في الفترة من 1965 حتى 1967. ربما كان أشدّها خطورة تلك التي وقعت في ديترويت في يوليو عام 1967، حينما أغارت الشرطة على بار غير مرخص، وتجمع مئات من الزبائن والمقيمين المحليين في الشوارع للتظاهر. بعد أكثر من أربعة أيام من العنف بين المتظاهرين والقائمين على تطبيق القانون مات 43 شخصاً، وأصيب 1189 وتم تدمير أكثر من 2000 مبنى.
لقد استنتج تقرير كيرنر أن العامل الرئيس وراء ذلك الاضطراب الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب الأهلية، كان الحرمان المتفشّي داخل المجتمعات السوداء. لقد لوحظ أن نسبة السود من العاطلين عن العمل ضعف مثيلتها في البيض، أما فيما يتعلق بالفقر فكانت النسبة حوالي أربعة أضعاف مقارنة بالبيض.
أشار التقرير أيضاً إلى أن مثير الشغب التقليدي كان أفضل تعليماً من الشخص العادي في مجتمعه، وأكثر اندماجاً معه، وأن احتمالية أن يكون له سجل إجرامي قليلة. واستنتج تقرير كيرنر: «يبدو أن مثيري الشغب كانوا يبتغون المشاركة الكاملة في النظام الاجتماعي والمنافع المادية التي يتمتع بها غالبية المواطنين الأمريكيين». «فبدلاً من رفض النظام الأمريكي، كان هؤلاء قلقين حيال إيجاد مكان لأنفسهم داخله».
جنون أم تعاون؟!
يتماهى هذا بدقة مع نظرية ستيفن ريتشر القائلة إن الناس داخل الحشد لا يتصرفون بجنون أو بلا عقل، وإنما بالتعاون مع من حولهم. إنهم لا يفقدون عقولهم وإنما يحكم سلوكهم هدف عقلاني كلياً. في لندن، كان الكثيرون (وليس الكل برغم هذا) من مثيري الشغب مدفوعين بالشعور المشترك بالظلم حيال الطريقة التي تتعامل بها الشرطة مع مجتمعاتهم في الشهور والسنين السابقة، وخصوصاً ازدياد معدل توقيف الشباب السود وتفتيشهم من قبل الشرطة بلا مبرر وجيه. عندما بدأت التظاهرات، شعر كثيرون - وكجزء من جماعة ساخطة - بأن لديهم سبباً شرعياً للانضمام إليها.
من المدهش أن هذا النموذج يفسّر أيضاً لم لا تُصاب الحشود بالذعر في المواقف الطارئة فيعرّض الناس أنفسهم للمخاطر الشديدة. عندما ضربت الطائرتان المختطفتان برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001، أجَّل معظم الموجودين بالداخل خروجهم بدلاً من التوجه نحو أقرب مخرج. حتى أولئك الذين خططوا للهرب انتظروا لست دقائق قبل التحرك نحو السلالم. البعض تسكّع لنصف ساعة في انتظار مزيد من المعلومات، أو جمع أشياء لأخذها معهم، أو الذهاب إلى الحمام، والانتهاء من الرسائل الإلكترونية، أو إجراء مكالمات هاتفية.
على غرار ما سبق، يؤكد الباحثون أن الركاب يموتون في الحوادث لمجرد أنهم لم يحاولوا الخروج. خذ مثلاً، حادثة حريق الطائرة في مطار مانشستر في المملكة المتحدة في 22 أغسطس 1985، عندما ظل 55 شخصاً جالسين في مقاعدهم وسط النيران. يقول جون ليتش John Leach الذي درس سيكولوجية الكوارث في جامعة أوسلو، إنه ربما يمكننا أن نعزو ذلك إلى حالة الذهول المشتركة التي أصابتهم. على العكس من الاعتقاد الشائع بأن الجماهير عادة ما تصاب بالذعر في أثناء الكوارث، فإن المجموعات الأكبر تهيم بلا وجهة ولا هدف، لأنها تستغرق وقتاً أطول للخروج بخطة.
فهم جديد
لقد ساعد الفهم الجديد لديناميكيات الحشود السلطات في أوربا على إعادة تدوين القواعد الخاصة بإدارة الحشود. في الحالات الطارئة، يتم تشجيع الناس على تجنب الركون إلى الوضع الراهن والتفكير في خطة للهروب. بالمثل، يتم تدريب قوات الشرطة على تبني أسلوب أكثر حساسية وتواصلية مع الحشود الكبيرة. إذا كان سلوك الجماهير ينبع من القيم الاجتماعية للأغلبية بدلاً من القلة الإجرامية، فإن إرسال قوات مكافحة الشغب للتعامل معهم سوف يجعل الأمور أسوأ، لأن كل فرد يعامل وكأنه معتدٍ. من المحتمل أن المعتدين المفترضين سوف يردون المعاملة بالمثل، مما قد يؤدي إلى تفاقم العنف.
استُلهمت تلك التغييرات بشكل كبير من قبل كليفورد ستوت Clifford Stott الباحث في جامعة ليدز. لقد أنجز ستوت معظم عمله بالاندماج مع الحشود، وخصوصاً مشجعي كرة القدم الإنجليز في المباريات المقامة بعيداً عن موطنهم وتسجيل ما يفعلون. لقد كان موجوداً، مع ديكتافون في جيبه، في أشرس وأهم نوبات عنف ملاعب كرة القدم في أوربا، التي تورط فيها مشجعون إنجليز بما فيها نهائيات كأس العالم في إيطاليا في 1990، وفي فرنسا في 1998. ستوت لديه بعض الشك في أن معظم حوادث عنف كرة القدم يمكن فهمها جيداً في إطار هويات المجموعات الكبيرة بدلاً من التابعين معدومي العقل السائرين وراء قلة مثيرة للشغب. على سبيل المثال، كان غالبية المشجعين الإنجليز في مسابقات الدوري في إيطاليا وفرنسا مسالمين في البداية، ولكنهم جميعاً غيروا موقفهم حينما بدأوا يشعرون بأن الشرطة المحلية تستهدف المشجعين الإنجليز على وجه الخصوص، ولهذا السبب نفسه، فإن مشجعي كرة القدم الأسكتلنديين نادراً ما يقعون في المشكلات برغم شربهم الكحول بشراهة، حيث إن اللاعنف أصبح جزءاً من هويتهم. عن طريق تجنب الصراع، فإن مشجعي اسكتلندا يميزون أنفسهم عن المشجعين الإنجليز بل وحتى يعاقبون الذين يرتكبون العنف منهم.
لقد قدم ستوت ومعاونوه بحثهم لقوات الشرطة البرتغالية قبل بطولة كرة القدم الأوربية التي كان من المزمع إقامتها في البرتغال للمرة الأولى في عام 2004. لقد نصحوا قوات الشرطة بالتخلّي عن تكتيكات قوات مكافحة الشغب المستخدمة في معظم مسابقات الدوري الماضية، واستخدام أسلوب هادئ لا يلفت الانتباه وحازم لكن ودوداً بدلاً منها. تقبل البرتغاليون النصيحة وطوَّروا برنامجاً للتأكد من أن جميع ضباط شرطتهم فهموا النظرية والكيفية التي يترجمون بها إياها إلى سياسة عدم مجابهة. كانت النتيجة هي الغياب الكامل تقريباً لأي اضطرابات في أثناء المباريات الإنجليزية في «يورو 2004».
اليوم أصبح نموذج الهوية الاجتماعية لسلوك الجماهير هو الإطار الذي تُرَاقب من خلاله جميع مباريات الاتحادات الأوربية لكرة القدم، بالرغم من أنه في روسيا وأوربا الشرقية مازال يطبق بشكل متقطع. يعمل ستوت الآن على تطبيق النموذج على ما هو أبعد من كرة القدم. في 2009، طلبت الهيئة الشرطية لصاحبة الجلالة (HMIC)، وهي جهة تفتيش رقابية مستقلة في المملكة المتحدة تراقب عمل الشرطة، من ستوت أن يكتب تقريراً عن تطبيق سيكولوجية الحشد على عمليات حفظ الأمن والنظام العام. لقد تبّنت عديداً من توصياته، وجاءت إحدى النتائج بإنشاء نقاط تواصلية في لندن وفي كل مكان ترسل ضباطاً في زي موحد مميز إلى جموع المتظاهرين لفتح باب للتواصل معهم لا للتجسس عليهم كما يظن بعض النشطاء. وبالرغم من وجود مشكلات متعلقة بالثقة بشرطة لندن في أعقاب أعمال شغب 2011، فقد تمت الاستعانة بالضباط التواصليين بنجاح حوالي 50 مرة في أثناء دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في لندن 2012.
ندرة لاعقلانية الحشود
لقد علمت سنوات البحث الميداني ستوت وريتشر ومتخصصي علم النفس الاجتماعي الآخرين أن اللاعقلانية معدومة المخ نادرة داخل الحشود، وأن التعاون والإيثار هما القاعدة عندما تتعرض حيوات البشر للخطر. عندما فجر متطرفون أربع قنابل داخل نظام النقل في لندن في ساعات الذروة الصباحية في 7 يوليو 2005 وقتلوا 52 شخصاً، وجرحوا أكثر من 770 آخرين، انبثقت عديد من القصص الاستثنائية حول سلوك التعاون وسط تلك المجزرة والفوضى. في الظلام، في الأنفاق المليئة بالسخام تحت الأرض، حيث علق المئات مُجَرَّدين من أي وسيلة لمعرفة ما إذا كانوا سينجون، كان هنالك القليل من الذعر، وكان هناك شعور عام بـ«أننا جميعا في القارب نفسه» كما عبر أحد الناجين.
في جامعة ساسيكس، دشَّن الباحثون بقيادة عالم النفس الاجتماعي جون دروري John Drury مصطلح المطاوعة الجمعيةCollective Resilience، وهي التوجّه نحو التعاون المتبادل والوحدة وسط المخاطر لوصف الكيفية التي تتصرف بها الحشود تحت الضغط غالباً. هناك عديد من النماذج الموثقة بخصوص هذا الأمر. في 2008، أجرى فريق «دروري» مقابلات مع 11 من الناجين من المآسي خلال الأربعين عاماً السابقة بما فيها كارثة استاد كرة القدم في هيلزبره حينما مات 96 من مشجعي ليفربول بعدما احتجزوا في حظائر مزدحمة، وتفجيرات الجيش الجمهوري الأيرلندي التي قتلت ستة خارج هارودز في لندن خلال 1983، في كلتا الحالتين، استعاد أولئك الناجون شعوراً قوياً بالتآزر في أثناء الأزمة واستعداداً لمساعدة الغرباء. يقول «دروري» - الذي يطلق على الحشود اسم خدمة الطوارئ الرابعة وهو توجه لا تشاركهم فيه الشرطة - إنه من دون ذلك التعاون، كان من الممكن أن ترتفع معدلات الخسائر أكثر بكثير. من وجهة نظر دروري، من الخطأ أن نلوم الجماهير على سلوكها في الحشود بصفته سببا فيما ينتج من كوارث. غالباً ما تكون المشكلة الحقيقة هي ضعف التنظيم: كثير من الناس في مكان واحد، أو تصميم رديء للمكان.
لقد أوضح دروري أن الكارثة حتى ولو كانت صغيرة مثل تعطّل قطار في نفق، فإنها تخلق «حشداً سيكولوجياً» من أولئك الذين كانوا غرباء فيما سبق. «تتشاركون فجأة المصير المشترك، وتتحول دائرة اهتماماتكم من الشخصي إلى العام».
«أنا أعتقد أننا كلنا نقبل بأن المرء قد تجاوز تعريف أو تصنيف الشخص بوصفه مشجع كرة قدم» قال أحد الناجين من مأساة هيلزبره. «لا أعتقد أن أي شخص رأى مشجعي ليفربول أو مشجعي نوتس فوريست... لقد كف الناس عن رؤية بعضهم البعض كمشجعي كرة... لقد كانوا أناسا فقط».
شعور بالارتقاء
هذا الشعور بالمشاركة والإحساس بانهيار الحواجز هو واحد من تجارب الحشود الأكثر شيوعاً. الحشود السيكولوجية غالباً ما تكون ناجزة وتسبب شعوراً بالارتقاء في الأماكن التي توجد فيها. في أثناء مقابلاتي مع الناس بعد الثورة المصرية في عام 2011، غالباً ما كنت أسمع المشاركين يقولون إن الأيام التي قضوها في التظاهر بميدان التحرير في القاهرة كانت أفضل أيام حياتهم على الإطلاق. «لقد كانت الثورة أعظم حدث مر في حياتي». هكذا أخبرني الصحفي محمد يحيى. «لقد كانت قطعة من الجنة»؛ قالها باسم فتحي أحد الشباب الذين ساعدوا في تنظيم التظاهرات المبكرة. «لا أحد يفكر فيك باعتبارك مسلماً أو مسيحياً، فقيراً أو غنياً».
الصحفية المقيمة في القاهرة أورسولا ليندسي Ursula Lindsey تتذكر ذلك المشهد كالآتي: «بمجرد أن ترى ذلك الحشد، تشعر بأن المد في جانبك. تشعر بأنك على حق كلياً. لقد جعلت الجموع الناس تشعر بالروعة. لقد كانت معنوياتهم في السماء بسبب رؤيتهم لأنفسهم كجزء من هذه الجماعة الضخمة. لقد كانت تجربة لا نهائية، منفتحة العقل وإيجابية. لقد رأيت تبخّر الخوف، وهذا الانتشاء بسبب أن كثيراً من الناس كانوا معك. تلك الـ 18 يوماً أخرجت أجمل ما في الناس. لقد قدم الناس أفضل «إصداراتهم».
الفكرة القائلة إنه في الحشود، قد نقدم أفضل «إصداراتنا» هي الصورة المعاكسة لوجهة النظر التي شاعت منذ الثورة الفرنسية، ولأن العلم يؤيد هذه الصورة الجديدة من التآزر في حشود كرة القدم إلى الإيثار في ضحايا الكوارث والتضامن بين المتظاهرين، فإن الدليل على سلامة عقل الحشود وتآلف الجماهير له الغلبة على ما سواه الآن .