رحلة فاس ومكناس... تمنح شهية لحياة أخرى

رحلة فاس ومكناس... تمنح شهية لحياة أخرى

    ظلَّت «مكناس» المدينة الأمازيغية التي تعتلي الهضبة ويحرسها الأطلس المتوسط من الجنوب وتلال ما قبل الريف من الشمال، مختلفة عن المدن التي سبق أن زرناها، ولا تشبه أي مدينة مغربية أخرى بقدر ما تشبه «فاس»، وعلى الرغم من أن المدينة كانت تاريخياً ضمن مجموعة من المناطق التابعة لسلطة إقليم فاس المعروف بوفرة الحبوب والمواشي والثمار، فإنها لم تكن كبقية المناطق التي لا سلطة لقاطنيها عليها، ولم يكن أهلها الأشراف والنبلاء يقتسمون المحاصيل، التي يزرعونها بأنفسهم، مع أهل فاس أو مع الملك وحاشيته، كما كان يفعل بقية السكان الذين يعيشون في أغلب المناطق الأخرى.

يظلُّ التاريخ بكل ما يعنيه من رمزية في كل من «فاس» و«مكناس» هو الأصل والقلب النابض للمدينتين، إنه النافذة التي يرى من خلالها الزوار والسياح وجه المدينتين الحقيقي، فلا معنى لهما من دون معالمهما التاريخية العريقة وخزينة تراثهما الغنية والمتنوعة في الثقافة والعلم والأدب. ومن يمش في دروبهما ويتجول في أزقتهما يدرك أن التحول والتغير اللذين شهدتهما الحياة العصرية، والتطاول في العمران والمباني الحديثة لم تنل من تلك السمة الأصيلة المميزة للمدينتين. 

الطريق إلى مكناس 
من طنجة إلى مكناس ركبنا القطار، الذي انطلق بنا في موعده وسط جنة خضراء من السهول والهضاب، كان الطقس جميلاً هذا اليوم ومناسباً للسفر؛ السماء زرقاء صافية كفطرة النقاء والجمال الداخلي التي فُطر عليها الإنسان المغربي، والشمس مشرقة كإشراق من مرّوا من هنا، وتركوا نور شمسهم ينير الدنيا من بعدهم. ولكن الخجل يمنعها من الظهور كاملة، هكذا هي الشمس المصاحبة لنا، تظهر ثم تتوارى، ثم تظهر من جديد، وهكذا دواليك. 
اختيار القطار للتنقل بين المدن المغربية كان بمنزلة الخيار الأفضل مقارنة بالخيارات الأخرى المتاحة أمامنا، على اعتبار أنه يتيح لنا إمكان تعظيم فرصة الاستمتاع بلذة التأمل التي تولد من خط سيره، الذي يشق فيه ألواناً جغرافية متنوعة ومتعددة نحو تاريخ ضارب في أعماق مسار المجتمع المغربي، ويمنحنا ذلك الإيقاع فرصة إدراك ذلك الجمال والثراء والتنوع، والغرق في حالة رومانسية مع المكان والزمان.  ينقلنا من لوحة فنية إلى أخرى أكثر سحراً منها، حيث الأشجار رئة العالم والطبيعة التي لم تبخل على المغرب من جمالها، ولم تحرم الناظر من السفر في بهائها.
أراض للزراعة والفلاحة مترامية على مد البصر، ومواش وحيوانات يتنعمون بخيراتها. عالم آخر لا يعرفه أو يدركه إلا من رآه رؤية العين وعاش لحظة الافتتان به ولذتها. والأرض مرتوية، لأن السماء لم تبخل ولن ترضى أن ترى الجفاف يدق باب هذا الجمال الأبدي. الأرض خصبة، فمكناس من أكثر المدن في المغرب إنتاجاً للمحاصيل الزراعية؛ حيث المناخ المناسب وغزارة سقوط الأمطار. 
نمر بمحطات عديدة ويتوقف القطار في كل محطة، لحظات. نمر بنساء قرويات منحنيات، بأيدٍ صقلتها الظروف القاسية يمسكن بمناجلهن، وبإرادة قلّما تجدها يقطعن الحشائش ويحملنها على عربة يجرها بغل أو حمار.
تلك المرأة التي تنسى أنوثتها وأنانيات النساء ودلالهن، ترمي بكل شيء خلف ظهرها من أجل خبز أبنائها وبقاء عائلتها... تلك المرأة التي تشقى وتتعب خارج البيت وداخله، حري بنا أن نخجل منها، وأن نقبّل الأرض التي تطأ عليها قدماها.
مثول الطبيعة بهذا الشكل لا يحيل إلى الدهشة فقط، بقدر ما يجعلك تدخل في لحظة صمت طويلة، وتأمل عميق جداً ترى فيه فلسفة الجمال والعشق كيف تجلت في تناغم الأرض والنبات والشمس والسماء. 
لما توقف القطار في محطة «سيدي قاسم» نزلت امرأة في عقدها الثالث تلبس سروالاً وقميصاً أخضرين وتجر حقيبة خضراء. فجأة تركت حقيبتها خلفها ومضت مسرعة باتجاه عجوز تلبس بدورها «جلبية» خضراء، لما اقتربتا من بعضهما البعض دخلتا في لحظة عناق طويلة بالأحضان في مشهد مؤثر. إذا هناك حكاية مع اللون الأخضر، فنحن جزء من الأماكن التي ولدنا وأقمنا فيها، نحمل ذلك في جيناتنا وسلوكياتنا. 
على جنبات الطريق أشجار زيتون ونخل وصنوبر وأشجار أخرى، مساكن صغيرة هنا وهناك، حمير فوقها سلال ممتلئة على آخرها إلى أن فاضت بالحشائش على الجنبات.

مكناس المدينة
مدينة مكناس مشهورة بجودة أشجار زيتونها ونوعية عنبها الرفيعة، حيث يصدر زيت الزيتون والعنب المكناسي إلى دول أوربية مختلفة ودول عالمية أخرى.
في مكناس التي يعود تأسيسها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، والتي يرجع بروز اسمها إلى قبيلة مكناسة الأمازيغية التي استوطنتها عام 711م، تشم رائحة التاريخ وعبق التراث. المدينة التي حافظت على إرثها العتيق الضارب في القدم، واستماتت في الدفاع عن معالمها ورموزها منذ آلاف السنين، خصوصاً أنها استمدت اسمها من كلمة محارب في اللغة الأمازيعية؛ فالمدينة اليوم تزخر بمجموعة مهمة من الأبواب التاريخية العملاقة وعديد من الأبراج العالية، كباب البردعيين، وباب جديد، وباب منصور لعلج، وباب الخميس. كما تفتخر بقصر المنصور، والدار الكبيرة، وساحة الهديم، ولالة عودة، والجوامع العريقة بمآذنها الشامخة، والزوايا والأضرحة المنتشرة هنا وهناك، وغيرها من المعالم الأثرية والتاريخية الأخرى. وتؤكد أهم المصادر والمراجع التاريخية أن مدينة مكناس كانت عبارة عن مجموعة من القرى والمداشر المتناثرة هنا وهناك، وقد سطع بريقها واخترقت شهرتها الآفاق عندما اختارها السلطان العلوي إسماعيل في عام 1672م عاصمة لملكه الذي امتد لأكثر من نصف قرن من الزمن. 
المدينة التي كانت منطقة عبور واستقرار؛ من المرابطين إلى الموحدين إلى المرينيين إلى العلويين، عرفت شعوباً وأقواماً وثقافات متنوعة مثل الأندلسيين، الأمازيغ، الأدارسة، الإسبان، الموحدون... إلخ. وكانت من أهم الحواضر وأبرز العواصم في تاريخ الغرب الإسلامي. المدينة التي تلبس الأصالة وتتزين بتقاليدها التي تعكس عمق حضارتها ومتانة ثقافتها، تم تصنيفها كتراث تاريخي إنساني من قبل «اليونسكو» في عام 1996 ميلادية.
وهو ما دفع كثيرين للإشـــــادة بجمـــال وهندســــة المدينــــة، كالإدريــــســـــي فــــي «نــــزهة المشتاق في اخــــتــــراق الآفاق»، والمــــــؤرخ والمحقــــــق ابن غازي في «الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون». وقد وصفها حسن بن محمد الوزان بأنها تقع في سهل بديع جداً، ويمر بالقرب منها نهر صغير، وتحيط بها على مسافة ثلاثة أميال حدائق عديدة تنتج ثماراً ممتازة: السفرجل والرمان والبرقوق الأبيض والدمشقي والعناب أو الزفزوف والتين والعنب والمشمش والخوخ والزيتون، والأراضي المحيطة بها خصيبة جداً.
ويضيف الوزان أن المدينة في داخلها «حسنة الترتيب والتنسيق، فيها مساجد جميلة، وثــــــلاث مدارس للطلبة، ونحـــو عشرة حمامات فـــــي غاية السعة. ويعقد السوق خارج المدينة قرب الأسوار كل يوم اثنين، فيحج إلـــــيه عــــــدد كثــــــير من أعراب المناطق المجاورة، يأتون بأبقارهم وأغنامهم وسائر أصناف الماشية، ويحملون كذلك السمن والصوف، ويباع كل ذلك بأبخس الأثمان».
ويستخلص الوزان أن مكناس مدينة جميلة ذات موارد عظيمة وأسوار جيدة وحصينة جداً، تتمتع بماء طيب يُجلـــب إليها بوساطة قناة من مسافة ثلاثة أميال خارج المدينة، وتوزع القناة المياه على القصبة والمساجد والحمامات، والطواحين كلها خارج المدينة على مسافة نحو ميلين. ويشبِّه أهل مكناس الشجعان بالجنود، ويوصفون بالمهذبين، وكلهم تجار أو نبلاء أو صناع. 
وليس من أهل المدينة من يستنكف عن أن يحمل البذور على دابته لينقلها إلى من يفلح أرضه.

مكناس الجديدة
لم نستغرق وقتاً طويلاً في المدينة الجديدة التي تسمى كذلك بمنطقة «حمرية»؛ حيث تنتشر المباني والعمارات والمحلات العصرية، التي تعود للفترة الاستعمارية في المغرب (الاستعمار الفرنسي)، فبعد أن تجولنا في المنطقة التجارية، ومررنا ببناية الزموري، وبناية بيرنار، وعمالة مكناس، والقصر البلدي، والسوق المركزي، لاحظنا انتشاراً لقاعات سينما تشهد وضعا متردياً وإهمالاً كبيراً؛ كسينما كاميرا، وسينما أمبير، وسينما مونديال، وسينما الأطلس، وسينما أبولو، أما سينما ريجان فلم يعد لها أي أثر. 

ساحة الهديم
بعد فترة راحة قصيرة في الفندق، التقطنا فيها أنفاسنا، ركبنا سيارة أجرة باتجاه ساحة «الهديم»؛ التي ترجع تسميتها إلى عملية الهدم التي قام بها السلطان إسماعيل، لتوظيف المكان كمساحة لتجميع جيوشه، واستعراضها قبل الانطلاق في الحملات العسكرية التي كان يقوم بها، ما جعل هذه الساحة تعتبر معلماً من بين أهم المعالم السياحية في المدينة الضاربة في أعماق التاريخ، يقصدها السياح والزوار بعد عصر كل يوم، من كل حدب وصوب، للفرجة والاستمتاع، ملتفين في حلقات متعددة، في كل حلقة عرض مستقل ومنفصل، فهناك فرقة تغني الأغاني التراثية، وهناك شخص يحاول بما أوتي من مهارات في الكلام والإقناع أن يؤثر على الناس الملتفين حوله، لغرض تسويق أدوية طبيعية تعالج كل الأمراض المستعصية، التي عجز الطب الحديث عن إيجاد حل نهائي لها. وهناك من يمسك بثعبان عظيم، متيحاً فرصة للناس أن يتسلوا به أو يلتقطوا صوراً تذكارية معه. وهناك من يعرض مجموعة من «الحروز» والطلاسم، المتعلقة بالجان والسحر، ويدعي التكلم مع الجن، ليدخل في نوبة لا يعرفها إلا من ولج هذا العالم الغامض. وهناك عديد من العروض الأخرى التي سرعان ما تبدأ من جديد بعد أن تنتهي.

باب منصور لعلج
وبالقرب من «ساحة الهديم» لفت انتباهنا باب ضخم مزين بألوان زاهية وبزخارف خزفية وفسيفسائية، يقف أمامه جمع من الزوار والسياح منبهرين بعظمته لالتقاط الصور التذكارية من زوايا مختلفة، يسمى هذا الباب «باب منصور لعلج»، ويرجع تأسيسه إلى فترة إسماعيل المولى، في حين استكمل بناؤه على يد ابنه عبدالله المولى خلال عام 1732م. 
وتروي المصادر التاريخــية أن إسماعيل المولى شيد بمدينة مكناس قصبة أو قلعة ملكية، ثم أحاطها بأسوار عظيمة امتدت على طول 47 كيلومترا أو أكثر بقليل، وبعدهــا فتح أبواباً في تلك الأسوار، ومن أشهر تلك الأبواب باب «منصور لعلج»، وهو بمنزلة مدخل رئيس لتلك القصبة من جهة الشمال الغربي.

المدرسة «البوعنانية»
نمر بجوار مدرسة قديمة لها باب رئيس ثم باب ثانوي. يدفعنا الفضول لاكتشافها، نقرأ لافتة معلقة كتب عليها «المدرسة البوعنانية»، في الطابق السفلي يخبرنا المرشد أن المدرسة أسسها في البداية السلطان المريني أبو الحسن، وقد أكمل بناءها فيما بعد ابنه أبو عنان فارس في عام 1345م. كما يضيف أن المدرسة تخرج فيها مئات العلماء والمصلحين والمقرئين لكتاب الله والدعاة.
تتزين المدرسة من الداخل بزخارف ونقوش بديعة، كما تحتوي على أعمدة وأبواب خشبية مزخرفة، وتضم قاعة للصلاة ومحراباً نقشت على جدرانها كتابات وزخارف. 
عندما صعدنا إلى الطابق العلوي وجدناه مليئاً بغرف طلبة العلم. أما في الطابق الأخير، فهناك درج يقودك إلى سطح مبنى المدرسة حيث ترى صورة بانورامية بديعة للمدينة.
ولما تدخل الأسواق المنتشرة في الدروب والأحياء القديمة، ترى باعة الزرابي/السجاد التقليدية والنحاس والحرفيين، وبائعي الملابس التقليدية؛ كالجلابية و«القفطان» و«القدوارة»، فالمحلات ظلت محافظة على روحها القديمة بالرغم من تقلبات الزمن، ومزاحمة محلات الألبسة الحديثة.
كل تلك الدروب الضيقة تجعلك تسافر إلى عالم قديم مضت عليه قرون من الزمن، تلك الدروب تجعلك تسير في أثر الأولين، وتتبع خطوات أقدامهم وتسعى خلف آثارهم ومآثرهم، من خلال وجودك في الأماكن التي عاشوا فيها بكل ما حملت حياتهم من ثراء وغنى وثقل.
فكما اشتهرت مدينة مكناس بجودة المحاصيل الزراعية وكثرتها وتنوعها، وبتراثها ومعالمها التاريخية العريقة، فهي كذلك مدينة العلم والثقافة والأدب، وقد أنجبت كثيراً من الأعلام والأدباء والعلماء؛ كالمحقق والمؤرخ والأديب ابن القاضي (1553-1616م)، الذي ولد بمكناس وتوفي في مدينة فاس، ونذر حياته لتحصيل العلم والتدريس والتصنيف والتأليف، وقد اشتهر في مؤلفاته وكتبه بمنهجه الدقيق والرصين، نظراً لغنى ثقافته وتنوع مصادره، ما جعله يكتب مؤلفات ثمينة في موضوعات متنوعة (التاريخ، علوم الأدب، علوم الأوائل، الشعر، الرياضيات وعلم الحساب). والمؤرخ المكناسي عبدالرحمان بن زيدان (1878-1946م) الذي نشأ وتعلم بمكناس وأتم دراسته بجامعة القرويين بفاس، حيث خصص جزءاً مهماً من حياته في الاشتغال على مؤلفه الضخم «إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس»، وقد طبعت منه خمسة أجزاء من أصل ثمانية. كما جمع هذا العالم المعروف بشغفه بالتاريخ الإسلامي وتاريخ المغرب خصوصاً، خزانة من الكتب النفيسة والمخطوطات النادرة في بيته بمدينة مكناس، تعد من أكبر وأهم الخزائن في المغرب التي يقصدها طلاب العلم والباحثين من داخل البلد وخارجه.
 
محطة الأمير عبدالقادر
قصدنا محطة مكناس، محطة «الأمير عبدالقادر»؛ وما يحيل عليه هذا الاسم من أواصر متينة بين الشعبين المغربي والجزائري، وهو ما تجسد في مشاركة كثير من المغربيين في الثورة الجزائرية، بعضهم فضل الإقامة في الجزائر بعد الاستقلال. فكلما التقيت بمغربي في أي مدينة مغربية، بادر بالقول: «نحن شعب واحد ولا نكترث لما يقوله رجال الحكم والسياسة، وما بيننا أكبر بكثير من هكذا حماقات، فالجغرافيا والتاريخ والدين واللغة والثقافة كلها تجمعنا». 
بحنين كبير يسترجع المغاربة ذكرياتهم في الجزائر وصور أناس أحبوهم أو عرفوهم، وبألم مخلوط بأمل ينتظرون أن تنفرج الأمور. تبقى العلاقة قوية ومتماسكة بين الشعبين المغربي والجزائري ولا تخضع لأي ابتزاز وبعيدة عن كل المراهنات الظرفية.

 الطريق إلى فاس 
كان صباحاً جميلاً على الرغم من نسائم البرد التي تلفح الوجوه، فالشمس أبت أن تظهر وتشرق وتجمل شوارع ودروب مكناس، أغلب المحلات والبنوك والمؤسسات والإدارات كانت مغلقة، لا تفتح في وقت مبكر، عدا المقاهي مفتوحة ومشرعة على روادها. من مكناس إلى فاس عبر بنا القطار قطعة من الجنة الخضراء؛ حقول من أشجار الزيتون، تلك الشجرة المباركة التي حلف بها الله في كتابه المجيد، الزيتون الذي حملت حمامة سلام أغصانه في إعلان مبدأ الحياة ضد فلسفة الموت، الزيتون وسفينة نوح التي ركبت الطوفان رغبة في الإعمار والوجود. زيتونة لا شرقية ولا غربية، زيتونة مباركة مغربية عربية أمازيغية. 
نمر بعديد من حقول الأشجار المثمرة الأخرى، نعبر سكنات مترامية وموزعة كالنجوم في سماء هذا الفضاء البيئي الهادئ والمنقطع النظير. تجلبنا تلك الصور الطبيعية وتخلبنا بتعددها ومستوياتها الجمالية، ويغلبنا سحر ذوبان مكونات الطبيعة وقدرتها على التناغم، كلحن صوفي ينفذ إلى أعماق الوجدان، تطرب به الروح وينتشي به القلب العاشق للجمال في خدر لذيذ، تجعل الجسد يبتهج بهذا الكون من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، على بساط من أزهار الربيع وورده التي تحيط بنا من كل الجهات.
 
الوصول إلى فاس      
فاس المكتظة بالناس، في شوارعها وحاراتها ودروبها يصطف باعة التمر والكعك والسلع المقلدة، ويجلس الناس في المقاهي لاسترجاع الأنفاس ورشف الشاي المعشب بالنعناع، وتبادل الضحكات والهمسات والحكايات المهربة. في فاس تلبس النسوة «الجلبية» المغربية ويلبس الرجل اللباس التقليدي، والنسوة رائحات وقادمات يحملن فلذات أكبادهن على ظهورهن أو في أحضانهن بقطعة قماش تلف أبناءهن.
في الطريق إلى «المريني» ندخل أبواباً ونخرج من أقواس، ثم نتجاوز أسواراً وأبواباً، تمر بنا سيارة الأجرة على قصور ومبان تاريخية. نصل إلى المريني... عشرات السياح ينظرون من قمتها إلى المدينة القديمة، ويلتقطون الصور البانورامية للمدينة القديمة من عل. الهواء صاف ونقي وأصوات الطيور تملأ المكان ورائحة الطبيعة تفاعل مكوناتها، كأنك تشم الهواء في الريف أو البادية؛ الهواء الذي تختلط معه مخلفات الحيوانات ورائحة الحشائش والأزهار.
أسراب من الطيور المختلف أشكالها تحط وتطير، وأشجار زيتون شاهدة على تاريخ المكان، ثم منظر شامل للمدينة القديمة التي تظهر في صورة تشم منها عبق التاريخ، وترى فيها تتبع خطوات من سبقونا. 
المنظر ذكرني بجبل قاسيون الأشم، صوت غراب ينعق، والنحل يتقافز فوق الزهر، وفراشتان ترفرفان كأنهما روحان برّحهما الهوى. وشيوخ وكهول في حلقة مجتمعون تحت شجرة زيتون فارعة الطول، منهمكون بلعبة الورق ويتحدثون بصوت مسموع ضاربين العالم من حولهم بركلة لامبالاة، يعيشون عالمهم، ويتسلون بأحلامهم الصغيرة رامين المستحيل خلف ظهر عالمهم الخاص والبسيط الذي صنعوه بطبيعتهم وسليقتهم.
الواقف على هذا المرتفع يمتلئ صدره بالهواء النقي الصافي وتفيض روحه بجمال ورهبة المكان والمنظر. إنك في فاس يا صديقي... عشها كاملة... وسافر في آثار الأولين... ولا تعد إلا وأنت ممتلئ بتلك الروحانية الباطنية... وعد كما لم تكن... وعد شخصا آخر وإنساناً جديداً، يرى الكون بعيون شاعر، ويسمع أنغام ألحانه بأذن فنان، ويتذوق انسجامه وتناسق أشكاله كرسام، ويشعر بكل حركاته وسكناته كناسك، ويتأمله ويلمسه كقديس... هذه فاس يا صديقي وهذا أنت العاشق والمتيم بفتنتها، والمنحني رهبة وإجلالاً لجمالها وفتنتها... حنانيك يا فاس حنانيك... ستغرق يا صديقي... رويدك... توغل برفق فبحرها عميق وسرها بعيد... 
«فاس الجديدة» ظلمت بهذا الاسم، لأن عبق التاريخ وأريجه لايزالان يعطران المكان. والأسوار، والنهر العابر، والعصافير، والمقاهي القديــمة والعتيقة، والحــدائق، والأبواب، والأقواس، والمطاعم التي تقدم الوجبات المغربية التقليدية، والناس وصراخ الأطفال، والمتسولون والمجانين والعقلاء، إنها الخلطة السحرية التي تعطي للمكان والزمان نكهتهما ومعناهما الحقيقي.
  
المدينة القديمة في فاس
بمجرد أن تطأ قدمك «المدينة القديمة» تدرك أنك دخلت آلة للزمن، رجعت بك إلى قرون خلت، هي إذن فاس القديمة، فاس التاريخ، فاس الوصل بين الجغرافيا والتاريخ، فاس القرويين، والزوايا التعليمية والدينية، فاس المدارس، فاس الحارات والدروب الضيقة، التي لا تدخلها السيارات، يستعينون على قضاء حوائجهم بالحمير والبغال، فاس الأسواق؛ العطارين، والدباغين، والصفارين. الأقمصة و«القفاطن» التقليدية للرجال والنساء تصنع يدوياً وتخاط وترسم نقوشها بالإبرة والخيط يدوياً، «الزرابي» القديمة والمنسوجة باليد وبخيوط المهارة وإتقان حرفة الصبر، جلود الحيوان طبيعية تدبغ... إلخ، البهارات، والعقاقير كأنك في شوارع دلهي، التحف التقليدية، والنقش على الخشب، وصناعة النحاس والنقش عليه، الخضر والفواكه، والألبسة المستعملة، والمطاعم المنتشرة، والمقاهي الموزعة على الدروب والفنادق، والناس في غدوهم ورواحهم. 
وفي هذا الصدد، يرى أبو الفدى صاحب حماه في «تقويم البلدان» أن فاس مدينتان؛ يشق بينهما نهر، وفي فاس عيون عدة تجري، وللمدينتين ثلاثة عشر باباً، والمياه تجري بأسواقهما، وديارهما، وحماماتهما. وليس بالمغرب ولا بالمشرق مثلهما في هذا الشأن. وهي مدينة محدثة إسلامية، ونقل ابن سعيد عن الحجازي، أنهم لما شرعوا في حفر هذه المدينة، وجدوا فأساً في موضع الحفر، فسمّيت بذلك. وعلى أنهارها نحو ستمائة حجر رحى تدور بالماء دائماً. وأهلها مخصوصون برفاهية العيش، ولفاس قلعة بأرفع مكان بها، ويشق القلعة نهر، وفي فاس ثلاثة جوامع، يخطب فيها. ومنها إلى سبتة عشرة أيام، ومخرج نهرها على نصف يوم. من فاس يجري في مرج وأزاهر، حتى يدخلها. 
أما الحسن بن محمد الوزان الفاسي المعروف باسم «ليون الإفريقي»، والذي فرت عائلته من غرناطة بعد سقوطها إلى فاس، ومن فاس جاب مدن العالم، فيحدّثنا عن فاس المدينة العظمى؛ التي أسسها شخص يدعى إدريس، وهو من أقرباء هارون الرشيد، فيصفها بأنها مدينة كبيرة جداً، تحيط بها أسوار متينة عالية، وتكاد تكون كلها مشيدة على تلال، حيث إن وسطها وحده هو المستوي، وليس على الجوانب الأربعة إلا المنحدرات. ويدخل الماء إلى المدينة من نقطتين، يمر أحد فروع النهر بالقرب من فاس الجديدة جنوباً، ويدخل الفرع الآخر إليها من جهة الغرب. وبعد دخول الماء إلى المدينة يوزع بوساطة عدد من القنوات، تسوق معظمه لدور السكان ورجال الحاشية الملكية وسائر الأبنية الأخرى. فلكل جامع أو مسجد حقه في هذا الماء، وكذلك المدارس والفنادق والملاجئ. وتوجد قرب المساجد ميضآت عامة، وهي أبنية مربعة الشكل تحيط بها كنائف ذات أبواب قصيرة، وفي كل كنيف مغسلة يخرج الماء إليها من الجدار ويسيل في ساقية من رخام.
وحيث إن التيار قوي فإن الماء ينظف الميضأة ويدفع هكذا جميع قاذورات المدينة إلى النهر.
كما يخبرنا الوزان أن الدور في فاس مبنية بالآجر والحجر المنحوت بدقة، ومعظم هذا الحجر جميل ومزدان بفسيفساء بهيجة. وكذلك الأفنية والأروقة مبلطة بزليج مربع مختلف الألوان. وقد اعتاد الناس أن يصبغوا السقوف بألوان زاهية مثل اللازورد والذهب. ويحدّثنا عن حوالي سبعمائة جامع ومسجد، والمساجد أماكن صغيرة للصلاة, 50 من هذه الجوامع كبيرة حسنة البناء، مزدانة بأعمدة من الرخام أو غيره من الحجر الذي لا يُرى مثله إلا في إيطاليا. 
وتدعم جميع الأعمدة عوارض مكسوة بالزليج أو الخشب المنقوش بدقة. وسقوف الجوانب مصنوعة على الطريقة الأوربية، أي  من ألواح، والأرض مفروشة بالزليج ومغطاة بحصر في غاية الجمال، مخيط بعضها إلى بعض بمهارة، بحيث لا يرى الزليج. والجدران كذلك مغطاة بحصر، لكن بقدر قامة الإنسان فقط.

جامع القرويين
دلفنا إلى جامع القرويين (859م)، الذي تعتبر الجامعة الملحقة به من أقدم الجامعات في العالم، حسب المؤرخين وموسوعة جينيس للأرقام القياسية و«اليونسكو»، وهو من أولى المؤسسات العلمية التي كان لها السبق في ابتكار الكراسي العلمية المتخصصة والدرجات العلمية في العالم،  التي كان ينهل منها طلاب العلم من كل حدب وصوب.
هذا الجامع العظيم بمساحته المعتبرة، الذي تلفه عشرات الأبواب الكبيرة، يقف شاهداً على التاريخ العريق للمدينة بصومعته العالية، وأقواسه المدهشة، وأروقته المريحة، وواجهاته المتعددة، ومخازنه الكبيرة، وثرياته البرونزية، ودروسه العلمية. ويعتبر سيلفستر الثاني الذي شغل منصب بابا الفاتيكان خلال الفترة (999 - 1003م) من أهم علماء الغرب الذين درسوا في جامعة القرويين. كما زارها ابن زهر مرات  عدة، وألَّفَ فيها النحوي المشهور ابن آجروم الذي ولد بفاس كتابه المعروف «الآجرومية».
وكان من بين أهم الأساتذة فيها العالم المؤرخ المعروف ومؤسس علم الاجتماع ابن خلدون، والفيلسوف الطبيب اليهودي موسى بن ميمون، وأبوالعباس أحمد بن محمد بن عثمان المكنى بابن البناء، وهو أهم رياضي في عصره، وعالم اللغة والطب الأندلسي أبوبكر محمد بن يحيى بن الصائغ الشهير بابن باجة الذي توفي في فاس.  
كما أن هذا الجامع شكل رمزية كبيرة في تكوين العالمة فاطمة المرنيسي (رحمها الله)، لما كانت طفلة صغيرة تلعب في محيطه وتستمع للدروس التي يلقيها العلماء والأساتذة حينذاك.
بعد رحلة اكتشاف المدينة بكل ما تزخر به من تاريخ وتراث ومعالم، تعلقنا بها لدرجة عزّ علينا فراقها لما اضطررنا للمغادرة، ودّعنا فاس ومازالت صور أسوارها، وأسواقها، وجوامعها، ومدارسها، ومبانيها، وطرقها، وأزقـــــتها، وأبوابها، وجداولها، ونقوشها، وزخارفها، وحماماتها، وفنادقها، وطواحينها، ودكاكينها، ومطاعمها، وحرفييها، وعادات أهلها، وحدائقها وبساتينها، ومقابرها، وقصورها، عالقة في الذاكرة.
الرحلة إلى مدينتي فاس ومكناس تفتح شهية الحياة على أمكنة مازالت مطوقة بأحضان التاريخ والتراث، فتجعل البعيد عن أصله يقبض على زمان وصله، في لحظة عناق بين الذاكرة والحب والوحشة وجغرافية المكان وطيبة البشر وبهجة الأشياء والموجودات. فطوبى لمن أمسك بخيط تلك اللحظة، وعاش دهشة التجربة في مقام من الاتحاد والتوحد بالمكان والزمان، خارج أي نشاز قد يعكر صفو الرحلة ونقاء التجربة.

الأسواق الشعبية

التاريخ يتحدث في مكناس

أسواق مكناس العريقة واللباس التقليدي المغربي

السجاد المغربي العريق

الأزقة الضيقة المرصوفة ومعمار البناء في مكناس

نظرة إلى فاس القديمة من المريني

مدخل الضريح الذي قدمت فيه الإسعافات لضحايا المغاربة المطالبين بالاستقلال في عام 1944

فاس ومآذنها التي تعانق السحاب