موسوعة في 12 مجلدًا «ألفية» إبراهيم العريس عن «تراث الإنسان»

موسوعة في 12 مجلدًا «ألفية» إبراهيم العريس عن «تراث الإنسان»

بصدور الجزء الأخير عن موضوع «العمران» من «ألفية» إبراهيم العريس، تكون موسوعة «تراث الإنسان» أُنجزت بالتعاون مع مركز الشيخ إبراهيم محمد آل خليفة في البحرين. قضى العريس قرابة ربع قرن يعمل على إنتاج مشروع يغطي مختلف حقول إبداعات الإنسان في الألف عام الأخيرة من عمر البشرية. 
كانت المحصلة صدور 12 جزءًا بدأت بتاريخ السينما في مئة فيلم، ثم ألف عام من الأوبرا، ومن الفكر السياسي، والفن التشكيلي، والفلسفة، والموسيقى، والرواية، والمسرح، والشِّعر، والذات والآخر، والتراث، وأخيرًا ألف عام من العمران.

بدأ العريس «ألفيّته» من السينما، التي مضى عليها مئة سنة فقط، باعتبار أنها الحقل الذي يجمع الفنون في إطار مشترك يربط الصورة بالموسيقى بالرواية بالمسرح بالمخيّلة، وكل ما يمكن أن يتصوّره الإنسان في حياته اليومية أو رؤيته للحياة أو المستقبل.
فالسينما تكثيف لمختلف الإبداعات التي أنتجتها البشرية في محطاتها الزمنية، وصولًا إلى بلوغ درجة الفن السابع الذي بدأ خطوته الأولى بـ «وصول القطار» للأخوين لوميار. ومنذ تلك اللحظة بدأت «رعشة السينما ورجفتها الأولى»، كما يقول العريس. فالفيلم الصامت يبلغ طوله خمسين ثانية، وتمّ تصويره في نهاية عام 1895، وبعده انطلق القطار الذي لم يتوقف مساره حتى ارتقى أعلى درجات التقدّم التقني المعطوف على مخيّلة لا حدود لفضاءات رؤيتها للإنسان والكون.
الانطلاق من السينما كان ضربة موفّقة، لأنها تعطي إشارة إلى الضوء الزمني الذي يعود بالذاكرة إلى ألف سنة من الجهود الإبداعية في مختلف الحقول التي اجتمعت منذ مئة سنة في دائرة واحدة. من السينما تبدأ الذاكرة بالعودة إلى الوراء، فهناك ألف عام من «الأوبرا»، التي وُلدت في عبارة وردت في رسالة كتَبَها الموسيقي الإيطالي مونتفردي في عام 1616. فالرحلة بدأت من خلال فن موسيقي يتحدث فيه الأشخاص على المسرح وهم يغنّون. بعدها ارتقت الأوبرا، وصولًا إلى بلوغ خشبة برودواي في نيويورك التي شهدت استعراض «قصة الحي الغربي» في عام 1957.

قفزات نوعية
حتى الآن لا تزال الأوبرا تواصــــل تطوّرها منذ مطلع القرن السابع عشر، في وقت شهد فيه «الفكر السياسي» قفزات نوعية مــنذ «ولادة أول المجتمعات وقبل زمن طويل من ولادة أي فكر منظّم حولها»، كما جاء في مقدّمة العريس عن هذا الحقل الذي ارتقت فيه «مراتب الوجود وصولًا إلى السياسة»، كما تمثّلت في كتاب «السياسة المدنية» للفيلسوف المسلم الفارابي، مرورًا بكتاب «طبائع الاستبداد» للكواكبي، و«مزرعة الحيوانات» لجورج أوريل، و«السيد الرئيس» لأستورياس، و«أنا الأعلى» لباستوس، وانتهاء بـ «عرس التيس»، حيث يرسم بارغاس يوزا صورة تفصيلية عن الدكتاتور.
بعد ألفيّة الفكر السياسي، تأتي ألفيّة الفن التشكيلي، ثمَّ ألفيّة الفلسفة المعاصرة التي بدأت بـ «مصالحة كونيـــة عــلى حــــساب ابن رشد»، قام بها توما الأكويني في كتابه «الخلاصة اللاهوتية» في عام 1244، وأخذت في التطوّر والصعود محطة فوق محطة انتهاء بالعودة إلى قراءة «ميتولوجيــا الإغريق» فـــي كــــتـــاب المجــــري تشارلز كيريني الذي درس الأساطير اليونانية وغير اليونانية في ضوء التحليل النفسي. 
فالكتاب الفلسفي الذي تعامل مع الأساطير بوصفها روح الشعب والجماعة أعطى فرصة للمؤرخ الفرنسي فرنان برودويل في إعادة النظر بـ «قواعد الحضارات» ودور الإسلام في إنتاج عمارة مميّزة في دائــرة التجـــاذب الثقافي للأمم.

فن لا يموت
بعد ألفيّة الفلسفة جاءت ألفيّة الموسيقى والرواية، ثمَّ ألفيّة المسرح، و«هو الأكثر صمودًا في وجه الإعلان الدائم عن حتميّة موته»، كما يقول العريس في تقديمه لهذا «الفن المتحرّك الذي لا يموت».
فهو وُلد مع المجتمع المدني، وتمكّن أرسطو من تعريفه وتحديــد قواعــــده قبل أكثــــر من ألفي سنة، حتى تمكّن من النهوض مجدّدًا بمعيّة مكيافيللي وشكسبيـــر وليسنغ وراسين وكورناي وموليـــــير وبوخــــنر وشيلر وفولتير وغوتــــه وهوغو وبوشكين وتشيخوف وغوركي وأوسكار وايلد وهنريك إبسن ومايا كوفسكي ولوركا وجورج برنارد شو وصمويل بيكيت وجورج شحادة.

المسرح تاريخ... وتاريخ المسرح 
يعكس المسرح تلك اللحظة الزمنيّة التي تربط الحاضر بالماضي، وتقرأ الآني من خلال استحضار شخصيات من الزمن السابق وإسقاطها على لحظة متخيّلة.
ولأن المسرح يلعب دور الماضي على خشبة الحاضر من خلال شخصيات كان لها موقعها في زمنها، فقد تحوّل كتّاب المسرحيات إلى مراجع تاريخية تعكس الرؤية النمطيّة للآخر، كما ظهر الأمر في مسرحية كريستوفر مارلو عن «ثري مالطا اليهودي» في حقبة سيطر فيها العثمانيون على حوض البحر المتوسط، أو في مسرحية المفكّر الألماني ليسنغ عن «ناثان الحكيم»، وهو شيخ يهودي متموّل عاصر القائد المسلم صلاح الدين حين كان يخوض في القدس معركته ضد حملة الفرنجة الثالثة. 
فالقائد استدعاه ليس لطلب المال، بل لاستشارته عن الديانات التوحيدية الثلاث.

رؤية نمطية
آنذاك كانت روايات المسرح تتحدّث عن عالمها الخاص من خلال مراكز القوى المؤثرة في تلك الفترة بحياة الناس. فالشخصيات دائمًا ترمز إلى المواقع والأدوار والوظائف في لحظة بدأت أوربا تستفيق فيها من غيبوبتها التاريخية، لذلك جاءت الخشبة تلبّي حاجة أو تعطي صورة سلبيّة (نمطيّة) عن الآخر. فاليهودي هو الغنيّ والبخيل والمرابي، والمسلم هو القويّ القابع في الضفة المقابلة من البحر المتوسط.
لهذا لعب العامل الزمني دوره في ترسيم شخصيات وفق تصورات متداولة، أو في إطار رؤية نمطية متخيّلة. وهذا يمكن ملاحظته في مسرحية «عطيل» لشكسبير التي قَدّمت على الخشبة ذاك المغربي الأسود والشرقيّ الأخلاق والنوازع والقاتل الغيور «بوصفه أول بطل استشراقي حقيقي في تاريخ الأدب الغربي»، كما يذهب العريس.
الأمر نفسه تكرّر في مسرحيّة راسين عن «بايزيد»، التي جرت أحداثها بالأستانة في عهد السلطان مراد. فالمسرحية لا تتحدث عن السلطنة العثمانية، بل عن ذاك العالم الرمادي الغامض الذي تحيط به وتحرّكه المؤامرات والصراع على السلطة وعروش القصور، وتلك الخفايا السرّية التي تشكّل خريطة مفترضة عن حياة لا تزال مجهولة في ذهن النخبة الأوربية. آنذاك كانت القارّة في مرحلة صعود انتقالية تجمع بين الماضي الغريب المتمثّل في حاضر الإسلام، وبين مستقبل غامض أخذ يفرض شروطه على الواقع، ويدفع النخبة الأوربية للتحرّر والانعتاق والتخلّص من ثقافة تراكمت على امتداد الحقبات من اليونان والرومان إلى العرب والإسلام والسلطنة العثمانية. وحين نجحت القارة في تحقيق نهضتها، بدأت صورة المسلم تغيب رويدًا رويدًا عن المسرح، ولم تعد النخبة تحتاج إليها عندما كانت تستحضر أبطال شخصيات الخشبة.

غياب متدرّج
شكّل غياب المسلم عن المسرح الأوربي لحظة زمنية تؤشّر إلى بداية الافتراق بين ماضٍ مضى وحاضر يتطلّع إلى مستقبل يحتاج إلى صور نمطيّة متخيّلة وليست جاهزة، كما حصل الأمر سابقًا مع صلاح الدين وعطيل أو بايزيد. فالغياب التدريجي عن خشبة المسرح كان إشارة إلى بداية غياب متدرّج عن مسرح التاريخ.
ألف عام من المسرح يقابلها ألف من الشّعر، وألف من الذات والآخر، وصولًا إلى ألف عام من التراث.
برأي العريس أن «التراث ليس سجنًا، وليس مجرّد أوراق صفراء مهترئة نجمعها لنضعها في متحف (...)، كما أنه ليس بستانًا نتعامل معه بانتقائية ساذجة (...)، فالتراث هو كلٌّ صنعته تراكمات الزمن والخبرة البشرية».
من هذا المبدأ ينطلق العريس من روايات «ألف ليلة وليلة» الأسطورية ليحطّ في نهاية المطاف على مشارف هزيمة يونيو 1967 الواقعية، حين صدر كتاب عبدالله العروي عن «الأيديولوجية العربية المعاصرة»، الذي «جاء في عام الهزيمة نفسه مفتتحًا زمنًا فكريًّا عربيًّا جديدًا، باحثًا للمرّة الأولى في سياق الفكر العربي الحديث، في سمات تلك الأيديولوجية وارتباطها بالنهضة «الأولى» التي كانت قد انبثقت خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر».
بعد «التراث» يدخل العريس إلى «العمران» وهو يمثّل الجزء الأخير من موسوعته الألفية. فالعمران بمعناه الجغرافي/ الاجتماعي أعاد هندسة المعرفة في سياق بناء العمارة وفق تصورات فلسفية تربط الإنسان بالبيئة والحياة المعاصرة. وقد شكّل المجلّد الأخير عن «العمران» نهاية الموسوعة. وجاءت الخاتمة لتلقي الضوء على زاوية فنية هندسية/ اجتماعية تغيب أحيانًا عن ذهن النخبة العربية.

نقطة انطلاق
العمران ليس مجرّد أبنية أسمنتية وألواح زجاج وأعمدة حديد. 
فالمدينة هي بيوت سكنية وإدارية ودينية وترفيهية وساحات وجسور وميادين وطرقات وتماثــــيل وجـــداريّات. و«العَمْرنَة في كل تجليّاتها، وكما عرفناها خلال الألف سنة الأخيرة، أعطت الحياة الاجتماعية كامل أبعادها، موفّرة للمواطن ذاك الحيّز العام المشترك الذي يعفيه من التسلّل إلى خصوصيّة الآخرين»، كما يقول العريس في تقديمه.
نهاية الموسوعة كانت موفّقة كالبداية؛ فالجزء الأول بدأ بالسينما (الفن السابع) والجزء الأخير انتهى بالعمران (الهندسة الاجتماعية)، وهو موضوع فنّي فلسفي وسوسولوجي/ سيكولوجي يربط الذات بالآخر والخاص بالعام. ولهذا السبب انطلق العريس من كتاب «فنّ العمارة» للفيلسوف الألماني فريدريك هيجل، الذي أشار «إلى أهمية المدينة وعمرانها في حياة المرء (...) وتاريخ تطوّر ارتباطها بالتطورات التي طرأت على الفنون الجميلة».
وقد أدرك العريس منذ البداية «أن ليس ثمّة في العربية سوى عدد ضئيل جدًّا من الكتب التي تتناول هذا النشاط الحضاري وإبداعاته، ومنها تلك التي وضعها المعماري العراقي الكبير رفعت الجادرجي».
يشكّل العمران، في معناه الاجتماعي الخلدوني، نقطة انطلاق للمبنى الهندسي الذي لا ينفصل عن الاجتماع الإنساني والمخيّلة العقلية، وما ترسمه من تصورات ذهنية تحتاج إلى خرائط لتحويلها إلى مشاهد عينية.

رحلة عبر الزمن
انطلاقًا من هذا المبدأ الفلسفي/ الهندسي، ذهب العريس في رحلة فنية/ فكرية تحدثت عن «مبادئ الهندسة المعمــــارية المدنــــية» لفــــرانشسكو ميليتسيا و«مصابيح الهندسة السبعة» لجون راسكن، لتتبعها رحلة زمنيّة/ واقعيّة تحدّثت عن عاصمة حضارة الأزتيــــك (تينوكيتثلان) و«ملامح القاهــرة في ألف سنة» التي صاغها جمال الغيطاني في كتاب، ومبنى جامع الأزهر الذي شرح حسين مؤنــس دوره الإشــعاعي وموقعه الاجتماعي في قلب عاصمة الفاطميين، و«دار الحكمة» في بغداد أيام العباسييـــن، و«تاج محل» الذي جمع العمران المغولي والتقاليد الآسيوية الهندية والصينية و«تلك الآتيـــة من بلدان المشرق العربي، مما خلق ذلك المشهد العمراني الفريد»، و«قصر الحمراء» في غرناطة، الذي «ظل يُطــوّر ويزدهر حتى لحظة سقوط غرناطة في نهاية القرن الخامس عشر أمام زحف ملوك إسبانيا وجيوشهم».
العمران إذن ليـــس أبنـــية هندسية فقط، وإنما هو رحلة زمنية اجتماعية ترسم هويّة الجماعات الأهلية في لحظة تاريخية محدّدة.
لهذا جاء مجلد «العمران، ليتحدّث عن مختلف العصور والأمم وانقلاب الزمن وتحوّلاته من لوحات «سجون» الرسّام الإيطالي بيرانيزي إلى منحوتات العبقري ميخائيل أنجلو، معطوفة على كتاب هشام جعيّط عن «الكوفة» بوصفها «أول مدينة يُنشئها المسلمون العرب خارج الجزيرة العربية، وذلك أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ]».
هذه المدينة لن تكون الأخيرة، فهي كانت البداية في سياق نهضة حضارية كبرى دفعت المفكر والدبلوماسي نجم الدين بامات إلى تأليف كتاب عن «مدن الإسلام»، وبعده جاء كتاب سلمى الجيوسي عن «المدينة في الإسلام»، ثمَّ كتاب ثروت عكاشة عن «فنون عصر النهضة»، وصولًا إلى الدليل السياحي الذي وضعه الرحّالة إدوارد مورغان فورستر عن مدينة الإسكندرية.

زها حديد
إجمالًا تطرّق المجلّد إلى 92 مشهدًا عمرانيًّا في العالم من «قناة بنما» و«برج إيفل» و«مبنى ميلا» في كاتالونيا الإسبانية و«بيت جوزفين بيكر» الذي ظلَّ حبرًا على ورق، وصولًا إلى كتاب «وصف مصر» الذي احتوى على 837 لوحة محفورة على النحاس، وضمّ أكثر من 3000 رسمة، وهو شكّل إشارة رمزية إلى التحوّلات الزمنية. 
فالكتاب يتوزع على عشرة مجلدات، وقد وُضع إبّان حملة نابليون بونابرت ليؤشر إلى تلك العلامة الفارقة بين هزيمة السياسة وبقاء التفاعل الحضاري.
هذا التفاعل لم يذهب هدرًا، على الرغم من كلفته السياسية، فهو عاد وأنتج الإبداع العربي الهندسي في أعمال المعماري حسن حنفي ورؤيته الفلسفية لصلة الإنسان بالبيئة والعمارة بالحياة، و«نصب الحرّية» في بغداد للفنان جواد سليم، و«المسرح الوطني» في البحرين، وأخيرًا وسط بيروت التجاري.
لم ينجز العريس «ألفيّته» العمرانية من دون التوقف والإشارة إلى سيّدة الهندسة العالمية زها حديد، التي رحلت مبكراً في قمّة الشهرة والعطاء. 
فقد وضع صورتها على غلاف المجلّد بوصفها رائدة العمارة المعاصرة التي تركت عشرات الأعمال في نيويورك وكانتون وهونج كونج وطوكيو وروما ومارسيليا وكوبنهاجن ولايبزغ وباريس ولندن وبيروت وأبوظبي، إذ «إن مساهمتها في منطقة العقل هي التي حدّدت ركائز أسلوبها التصميمي خلال مراحلها التالية (....)، بهذا كلّه تُعتبر زها حديد اليوم ظاهرة أساسية في الهندسة العمرانية الحديثة (...) لأنها تحاول بحذر تطبيق نظريّاتها الطليعيّة المازجة الهندسة المعمارية بالفن التشكيلي»، كما يقول العريس في مطالعته عنها ■