د. نبيل بهجت: «خيال الظل»...تجربة أحيا بها حفاظاً على تراثنا الشعبي

د. نبيل بهجت:  «خيال الظل»...تجربة أحيا بها حفاظاً على تراثنا الشعبي

يعد فن خيال الظل أحد الأشكال الأولى للمسرح العربي، بل يمكن أن يتجاوز  ذلك لفنون الصورة أيضاً، وشهد هذا الفن استعادة واضحة في الفترات الأخيرة من خلال محاولات إحيائه مرة أخرى. ويعد د. نبيل بهجت واحداً من أصحاب المبادرات الذين يرون أن إحياء التراث العربي والإسلامي من المهام التي يجب أن يتحــــمـــلها المثقفون والفـــــنـــانون العرب.  ولم يكتف بذلك، بل قدم مبادرته التي قرر من خلالها إعادة إحياء فنين من الفنون الشعبية العربية الخاصة بالأطفال، وهما خيال الظل والأراجوز، وربما كانت تجربة فرقة «ومضة» التي أُسست في مصر  عام 2003 واحدة من أهم المحاولات الحقيقية في هذا المجال، إذ استطاعت أن تحافظ على حملة هذا التراث البشري وتوثق ما لديهم من خبرات وتنقلها للأجيال الجديدة وتنتج عروضاً تقف بقدم في التراث والأخرى في الواقع وتقدم عروضها خارج مصر وداخلها، وغير  ذلك من التفاصيل التي سنتعرض لها في هذا الحوار. 

< بداية... هل يمكن أن تشرح لنا معنى هذا الفن، لأنني أعتقد أن كثيراً من الجمهور العربي يخلط بينه وبين فنون أخرى؟
- صحيح، ربما بسبب عدم انتشاره لفترة طويلة... إن فن خيال الظل يعتمد بشكل أساسي على الدمى ولكنها دمى مختلفة عما نعرفه، أي إنها ليست عرائس مجسمة مثل الدمى الشائعة، ولكنها مسطحة ذات بعد واحد في أغلب الأحيان، ولذلك فهو يتطلب مهارات خاصة لدى الفنان المؤدي، الذي يقوم بتحريك الدمى من خلف الستارة. ويسمى العرض الخاص بها «بابة»، أي حكاية تعرض على طريقة خيال الظل.  
ونقلت لنا المشاهدات أوصافاً مختلفة للمسارح التي كان يقدم من خلالها خَيَال الظِّلّ، حيث يصف أحمد تيمور أحد تلك المسارح بقوله: «يتخذون له بيتاً مربعاً يقام بروافد من الخشب ويُكسى بالخيش أو نحوه من الجهات الثلاث، ويُسدَل على الوجه الرابع ستر أبيض يشد من جهاته الأربع شداً محكماً على الأخشاب وفيه يكون خمسة في العادة، منهم غلام يقلد النساء، وآخر حسن الصوت للغناء، فإذا أرادوا اللعب أشعلوا ناراً قوامها القطن والزيت تكون بين أيدي اللاعبين، أي بينهم وبين الشخوص، ويحرك الشخص بعودين دقيقين من خشب الزَان يمسك اللاعب كل واحد بيد، فيحرك بها الشخص على ما يريد».
وبينما ذهب البعض إلى أن مصطلح «خيال الظل» هو إضافة مقلوبة صحتها: ظل الخيال، فإن أغلب المهتمين والدارسين والباحثين آثروا هذه التسمية تركيزاً للانتباه على الخيال الذي ينعكس الظل عنه. 
< ما سر اهتمامك بهذا الفن وإصرارك على إعادة إحيائه؟ 
- لم تكن تجربتي مع الأراجوز وخيال الظل مجرد دراسة أتقدم بها لنيل درجة علمية أو أقدمها للقارئ، بل كانت تجربة حياة بدأت منذ أكثر من عشر سنوات واستمرت حتى هذه اللحظة، أحيا بها ومعها محاولاً إعادة هذه الفنون إلى الحياة مرة أخرى، لإيماني الشخصي بأن التراث الشعبي أحد مصادر تشكيل الوعي المصري والتأريخ للذاكرة المصرية.
لقد لفت جدي - منذ الصغر - انتباهي بأمثاله التي كان يرددها: «إيش تاخد يا برديسي من تفليسي»، و«في فرفرتيه سعد رئيسك يا عدلي»، وعندما تفحصتها أدركت أنها تحمل إشارات لوقائع تاريخية، فالبرديسي أحد الحكام الذين فرضوا ضرائب أدت إلى ثورة شعبية بعد رحيل الحملة الفرنسية عن مصر، كذلك حملت العبارة الثانية وقائع الخلاف بين سعد زغلول وعدلي يكن على رئاسة الوفد المصري، وهكذا حملت كلمات جدي جزءاً من تاريخ مصر امتد على مدار قرنين من الزمان، وهو ما يؤكد ما ذهب إليه البعض في إمكان الاعتماد على التراث الشعبي كمصدر للتاريخ، حيث لم يهتم التاريخ الرسمي بأولئك المهمشين الصنَّاع الأصليين للأحداث.
كنت أسير منذ عشر سنوات في شارع طلعت حرب، ولاحظت أن دُمَى عرض الملابس ذات ملامح غربية، وكأن المصريين ليست لهم ملامح تستطيع أن تعبر عنهم، ووقع نظري على إعلان ضخم لفتاة أوربية بملابس البحر كُتب تحته «شهر زاد»، تذكرت ساعتها التحولات التي حدثت للشارع المصري في الملبس والمأكل والمشرب، حيث تحولت المقاهي الشعبية إلى كافيهات، ومحلات الوجبات التقليدية إلى محلات للوجبات السريعة التي لم يكن يعرفها أحد من قبل، ومثلت هذه الملاحظات دافعاً لبدء التجربة.
< هل يمكن أن تسلط لنا الضوء على بدايات هذا الفن وعلاقته بتراثنا الشعبي العربي الإسلامي؟
- ربما كان وعي الفنان المسلم للعلاقة بين النور والظل من أهم ما دفع البعض للاهتمام بهذا الفن، فهو يمزج في داخله عدداً من الفنون، لكن أساسه هو الاستفادة من ظل الدمية الواقع على ستارة بفعل الضوء المسلط عليها. والحقيقة أن أغلب المراجع تشير إلى أن العرب عرفوا هذا الفن للمرة الأولى في العصر العباسي، وكان مجيئه إلى مصر في عصر الفاطميين في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. وهناك بعض الإشارات التي قد تدلنا إلى معرفة العرب بهذا الفن منذ زمن مبكر، وكما في رواية «عبادة المخنث» الذي أخبر «دعبلاً»  قائلا: «لأخرجن أمك في الخيال»، تهديداً له إذا عاد ليهجوه، طبقاً لرواية «الشَّا بُشتي» المتوفى عام 338هــ/ 998 م.
< لكن بعض المهتمين يرجحون أنه فن بدأ في آسيا، ربما الصين خصوصاً، وانطلق للمنطقة العربية من مصر... فما مدى صحة هذه المعلومات؟
- هناك بالفعل اختلاف بين الباحثين حول الأصول الأولى لفن خيال الظل، حيث يرى البعض أن الهند هي التربة الأولى التي نشأ فيها هذا الفنّ، بينما يذهب البعض إلى أن الصين هي الموطن الأصلي له، ويقف عبدالحميد يونس موقفاً أشمل، إذ يقول: «ومهما يكن من شيء، فإن الباحث المدقِّق يستطيع أن يرجع نشأة خيال الظل إلى الشرق الأقصى، وأن يجعل مهده في منطقة متسعة لا يمكن تحديدها على التحقيق، تشمل الهند والصين معاً»، ويوجز سيرة هذا الفن في قوله: «نشأ في الشرق الأقصى، واتخذ الزي الفارسي وواكب الحياة الإسلامية، وأسهمت الطبقات الوسطى في إثرائه، واستقر آخر الأمر في القاهرة فازدهر، ثم انتشر ونفذ إلى ربوع العالم العربي». 
< باعتبار ارتباط استقرار هذا الفن في مصر وانطلاقه منها، هل هناك أسماء ارتبطت بهذا الفن في التاريخ القديم له؟ 
- في الحقيقة هناك إشارات جاءت في بعض المراجع لأسماء بعض فناني خيال الظل، ومن بينهم: جعفر الراقص في القرن الخامس الهجري، وابن دانيال في القرن السابع الهجري، والذهبي وابنه محمد في القرن الثامن الهجري، وابن سودون في القرن التاسع الهجري، وداود العطار المناوي وعلي نخلة والشيخ سعود في القرن الحادي عشر الهجري، وحسن القشاش ودرويش القشاش في بداية القرن الرابع عشر الهجري، ومحمد أبوالروس ومحمود علي صالح ومصطفى الروبي في أواخر القرن الرابع عشر الهجري، وأحمد الكومي والفسخاني في بداية القرن الخامس عشر الهجري، وأخذ عنهما في الزمن المعاصر الفنان حسن خنوفة بابته «الصيَّاد» و«العساكر» و«علم وتعادير».
< هل لا يزال هذا الفنان المعاصر موجوداً؟ وما أبرز الفرق المصرية المعاصرة في مجال خيال الظل في مصر الآن؟ 
- لا مع الأسف، توفي حسن خنوفة عام 2004، لكن منذ ذلك التاريخ أسست فرقة معاصرة هي «فرقة ومضة»، التي أشرفت على تأسيسها،  لتمثل الامتداد الطبيعي لهذا التراث، حيث  عرف خَيَال الظِّلّ العربي عدداً من البابات (العرض الفني لخيال الظل يطلق عليه بابة)، لم تخرج عن مجموعة تراثية معروفة، بينها مثلا: «المنارة القديمة»، و«طيف الخيال»، و«عجيب وغريب»، و«المتيم»، و«الضائع اليتم»، و«الشيخ صالح وجاريته السر المكنون»، و«حرب العجم»، وغيرها. 
وعلى سبيل المثال قدم حسن خنوفة ثلاث بابات: «الصياد» وهي صيغة معدلة من  «التمساح»، و«علم وتعادير»، وبابة جديدة لم نجد لها أي إشارة في المراجع المختلفة هي «العساكر». أما الآن فيتم توظيف هذا التراث أحيانا في إنتاج عروض حديثة تتلاءم وجمهور اليوم.
< وبالنسبة للدمى الخاصة بخيال الظل... هل تختلف عن الدمى الأخرى المعروفة في مسرح العرائس مثلاً؟ وما عناصر خصوصيتها؟ 
 - تصنع دمى خَيال الظل من الجلد الشفيف، ويقوم اللاعب بتلوينها، وتعتمد على تكرار الوحدات الزخرفية لتكتسب دلالاتها من خلال مفهوم إدراكي كلي لشكل الدمية، ومع الأسف الشديد كانت الدمَى قد وصلت إلى حالة يُرثى لها مع حسن خنوفة، حيث اعتمد على «كارتون مُصمت» من دون أي زخارف أو نقوش، ولم يهتم بالتفاصيل الزخرفية والجمالية للدمى.
والحقيقة أن عرائس خيال الظل في العروض القديمة تختلف عن تلك المستخدمة الآن في العروض، فالدمى الآن أكثر حرية في الحركة، ومتعددة المفاصل، وقد حفظ متحف الجمعية الجغرافية بالقاهرة مجموعة نادرة ومميزة من العرائس التي ربما تعود ملكيتها إلى حسن القشاش.
وتعتمد هذه الدمى على تكرار الوحدات الزخرفية من خلال ثقوب تشكل البنية الداخلية للدمية، تعتمد في تشكيلها الأساسي على التجريد والإيحاء لتكتسب دلالتها من خلال مفهوم إدراكي كُلِّي لشكل الدمية، فالمنتج المطلوب ليس الدمية، وإنما ظلها، وتعتمد الظلال في تكوينها على الشكل الكلي كما تتّسم بالتجريد، واعتمد بعض الدمى في تكوينه على تجسيد التفاصيل بشكل واقعي مثل دمية «علم» داخل الهودج التي احتفظ بها متحف الجمعية الجغرافية، فالقراءة الدلالية تكشف عن فهم فنّان خيال الظل السياق الاجتماعي وإدراكه طبيعة العلاقات، كذلك أدرك فنان خيال الظل آنذاك قوانين صناعة النمط من خلال التحكم في النِسَب والتركيز على عيوب معيَّنة، ونلمح اهتمامه بالتفاصيل المعمارية كما في دمية «المنارة» التي تزدحم بالشخصيات ذات الأدوار المختلفة، فهناك من يراقب البحر ومن يجهِّز المدفع ومن يحرس الأبواب، وغيرها، بشكل يجعلنا نشعر بأننا أمام أحد تصاميم منارة الإسكندرية. ويتكون هذا النوع من دُمى خيال الظل من قطعة واحدة أو اثنتين مما يجعله محدود الحركة. ويمكننا أن نفرق بين نوعين من الدمى التي كانت تستخدم في ذلك الوقت:
- القوصرة: هي عبارة عن تشكيل معماري توضع على يمين الشاشة وتتكون من قطعة واحدة.
- الدمى المتحركة: تتكون من قطعتين أو ثلاث قطع.
< اسمح لي أن نعود مرة أخرى لخصوصية دمى خيال الظل، إذ يبدو جلياً من بعض ما ذكرته الآن أن صناعة الدمى بلغت حداً كبيراً من الفقر في الصناعة قبل أن يعود هذا الفن بشكل حي أخيراً... ما الفروق أو الإضافات إلى هذه الصناعة اليوم؟
- بالفعل هناك اختلاف، فدُمى خيال الظل الحديثة يختلف تصميمها، حيث تعتمد على ستَّة عشر مفصلاً، وهو ما يُكسبها مرونة فائقة في الحركة، بالإضافة إلى الاهتمام بالألوان، وتُصنع الدمى الحديثة من جلد الحمار وهــو مــــا يعـــرف بـ «جلد الميتة»، ويتكون الرأس من قطعتين، وهو ما يتيح حركة الفك، وتتحرك من خلال عصِي تُثبت في الرأس وأخرى في كف الدمية. ولقد قمت، بشكل شخصي، باستعادة كل التصاميم القديمة لكثير من الدمى وأقمت عدداً من المعارض حول العالم في هذا المجال.
< ما الدور الذي قامت به فرقة «ومضة» لإحياء وإعادة عرض هذا الفن؟ 
- الحقيقة أن هذه الفرقة أنتجت قرابة 36 عرضا، جميعها من تأليفي وإخراجي، وقد سعت العروض لخلق لغة مسرحية خاصة بنا، إذ إنني منذ اللحظة الأولى أؤكد وأقول «إن لدينا ما يستطيع أن يعبر عنا»، وهذه الجملة هي شعار الفرقة. وكنت أتساءل: لماذا ظل المسرح غريباً عن بيئتنا؟ لماذا لا يتجه الناس بشكل تلقائي للمسرح؟ وكان الجواب لدي أن اللعبة الإيطالية غريبة عنهم، فنحن أبناء الفضاء المفتوح، الصحارى والحقول والأسواق، واللعبة الإيطالية صممت لتراعي ظروف بيئتها من برد قارص لا نجده عندنا. فالفنون التراثية تحمل شيفرة تلقائية بينها وبين شعوبها، لذا يكتظ الناس في الأسواق حول الأراجوز وغيره من أدوات الفرجة الشعبية، بينما تبقى المسارح خاوية في كثير من الأحيان، لذا اخترت أن يكون مسرحي هو مسرح الناس، أي مسرح المكان وليس ما فرض على المكان من دون وعي باحتياجات الناس وتراثهم، وجعلت من الراوي وخيال الظل والأراجوز لغة ومفردات مسرحية، وحرصت الفرقة على التوجه للناس. 
وأقامت الفرقة أيضاً مئات الورش خارج مصر وداخلها، وآلاف العروض في معظم دول العالم. فقد قدمت في أمريكا وحدها 121 عرضاً، شاهده أربعون ألف مشاهد، وقدمت الفرقة عروضها في اليمن والكويت والإمارات والأردن والبحرين وتونس، وكذلك في باريس وغيرها. أظن أننا كعرب لا نمتلك منتجاً بحجم الثقافة نستطيع أن نسوقه ونعتمد عليه، وأننا يجب أن نُفعِّل ثقافتنا كمصدر من مصادر الاقتصاد أيضاً.