مجلة العربي ظاهرة ثقافية فريدة

مجلة العربي ظاهرة ثقافية فريدة

يَندُر اليوم، وكذا الشأن على امتداد ستة عقود، أن نتصفح كتابًا مدرسيًا مغربيًا من دون أن نقف على نص أو إشارة أو إحالة تخص مجلة العربي الكويتية. بل يندر أن نجد بيتًا مغربيًا، مَهْما علا أو دنا شأن أصحابه، لا يتوافر على عدد من أعداد هذه المجلة التي شكّلت ذائقة أجيال متلاحقة من المثقفين والقراء وعموم الناس.

يكفي هذا المؤشر للتدليل على الموقع المركزي الذي احتلته وتحتله «العربي» في عقول ونفوس المغاربة والعرب عمومًا. ونظن هنا أن الأمر لا يتعلق بمصادفة، لاسيما في مجال لا يقبل المصادفات، وإنما كان ذلك مبنيًّا على معطيات وحقائق لا تقبل الجدل، لعل من بينها أن هذه المجلة ما فتئت، منذ تأسيسها سنة 1958 إلى اليوم، تحمل ما يلبي انتظارات قرائها من القيم المعرفية واللغوية والجمالية، بعيدًا عن أي اصطفاف أيديولوجي ضيّق ظل يطبع مراحل متلاحقة من تاريخنا المعاصر، ولاسيما في عالمنا العربي. صحيح أن ما رُصِدَ لهذا المشروع الثقافي، من إمكانات مادية وبشرية، قد ساهم في توفير أرضية ملائمة للاشتغال ووعَدَ بضمانات مبدئية للاستمرار، شريطة المثابرة والعمل. علمًا بأن كثيرًا من المشاريع الأخرى الموازية، هنا وهناك، قد حظيت برعاية كبيرة من طرف بعض الأنظمة السياسية والمؤسسات الرسمية، لكنها سرعان ما ذوتْ وتوقفت، وهي بعْدُ لم تبرح خطواتها الأولى. فالاحتضان وحده، على أهميته، قد لا يكفي لتحقيق التميز والنجاح.
إذ ليست هناك رياح غير مواتية للنوتي (البحّار) الذي يعرف كيف يوجّه أشرعته، كما قال الفيلسوف اليوناني سيوران. ومن ثمّ فإن المجلة، منذ انطلاقتها، كانت قد أعدّت عُدتها ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وحسبت كل شيء بمقدار، من منظور استراتيجي يوجهه حس استشرافي، بعيد المدى، قائم على تصميم دقيق وإرادة حقيقية تؤمن بجدوى الفعل الثقافي في تشكيل الأوعية ورسملة العنصر البشري ضمن بورصة الفكر والقيم النبيلة، مادامت هذه الثروة لا تقل عن الثروة المادية والطبيعية.

رصينة متوهجة
كما وصَل إلينا الشعرُ العربي الجاهلي في اكتماله الفني والجمالي، فقد صدرت مجلة العربي بدورها، ومنذ أول أعدادها رصينة متوهجة، في حين ظلت سقوف طموحاتها تراهن على ما هو أعلى من ذلك.  تجلّى هذا في قيمة وقامات طاقمها التحريري والأقلام المساهمة فيها، والمواضيع التي تتطرق إليها في أبواب مدروسة وثابتة، تهم الحياة والإنسان والمجتمع والأسرة والتاريخ والثقافة والبيئة واللغة والفن، إلى غير ذلك، خاصة إذا ما استحضرنا السياقات السوسيوثقافية والتاريخية الشارطة لخمسينيات وستينيات القرن الماضي. ففي ظرفية لم يكن فيها من المتيسر الحصول على المعلومة كانت مجلة العربي تزوّد قراءها، من المحيط إلى الخليج، بما لذ وطاب. بل بما جدَّ من أخبار ومعارف وأفكار، في قالب ديداكتيكي جذاب، يجنح إلى البساطة والوضوح من دون أن يفرط في الصرامة العلمية والأدبية، استجابة لمدارك فئات عريضة من المثقفين والطلبة والتلاميذ والمهتمين. ولربما يكمن سرُّ ما حققته هذه المجلة من تميز، في «واقعيتها». أي في أنها رسمت لنفسها خطًّا تحريريًا يحتكم إلى إيلاء البعد التربوي والتثقيفي حيزًا أوسع من اهتماماتها، مما أكسبها مع الوقت قاعدة عريضة من «الشعبية» المسنودة إلى رصيد فعلي من المصداقية والوثوقية. فهي وإن كانت صادرة عن حكومة الكويت (وزارة الإعلام الكويتية)، فإن توجهها كان عروبيًا، بالمعنى الإيجابي للكلمة، مما جعلها تستقطب، مبكرًا، نخبة من المفكرين والكتّاب والصحفيين من بقية الأمصار العربية.

منحى منفتح
حسبنا أن نذكر، هنا، على سبيل التمثيل، أسماء من قبيل طه حسين وعباس محمود العقاد ونجيب محفوظ وإحسان عباس ويوسف إدريس وعبدالهادي التازي، وسواهم من الأسماء المخضرمة والجديدة التي أثرَتْ ومازالت تثري أرصدتها الرمزية.
ولتأكيد هذا المنحى المنفتح على الكفاءات والطاقات نشير إلى أن إسناد رئاسة تحرير المجلة، وهذا أمر نادر في التجارب المماثلة ببلداننا العربية، لم يكن حكرًا على الكويتيين وإنما تولاه، في مرحلة أولى، د. أحمد زكي (من عام 1958 إلى 1975) ليليه أحمد بهاء الدين (من عام 1975 إلى 1982)، وكلاهما من مصر.
 وكانت المجلة دومًا مفتوحة لكل الأقلام الجادة من مشارق الوطن ومغاربه، دونما استثناء ولا تمييز. ولعل المقالات الافتتاحية في حد ذاتها، التي تناوبت على تدبيجها أقلام مشهود لها بالنزاهة الفكرية والموضوعية، تشكّل ذخيرة مرجعية للفكر العربي المتنور الممجد للفكر الإيجابي، الهادف إلى نبذ الفرقة، والداعي إلى الوحدة والتآخي بين كل الأقطار العربية والإسلامية، من جهة، وبين مختلف الأطياف الإثنية واللغوية والمذهبية في هذه الأقطار، من جهة أخرى.
كما أن الملفات الثقافية، سواء تلك التي تختار محورًا مخصوصًا للمقاربة والتحليل، أو تلك التي تدور حول منتجٍ لعلم فكري أو إبداعي بعينه، التي ظلت تعدّها بوعي وعمق، صارت مراجع أساسية في الكتب المدرسية والبحوث الجامعية، فضلًا عن تحقيقاتها، المنفتحة على كل الثقافات والشعوب والحضارات، التي تعرّف القراءُ من خلالها على جغرافيات وحيوات وظواهر ما كان لهم، لولا هذه المجلة، التعرّف إليها آنذاك. 

هادفة ورزينة 
كان ذلك يتم باحترافية كبيرة تزاوج بين رشاقة الأسلوب وجمال الصورة والإخراج. هذا إلى جانب تبويب يحاول إشباع نهم شريحة واسعة من القراء. في حفاظ على خط تحريري هادئ ومنسجم، يتلافى الإثارة والتهويل. 
فأركان المجلة، بما فيها تلك المتعلقة بالترفيه والتسلية ظلت، في عمومها، هادفة رزينة. وبالنظر إلى أثمان بيعها (أو الاشتراكات فيها) التي تراعي الطاقة الشرائية للمواطن العربي، يتبدى لنا، بوضوح، أن المردود المادي الصرف لم يكن أبدًا ضمن أجندتها الثقافية. وتلك مكرمة حميدة نجدها في أغلب المطبوعات الكويتية.
صحيح أن «العربي» عرفت تحولات نوعية، طاولت شكلها ومحتواها، إلا أن الثابت في هذا هو أنها حافظت على صدارتها، واستفادت مما توفره لها كل مرحلة من شروط علمية وتقنية تمنحها مزيدًا من الحضور والانتشار. منها ما غدت تسمح به الحوامل والإتاحات الرقمية ووسائط الاتصال الحديثة على تنوعها. 
وهي الشروط نفسها التي طرحت وتطرح أمامها تحديات أخرى جديدة، من دون أن ننسى الهزات الصعبة التي تعرضت لها «العربي» من جراء ما تعرضت له دولة الكويت، وبقية البلدان العربية والإسلامية، من محن وأهوال. إلا أنها كانت تعرف باستمرار كيف تتجدد وكيف تتجاوز محنتها بصلابة أكثر.

وقوف تأملي
إن الحديث عن «العربي»، اليوم، يتعدى مجرد استحضار لسيرة عطرة عاشتها مجلة عربية ولا تزال، وإنما هو وقوف تأملي في مسار قوي لمدرسة، قائمة الصرح، تخرّجت من حَرَمها أفواج من أبناء وطننا الكبير. 
وليس من المبالغة في شيء أن نقول: إن في كل واحد منا «شيئاً» من مجلة العربي. وبالنظر إلى ما راكمته هذه «المعلمة» من منجز فكري وإبداعي، فقد صار الحديث عن المجلة، باعتبارها مجلة وحسب، محض تقريب مجازي، مادامت عن نبعها قد فاضت روافد وتفرعت طرائق قددًا لتلتقي، أخيرًا، في خدمة الثقافة والإنسان.
وهكذا رأينا كيف تفرعت عنها كتب نفيسة مستقلة ومجلات، متواترة الصدور، بين فصلي وشهري. ولئن روت «العربي الصغير» عطش الصغار فإن «العربي العلمي» و«كتاب العربي» بللا ظمأ الصغار والكبار. وما بدّلت تبديلًا. لأن مرور الأيام لم يزدها إلا عتاقة وإصرارًا. والبرهان أنها صارت «ظاهرة ثقافية» فريدة من نوعها، تُعقد من أجل دراستها الندوات وتنجز، حول نجاحها، البحوث والدراسات ■