الفلسفة وتسلية المحزون... بين حيل الكندي وعزاء بوئثيوس

الفلسفة وتسلية المحزون...  بين حيل الكندي وعزاء بوئثيوس

إن‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬دور‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬الحزن‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬الجديد،‭ ‬فرسالة‭ ‬الكندي‭ ‬‮«‬في‭ ‬الحيلة‭ ‬لدفع‭ ‬الأحزان‮»‬‭(‬‭*‬‭)‬،‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬الهجري‭/ ‬التاسع‭ ‬الميلادي،‭ ‬تناقش‭ ‬موضوع‭ ‬الحزن‭ ‬وتشخيصه‭ ‬وتوفير‭ ‬الحيل‭ ‬لعلاجه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منهج‭ ‬عقلي‭ ‬واضح‭ ‬المعالم،‭ ‬ومن‭ ‬قبله‭ ‬كتاب‭ ‬فيلسوف‭ ‬اللاهوت‭ ‬المسيحي‭ ‬بوئثيوس‭ ‬‮«‬عزاء‭ ‬الفلسفة‮»‬‭(‬‭**‬‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬يقدم‭ ‬وصفة‭ ‬عقلية‭ ‬محددة‭ ‬كأدوية‭ ‬لمسببات‭ ‬الحزن،‭ ‬ونلاحظ‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬هذين‭ ‬الفيلسوفين‭ ‬لهما‭ ‬المكوّن‭ ‬والمصدر‭ ‬نفسه،‭ ‬أعني‭ ‬الدين،‭ ‬فالكندي‭ ‬ينحاز‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬معتقده‭ ‬الديني،‭ ‬بل‭ ‬والمنافحة‭ ‬عنه،‭ ‬وإذا‭ ‬وجد‭ ‬تعارضاً‭ ‬ظاهرياً‭ ‬بين‭ ‬الفلسفة‭ ‬والدين،‭ ‬فإنه‭ ‬يعمد‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التوافق‭ ‬العميق‭ ‬الذي‭ ‬يزيح‭ ‬التعارض‭ ‬الظاهر،‭ ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬بوئثيوس‭ ‬الذي‭ - ‬كما‭ ‬أسلفنا‭ - ‬هو‭ ‬فيلسوف‭ ‬لاهوت‭ ‬مسيحي،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬الاثنين‭ ‬أي‭ ‬أثر‭ ‬يميل‭ ‬نحو‭ ‬تناول‭ ‬الحزن‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬وجدانية‭ ‬دينية،‭ ‬إنما‭ ‬ينطلقان‭ ‬في‭ ‬المعالجة‭ ‬النفسية‭ ‬من‭ ‬الإرادة‭ ‬الإنسانية‭. ‬

يبحث‭ ‬الكندي‭ ‬في‭ ‬رسالته‭ ‬‮«‬في‭ ‬الحيلة‭ ‬لدفع‭ ‬الأحزان‮»‬‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬ومعالجات،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يسميها‭ ‬حيلاً‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬العارض‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬تأثير‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬مجمل‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬الحزن،‭ ‬ونتبين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬استعراض‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬أن‭ ‬الكندي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬العلاج‭ ‬بالإنسان،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الإنسان‭ ‬باعتباره‭ ‬سيد‭ ‬نفسه‭ ‬والقادر‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬حالاته‭ ‬وآفاته‭ ‬وأدرانه‭ ‬بقواه‭ ‬والشخصية‭ ‬التي‭ ‬يمتلكها،‭ ‬يركز‭ ‬الكندي‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬العقل‭ ‬بوصفه‭ ‬المنطلق‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬المعالجة،‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬صمام‭ ‬الأمان‭ ‬لمجابهة‭ ‬أحوال‭ ‬الألم‭ ‬النفساني،‭ ‬وذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬إبراز‭ ‬التناقض‭ ‬المنطقي‭ ‬الذي‭ ‬نقع‭ ‬فيه‭ ‬عندما‭ ‬يتسلّط‭ ‬علينا‭ ‬الحزن‭ ‬ويتملكنا‭ ‬نتيجة‭ ‬محزنات‭ ‬معينة،‭ ‬بل‭ ‬ويذهب‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬ليجعل‭ ‬لعالم‭ ‬العقل‭ ‬مزية‭ ‬فارقة‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬الحس،‭ ‬وهي‭ ‬مزية‭ ‬الثبات‭ ‬والدوام‭ ‬وعدم‭ ‬التقلب‭ ‬والتذبذب‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬حال‭ ‬مطلوبات‭ ‬الحس،‭ ‬ويوجّه‭ ‬الكندي‭ ‬إلى‭ ‬مشاهدة‭ ‬العالم‭ ‬العقلي‭ ‬وتصيير‭ ‬‮«‬محبوباتنا‭ ‬وقنياتنا‭ ‬وإرادتنا‭ ‬منه‮»‬‭ ‬لأنه‭ ‬‮«‬إن‭ ‬فعلنا‭ ‬ذلك‭ ‬أمنا‭ ‬أن‭ ‬يغصبنا‭ ‬قنياتنا‭ ‬أحدٌ،‭ ‬أو‭ ‬يملكها‭ ‬علينا‭ ‬يد،‭ ‬وأن‭ ‬نعدم‭ ‬ما‭ ‬أحببنا‭ ‬منها،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تنالها‭ ‬الآفات‭ ‬ولا‭ ‬يلحقها‭ ‬الممات‭ ‬ولا‭ ‬تفوتنا‭ ‬الطِّلبة‮»‬‭.‬

كما‭ ‬نلمح‭ ‬منهجية‭ ‬علمية‭ ‬عند‭ ‬الكندي‭ ‬في‭ ‬بحثه‭ ‬الدقيق‭ ‬عن‭ ‬السبب‭ ‬وراء‭ ‬ظاهرة‭ ‬الحزن،‭ ‬ومفهوم‭ ‬السبب‭ ‬والعلية‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المفاهيم‭ ‬العقلية‭ ‬المنهجية،‭ ‬فمن‭ ‬دون‭ ‬معرفة‭ ‬السبب‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬معالجة‭ ‬المُسبّب،‭ ‬وبعبارة‭ ‬جليّة‭ ‬‮«‬كل‭ ‬ألم‭ ‬غير‭ ‬معروف‭ ‬الأسباب‭ ‬غير‭ ‬موجود‭ ‬الشفاء‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الكندي‭. ‬وإذا‭ ‬أردنا‭ ‬الشفاء‭ ‬من‭ ‬الحزن‭ ‬فلابد‭ ‬لنا‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬‮«‬ما‭ ‬الحزن‭ ‬وأسبابه‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬يضمِّن‭ ‬الكندي‭ ‬في‭ ‬تعريفه‭ ‬للحزن‭ ‬الأسباب‭ ‬المؤدية‭ ‬إليه،‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الحزن‭ ‬ألم‭ ‬نفساني‭ ‬يعرض‭ ‬لفقد‭ ‬المحبوبات‭ ‬وفوت‭ ‬المطلوبات‮»‬‭.‬

إذن‭ ‬المحبوبات‭ ‬والمطلوبات‭ ‬الحسية‭ ‬أشياء‭ ‬قابلة‭ ‬للتبدل‭ ‬والتغيير‭ ‬أو‭ ‬للفقد‭ ‬والفوت،‭ ‬وبالتالي‭ ‬مسببة‭ ‬للحزن،‭ ‬لكن‭ ‬التغير‭ ‬هو‭ ‬طبيعتها،‭ ‬وثباتها‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬يخالف‭ ‬هذه‭ ‬الطبيعة‭. ‬وينبغي‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬المطلوبات‭ ‬وفقاً‭ ‬لطبيعتها‭ ‬المتغيرة‭ ‬العابرة،‭ ‬ولا‭ ‬يتحصّل‭ ‬لنا‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬بتوطين‭ ‬النفس‭ ‬وتعويدها‭ ‬على‭ ‬تقلبات‭ ‬الحياة‭ ‬وصروفها‭. ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬إذن‭ ‬بسلوك‭ ‬مكتســــب‭ ‬يستطيعه‭ ‬الإنسان،‭ ‬فـ‭ ‬‮«‬المكروه‭ ‬والمحبوب‭ ‬الحسي‭ ‬ليسا‭ ‬شــــيئاً‭ ‬في‭ ‬الطبع‭ ‬لازماً،‭ ‬بل‭ ‬بالعـــادات‭ ‬وكثـــــرة‭ ‬الاستعمال‮»‬،‭ ‬ويــــدلل‭ ‬الكندي‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬أحوال‭ ‬الناس‭ ‬واختلافهم‭ ‬في‭ ‬مراداتهم‭ ‬ومطالبهم‮»‬،‭ ‬ويمثل‭ ‬ذلك‭ ‬بعديد‭ ‬من‭ ‬الأمثلة،‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭ ‬مدمن‭ ‬لعب‭ ‬القمار‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬مع‭ ‬استلاب‭ ‬ماله‭ ‬وضياع‭ ‬أيامه‭ ‬باطلاً‭ ‬وتتالي‭ ‬أحزانه‭ ‬بمقموراته‭ ‬‭- ‬بأمره‭ ‬بهجاً‭ ‬مسروراً،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬خالف‭ ‬ذلك‭ ‬عنده‭ ‬وحجبه‭ ‬عنه‭ ‬مصائب‭ ‬ونقصٌ‭ ‬به‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬يتمركز‭ ‬مفهوم‭ ‬العادة‭ ‬لإصلاح‭ ‬النفس‭ ‬وعلاجها‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬الأدوية‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬لعلاج‭ ‬وإصلاح‭ ‬الجسد‭ ‬كالقطع‭ ‬والكي‭ ‬وغيرها‭.‬

ويقدم‭ ‬لنا‭ ‬الكندي‭ ‬فيما‭ ‬يشبه‭ ‬الوصفة‭ ‬الطبية‭ ‬عشرة‭ ‬أدوية‭ ‬لمعالجة‭ ‬الحزن‭ ‬والأسى‭ ‬ومداواة‭ ‬المحزون،‭ ‬نعرض‭ ‬لبعضها‭ ‬بإيجاز‭. ‬في‭ ‬الدواء‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬يصفه‭ ‬بالسهل،‭ ‬يقسم‭ ‬الكندي‭ ‬المحزنات‭ ‬إلى‭ ‬قسمين،‭ ‬قسم‭ ‬خاص‭ ‬بأفعالنا‭ ‬وقسم‭ ‬خارج‭ ‬عن‭ ‬إرادتنا،‭ ‬أي‭ ‬خاصاً‭ ‬بفعل‭ ‬غيرنا،‭ ‬أما‭ ‬الذي‭ ‬يتعلق‭ ‬بالقسم‭ ‬الأول‭ ‬فينبغي‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬ألا‭ ‬نفعل‭ ‬أفعالاً‭ ‬تسبب‭ ‬لنا‭ ‬الحزن،‭ ‬لأننا‭ ‬إن‭ ‬فعلــــنا‭ ‬ذلك‭ ‬وقعنا‭ ‬في‭ ‬تناقض‭ ‬يجعلنا‭ ‬كـ‭ ‬‮«‬العدماء‭ ‬عقولهم‮»‬،‭ ‬بحسب‭ ‬الكندي‭. ‬فنحن‭ ‬إن‭ ‬كنا‭ ‬لا‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نحزن‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬نفعل‭ ‬ما‭ ‬يُحزننا،‭ ‬‮«‬فنحن‭ ‬نريد‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نريد‮»‬،‭ ‬أما‭ ‬القسم‭ ‬الآخر‭ ‬الخارج‭ ‬عن‭ ‬إرادتنا،‭ ‬فالتعامل‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬وجهين،‭ ‬أما‭ ‬الوجه‭ ‬الأول‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬ندفعه‭ ‬إن‭ ‬كنا‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬نتحايل‭ ‬عليه‭ ‬بالتقليل‭ ‬من‭ ‬مدته‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬غير‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬دفعه‭. ‬والأمر‭ ‬الأهم‭ ‬الذي‭ ‬يحذرنا‭ ‬الكندي‭ ‬منه‭ ‬هو‭ ‬ألا‭ ‬نحزن‭ ‬لمجرد‭ ‬توقع‭ ‬وقوع‭ ‬المحزن،‭ ‬لأنه‭ ‬ببساطة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يقع،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يمنعه‭ ‬مانع‭ ‬فيجب‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بالحزن‭ ‬حال‭ ‬وقوعه،‭ ‬وعند‭ ‬وقوع‭ ‬المحزن،‭ ‬يجب‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الحزن،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬له‭ ‬نهاية‭ ‬ككل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬بالتسلية‭ ‬لتقصير‭ ‬مدته‭.‬

وفي‭ ‬حيلة‭ ‬أخرى‭ ‬يقدمها‭ ‬تعتبر‭ ‬متممة‭ ‬وموضحة‭ ‬للحيلة‭ ‬السابقة،‭ ‬وتساعد‭ ‬على‭ ‬السلوة‭ ‬وتعين‭ ‬على‭ ‬الصبر،‭ ‬يبين‭ ‬الكندي‭ ‬أهمية‭ ‬فكرة‭ ‬التذكر،‭ ‬أي‭ ‬تذكر‭ ‬ما‭ ‬مر‭ ‬بالإنسان‭ ‬من‭ ‬حوادث‭ ‬ومصائب‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬وقتها‭ ‬حادثة‭ ‬الحوادث‭ ‬وأكبر‭ ‬المصائب،‭ ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬تم‭ ‬تجاوزها‭ ‬وأصبحت‭ ‬مجرد‭ ‬ذكرى‭. ‬وفيما‭ ‬يتصل‭ ‬بالتذكر‭ ‬يبين‭ ‬الكندي‭ ‬أن‭ ‬تجارب‭ ‬الآخرين‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬وسيلة‭ ‬للتسلية‭ ‬أيضاً،‭ ‬فمن‭ ‬يشكو‭ ‬من‭ ‬فقد‭ ‬ولد‭ ‬حبيب‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬الولد،‭ ‬فإنه‭ ‬يشبهه‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬خلق‭ ‬كثير،‭ ‬كثير‭ ‬منهم‭ ‬نسي‭ ‬ويعيش‭ ‬حياته‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي،‭ ‬ليستخلص‭ ‬الكندي‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الحزن‭ ‬وضع،‭ ‬لا‭ ‬طبع‮»‬‭. ‬كما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬أن‭ ‬الفقد‭ ‬والفوت‭ ‬اللذين‭ ‬يعتبران‭ ‬أهم‭ ‬المصائب‭ ‬المحزنة‭ ‬إنما‭ ‬هما‭ ‬طبيعة‭ ‬الأشياء،‭ ‬وإنا‭ ‬إذا‭ ‬أردنا‭ ‬ألا‭ ‬نفقد‭ ‬محبوباً‭ ‬مثلاً،‭ ‬فيجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬المحبوب‭ ‬موجوداً‭ ‬أصلاً،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬المحبوب‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬إنساناً‭ ‬عزيزاً‭ ‬مثلاً‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إنسان،‭ ‬وحدّ‭ ‬الإنسان‭ ‬أنه‭ ‬ذلك‭ ‬الحيوان‭ ‬الناطق‭ ‬المائت،‭ ‬وهكذا‭ ‬يقدم‭ ‬الكندي‭ ‬حيله‭ ‬وأدويته،‭ ‬حيلة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭ ‬لتعضد‭ ‬وتقوي‭ ‬هذه‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬وتجعلها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬مجابهة‭ ‬الحياة‭ ‬بحلوها‭ ‬ومرها‭.‬

 

عذابات‭ ‬بوئثيوس‭ ‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬الكندي‭ ‬يقدم‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الحيل‭ ‬لدفع‭ ‬الحزن‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬نصائح‭ ‬عامة‭ ‬موجهة‭ ‬لقارئ‭ ‬نصه‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬تجربته‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يذكرها‭ ‬صراحةً،‭ ‬فإن‭ ‬بوئثيوس‭ ‬يعرض‭ ‬خلاصة‭ ‬الأدوية‭ ‬الشافية‭ ‬لآلام‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬وفي‭ ‬إطار‭ ‬محنته‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعانيها‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬تنفيذ‭ ‬حكم‭ ‬الإعدام‭ ‬فيه،‭ ‬وكان‭ ‬يطرد‭ ‬بكل‭ ‬دواء‭ ‬تلك‭ ‬الوساوس‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تؤرق‭ ‬نفسه،‭ ‬ومع‭ ‬كون‭ ‬بوئثيوس‭ ‬الفيلسوف‭ ‬اللاهوتي‭ ‬المعروف‭ ‬صاحب‭ ‬الرسائل‭ ‬التي‭ ‬نافح‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬معتقده‭ ‬الديني،‭ ‬بتقديمه‭ ‬إياه‭ ‬بصورة‭ ‬عقلانية،‭ ‬من‭ ‬مثل‭: ‬رسالته‭ ‬‮«‬في‭ ‬الثالوث‭ ‬الأقدس‮»‬،‭ ‬‮«‬هل‭ ‬الألوهية‭ ‬تقال‭ ‬جوهرياً‭ ‬على‭ ‬الأب‭ ‬والابن‭ ‬والروح‭ ‬القدس؟‮»‬،‭ ‬‮«‬في‭ ‬الإيمان‭ ‬الكاثوليكي‮»‬،‭ ‬فإنه‭ ‬يقدم‭ ‬أدويته‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الإنساني،‭ ‬دون‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬النصوص‭ ‬الدينية‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬بل‭ ‬بتحيز‭ ‬كامل‭ ‬إلى‭ ‬الحجج‭ ‬العقلية‭ ‬المنطقية،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬مثار‭ ‬حيرة‭ ‬لمترجم‭ ‬نصه‭ ‬وناقله‭ ‬إلى‭ ‬العربية،‭ ‬الذي‭ ‬يجد‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬اعتماد‭ ‬‮«‬رجل‭ ‬مسيحي‭ ‬على‭ ‬مشارف‭ ‬الموت‮»‬‭ ‬في‭ ‬تعزية‭ ‬نفسه‭ ‬‮«‬على‭ ‬مذاهب‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬أفلاطون‭ ‬وأرسطو‭ ‬والرواقيين‭ ‬والأفلاطونيين‭ ‬المحدثين‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬‮«‬ويقتبس‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬أقوالهم‭ ‬ولا‭ ‬يقتبس‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬الأناجيل‭ ‬أو‭ ‬العهد‭ ‬القديم،‭ ‬أو‭ ‬كتب‭ ‬آباء‭ ‬الكنيسة‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬‮«‬من‭ ‬الأيسر‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬العزاء‭ ‬الديني‭ ‬والخلاص‭ ‬المسيحي‮»‬‭ (‬عزاء‭ ‬الفلسفة‭)‬،‭ ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬نص‭ ‬بوئثيوس‭ ‬لا‭ ‬يتضمن‭ ‬تناقضاً‭ ‬أو‭ ‬تعارضاً‭ ‬مع‭ ‬المسيحية،‭ ‬والروح‭ ‬الزهدية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬متوافقة‭ ‬تماماً‭ ‬مع‭ ‬الروح‭ ‬المسيحية،‭ ‬ولعل‭ ‬خلفية‭ ‬الاتصال‭ ‬بين‭ ‬الوحي‭ ‬والحكمة‭ ‬الفلسفية‭ ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬خلفيات‭ ‬هذا‭ ‬النص،‭ ‬فيكون‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬ثنائياً،‭ ‬يستند‭ ‬أحدهما‭ ‬إلى‭ ‬العقل‭ ‬ويتكئ‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬الوحي‭.‬

يمثّل‭ ‬بوئثيوس‭ ‬الفلسفة‭ ‬بطبيب‭ ‬معالج؛‭ ‬فيخاطبها‭ ‬وتخاطبه‭ ‬ويشكو‭ ‬إليها‭ ‬وتسليه‭. ‬فتستغرب‭ ‬الفلسفة‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬تلميذها‭ ‬الأريب‭ ‬وسقوط‭ ‬عقله‭ ‬المحزون،‭ ‬وهو‭ ‬ذلك‭ ‬العقل‭ ‬الدائب‭ ‬البحث‭ ‬وراء‭ ‬مختلف‭ ‬المعارف‭ ‬والعلوم،‭ ‬كيف‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يسقط‭ ‬ويكون‭ ‬أسيراً‭ ‬خاضعاً‭ ‬لأوهام‭ ‬اليأس؟‭ ‬فتنظر‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬تلميذها‭ ‬بوئثيوس‭ ‬متأسفة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬منحته‭ ‬أسلحة‭ ‬كفيلة‭ ‬بأن‭ ‬تحميه‭ ‬وتذود‭ ‬عنه،‭ ‬فتعاتبه‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬مطرق‭ ‬الرأس‭ ‬بالقول‭ ‬‮«‬لماذا‭ ‬أنت‭ ‬صامت؟‭ ‬هل‭ ‬أصمتك‭ ‬الخجل‭ ‬أم‭ ‬أصمتك‭ ‬الذهول؟‮»‬‭ ‬لتدرك‭ ‬ببصيرتها‭ ‬أن‭ ‬تلميذها‭ ‬مذهولٌ‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬مصابه‭. ‬إذن،‭ ‬حان‭ ‬وقت‭ ‬العلاج،‭ ‬الذي‭ ‬يتــمـــحور‭ ‬حول‭ ‬تذكيره‭ ‬بحقيقة‭ ‬نفسه‭ ‬وموطنها‭ ‬الأصلي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تشخّـــــص‭ ‬له‭ ‬المرض،‭ ‬‮«‬ذلــك‭ ‬الـــمرض‭ ‬الــــشائع‭ ‬في‭ ‬العقول‭ ‬الضالة‮»‬،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬نسيان‭ ‬جوهر‭ ‬النفس‭. ‬

ثم‭ ‬تقوم‭ ‬الفلسفة‭ ‬بعرض‭ ‬نفسها‭ ‬بوصفها‭ ‬الملجأ‭ ‬الحصين،‭ ‬بل‭ ‬والحامية‭ ‬لمريديها‭ ‬وطلابها‭. ‬وتذكره‭ ‬بالسابقين‭ ‬الأولين‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة‭ ‬اليونان؛‭ ‬فهذا‭ ‬أنكساجوراس‭ ‬قد‭ ‬نفي‭ ‬من‭ ‬وطنه،‭ ‬وذاك‭ ‬سقراط‭ ‬تجرع‭ ‬السم‭ ‬تنفيذاً‭ ‬لحكم‭ ‬الإعدام‭ ‬وعذب‭ ‬زينون،‭ ‬والقائمة‭ ‬تطول‭. ‬كما‭ ‬تذكر‭ ‬الفلسفة‭ ‬تلميذها‭ ‬باللاحقين‭ ‬من‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الرومان‭ ‬كانيوس‭ ‬وسينيكا‭ ‬وسورانوس،‭ ‬كاشفة‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬العقل‭ ‬هو‭ ‬القائد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يغترّ‭ ‬بأتفه‭ ‬الغنائم‭ (‬الشهرة‭ - ‬المنصب‭ - ‬الثروة‭). ‬ثم‭ ‬تبدأ‭ ‬الفلسفة‭ ‬بالمعالجة‭ ‬الفعلية‭ ‬وبمنهجية‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬منهجية‭ ‬التحليل‭ ‬النفسي‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬في‭ ‬مطالع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬مع‭ ‬عالم‭ ‬النفس‭ ‬الشهير‭ ‬سيجموند‭ ‬فرويد‭. ‬فكأني‭ ‬ببوئثيوس‭ ‬مسجى‭ ‬على‭ ‬سريره،‭ ‬بينما‭ ‬توجّهه‭ ‬الفلسفة‭ ‬مستشهدةً‭ ‬بقول‭ ‬هوميروس‭ ‬‮«‬أفض‭ ‬بدخيلتك‭ ‬ولا‭ ‬تكتمها‭ ‬في‭ ‬نفسك‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬نصف‭ ‬العلاج،‭ ‬أعني‭ ‬التشخيص‭ ‬الصحيح،‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬في‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬المريض‭ ‬نفسه‭ ‬فـ«إن‭ ‬كنت‭ ‬تبتغي‭ ‬عون‭ ‬الطبيب‭ ‬فلابد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬الجرح‮»‬،‭ ‬ويستجيب‭ ‬بوئثيوس‭ ‬ويكشف‭ ‬مكنونات‭ ‬نفسه‭ ‬صارخاً‭ ‬بأسى‭ ‬‮«‬ألا‭ ‬ترين‭ ‬أن‭ ‬لسان‭ ‬حالي‭ ‬يغني‭ ‬عن‭ ‬مقالي؟‮»‬‭ ‬فيبدأ‭ ‬بالمقارنة‭ ‬بين‭ ‬مكتبته‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يجلس‭ ‬فيها‭ ‬هانئاً‭ ‬يتنقل‭ ‬بين‭ ‬شتى‭ ‬الفكر،‭ ‬وبين‭ ‬حاله‭ ‬الراهنة‭ ‬في‭ ‬سجنه‭ ‬الكئيب،‭ ‬وبأي‭ ‬ذنب؟‭ ‬ذنب‭ ‬اتباعه‭ ‬لتعاليمها،‭ ‬أي‭ ‬الفلسفة،‭ ‬وتطبيق‭ ‬القيم‭ ‬العليا‭ ‬وأهمها‭ ‬قيمة‭ ‬العدل،‭ ‬حيث‭ ‬جلبت‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬جلبت‭ ‬من‭ ‬مكائد‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬فقده‭ ‬منصبه‭ ‬ظلماً،‭ ‬واتهامه‭ ‬بالخيانة‭ ‬والحكم‭ ‬عليه‭ ‬بالإعدام‭. ‬فهل‭ ‬هذا‭ ‬مصير‭ ‬أصحاب‭ ‬الصراط‭ ‬السوي؟‭! ‬وهكذا‭ ‬بدأت‭ ‬تتضح‭ ‬الصورة‭ ‬شيئاً‭ ‬فشيئاً‭ ‬للطبيب‭ ‬المعالج،‭ ‬فمريضها‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬ضلّ‭ ‬طريقه،‭ ‬لأنه‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬يشكو‭ ‬نفياً،‭ ‬فإنما‭ ‬هو‭ ‬نفيٌ‭ ‬تم‭ ‬بإرادته،‭ ‬فالموطن‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يُنفى‭ ‬منه‭ ‬أحد‭ ‬إلا‭ ‬بمشيئته‭. ‬

أما‭ ‬أسى‭ ‬بوئثيوس‭ ‬على‭ ‬مكتبته‭ ‬النفيسة‭ ‬بنفائس‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬تحويها،‭ ‬فجواب‭ ‬الفلسفة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬مقصد‭ ‬الكتب‭ ‬وغايتها‭ ‬‮«‬كرسي‭ ‬العقل‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬يجعل‭ ‬للكتب‭ ‬قيمة‭... ‬الفلسفة‭ ‬التي‭ ‬تحتويها‭ ‬الكتب،‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬تكتنزها‮»‬،‭ ‬والأفكار‭ ‬مكانها‭ ‬العقل‭. ‬وقبل‭ ‬وصف‭ ‬الأدوية‭ ‬الشافية،‭ ‬تستزيد‭ ‬الفلسفة‭ ‬باستجواب‭ ‬مريضها‭ ‬ببعض‭ ‬الأسئلة‭ ‬ليكون‭ ‬تشخيصها‭ ‬أكثر‭ ‬دقة‭ ‬ودواؤها‭ ‬أكثر‭ ‬نجاعة،‭ ‬فتقول‭ ‬‮«‬هل‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬تسيره‭ ‬المصادفة‭ ‬والأحداث‭ ‬العشوائية،‭ ‬أم‭ ‬تعتقد‭ ‬أنه‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬عقلي‭ ‬ما؟‮»‬،‭ ‬فيجيب‭ ‬بوئثيوس‭ ‬بوجود‭ ‬خالق‭ ‬يشمل‭ ‬خلقه‭ ‬بعنايته،‭ ‬فتستحسن‭ (‬الفلسفة‭) ‬جوابه،‭ ‬مستغربةً‭ ‬مرضه‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الرأي‭ ‬السليم‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬تمضي‭ ‬بطرح‭ ‬أسئلتها‭ ‬باحثةً‭ ‬عن‭ ‬الحلقة‭ ‬المفقودة‭ ‬التي‭ ‬أفضت‭ ‬ببوئثيوس‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬وتتوصل‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الحلقة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سؤال‭ ‬حول‭ ‬ماهية‭ ‬الإنسان،‭ ‬فيأتي‭ ‬جوابه‭ ‬بأنه‭ ‬الحيوان‭ ‬العاقل‭ ‬أو‭ ‬الأخلاقي،‭ ‬فتعيد‭ ‬‮«‬الفلسفة‮»‬‭ ‬تساؤلها‭ ‬‮«‬أواثق‭ ‬أنت‭ ‬أنك‭ ‬لست‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك؟‮»‬،‭ ‬ويجيب‭ ‬‮«‬واثق‭ ‬تماماً‮»‬،‭ ‬وهنا‭ ‬تقدم‭ ‬التشخيص‭ ‬بوضوح‭ ‬‮«‬الآن‭ ‬عرفت‭ ‬سبب‭ ‬مرضك‭ ‬أو‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬لمرضك‭. ‬لقد‭ ‬نسيت‭ ‬ما‭ ‬أنت،‭ ‬لذا‭ ‬فقد‭ ‬وقفت‭ ‬على‭ ‬مرضك‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جوانبه،‭ ‬وعلى‭ ‬المدخل‭ ‬إلى‭ ‬استرداد‭ ‬صحتك‭. ‬فلأنك‭ ‬سادر‭ ‬في‭ ‬نسيانك،‭ ‬فقد‭ ‬رحت‭ ‬تتكسر‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬أنك‭ ‬منفيٌ‭ ‬ومجرد‭ ‬من‭ ‬ممتلكاتك‭. ‬

ولأنك‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬بالضبط‭ ‬غاية‭ ‬الأشياء،‭ ‬فقد‭ ‬حــسبـــت‭ ‬أن‭ ‬التافهــيـــن‭ ‬والمجـــرميـــــن‭ ‬أقوياء‭ ‬وسعداء‭. ‬ولأنك‭ ‬نسيت‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الطرائق‭ ‬التي‭ ‬تسيّر‭ ‬العالم،‭ ‬فقد‭ ‬ظننت‭ ‬أن‭ ‬ضربات‭ ‬الحظ‭ ‬تتخبط‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬بغير‭ ‬ضابط،‭ ‬تلك‭ ‬أشياء‭ ‬لا‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬المرض‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬أيضاً‮»‬‭.‬

‭ ‬

‭ ‬بين‭ ‬الكندي‭ ‬وبوئثيوس‭ ‬

تجمع‭ ‬بين‭ ‬الكندي‭ ‬وبوئثيوس‭ ‬تجربة‭ ‬ذاتية‭ ‬متشابهة‭ ‬جداً،‭ ‬فكلاهما‭ ‬كان‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬عائلة‭ ‬أرستقراطية‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬مراكز‭ ‬السلطة،‭ ‬وكلاهما‭ ‬تسلسلت‭ ‬به‭ ‬الأحداث‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬مجداً‭ ‬سياسياً‭ ‬لا‭ ‬ندّ‭ ‬له‭ ‬فيه،‭ ‬ما‭ ‬ولّد‭ ‬لهما‭ ‬أحقاداً‭ ‬وضغائن‭ ‬وحسداً‭ ‬من‭ ‬خصومهما،‭ ‬كانت‭ ‬نتيجته‭ ‬المكائد‭ ‬السياسية‭ ‬وإيغال‭ ‬صدر‭ ‬الحكام‭ ‬عليهما،‭ ‬لتنتهي‭ ‬الحال‭ ‬بالكندي‭ ‬بإزاحته‭ ‬من‭ ‬المشهدين‭ ‬السياسي‭ ‬والثقافي،‭ ‬بعد‭ ‬مصادرة‭ ‬مكتبته‭ (‬الكندية‭)‬،‭ ‬فكان‭ ‬خيار‭ ‬العزلة‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الخيار‭ ‬الوحيد‭ ‬أمامه،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬الأحداث‭ ‬المتلاحقة‭ ‬قد‭ ‬شكّلت‭ ‬محنة‭ ‬شديدة‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬دفعته‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الخلاص‭ ‬الذاتي‭ ‬أو‭ ‬الفلسفي‭ ‬إن‭ ‬صح‭ ‬هذا‭ ‬التعبير،‭ ‬فكتب‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬من‭ ‬حيل‭ ‬لدفع‭ ‬الحزن‭ ‬عنه‭ ‬والتسلية‭ ‬عمّا‭ ‬أصابه،‭ ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬بوئثيوس،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬محنته‭ ‬أكثر‭ ‬شدّة،‭ ‬لأنها‭ ‬انتهت‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬حكم‭ ‬الإعدام،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يكتب‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬بانتظار‭ ‬الموت‭ ‬ليس‭ ‬كمن‭ ‬يكتب‭ ‬فقط‭ ‬متأسفاً‭ ‬على‭ ‬مجدٍ‭ ‬منصرم،‭ ‬لذا‭ ‬نجد‭ ‬زفرات‭ ‬الحسرة‭ ‬والألم‭ ‬مبثوثة‭ ‬بكثرة‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬بوئثيوس،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬طول‭ ‬النص‭ ‬نسبياً‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬نص‭ ‬الكندي‭ ‬يرجع‭ ‬إلى‭ ‬ظروف‭ ‬السجن‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬فيه‭ ‬السجين‭ ‬من‭ ‬وسيلة‭ ‬للتسلي‭ ‬سوى‭ ‬الكتابة‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬تأثير‭ ‬الكندي‭ ‬العظيم‭ ‬في‭ ‬إدخاله‭ ‬حقل‭ ‬الفلسفة‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬جعله‭ ‬رائداً‭ ‬للفلسفة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وفضله‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬جاء‭ ‬بعده‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬الشك‭. ‬فقد‭ ‬فتح‭ ‬نافذة‭ ‬جديدة‭ ‬للعقل‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وأضاف‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬العربية‭ ‬مجموعة‭ ‬قيمة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والمؤلفات‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات،‭ ‬ويعد‭ ‬الكندي‭ ‬كاتباً‭ ‬موسوعياً‭.‬

‭ ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬مع‭ ‬بوئثيوس،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬تأثير‭ ‬جليل‭ ‬على‭ ‬فلسفة‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أعماله‭ ‬الكثيرة‭ ‬المتنوعة‭. ‬

أما‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تجاوزنا‭ ‬التشابه‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬التجربة‭ ‬الحياتية‭ ‬إلى‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬النصين‭ ‬المُبدعين‭ ‬‮«‬في‭ ‬الحيلة‭ ‬لدفع‭ ‬الأحزان‮»‬‭ ‬و«عزاء‭ ‬الفلسفة‮»‬‭ ‬لنكشف‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬تشابه‭ ‬المقاربة‭ ‬التي‭ ‬يقدمانها‭ ‬لمعالجة‭ ‬موضوع‭ ‬الحزن،‭ ‬فينبغي‭ ‬أن‭ ‬نؤكد‭ ‬أمراً‭ ‬مهماً،‭ ‬وهو‭ ‬أنه‭ ‬ليست‭ ‬غايتنا‭ ‬الانتهاء‭ ‬إلى‭ ‬نتيجة‭ ‬مفادها‭ ‬التأثير‭ ‬المباشر‭ ‬لأحد‭ ‬النصين‭ ‬على‭ ‬الآخر‭. ‬فمن‭ ‬المعلوم‭ ‬أن‭ ‬كلا‭ ‬الفيلسوفين‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬سياقات‭ ‬تاريخية‭ ‬حضارية‭ ‬مختلفة،‭ ‬يسبق‭ ‬فيها‭ ‬بوئثيوس‭ ‬الكندي‭ ‬بثلاثة‭ ‬قرون‭ ‬تقريباً،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الخلفيات‭ ‬الحضارية‭ ‬متباينة‭ ‬أيضاً،‭ ‬وينتمي‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬إلى‭ ‬دين‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬الآخر،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الكندي‭ ‬وبوئثيوس‭ ‬قد‭ ‬سبقا‭ ‬العصور‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬نزوعهما‭ ‬إلى‭ ‬الإنسانية‭ .

 

‭*‬‭ ‬الكندي،‭ ‬رسالة‭ ‬في‭ ‬الحيلة‭ ‬لدفع‭ ‬الأحزان،‭ ‬ضمن‭ ‬رسائل‭ ‬فلسفية،‭ ‬تحقيق‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بدوي،‭ ‬دار‭ ‬الأندلس،‭ ‬بيروت،‭ ‬طبعة‭ ‬ثالثة،‭ ‬1983‭.‬

‭**‬‭ ‬بوئثيوس،‭ ‬عزاء‭ ‬الفلسفة،‭ ‬ترجمة‭: ‬د‭. ‬عادل‭ ‬مصطفى،‭ ‬ط1،‭ ‬دار‭ ‬رؤية‭ ‬للنشر‭ ‬والتوزيع،‭ ‬القاهرة،‭ ‬2008‭.‬