السياب ولميعة هل كان حبا؟

السياب ولميعة هل كان حبا؟

تكاد الشاعرة لميعة عباس عمارة لا تُذكر في تاريخ الشعر العراقي أو العربي الحديث إلا من باب علاقة عاطفية مفترضة بينها وبين الشاعر بدر شاكر السياب.

ذلك أن شعرها لا يرقى في نظر البعض إلى مرتبة شعر زملائها أو سواهم من شعراء زمانها كالسياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي. فهؤلاء عملوا على تجويد شعرهم وتطويره، في حين أنها لم تنصرف انصرافا تاما إلى الشعر، ولم تكتبه بالعناية المطلوبة التي يكتب بها الشعراء شعرهم.
فشعرها أقرب إلى الخواطر التي تخطر على البال، والتي يسجلها الشاعر على أي ورقة يصادفها إلى جانبه، ثم يدفعها إلى الطباعة قبل أن يراجعها مرة ثانية.
وليس هذا دأب الشعراء الذين علمهم أستاذهم «بوالو» في كتابه «فن الشعر» بأن يمزقوا ويحذفوا وينقحوا ويضيفوا، والذين تؤلف عملية ولادة القصائد عندهم حالة من الرعب أو الإبحار فيما لا سواحل له.
ولكنّ للميعة عباس عمارة فضلا لا ينكره دارسو حركة الشعر الحديث، هو أنها كانت قريبة إلى حد كبير من بدر شاكر السياب أبرز شعراء تلك الحركة. وما كتبته لاحقا عنه وعنها يؤلف نوعا من شهادة جديرة بأن يستمع إليها، فاسمها يرد كثيرا في سيرة السياب، وفي مراحل عدة من حياته، كما يرد في أكثر من قصيدة له. وقد استنتج الباحثون أن ورودها على هذا الشكل يشي بكونها واحدة من «حبيبات» الشاعر، ولو أنه لم يظفر بشيء على الأرجح منها أو منهن، ولكن لا شك في أنها «استوقفته» كما «استوقفها»، وأنها اهتمت به اهتماما جديرا بالبحث عن صفة له، لأنها لم تجل نوعه أو محتواه في ما كتبت عن علاقتها به، إذ ظل الأمر ملتبسا أو غامضا. ولكن الأكيد أنهما ارتبطا بصداقة حميمة، بدليل أنها زارته ذات عطلة صيفية، وقد كانت زميلته في دار المعلمين العالية ببغداد، في قريته جيكور وأمضت عنده - وكانت بصحبة قريب لها - ثلاثة أيام.
 يؤرخ السياب لهذه الزيارة، ولنزهة في مركب نهري قام بها معها، في قصيدة له. ويذكر السياب لميعة بالاسم في قصائد أخرى، منها قصيدة «سفر أيوب»، التي كتبها وهو على فراش المرض في لندن، والتي يشير فيها إلى مشهد توديع لميعة له في أثناء سفره إلى بيروت من أجل العلاج، حيث يقول:
ذكرتك لا لميعة
والدجى ثلج وأمطار
ولندن مات فيها الليل
مات تنفس النور
ذكرت شحوب وجهك
حين زمر بوق سيارة
ليؤذن بالوداع
ذكرت لذع الدمع في خدي
رعشة خافقي
وأنين روحي يملأ الحارة
بأصداء المقابر والدجى ثلج وأمطار

وإلى جانب هذا الاهتمام والشحوب الذي لاحظه السياب على وجه لميعة عندما قدمت لوداعه، والدجى ثلج وأمطار، هناك أدلة كثيرة على ود مقيم في نفس كل منهما تجاه الآخر، في مظان كثيرة من سيرة بدر، ومن الشهادة التي كتبتها لميعة في جريدة «الشرق الأوسط» عام 1996. 

نبل الذات
من ذلك أنها ساعدت السياب في عملية بيع ديوانه الأول «أزهار ذابلة» الذي نشره السياب في القاهرة. فقد كانت تقطع الطريق مشيا على قدميها من «الوزيرية» إلى «الباب المعظم»، حاملة على كتفها كيسا كبيرا مملوءا بنسخ من هذا الديوان، بغية بيعها لصديقاتها في «معهد الملكة عالية»، وبعد أن تبيعها تسلم بدر ثمنها تعويضا له عما أنفقه من جيبه على طباعة الديوان. وهذا نبل في الذات بلا شك، إذ لا يمكن لفتاة في مقتبل العمر مثلها، ومشهورة بجمالها، أن تحمل كيسا ثقيل الوزن على كتفها، لو لم تكنّ ودا عميقا، إن لم يكن أكثر، لزميلها في الدراسة، وفي الشعر، بدر شاكر السياب.
الباحثون مختلفون في «طبيعة» هذا الود، فهل كان حبا أم مجرد مودة أو صداقة مألوفة بين الزملاء والأصحاب؟ لميعة صمتت عن تحديد طبيعة هذه العلاقة التي كانت بينها وبين الشاعر، على الرغم من اعتزازها البالغ بالسياب وإكبارها له حيا وميتا.
كثيرون يرجحون أن السياب لم يظفر من لميعة، ولا من بقية زميلاتها في دار المعلمين العالية، إلا بإعجابهن بشعره وبتنقل ديوانه (المخطوط يومها) بينهن على حد تعبيره في قصيدة مشهورة له: 
ديوان شعر كله غزل 
بين الصبايا بات ينتقل
 فهل كان بينه وبين لميعة أكثر من ذلك؟ ما من جواب دقيق في ما نشرته لميعة في «الشرق الأوسط»، ولعل ما حال دون هذا الجواب هو الحياء الشرقي أو النظام العام الاجتماعي الذي لا يبيح مثل هذا الكشف في بيئات متزمتة.
ولعل ما ذكره مرة الشاعر العراقي عبدالرزاق عبدالواحد حول علاقة لميعة وهي قريبة له، بالسياب، هو أفضل ما كتب، فقد كتب مرة حول ذلك: «ابنة خالي الشاعرة لميعة عباس عمارة عرفتني بالسياب، وكان بينها وبين بدر إعجاب فيه الكثير من المودة والزهو من جانبها، وما هو أكثر من ذلك من جانب بدر».

صديقة وملهمة
واستنادا إلى كل ذلك، لا يمكن تكييف ما كان بين لميعة والسياب على أنه علاقة حب، لأن الحب يفترض تبادل المشاعر بين إلفين أو عاشقين، ولا يمكننا الاستناد إلى «مشاعر» بدر وحده إزاء لميعة، لأن بدر أحبهن جميعا: أحب لميعة وأحب كثيرات، وهؤلاء الكثيرات لم يبادلنه مشاعره الملتهبة، وهو نفسه في قصيدة من قصائده الأخيرة يقوم «بجردة حساب» حول ماضيه العاطفي، فيقول لامرأة أخيرة يخاطبها على هذه الصورة: «أحبيني لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني»، ويذكر لميعة في عدادهن.
ويبدو أن الوصف الدقيق لعلاقة لميعة بالسياب هو أنها كانت «صديقة» و«ملهمة» لا أكثر، لقد «ألهمت» بدر، وربما «أوهمته» أيضا، وعلينا ألا نستهين بأثر الإلهام والإيهام في ذات حساسة متوترة شديدة الحساسية كذات هذا الشاعر الذي عانى ما لم يعانه كثيرون، وهو الذي شبّه نفسه بأيوب لفرط ما قاساه من الآلام والأوجاع.
لقد منحت لميعة هذا الشاعر المعذب والبائس والمريض مرضا عضالا العطف والعاطفة اللذين كان الشاعر في أمس الحاجة إليهما.
حض الشاعر نزار قباني مرة لميعة على الحديث الصريح الطلق عن السياب. فقد ذكرت في «الشرق الأوسط» أنها رغبت في طباعة ديوانها الثالث في بيروت، وأنها انتهزت زيارة نزار قباني لبغداد لحضور «المربد الشعري الأول»، وطلبت منه مساعدتها في ذلك. كان نزار صريحا أو فظا، فبادرها بالقول: أنصحك أولا أن تكتبي كتابا بعنوان: «أنا والسياب»، وستكون لك شهرة كبيرة، بحيث تسعى دور النشر هي إليك لتعرض عليك طباعة دواوينك وتدفع لك.
وتتابع لميعة سرد ما تبقى بينها وبين نزار:
قلت له: لا أريد أن أبني شهرتي على أشلاء رجل بائس..
قال: أو يتبرع من يشتمك، فالشتم في الصحافة يمهد الطريق إلى الشهرة.
فقلت له: لا أريد أن أشتم وأن أشتهر، وأفضل أن أظل «مرتاحة»!
كان نزار يمزح مع لميعة أو يتحدث جادا. فكتاب عنوانه «أنا والسياب» تسرد فيه لميعة حكايتها الحزينة مع شاعر كبير له مكانة مرموقة في الشعر، هو غير ديوان شعر لشاعرة غير معروفة كما يجب. في حين كانت أجوبة لميعة أجوبة شاعرة وإنسانة في الوقت نفسه. لم تكن تبحث عن الشهرة ولا عن المال، كل ما أرادته هو طباعة ديوانها لا بناء شهرة على أشلاء رجل بائس.
حول هذه العلاقة التي سال وسيسيل حبر كثير حولها، ذكر الباحث العراقي عبداللطيف أطيمش في كتاب صدر حديثا له بعنوان: «الأيام الأخيرة لبدر شاكر السياب» ما يلي:
وحتى ما قيل من أن لميعة كتبت عن السياب تقول:

ستمضي فمن لي بأن أمنعك
ستمضي فهل لي أن أتبعك؟
فشعري وحبي وعمري سدى
إن لم أمتع بعيشي معك

فإن فيها من الغموض وعدم التحديد، ولا أقول العمومية ومشمول القصد، لم يجعلها عرضة «للتساؤل والشكوك».
هذه الأبيات تتجاوز عاطفة الصداقة إلى ضرام الحب. ولكن هل هي للميعة حقا؟ الباحث لا يجزم، بل يستخدم عبارة «قيل»، والقول على هذه الصورة لا يحمل الموثوقية الكاملة، وإن كان السياب في قبره يتمنى لو كان للميعة.