يحيى حقي وهلال رمضان

يحيى حقي وهلال رمضان

على مدى 87 عاماً أثرى يحيى حقي الوجدان العربي بعشرات من الأعمال الأدبية. وقد كان هذا الأديب الذي ولد عام 1905 ومات عام 1992 نسيجاً من الود والمحبة والأصالة وتطل هذه المقالة على مكانته الأدبية كما تكشف عن إحساسه الديني العميق.

عالج يحيى حقي معظم فنون القول, من قصة قصيرة ورواية ونقــد ودراسة أدبية وسيرة ذاتية ومقال أدبي, كما ترجم عدداً من القصص والمسرحيات, وإن ظلت القصة القصيرة هي هواه الأول. بعد أن كتب آخر كتبه (ناس في الظل) عام 1974 صمت ورفض ممارســة الكتابة بأنواعها صائحاً دون خجل: قلت كل شـــيء ولم يعد عندي ما أقوله, حتى لا يتناقض مع نصيحـته للقارئ أن يتأمل لنفسه بنفسه كيف يدب الخداع والكذب في المؤلفات التي تسعى لاسترضاء الجمهور.

وهكذا نال التقدير بصدقه ورؤيته ـ كما قالت حيثيات جائزة الملك فيصل العالمية في منحها له عام 1990 ـ إن الفن لا قيمة له إن لم يكن إيماناً وتواصلاً يدفعان الحياة ويضيفان الجمال والأمل.

كان يحيى حقي صادقاً مع نفسه أولاً, فتواصل القراء والمبدعون معه. وكان ينشر كتاباته في صحف بسيطة مثل جريدة العمال والمساء والتعاون, خاصة تلك التي وقّعها تحت أسماء مستعارة منها: عبد الرحمن بن حسن, المؤرخ المصري الشهير (الجبرتي), لبيب,شاكر فضل الله, أبو شنب فضة,قصير, يحيى حقي.

بعد أن توقف يحيى حقي عن الكتابة لعدة سنوات أصدر عام 1991 كتابه الرائع (خليها على الله) مبيناً على غلافه الداخلي أنه السيرة الذاتية له.

عرف يحيى حقي بالدقة والموضوعية في كل ما يكتب, وفي كل ما يقول, فكان دقيقاً وموضوعياً في كل كتاباته وفي كل أقواله, كان بحق شاهدا على القرن العشرين منذ مولده في 7 يناير 1905 وحتى وفاته في التاسع من ديسمبر عام 1992.

وكتاب (خليها على الله), سيرة ذاتية ليحيى حقي مثلها مثل السِيَر الذاتية التي كتبها أدباء آخرون. ولقد سماه مذكرات, ولكنه سرعان ما ذكر أنها مذكرات عابر سبيل أي ليست مذكرات مقيم يذكر تاريخ الحدث بالساعة واليوم ويوثقه في مصلحة الشهر العقاري ولا يكتفي بذلك.. إنها مذكرات عابر سبيل يرويها عفو الخاطر تاركاً نفسه على سجيتها والحبل على الغارب.

كان يحيى حقي إنساناً عظيماً ونموذجاً أخلاقياً لا تنفصل الكلمة لديه عن الأداء والسلوك, وأباً فعلياً للكثيرين من أبناء الأجيال التي وفدت إلى الساحة الثقافية بعد.كان يمد يد العون ما استطاع إلى ذلك سبيلاً, يقدمهم إلى الحياة الأدبية ويقي مسيرتهم عثرات الطريق, أو شراك القيم الزائفة, وكما يقولون إذا كان طه حسين هو الذي وضع اللبنات المؤسسية الأولى للثقافة الجادة والدرس المنهجي, فإن يحيى حقي هو الذي بلور الأجنة الأولى لوزارة الثقافة وصاغ أولويات العمل الثقافي وأرسى دعائم اضطلاع المثقف بالدور الأساس فيه, فما إن أسندت له إدارة مصلحة الفنون عام 1955, وهي المصلحة التي أصبحت النواة الحقيقية لأول وزارة ثقافة في مصر, حتى جاء نجيب محفوظ من وزارة الأوقاف وعلي أحمد باكثير من وزارة المعارف للعمل فيها تأكيداً منه لضرورة أن يتولى المثقفون قيادة العمل الثقافي.

وعندما أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة (المجلة) فتح صفحاتها لكوكبة من شباب الكتّاب الواعدين وأخذ ينشر كتاباتهم الإبداعية والنقدية.

وكتب عدداً من المقدمات التي قدّم بها مجموعة من الأدباء الشبّان في فترة الستينيات الذين أصبحوا اليوم من أعلام الأدب المعاصر.

وقد قام الناقد فؤاد دوارة ـ يرحمه الله ـ بجمع مقالات يحيى حقي المتناثرة هنا وهناك وعمل على تصنيفها تصنيفاً موضوعياً وجمعها في ثمانية وعشرين مجلداً مما يسّر على الباحثين عن مصدر مهم عند دراسة يحيى حقي.

المتواضع الأول

يعد يحيى حقي المتواضع الأول في الأجر ومكان النشر.. طالبته الأهرام بالانضمام إليها يوم أن عزم هيكل على استقطاب كبار كتّاب مصر في الأهرام.. ولكنه استدركهم قائلاً: يا ليتكم قلتم لي قبل ذلك بأيام فقد تعاقدت مع جريدة (التعاون) والتعاون هي جريدة عمالية ذات توزيع محلي محدود.. ولكن يحيى حقي يرى أن الكلام للعمال ضرورة وطنية لا تقل عن الكتابة للمثقفين أو للعالم العربي كله.. لم يجد الأهرام أمامه إلا أن يستكتب يحيى حقي من خارج هيئة التحرير. وفي يوم أرسلوا له أربعين جنيهاً ثمناً لمقالته.. فرفض تسلمها قائلاً: 40 جنيهاً هذا كثير.. هذه سرقة.

وقد عرضت عليه الجامعة الأمريكية نشر مؤلفاته الكاملة إلا أنه لم يستسلم لإغراءات المال المغوية وقرر نشر أعماله في دار النشر الوطنية (الهيئة المصرية العامة للكتاب).

ولقد كانت قصصه وكتاباته تعبر أحسن تعبير عن الواقع المصري فيكفي أن نلقي نظرة على عناوينها المستوحاة من قلب البيئة المصرية فمن (قنديل أم هاشم) و(أم العواجز) و(يا ليل يا عين) و(تراب الميري) و(صح النوم) و(من باب العشم) إلى (خليها على الله) و(دماء وطن) و(عطر الأحباب) و(أنشودة للبساطة) و(من فيض الكريم) و(ناس في الظل) و(كناسة الدكان), إلى غيرها من الأعمال الأدبية الرائعة.

وقد سئل يحيى حقي قبل وفاته بسنوات عن العوامل التي شكّلت مسيرته الأدبية فأجاب:

بعض المنعطفات المهمة في حياتي ليس لي دخل فيها مثل نشأتي في أسرة تحب الثقافة وتعشق القراءة وعملي في الصعيد أتاح لي اكتساب تجارب كان لها تأثيرها المهم في حياتي, أما انخراطي في السلك الدبلوماسي فقد مكّنني من مخالطة شعوب عديدة وأعطاني شيئاً مهماً جداً في حياة الفنان وهو البعد الزماني والمكاني من التجربة.

ويمكن أن نضيف إلى هذه العوامل قراءاته وثقافته الواسعة فقد تتلمذ في القصة على أعلامها الكبار بالإضافة إلى قراءته المستفيضة في علم النفس وتراجم كبار الفنانين كما تأثر بآراء فرويد وأدلر وكان يتنبه لمفارقات الحياة التي منها جبروت الإنسان وضعفه في آن, مثلما أثارته تجربة أتاتورك في تركيا.

وكان شديد الإعجاب بكتاب القصة في روسيا الذين اهتموا إلى جانب واقعيتهم بالقيم الروحية كما أعجب بالشاعر محمد إقبال الذي حثّ المسلمين على النهضة.

وكان تعرّفه والتقاؤه بالأستاذ محمود شاكر ـ يرحمه الله ـ منعطفاً مهماً في حياته.. ويقول يحيى حقي عن صحبته هذه (ماذا أفدت أنا من هذه الصحبة مع محمود شاكر?) ويجيب قائلا: أفدت لأنني قرأت شعر الجاهلية كله تقريباً على يديه وهنا نفرق بين شيئين.. معرفة اللغة, معرفة ألفاظها ومعرفة سليقة اللغة ففي بعض الأحيان أقول لقد مارست الكتابة قبل أن أقابل محمود شاكر ومارستها بعد أن قابلته وأحياناً يروق لي أن أقول ما الفرق بين الاثنتين.. هل انتقلت من الأسود إلى الأبيض?!

صحيح كنت أقرأ عليه بعض ما أكتبه, وكان يرشدني إلى بعض الألفاظ الأفضل من غيرها, وعند المقارنة أجد أنني قد اكتسبت ما أسميه سليقة اللغة, ولكن إن كنت اكتسبت شيئاً فقد اكتسبت عناءً شديداً لأنني دخلت بعد ذلك في صراع شديد مع النص الأدبي الذي أكتبه وأحاول فيه أن أبلغ ما أستطيع من جهد لأن كل كلمة أكتبها عليها بصمات كتاب وشعراء قبلي وأنا عليم بهذه البصمة).

ليلة رؤية الهلال

ومن وحي عطر نسمات شهر رمضان الكريم قدم لنا يحيى حقي ـ يرحمه الله ـ من كتابه (من فيض الكريم) تفاصيل الشعائر الإسلامية والعادات الاجتماعية التي تعكس جوهر شعوره الديني وتكشف عن حقيقة مواجده الروحية, حيث يقدم لنا تفاصيل ليلة الرؤية كما تسجلها عين يحيى حقي الصبي في بدايات القرن الماضي فيضعنا بذلك أمام لوحة قلمية تنبعث من سطورها التواريخ وتنهض من بين حروفها تفاصيل هذا الموكب الجميل الجليل الذي يسجل احتفاء شعب بأجمل شعائره, وهو استقبال شهر تطهير النفس والروح والبدن معاً.

فتحت عنوان (من وحي ليلة الرؤية) يكشف لنا يحيى حقي تسجيله الحساس للاحتفاء بتلك الليلة المباركة قبل دخول الإذاعة أو التلفزيون إلى حياتنا, وكيف كان الاحتفاء بليلة الرؤية مناسبة دينية تمتزج فيها عناصر الاحتفاء الشعبية والجمالية بالعناصر الروحية والدينية حيث يتم الإعلان عن وحدة الأمة وعن انصهارها في بوتقة الوحدة الدينية, وقد شدت أبصارها إلى القبة الزرقاء وانطلقت أرواحها من عالم الأرض إلى عالم السماء, ولم يكن هناك مذياع يجلب للناس أخبار الرؤية في منازلهم وهم معزولون عن الآخرين, متقوقعين على أنفسهم, بل كانت جموع الصبية قبل الكبار تتجمع خارج باب المحكمة الشرعية في سراي رياض باشا حيث يجلس القاضي ينتظر وفود الرسل الذين خرجوا إلى مختلف المراصد والأماكن لرصد قطعة صغيرة من النور ليس في السماء ما هو أرشق منها ولا أجمل, وما أن تثبت الرؤية حتى تدار أكواب العصير على الحاضرين وسط هتاف الصبية: (صيام صيام. بذا حكم قاضي الإسلام).

وينطلق الموكب وفي مقدمته ضارب الطبلة المغلفة بجلد النمر فوق حصانه وخلفه فريق كبير من المشاة يعقبهم موكب أرباب المهن الشعبية كل مهنة يتقدمها شيخها يتبعه صبيانه وقد حملوا في اعتزاز أجمل أدوات مهنتهم التي يستعملونها في نوع راق من النشيد الإيماني الذي يصوغ تضافر الفن والعمل في موكب يوحي وصف يحيى حقي الحساس له بأننا إزاء لوحة رائعة من التراث الشعبي التلقائي الجميل, وما إن يمر الموكب على مسجد حتى تضاء مئذنته ولا تنتهي مسيرته إلا وتكون مآذن القاهرة الألف قد أضيئت إيذاناً بدخول رمضان.
هذا هو الموكب الفلكلوري الصادق الوحيد الذي يعرفه شعبنا العربي والذي يجمع كل أسباب البقاء ولكنه مع ذلك مات واندثر, وهكذا يصور يحيى حقي بروح مؤمنة تجليات وصور وفيوض النور التي يوحي بها شهر رمضان, وهي تؤكد حسه الروحي الشفاف النابع من أصالة شعبنا المؤمن.

ويؤكد كل صبي أنه سيصوم ولو يوماً واحداً لينعم ولو مرة واحدة بالجلوس مع الأسرة حول مائدة الإفطار (فشهر رمضان المبارك هو شهر جمع الشمل) ليشاركهم لذة ترقب المدفع واستطعام الفول المدمس كأول طبق, وصبر إلى أن يأتي دور الكنافة والقطايف وقمر الدين. وبعد العشاء تكسير اللوز والجوز والبندق ومضغ التمر والتين المجفف.

يقول يحيى حقي:

في ليلة الرؤية, وهلالها ليس كبقية الأهلّة, يظهر خطفا لا ليضيء, بل ليومئ ثم يغيب, لا أخليه من ميل للدلال والمعابثة, شأن كل مزهو بجماله رغم جلاله, يتجه ذهني بود وحنان إلى صديق, أمثاله من حولي كثيرون, وأقول في سري: تباركت يا شهر الصيام, ما أقوى سحرك وما أكبر حزبك.

تمر على هذا الصديق مواقيت الصلوات الخمس فلا يعرف له يومه ركوعاً وسجوداً, الماء عنده للاستحمام لا للوضوء, وساعته ماشية افرنجي لا عربي, إنه مضرب عن الصلاة, حتى يوم الجمعة... ثم يعلق يحيى حقي على سلوك صديقه قائلاً:

حذار أن تظن أنه رجل كافر, أو أنه رجل سافل, بالعكس, هو رجل طيب جداً, بل إنه يقول لك بلهجة الواثق: (بيني وبين الله عمار, الدين عندي أن لا أؤذي أحداً بفعل أو قول)...

ما أعجب التحول الذي يطرأ عليه حين يهل الهلال, كأن إيمانه على موعد مع رعشة خفية تشمل قلبه وتهيج كل أشواقه...

أتأمله فأحسبه رجلاً آخر, ليس هذا صديقي الذي أعرف.. فصديقي يصوم رمضان كل عام منذ أن كان في سن الثامنة, لا يخجل من إغفال الصلاة, ولكنه يخجل كل الخجل من إغفال الصيام...

وفي كتاب يحيى حقي (من فيض الكريم), يؤكد من خلال حديثه عن المناسبات الدينية مدى عقلانية التفكير الإسلامي العامر بالحكمة ومدى بعدنا عن تلك الحكمة العميقة الكامنة في جوهره واستغراقنا في مظاهر الشعيرة وحدها دون الاهتمام بحكمتها أو مراميها العميقة.

فيقول: ليس في كتاب غير القرآن مثل هذا الإلحاح المفضل على الإنسان ليعمل عقله ويتدبر الكون ويفهم أسراره ومثل هذا الحثّ على العلم وطلب العلم الذي ارتفع إلى مقام الفرائض.. إنه يفتح الباب على مصراعيه أمام قوى الإنسان العقلية لتتفجر وتنطلق من مكانها بغير رهبة, ثم يتساءل: هل بعد هذا إقرار بكرامة الإنسان وبرهان على الوثوق به والأمل فيه? ليس في القرآن لعنة تلاحقه منذ مولده.

ثم يربط يحيى حقي بين النزعة العقلية الواضحة في الإسلام وكراهيته للتعصب, ويؤكد أن السماحة وسعة الأفق من فضائل هذا الدين الحنيف.

لقد رحل عنا يحيى حقي وما زال عطره يملأ المكان والزمان والأحوال وستظل أعماله قناديل ساطعة تشع إشعاعاتها الروحية من عالمنا الأدبي المعاصر.

 

محمد سيد بركة

 
 




يحيى حقي





الأديب الراحل يحيى حقي