هل كل جائزة ضلالة؟... شبهات وشكوك حول «نوبل»

هل كل جائزة ضلالة؟... شبهات وشكوك حول «نوبل»

هناك أشخاص لا يطوي التاريخ صفحة وجودهم وحضورهم بيننا ولو بعد مئات السنين. وليس المعيار في استمرار  بقاء هؤلاء الأشخاص سمات الخير أو الشر، العبقرية أو الجنون، البطولة أو الطغيان، بل إشكالية فهم أغوار وأعماق فكرهم ونواياهم واختلاف الناس حولهم، اهتماماً زائداً أو نكراناً ورفضاً. 

لا يقتصر أمر هذه الشريحة من البشر على ميدان السياسة والتاريخ، بل يشمل شهرة باذخة لنجوم في ميادين العلم والفلسفة والفكر والتاريخ والأدب والفن والرياضة، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: الإسكندر ونيرون ومعاوية وراسبوتين في الميدان الأول، ومن ثمَّ أرخميدس وابن رشد ومكيافيللي وابن خلدون وشكسبير وسلفادور دالي ومحمد علي كلاي في الميادين الأخرى كما توالى ذكرها.
ألفرد نوبل من هؤلاء الأشخاص الذين يوصف الفرد منهم بأنه مالئ الدنيا وشاغل الناس. وكما في سيرته وحياته، تبدو جائزته هي الأخرى إحدى أيقونات التاريخ، ومنذ أن أنشأها صاحبها، تتأرجح بين التقديس والتدنيس، وفيما يعتبرها البعض فاتحةً للخلود، يرى البعض الآخر فيها مدخلاً للجمود، والكثرة تراها إكليل غار، والقلة تصفها بالضلالة وموئلها النار، فماذا نرى نحن في هذا الحيص بيص؟

الخرتيت والديناميت
يأتي اللغط والهرج والمرج حول ألفرد نوبل وجائزته من خصوصية نبوغ الرجل وما اعتور حياته العاطفية والأسرية من عوائق أفضت إلى سيرة حياة مرتبكة ومشحونة بظلال الحزن وغياب الرضا الكامل عما يفكر به وما يعمله. 
وبرغم عبقرية نوبل وسمو عقله فإنه كان يعاني اهتزازاً في مقومات شخصيته، ويظهر ذلك من خلال رسائله التي يبوح فيها بشكوى من توتر علاقته بأبيه، وفشله الصريح في كل علاقات الحب التي تمناها ورغب بها مع الفتيات، ومقتل أخيه بسبب المتفجرات التي تصنعها وتنتجها أسرته أباً عن جد في مصانعهم، مما أورثه شعوراً عميقاً بالندم، لكن ذلك لم يقتلعه من هذه المهنة البغيضة، ولذا ظل يعاني ازدواجية لا خلاص منها.       وحين مات أخوه لودفيج نوبل عام 1888 ارتكبت الصحافة غلطة ونشرت أن الذي مات هو ألفرد نوبل، وقال أحد العناوين (المانشيت) شامتاً: «مات تاجر الموت». وتناولت الصحف سيرته بالهجاء اللاذع، وقرأ وهو حَيٌ ما كان سيُكتب لو توفاه الله حقاً. إنه الخرتيت الذي اخترع الديناميت لتسريع قتل الناس.
وكل الذين بحثوا في سيرة الرجل من الغربيين كتبوا عن ثقافته الأدبية الهائلة والمجلدات (حوالي 1500 مجلد) التي قرأها بلغاتها الأصلية لأدباء سويديين ودنماركيين وألمان وفرنسيين وإنجليز وإسبان، وكتبوا عن محاولاته الشعرية المبكرة، وكتابته لروايات ومسرحيات هزلية ومأساوية ولم تلق النجاح. ولأنه تنقل كثيراً فقد تعرف على كثيرين من الأدباء والفلاسفة وراسلهم، وأحب من الشعراء وردزورث وشيللي وبوشكين ولورد بايرون، وقرأ لهوجو وفولتير وتولستوي، ولذا اتّسم عقله بالذكاء، وضميره بالحساسية، ووجدانه بالهواجس والخوف والتوق والقلق، وقد كتب عنه أنيس منصور ووصفه في لحظات احتضاره مسربلاً بالشكوى والندم والحزن الوجودي العميق، وكأنه كان يبحث عن كفَّارة لروحه المعذبة، ومن قلب هذه المعاناة اليائسة، جاء الخلاص بالتنازل عن ثروته وأوصى بيرثا سوتنر، بأن تشرف على الجائزة مالئة الدنيا وشاغلة الناس، وهي السكرتيرة والساكنة المهجورة في خبايا القلب، التي تزوجت من غيره وبقيت الصديقة الوفية لفكره المسالم، كما سنشرح لاحقاً، وهي المؤسسة لحركة السلام النمساوية، التي حظيت بجائزة نوبل بعد رحيل صاحبها. إنها الجائزة المعضلة واللابسة لأثواب سوء الفهم وحمّالة الأوجه! 
بهذا الصدد وفي أحد الحوارات مع نوبل اعترف بأنه في أعماقه ضد كل الحروب، وأنه رجل مسالم ويحب السلام، وأنه اعتقد للحظة أن السلاح الرادع والمخيف والمرعب مثل الديناميت قد يجعل الناس يخشون من دخول وإشعال الحروب ويلزمهم بأن يجنحوا نحو السلام! والتاريخ لا يملك أن يحاكم الناس والأفراد على نواياهم، فقد مات ألفرد نوبل وماتت خفايا أسراره معه، فليصدقه من شاء، وليكذبه من شاء!

الجوائز جنائز
هذه الخلفية التاريخية لعائلة نوبل التي استخدمت أسلحتها التي ينتجها مصنع العائلة منذ عام 1853 في حرب القرم، قبل اختراع ألفرد نوبل للديناميت بحوالي 15 سنة، وهي العائلة التي تصنع المواد التي انفجرت صناديقها بالخطأ في سان فرانسيسكو وغيرها، لوثت سمعة العائلة بالعار، واستجلبت هذه الخلفية لأهل الجائزة من المعارضين بقدر ما حشدت من المؤيدين، وهنا بيضة القبان في سبب تعرض الهيئة التي تختار الفائزين للنقد والرفض أحياناً، وللاستحسان في أحيان أخرى، أو الشبهة والحيرة بين الاثنين، وهذا ما استدعى كتابتنا، وكتابة الآخرين في هذا الملف، الذي يفند قيمة «بوب ديلان» وهل يستحق جائزة نوبل للآداب عام 2016 أم لا؟ وهل يتضمن شعره وفنه ما أوصى به ألفرد نوبل نفسه كمعيار للفرز والاختيار في وصيته وهو الأدب «المثالي» Idealism؟ المقالان الآخران في الملف يجيبان عن السؤال. ومقالنا يبحث في جدوى الجوائز عموماً، وموقف بعض المبدعين الكبار حيال رفض أو قبول جائزة نوبل ومسارات النقد لتسييس موقف الهيئة المانحة لجائزة نوبل للسلام، وأثر ذلك على فرع نوبل للآداب، ووحده فرع العلوم نجا نسبياً من المساءلة والمماحكة.
أشهر من رفض جائزة نوبل للآداب الفرنسي جان بول سارتر فيلسوف الحرية الكبير. سارتر عاش ومات وهو يدافع عن حرية الفرد ووجوده ورفضه المطلق لمؤسسات السلطة والثقافة والفكر ولكل المؤسسات، ولذا رفضها عندما منحته الهيئة الجائزة عام 1964، ووصفها بأنها «قبلة الموت» لأنها تصادر حرية المبدع وتعتقل موهبته، وقد حذر القائمين على الجائزة من اختيارهم له، ولكنهم تجاوزوا تحذيره واختاروه غصباً عنه، فرفضها وهجا في بيانه هذا التكريم الكاذب، وقال إنه سيرفض أيضاً جائزة لينين لو منحت له، بداعي حرية المبدع وتعاليه على حفلات الخداع المكشوف لأصحاب الجوائز وقبلات موتهم للضحايا.
قائمة الرافضين أو المنتقدين أو القابلين على استحياء لجائزة نوبل قصيرة جداً. من فئة الرافضين الشاعر والروائي بوريس باسترناك صاحب الرواية الملحمية الشهيرة «دكتور زيفاغو» التي شكلت بالغرب صرخة معارضة للشيوعية وللدولة الشمولية السوفييتية، ونشرت الرواية عام 1957 في إيطاليا، واختير باسترناك لنيل «نوبل» عام 1958، ورفضها الكاتب، وربما لم يجرؤ على قبولها. وتضم فئة المنتقدين للجائزة تولستوي وبرنارد شو وطاغور، إذ ارتعد الأول من احتمال منحها له، وقال الثاني بسخريته المعروفة إنه قد يغفر لنوبل أنه اخترع الديناميت، لكنه لن يغفر له أبداً أنه أنشأ الجائزة، وقال عنها إنها تشبه طوق نجاة يلقى لشخص يقف على البر، أما طاغور الذي نال الجائزة عام 1913 فقد قال إنها لم تُضف إليه شيئاً، وإن الذي كسب في المبادلة هو الهيئة المانحة.
أما الذي قبلها على استحياء فهو الروائي الألماني غونتر غراس، الذي حظي بها عام 1999 ولكنه تعرض لنقد صحفي لاذع بسبب مشاركته في الحرب العالمية الثانية مع سلاح الجو الألماني النازي ووقوعه في الأسر عند الأمريكان، وكذلك تعرضت هيئة نوبل للنقد لتجاوزها هذا الماضي، ويبدو أن غونتر غراس شعر بهوية هؤلاء الذين وقفوا وراء حملة النقد، لذا انبنى هجومه على أرضية الدفاع عن الفلسطينيين ومأساتهم واضطهاد إسرائيل لهم. وكما ذكرنا سالفاً، للسياسة أنف طويل تدسّه في كل مكان، وهذا الأنف هو المسؤول عن خراب سمعة جائزة نوبل للسلام.

غربان السلام بألوانهم البيضاء 
 سمعة نوبل للسلام في بلادنا مجروحة ومغلفة بالشبهات المكشوفة، وتنجّر هذه السمعة السيئة أحيانا على «نوبل» للآداب، وقد سمعنا همساً ينال نجيب محفوظ ويعيد الأقاويل حول رواية «أولاد حارتنا» وهي المسوغ لنيله الجائزة التي لم يسافر لتسلمها شخصياً، وأناب ابنته والكاتب محمد سلماوي لتسلمها! وتتحسن السمعة فيما يخص فروع الجائزة الأخرى (الاقتصاد، الطب، الفيزياء، الكيمياء).
هناك رأي إنساني عام يتعاطى مع «نوبل للسلام» ويحكم بحسٍ عفوي على الأشخاص من دون التعمق في الحيثيات. لم يعترض هذا الرأي العام على اختيار نيلسون مانديلا الذي فاز بها عام 2009، وحار الرأي العام وتساءل كثيراً عن أسباب حجبها عن المهاتما غاندي الذي رشح لها خمس مرات من دون فائدة! والذي يقرأ سيرة مناحيم بيغن وتاريخه سيستغرب من منحه هذه الجائزة عالية القدر. بيغن كما وصفه بن غوريون: عنصري من النمط الهتلري، وهو الذي أنشأ منظمة (هي عصابة) الأرجون، والذي ارتكب مذبحة دير ياسين في فلسطين وحولته جائزة نوبل إلى بطل للسلام! ومن «المحظيين» بعطف هذه الجائزة الحولاء الأمريكي اليهودي إيلي فيزيل، أحد الناجين من المحرقة (الهولوكوست)، والذي عمل مترجماً في منظمة الأرجون في فرنسا، وكتب سيرته الروائية بلغة اليديش، وهي رطانة هجينة من خليط عجيب من الألمانية والعبرية، وقد زعم فيزيل أنه قرأ حين كان في الثامنة عشرة من العمر كتاب الفيلسوف إيمانويل كانط «نقد العقل الخالص» باللغة اليديشية، ويرى أسعد أبوخليل أن هذه كذبة لعدم وجود ترجمة يديشيّة للكتاب المذكور حتى اليوم. إيلي فيزيل صهيوني عريق جرى تلميعه ليكون الناطق شبه الرسمي للمحرقة، وليكون حامي الحمى لإسرائيل وخطاياها أمام المحافل الدولية. ولجهوده هذه لا لغيرها أعطوه الجائزة، وهذا غيض من فيض. وستظل الشبهات تلاحق جائزة نوبل إلى يوم الدين. فكثيرون ممن حصلوا عليها هم من غربان الحروب السوداء الذين استعاروا قناع ولون حمام السلام الأبيض.

خاتمة 
كل جائزة جزرة، وما أكثر الأرانب الباحثة عن الجزر (هناك دراسات علمية ترى أن الجزر ليس الغذاء المناسب للأرانب!). وما قيل عن جائزة نوبل والشبهات والشكوك حولها يسري على جوائز محلية وعالمية كثيرة وهي بالمئات وغير قابلة للحصر. 
وكلنا نذكر واقعة رفض الروائي صنع الله إبراهيم لأعلى جائزة حكومية مصرية، وبيانه الشهير الذي يسحب الشرعية الأخلاقية من الحكومة، وهي الجائزة التي قبلها وارتضاها الروائي الكبير عبدالرحمن منيف، وكتب وقيل الكثير عن موقفي هذين الروائيين. ولا ننسى ما أشيع من حكايات ودسائس ومصالح عن جائزة بوكر العربية. أدباء شيوعيون ويساريون يشتمون بلدان وأموال النفط والبترودولار ويقفون بالدور أمام جَزر جائزة العويس وفجل جوائز رجال أعمال من الدرجة العاشرة، ليقبضوا ذهباً لامعاً ثمناً لفكرهم وأدبهم وفنّهم. رحم الله عباس محمود العقاد، كان حازماً حين رغبت جامعة القاهرة منحه الدكتوراه الفخرية كجائزة على إنجازاته، رفضها وقال في مجالسه: «على الدكاترة الذين سيمنحونه الجائزة أن يتقدموا إليه ليقوم بفحص مؤهلاتهم وهل يستحقون ألقابهم؟!»، ونراهن أن العقاد لو كان في هيئة نوبل للآداب والقرار له، لكان رفض إعطاء بوب ديلان هذه الجائزة، وما كان ليرضى بأقل من شكسبير كي يمنحه البركات ومعها حصاد حقل كبير من الجزر!.