الكتابة الرّحلية الحديثة بالجزائر وتأثير التحولات التاريخية والاجتماعية فيها
تؤثر الرحلة بدورها في الحضارة الإنسانية جمعاء، وفي المجتمعات الصغرى التي احتضنتها، وأدلّ دليل على ذلك ما أحدثته قديمًا رحلات كولومبوس إلى القارة الأمريكية، ورحلة أرمسترونج إلى القمر حديثًا من اكتشاف للجديد، والبعيد، في الأرض والسماء، والوصول إلى علوم جديدة، وولادة حضارات جديدة.
تؤثر الرحلة بدورها في الحضارة الإنسانية جمعاء، وفي المجتمعات الصغرى التي احتضنتها، وأدلّ دليل على ذلك ما أحدثته قديمًا رحلات كولومبوس إلى القارة الأمريكية، ورحلة أرمسترونج إلى القمر حديثًا من اكتشاف للجديد، والبعيد، في الأرض والسماء، والوصول إلى علوم جديدة، وولادة حضارات جديدة.
أما أدب الرحلات، فهو يقوم على ثيمة السفر، التي تتحكم في جل عناصر الرحلة المؤلفة؛ إذ تطبعها بطابع الحركة والتنقل في الأماكن، وتصوير الرحال فاعلًا منجزًا لأفعال خلال سفره عبر زمن الرحلة، إضافة إلى كونه يتحكم في لغة الرحلة، وموضوعاتها وفق الغرض منه، فالسفر إلى الحجاز لغرض أداء الحج يجعل النص مشحونًا بالدلالات والمقاصد الدينية، أما الرحلة السفارية فتطغى فيها خطابات الهوية والغيرية، ونقرأ فيها موضوعات سياسية، تقترن بالعلاقات الدبلوماسية بين بلد الرحال والبلد المقصود في الرحلة، بينما يزخر نص الرحلة العلمية والثقافية بخطابات تتناسب مع جو اللقاءات العلمية، وإلقاء الدروس في الجوامع والمساجد، وتبادل الإجازات، والمعارف العلمية، ومعاينة المعالم الثقافية... وغيرها من الموضوعات.
وعمومًا يحكي كاتب أي رحلة ما رآه في بلد آخر، ويقوم خلال ذلك بعمليتي الاستذكار والانتقاء، ويكون السفر الموضوع المركزي، ولهذا تأتي نصوص الرحلة منفتحة على أجناس أدبية أخرى، كما يظهر مضمونها متعددًا، لا يقصي أي معرفة، وهو ما يحيل إلى دينامية النص الرحلي بتغيّر الأزمان، والكتاب، والأغراض.
بناء خاص
وعلى الرغم من ذلك، فإن الرحلة استطاعت مع هذا الانفتاح والتعايش، أن تحتفظ ببناء خاص يميزها عن أي خطاب آخر، إذ ترد الرّحلة عادة مصدّرة بافتتاحية وتقديم يدخلان في إطار عملية التدوين، تليها أحداث الانطلاق، وما سبقه من استخارة لله تعالى، واستشارة الأهل، وتحضير للوازم السفر، وكذلك أحداث التوديع والشروع في السير.
ويرد القسم الثاني معرّفًا بأحداث السفر والتنقل وما يصحبهما من أفعال وأحوال، ووصف لمرئيات، وسرد لمرويات، لتصل بنا الرحلة إلى أحداث الرجوع والوصول إلى المنطلق، وهو الذي تليه مباشرة خاتمة سردية، تعبّر عن انتهاء الرحلة المدونة، وإنهاء الراوي لمسروده. وقد نجد أنواعًا فرعية تتحدر من النوع الأصلي «الرحلة»، منها:
1. كراسة الطريق، وهو سجل يضم ملاحظات، وتقييدات مدونة زمن الرحلة، ويصبح حولية تحكي وقائع السفر مرتّبة ترتيبًا تاريخيًا زمنيًا، وتسمى يوميات عندما يركّز الكاتب على دقائق الأحداث، وعلى الأفعال الروتينية اليومية.
2. التقرير: وهو عرض مفصل أكثر رسمية من اليوميات، موجّه إلى سلطة أعلى، أو إدارة، أو مؤسسة أبحاث متخصصة، كالمؤسسات الجغرافية، أو التاريخية، أو المهتمة بالآثار، أو البيئة.
3. المراسلات: وهي مجموعة رسائل يبعث بها الرحال خلال سفره إلى أصدقائه، والمقربين منه، رغبة في إبقاء التواصل معهم، والتخفيف من مرارة الغربة، والفراق.
4. السيرة الذاتية: تعد الرحلة في السيرة الذاتية فرصة لدى كاتبها لاكتشاف ذاته، وهذا الاستبطان، والوصف لمشاعر الذات كثيرًا ما ينتقل إلى وصف البلدان المزارة.
5. المحاولة: عندما يصل كاتب الرحلة إلى التعبير عن آرائه، وتحليل ووصف نظرية ما، تأخذ الرحلة شكل محاولة في الأدب.
6. الملحمة: وهي الشكل الأقدم للرحلة في الآداب الغربية، وهي التي تحكي أحداث رحلات بحرية أسطورية لأبطال اليونان والرومان.
7. التحقيق الصحفي: يأخذ موقعه في الصحف والمجلات، وهو أوجز من الرحلة، يقدّم منجزه حصيلة الأحداث والملاحظات الرئيسة والبارزة، ويعد التحقيق شكلًا من التقرير، والشهادة، وتحليل حوادث، وهو ذو بناء خاص، يتكون من مقدمة وعرض وخاتمة.
تأثر بالأحداث
إن كانت الرحلة ذات شكل حربائي إشكالي ومتغاير، إلا أنها تصوّر في كل الأحوال تأثّر مبدعيها بما يستجد من أحداث ومتغيرات طارئة على المجتمع، يحيل ذلك إلى تحولات في المضامين، وفي طابع الكتابة، وأساليب التعبير النثرية والشعرية، وصيغ الوصف والسرد.
وقد عبّرت الرحلة في الوطن العربي عن هذه التحولات، وخطت خطوات مهمة، نقلتها من التاريخية والتسجيل الجغرافي مع اليعقوبي والمسعودي والبيروني، والإدريسي إلى التعبير والتسجيل الانطباعيين مع أبي بكر بن العربي الأندلسي، وابن جبير، وابن بطوطة، والبلوي، وتتواصل حركة التأليف عند المشارقة والمغاربة، ومنهم الجزائريون وحتى العصر الحديث.
ونقرأ عبر العصور رحلات كثيرة لأعلام وأدباء من مختلف جهات الوطن، وأشهرهم: أبوالقاسم التوجيبي التلمساني، ومحمد المقري الجد، وأحمد المقري الحفيد، وهذا الأخير ساهم في انتقال الرحلة الجزائرية من التسجيل الجغرافي والتاريخي إلى العناية بجوانب الثقافة والعلوم، والأدب، ولذلك ضمّن المقري رحلته بالمناظرات والمراسلات والمحاورات التي جرت بينه وبين العلماء، غير أن ما ميّز رحلة المقري احتواؤها على مقاطع أدبية رائقة في أحاسيس الاغتراب، ووصف أهوال البحر، وذكر معاناته من جراء التنافس والغيرة بين العلماء، واستمرت الكتابة في الرحلة بالجزائر أثناء العهد العثماني مع عدد من الأدباء والمؤرخين كعبدالكريم الفكون، والحسين الورثلاني، ومحمد أبي راس الجزائري، والأمير عبدالقادر الجزائري، وأبي حامد العربي المشرفي، ويدّر أحمد بن الحاج حمو، هذا الأخير يعدّ من رحّالي القرن العشرين القريبين من مرحلة النضال بالقلم، وفترة تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية.
1. الرحلة الإصلاحية بين المحافظة والتجديد
عرفت الجزائر في بداية القرن العشرين حركة فكرية إصلاحية حملت على عاتقها إصلاح المجتمع، وتقويم المعتقدات، والأخلاق، والتغيير من حال الجزائري، وسعى أعلام الحركة الإصلاحية في بلادنا، ومنهم أعضاء جمعية العلماء المسلمين إلى دعم الجهود الإصلاحية، والعمل على تحقيق الأهداف المرجوة بشتى الوسائل، ومنها: الأدب شعرًا ونثرًا، وبهذا قرأنا شعرًا إصلاحيًا، ومقالًا إصلاحيًا وخطبة إصلاحية، ورسائل إصلاحية، ومقامة إصلاحية، ومقالًا قصصيًا إصلاحيًا، ورواية إصلاحية، وهي كلها ظهرت في فترة واحدة، فترة نشاط جمعية العلماء المسلمين في النصف الأول من القرن العشرين، فهل ينطبق هذا الحكم على أدب الرحلات؟
مَن يراجع قائمة مصادر الرحلات الجزائرية في العصر الحديث يكتشف الكم الوافر من النصوص التي ألّفها أعلام الإصلاح، حيث كان فعل الرحلة ضروريًا لتبليغ الأفكار الإصلاحية عبر أرجاء الوطن، وفي مختلف الأقطار العربية والإسلامية والأوربية.
ومن أشهر الرحلات الإصلاحية نذكر رحلات الشيخ عبدالحميد بن باديس إلى الشرق الجزائري، ومدن الوسط، والناحية الغربية من بلادنا من سنة 1929 إلى سنة 1932، كما دوّن الكاتب أخبار رحلتيه إلى أوربا عامي 1936، و1938، واتخذتا أبعادًا سياسية، إذ كان السفر مع وفد المؤتمر الإسلامي الجزائري إلى باريس للمطالبة بحرية التعبير وحق التنقل، وتسهيل فتح المدارس العربية، وتشييد المساجد والاحتكام إلى القضاء الإسلامي، وتظهر الفائدة من هذه الرحلة في توسيع نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى فرنسا، ولأن الوفد قوبل في فرنسا بالصد والرفض من الطرف الفرنسي، فقد أعلن ابن باديس صراحة عدم ولائه لفرنسا، التي أوغلت في اضطهاد الشعب الجزائري في دينه ولغته وكرامته.
ابن باديس في تونس
وفي العام ذاته دوّن ابن باديس رحلته إلى تونس التي قام بها شهر مايو عام 1937، للمشاركة في إحياء الذكرى العشرين لوفاة أستاذه البشير صفر، وقد ألقى ابن باديس كلمة مدح فيها هذا العالم المصلح، وعدّد أعماله الكبيرة في خدمة شعبه التونسي، وإخوانه من طلبة العلم الجزائريين، وحضر ابن باديس تظاهرات ثقافية نظمتها الجمعيات الطلابية والعمالية الجزائرية في تونس، ومنها: جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين، والجمعية الودادية الجزائرية، واشتغل الرحال في هذه الزيارة بالدعوة إلى وحدة المغرب العربي عن طريق توفير سبل للتعاون الفكري والعلمي، وإضعاف خطط الاستعمار الفرنسي في الفصل بين هذه الدول المشتركة في التاريخ والمصير، واغتنم الفرصة لفضح أفعال المحتل في الجزائر، ووصف مظاهر الفقر، والبطالة، والظلم، والأميّة.
كذلك نذكر من الرحالين الإصلاحيين في هذه الفترة المجاهد الشيخ الفضيل الورثلاني، الذي جال في مدن عمالة قسنطينة برفقة وفد الجمعية، ومحمد بن العابد الجلالي، صاحب رحلات إلى تونس وباريس، ومبارك الميلي صاحب رحلة «تفقّد الشُّعَب»، وهي ظاهرة من عنوانها أنها تحمل همّ معاينة أحوال شُعَب جمعية العلماء في مدن شرقية؛ كسطيف والعلمة والقرارم والميلية وجيجل، والقل، وفي هذه المهمة عانى الميلي مكر ومكائد الطرقيين، الذي كانوا يحرضون الناس عليه، لكن محاولاتهم باءت بالفشل؛ فقد لقي الميلي ترحيبًا من العامة واستجابة في التعاون لبناء المساجد، وتقبّل هو الآخر أسئلة الناس في قضايا دينية ودنيوية بصدر رحب وذهن متيقظ، وهذه خطوة مهمة في تاريخ الرحلة الإصلاحية؛ إذ باتت سبيلًا للتغيير من المعتقدات الخاطئة في الدين بفعل التخلف والجهل والتعمية الاستعمارية للعقول، وطريقًا مباشرًا وعاجلًا لبثّ اليقظة والإصلاح في المجتمع الجزائري.
دعوة وإرشاد
تشترك الرحلات الإصلاحية في أن منجزيها ومؤلفيها قد حملوا على عاتقهم دعوة الناس وإرشادهم في أمور دينهم وحياتهم، وحثهم على أعمال الخير والبرّ، عن طريق المحادثات، وإلقاء الدروس والمحاضرات واستطلاع أوضاع الحياة الدينية والاجتماعية للعامة، وحال المدارس والمساجد، ومكاتب القرآن الكريم، وتصوير كل ذلك ونقله إلى قرائهم، وسعى الرحالون الإصلاحيون كذلك إلى فضح أفعال الطرقيين من ادعاء للولاية والصلاح، ودجل وشعوذة، والدعوة إلى التخلي عن التعصّب القبلي، وألحّ جميع الرحالين على بيان إقبال الشباب على دينهم ولغتهم، وعمق إحساسهم بالانتماء القومي، وهو دليل على أن جمعية العلماء بدأت تحقق أهدافها.
غير أن هذه الرحلات رغم محافظتها على المضمون الديني والوعظي الخطابي، فإنها أسهمت في ترسيخ نمط من الكتابة الرحلية يبدو مختلفًا عمّا ألفناه في الرحلة الجزائرية القديمة؛ فقد بدأت الرحلة الحديثة مع الإصلاحيين تأخذ شكل اليوميات التي تتسم بالطابع التسجيلي، والدقة في تعيين زمن الأحداث، ومراوحة سرودهم بمقاطع وصفية قصيرة لملامح المدن التي زاروها، والشخصيات التي قابلوها، كما بدأت تدريجيًا باستعارة أساليب الكتابة المقالية الصحفية التي أتقنها رجال الإصلاح، وبالتالي نخلص إلى أن الرحلة الإصلاحية لم تُحدث قطيعة نهائية مع تقاليد الكتابة السابقة، ولكنها في الوقت نفسه تقدمت بالنص السردي الرحلي خطوات نحو الأمام عن طريق التنويع في أساليب الوصف والسرد، واستخدام لغة صحفية دقيقة ومركّزة مع المحافظة على تقاليد الافتتاح والخاتمة.
2. التجديد الموضوعي والشكلي للرحلة الجزائرية
عرفت الجزائر نهاية الثلاثينيات وبعد الحرب العالمية الثانية خصوصًا تحولات بارزة على المستوى الاجتماعي والديني، والفكري، وكانت الأحداث السابقة للثورة التحريرية الكبرى، والمتزامنة معها عاملًا مهمًّا في تحوّل الكتابة الأدبية، ومنها الرحلة التي استمر التأليف فيها على يد عدد من المثقفين والأدباء، والطلبة، والكشفيين، الذين أسهموا جميعًا في تطوير الرحلة الجزائرية، التي بدأت تتخلى عن الخطاب الإصلاحي لتلامس خطابات جديدة مناسبة لمستجدات الساحتين السياسية والفكرية، حيث وجدت رحلات أخرى تعرّض صراحة، وبلهجة أشد، بأفعال المحتل الفرنسي، كما نلمس تردد موضوع الوحدة المغاربية، واستنكار الحدود الموضوعة بين دول المغرب العربي.
ومن نماذج هذه الرحلات: رحلة حمزة بوكوشة إلى المغرب الأقصى، وهي لغرض استطلاع أوضاع العلم والثقافة في المغرب، ومعرفة أحوال الجمعيات الجزائرية هناك التي نشط فيها كثير من الطلبة الجزائريين، وقد قارن في كثير من المواقف بين حال التعليم ومعاهده في المغرب الأقصى، وحالهما في الجزائر، ونضيف كذلك رحلة مدرسية موجزة ألّفها سليمان الصيد ونشرها في «البصائر» عام 1953، وكذلك نقرأ في هذه الفترة رحلات سياحية استطلاعية، وثقافية وعلمية منها: رحلة محمود بوزوزو إلى باريس عام 1947، التي ألّفها صاحبها لفضح البرلمان الفرنسي، ورحلة محمد الساسي بلحاج إلى الجزائر العاصمة لغرض السياحة عام 1948، ورحلة أحمد رضا حوحو إلى الاتحاد السوفييتي عام 1950، ورحلة محمد البشير الإبراهيمي إلى باكستان عام 1952 للمشاركة في مؤتمر الشعوب الإسلامية، ورحلة عثمان سعدي التي كتبها عام 1953، وهي عن سفره إلى مصر لمواصلة الدراسة الجامعية، ورحلة محمد علي دبوز إلى طنطا المصرية للقاء عائلة الرافعي وزيارة قبره، كما نجد رحلات كشفية إلى المشرق العربي، كالتي ألّفها محمد المنصوري الغسيري بين سنتي 1953 و1954.
3. الرحلة الجزائرية بعد الاستقلال
إن كانت الجزائر قد تعدّت مرحلة الثورة، فإن كتّاب الرحلة استمروا في استرجاع أحداث الثورة، في خضم تأليف مذكرات جهادهم بالقلم والسلاح، أو تأليف رحلات مستقلة، ومن أشهر كتب المذكرات التي تحكي رحلات ثورية، رحلات أحمد توفيق المدني في كثير من البلدان العربية والإسلامية، للتعريف بالقضية الجزائرية، ولجمع التبرعات والأسلحة لمصلحة جيش التحرير الوطني، إضافة إلى رحلاته السابقة الإصلاحية إلى مدن الجزائر وبوسعادة، والمسيلة، ومدن الغرب الجزائري كمستغانم ووهران وتلمسان، ورحلات مالك بن نبي إلى آفلو وباريس ثم تبسة، ورحلته إلى باريس المضمنة كلها في كتابه «مذكرات شاهد القرن»، ومذكرات جودي لخضر بوالطمين، التي حدثنا فيها عن أحداث رحلته من العراق بعد إنهاء دراسته إلى الجزائر للالتحاق بصفوف المجاهدين.
كما نقرأ كتب سيرة ومذكرات لرجال الإصلاح كالتي ألّفها الشيخ محمد الطيب المهاجي (1300هـ /1882م)، الذي سرد أخبار رحلاته إلى المغرب الأقصى وتونس، والحجاز في سيرته الشخصية والعلمية «أنفس الذخائر وأطيب المآثر في أهم ما اتفق لي في الماضي والحاضر»، والتي أنهى تأليفها سنة 1961م، وقد تناول المهاجي في رحلاته قضايا عدّة؛ منها أنشطة التعليم ومناهجه بالبلدان المرتحل إليها، والسلوكيات الشائعة في التجمعات والاحتفالات الصوفية، وهي التي استنكرها، وفي هذه الرحلة كان لقاء المهاجي بالشيخ ابن باديس عند مروره بقسنطينة، وكذلك ألّف خير الدين محمد مذكراته المضمنة فيها رحلاته الداخلية في قسنطينة وورقلة، ورحلته الخارجية نحو تونس.
رحلات سياحية
تمّ نشرُ رحلات سياحية متخذة في الكتابة نوع «الدليل السياحي»، مثل رحلة محمد الصالح رمضان الذي سافر إلى فرصوفيا عاصمة بولونيا؛ للمشاركة في المهرجان الدولي للشباب، وعنوان رحلته «سوائح وارتسامات عابر سبيل»، ورحلة محمد باعزيز المشرقية ذات الهدفين الحجي والسياحي، الواردة بعنوان موجز مختلف عن عناوين الرحلات القديمة المسجوعة وهو: «رحلتي إلى البقاع المقدسة»، ورحلات أبي القاسم سعدالله الثقافية والعلمية والسياحية داخل الوطن، وفي المغرب الأقصى، وباريس، ورحلة محمد ناصر إلى عُمان، التي سجّل فيها ما أدهشه في هذه السلطنة، ودعا الجزائريين إلى أخذ العبرة من التجربة العمانية في تسيير الملتقيات، وفي تطوير الثقافة والتعليم، وحماية المخطوطات، واقترح على المسؤولين آنذاك تفعيل نتائج الندوات الثقافية والعلمية، عن طريق طبع بحوثها في كتب مستقلة، ممنهجة، ومبسطة للباحثين والطلاب.
وفي سنوات التسعينيات نشر أحمد منور رحلاته إلى ليبيا ومصر وفرنسا وإنجلترا وجزر القمر، والكويت، ونشر عمر بن قينة رحلتيه إلى تونس، وإلى الجنوب الجزائري، ولا يزال التأليف في الرحلة مستمرًّا حتى هذه السنوات، ويمكن التمثيل برحلات محمد العيد مطمر في مختلف بلدان الوطن العربي والإسلامي في العراق والسعودية وسورية وأفغانستان، وداخل الجزائر في تيمقاد خصوصًا.
وقد اتخذت هذه النماذج من الرحلات الطابع السياسي، والاستطلاعي لأحوال الجزائريين من المهاجرين والطلبة خارج الوطن، كما تحمّل الرحالون مسؤولية إسماع صوت الجزائر لسكان العالم، علما بأن أحداث الرحلات أكثرها يعود إلى الخمسينيات، بينما كانت الكتابة بعد الاستقلال، إضافة إلى تناول جل الرحالين قضايا الهوية واللغة، فتعرضوا لحال الوطن وأحوال المواطنين، مثلما دافعوا عن اللغة العربية وعرّفوا بالحياة في الدول العربية، كما سجلوا كثيراً من الملاحظات حول الدين الإسلامي، وسلوكيات المسلمين.
واستمرت الرحلة الجزائرية في هذه المرحلة بالتقدّم خطوات إلى الأمام متجانسة مع المذكرات واليوميات، وبالتالي التنويع في الصيغ السردية ما بين السرد التسجيلي الآني، والسرد الاسترجاعي الموجز والانتقائي، وقد تنوعت الرحلات، إضافة إلى المذكرات واليوميات، فوجدنا الدليل السياحي، والرحلة العلمية، والثقافية، والسياحية، مع استمرار الرحلة الحجازية الحجية المتخلصة نوعًا ما من بقايا التأليف التقليدي، في العنونة وفي الأسلوبين السردي والوصفي.
مستقبل الرحلة الجزائرية
إن كانت الخصائص المذكورة والخاصة بالرحلة العربية والغربية قد علقت بالرحلة المعاصرة، فإن خصائص أخرى زالت واختفت، بسبب التطور الذي يعرفه الإنسان المعاصر في وسائل السفر الفعلية، فقد أصبح السفر إلى بلدان مجهولة أسهل بكثير مما كان عليه قديمًا، كما أصبح بالإمكان مشاهدة مختلف المدن والبلدان والمعالم دون التنقل إليها، بفضل تطور الإعلام الإلكتروني، ولهذا يتعرّض أدب الرحلة إلى الاختزال، وزوال كثير من ثيماته المعهودة، كالتنقل عبر المراحل الصغرى للوصول إلى الوطن، وكل ما يجر ذلك العبور من مشاهدات ولقاءات وحوادث مفرحة أو أليمة؛ وأصبح السرد الرحلي ينتقل مباشرة من حدث الانطلاق إلى حدث الوصول، كما قلّ الشعور بالحنين إلى الوطن والأهل، لقصر مدة السفر، وندرة الحديث عن أهوال البحر ومخاطر السفر في البر والصحراء، والتعرّض للسرقة، وتضمين الإجازات العلمية، وغيرها من الثيمات والموضوعات.
لكن مع ذلك يبقى للرحلة مستقبل زاهر لأسباب عديدة: منها أن عددًا من الكتّاب والمثقفين المعاصرين لا يزالون يجتهدون في التأليف الرحلي نثرًا ونظمًا، وفي إنجاز التحقيقات الصحفية ذات المضمون الرحلي، كما أن الرحلة الخيالية تبقى ذات مكانة في الأدب، لكونها تطفح بالخيال وتلغي الحدود الواقعية والجغرافية، وبسبب العولمة أصبح من الطبيعي والمفترض أن يسعى الناس إلى السفر، للاتصال بإخوانهم من كل بقعة في العالم، أو كما قال عبدالرحيم مؤذن في إحدى مداخلاته بأن مصير الأدب أصبح «مرتبطًا بالعولمة، وأن العيش خارج الوطن صار ضرورة للكتابة، باعتبارها أداة اللقاء بالعجيب والغريب».
كما أنّ أدب الرحلة لم يعد قائمًا - كما عبّر خالد النجار - على وصف الأماكن: «لأن هذا الدور أصبح مقصورًا على المرشد السياحي، وانتهى بالتالي عنصر العجب والغرابة، وانتهج في المقابل ألاعيب الكتابة للحفاظ على هذه المظاهر». ومن المهم أن نشير إلى ما يحدث في زماننا من تداخل الأدب مع الفنون المختلفة، وتداخل الأدب من جهة أخرى مع التكنولوجيا والعلوم، وبذلك نشأ أدب الخيال العلمي، ووظف كتّاب الرحلات تكنولوجيا الطباعة والتلوين، وإدراج الصور والخرائط والوثائق ■