العِشْرة الطيبة بين «العربي» و«بيت مستجاب»

العِشْرة الطيبة بين «العربي»  و«بيت مستجاب»

لعلني أكون من القلة القليلة المحظوظة التي عاشت جزءاً من حياتها في أحضان مجلة العربي، ولعلني أتذكر الكثير من المواقف والشخصيات التي التقيت بها في أروقة المجلة بالقاهرة، سواء أول مكتب فتح لـ «العربي» في شارع جمال الدين أبوالمحاسن بمنطقة جاردن سيتي، في أثناء غزو العراق للكويت، ثم انتقال المكتب إلى برج «كايرو تاور» في شارع القصر العيني، ثم الفيلا الخاصة بمركز الإعلام بشارع الفلاح بمنطقة الدقي.

منذ بداية التسعينيات وحتى نهاية عام 2005، كنت أزور مجلة العربي مرتين كل شهر، مرة معي مقال لوالدي، وهو المقال الخاص بـ «واحة العربي» أو «نبش الغراب في واحة العربي»، ومرة أخرى لتسلّم المكافأة في نهاية كل شهر.
طوال نحو ربع قرن، تكونت العشرة، وعشت ولمست أشياء كثيرة في مجلة العربي، لكنني لا أريد هنا التحدث عن هذا، أريد هنا التحدث عن بيتنا، أي بيت مستجاب وعلاقته بمجلة العربي، وليس مستجاب فقط كوالدي.
فجزء كبير من دخل والدي - وكان يعمل في مجمع اللغة العربية بالقاهرة - كان يأتي من المقالات التي يكتبها؛ سواء في الصحف والمجلات المصرية أو العربية.
وقد كانت لمستجاب دائمًا زاوية يستريح فيها كل شهر أو كل أسبوع في هذه الصحف والمجلات، لكن مع مجلة العربي الأمر اختلف، حيث إن المجلة كان لها قارئ ثابت على مستوى الوطن العربي، بل العالم أيضًا، وبالتالي، فإنني منذ أن كنت في المرحلة الثانوية، بدأت أتعامل مع «العربي» كجزء من حياتنا ومن تكويننا.
فكثير من الناس وجمهور قراء مستجاب لم يكونوا يعلمون أنه يكتب القصة القصيرة أو الرواية، وأن له بصمة مؤثرة في مكون السرد العربي، إلا أن مقاله في «العربي» كان مختلفًا، له قارئ يمكن لك أن تقابله في أتوبيس أو على مقهى، ففتحت «واحة العربي» لمستجاب طريقًا جديدًا، وبدأت شهرة مستجاب تأخذ منحنى آخر في حياته بسبب مقاله الشهير في «واحة العربي».
بل وحتى الآن، ورغم رحيل مستجاب منذ ثلاثة عشر عامًا، يظل لـ «العربي» وقع في نفوس أمي وإخوتي، وقارئ ما يزال يتذكر ما كان يكتبه مستجاب ويحتفظ بمقالاته فيها.

آفاق كبيرة
لقد فتحت «واحة العربي» لمستجاب آفاقًا كبيرة على المستوى الجماهيري، وخاصة في الوطن العربي وليس مصر فقط، وأتذكر وأنا في الجامعة أنني كنت أفتخر بأنني أحمل «العربي»، وكان سعرها زهيدًا كما عهدناها، بخمسة وعشرين قرشًا، ثم خمسين قرشًا، وبالتالي سمح لي هذا بأن ألتقي أصدقاء يقرأون لمستجاب، وينظرون إليّ في دهشة وعدم تصديق أنني ابنه، لأنهم ببساطة كانوا ينظرون إلى كاتب هذه الواحة كشخص غير مرئي، أو شخص متفرد، وقد استطعت ذات مرة أن أجمع مجموعة من طلبة كلية آداب القاهرة للقاء مستجاب، مع العالم وباحث التراث الشهير د.أحمد مرسي.
لقد جعلت تلك الواحة لأبي مصدر دخل ثابتاً ومرتفعاً كان سببًا في أن ينهض ببيتنا نهضة مادية جعلتنا نعيش في بحبوحة من العيش، ورغم كثرة مقالات مستجاب، كما قلت في صحف ومجلات عربية؛ مثل «الاتحاد» الإماراتية، و«القبس»، و«الوطن» و«الرأي العام» الكويتية، فإن كل ذلك لم يكن يضاهي ثقل مجلة العربي ووقعها وتأثيرها.
وأتذكر أن والدي كان قد دُعي، بعد أزمة حرب الكويت، للعمل في المجلة من مقرها بالكويت، وقد ذهب حينها كثير من مشاهير الأقلام المصرية، مثل محمد المنسي قنديل ومحمد المخزنجي، وكان يوجد قبلهما عمنا أبوالمعاطي أبوالنجا - يرحمة الله - إلا أن مستجاب رفض، والسبب ببساطة هو أنا، فقد كنت حينها في المرحلة الثانوية وكنت مصدر قلق للبيت، كما كنت - ومازلت - في غاية الاندفاع والتهور، لذا فقد جلس معي أبي مستجاب في الشرفة، وكنت أدفعه كي يسافر ويحقق لنا الأحلام المادية التي تحلم بها أي أسرة، فقال لي بهدوء أب: كل هذا يمكن أن أفعله من هنا، من البيت، وذلك في سبيل أن تظل تحت رعايتي، وخوفًا عليّ بصفتي ولدًا «بايظ». وهذا ما حققته «العربي» من استقرار لمستجاب وبيته.

فاتحة البيت
لقد ظلت مجلة العربي فاتحة بيت مستجاب، وكان يخشى عليها من الأعاصير أو من حماقات بعض الأصدقاء، أو من غيرة وحسد بعضهم، ولديّ بعض المراسلات بين مستجاب ود.الرميحي (رئيس تحريرها الأسبق) بخصوص أن بعض الأشخاص يحاولون تقليد «واحته»، وأنه لا يرضى بهذا، وأتذكر أنه خلال خمسة وعشرين عامًا لم ينقطع فيها مستجاب أو مقال واحته إلا شهرًا واحدًا، وأتذكر رد فعله حينها عندما ذهبت لشراء المجلة، وكنا نشتري ثلاثة أعداد، عدد نقوم بقراءته، وآخر يُحفظ كمجلة، وثالث يُقطع منه المقال ويحفظ كأرشيف، وعندما لم يجد المقال، تشاجر في مكالمة عنيفة مع عمنا الراحل أبوالمعاطي أبوالنجا، الذي أخبره بأنه لم يكتب لهم المقال لأنه نسي، فقال له مستجاب: إذ كنت أنا نسيت، ذكّرني يا أخي!
وهذه هي المرة الوحيدة، ومن حينها، بدأ مستجاب يرسل مقالاته لهم مبكرًا، حتى لا تتوقف الواحة.
وبسبب مجلة العربي رأيت في بيتنا شخصيات وقامات لها تقديرها مثل رئيسي تحريرها السابقين، د. الرميحي ود. سليمان العسكري، وآخرين.
وأتذكر أيضًا حزن مجلة العربي وقراءها على رحيل مستجاب، بل وأتذكر المكالمات التي كانت تصل إلينا في أثناء وجود أبي بالمستشفى بألا نقلق على التكاليف، وأنهم سيرسلون التكاليف.
وحتى الآن، تأتي إليّ رسائل مستفسرة: هل أنا ابن محمد مستجاب صاحب «واحة العربي»؟ فأضحك، لأنه كان بالنسبة إليّ حلم أن أكتب في مجلة العربي، ليس لاستكمال مسيرة مستجاب في هذا المقال الفذ الذي كان يكتبه أول كل شهر، بل لأن «العربي» لها قارئ متميز، من الصعب أن تجده في أي مكان أو صحيفة أخرى؛ مقال تعتز به بين أقرانك، مقال تستطيع ابنتك أن تحمله معها كي تقرأه المدرّسة لزملائها في المدرسة.
وحتى الآن، تحدثني والدتي، وأريها اسمي في مجلة العربي، فتشعر وكأن المجلة ترد الجميل لمستجاب، ولبيت مستجاب، في ابنه.

ماجستير «الواحة»  
هكذا عهدت مجلة العربي ورأيتها في تكوينات بيتنا وتأثيثه وحمايته من تقلبات الظروف وتغيّر الأحوال، وأنا مدين لها ولمحبة قرائها.
لقد كانت «الواحة» بالنسبة إليّ فرحًا عارمًا كل شهر، سواء وأنا ذاهب بمقال مستجاب، لرؤية تكوينات مكاتب المجلة، أو وأنا جالس في مكتب الأستاذ مصطفى الشناوي لتسلّم المكافأة الخاصة بوالدي، وكان يرسل معي تفويضًا بخط يده ليعطوني النقود، كما أتذكر رسامي المجلة الذين التقيت بهم وهم يرسمون لمستجاب؛ حاكم، يرحمه الله، وبهجت عثمان ومحمد أبوطالب وغيرهم من فنانينا التشكيليين.
لقد شكلت «الواحة»، وخاصة «كلمات لها معنى» فتحًا سرديًا لمستجاب، ومنذ فترة زمنية قصيرة وجدت د. مصطفي الضبع يوجه أحد الباحثين للحصول على الماجستير في هذا المقال، كما أن الأستاذ عبده جبير تحدث معي أنه يريد أن يكتب عن هذه الواحة دراسة، لأنها فعلًا متفردة، لذا لم يبخل مستجاب على «الواحة»، وكان مقالها يدور به وهو يفكر فيه، ويكتب ملاحظاته في كل مكان، على ورقة نتيجة حائط، أو غلاف علبة دواء، أو في ورقة منفصلة، يفتح الموسوعة العربية، ثم المعجم الوسيط، قبل أن يبدأ في كتابة المقال، أي أنه كان من الزخم حيث يجمع تلك المادة للمقال قبل أن يجلس لكتابته، فأي مقال يمكن له أن يكتبه سريعًا، إلا مقال «العربي»، كان يعد العدة له، ويحذف منه ويدوّن قبل أن يكتبه.

كتاب «العربي» و«كلمات لها معنى»
عندما كان كتاب العربي يصدر كل ثلاثة أشهر، تم تجميع مقالات مستجاب في ثلاثة كتب شهيرة تحمل عنوان «نبش الغراب في واحة العربي»، وهو كتاب لا يزال كثير من القراء يبحثون ويسألون عنه، وقد تم التعاقد منذ فترة بسيطة مع دار نشر كبرى لنشر مقالات الواحة، وقد طلبت مقالات الواحة منفردة، أي أنها تريد أن تصدرها في كتاب كبير بمفردها. فما تزال الأجيال الجديدة في المتابعة تتعلم من هذا المقال وطريقة كتابته وكيفية مزجه هذه العوالم مع بعضها.
ولا يزال لديّ كثير من المشروعات التي تمدني بها «الواحة»، فذات يوم بعد رحيل والدي، فكرت في أن أجمع زاوية «كلمات لها معنى» في كتاب بمفردها، وأن يقابل كل مجموعة من الجمل رسم تشكيلي يعبّر عن فلسفة تلك الحكمة التي يكتبها مستجاب، لكن المشروع فشل بسبب أن صديقي الرسام لم يقدّر عمق الكلمات، وحاول أن يرسم أشياء لم يفهمها، مع أنني كنت أريد أن تصدر «كلمات لها معنى» بشكل مبسط، مثل «رباعيات جاهين» برسومات سيد فؤاد، رحمهما الله.
لا تزال أمي حتى الآن، تسألني كل شهر عن مقالي بالمجلة، وأنا أتحدث معها وكأنني أعمل في «العربي»، مثلما كان يعتقد كثيرون ذلك في والدي، حيث كان له مصدر دخل ثابت منها، فتفرح عندما تشاهد مقالًا لي، وتحزن عندما يصدر عدد من دونه، لسبب بسيط هو حبها لهذه المجلة، ويقينها بأن بيتها الذي كان معرّضًا لأزمات كثيرة، ساهمت «العربي» في حمايته وتأثيثه وتكوين شخص مثلي، بل إنني أتذكر أن الكتاب الثاني لمجلة العربي وقد أعددته، صدر وحمل اسم مستجاب الابن، وهو لقب لم يطلقه أحد عليّ من قبل، بل إن «كتاب العربي» وبعض الكتابات بها عن والدي بعد رحيله، هي التي فتحت لي باب المجلة، وباب قارئ ينتظر أي شيء من سيرة مستجاب وابنه.
لأكثر من ربع قرن، كان بيتنا يمرح في مجلة العربي، بداية من مقال «الحمار» في عام 1991 وحتى مقال «العِشرة الطيبة» في أكتوبر 2005، أي بعد رحيل مستجاب بخمسة أشهر، وذلك لسبب بسيط هو أن مستجاب كان يرسل إليها مادته المُعدة للنشر مبكرًا حتى لا ينسى.
وأنا أتساءل الآن مندهشًا: هل مقال «العشرة الطيبة»، وهو آخر مقال لمستجاب في واحة العربي، كتبه كي يرد الجميل لهذه المجلة، والعشرة الطيبة في أحضانها؟ وهل كان يعلم بموعد رحيله فكتبه، وصدر بهذا الشكل؟
هذا اعتقاد ويقين لا يزال بداخلي مثلما كتب آخر مقال له قبل رحيله بأيام في جريدة الأسبوع المصرية تحت عنوان «البقية في موتنا»، وكأنه ينعى نفسه.
لقد أحب مستجاب وبيته مجلة العربي) وأحبتهم، ولا تزال هذه المجلة تزين الكثير من جدران بيتنا بصورها وأغلفة كتبها.. رحمة الله على والدي، ومحبة كبيرة لقارئ ما زال ينتظر مستجابًا أو ابنه في بداية كل شهر■