عثمان الكعّاك مؤرّخاً للموسيقى الشعبية التّونسيّة

عثمان الكعّاك مؤرّخاً  للموسيقى الشعبية التّونسيّة

«صمت المؤرّخون عن التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والفنّي واعتنوا بوجه عام بأخبار الحروب وشؤون القصور، حتى جاء ابن خلدون فوضع علم التاريخ الحقيقي، لكنّه لم يطبّق نظريّاته في القسم التاريخي البحت من كتابه. ولولا علم الآثار وكتب المناقب والكنانيش وبعض كتب الطبقات لَمَا استطعنا أن نعرف شيئاً عن حياة الشعب خلال أطواره التاريخيّة. لذلك فالشعوب التي فقدت تواريخها الكتابيّة واعتمد الباحثون على آثارها، أظهرت معرفة وأبرزت حضارة مثل الحضارة الفرعونية التي نعرفها في أدقّ خصائصها بفضل الآثار».

تمثل هذه الأسطر ركيزة كتاب «التقاليد والعادات التّونسيّة»، الذي نعتمد على الطبعة الرابعة منه من نشر الدار التونسية للنشر سنة 1987،  بحيث جعل من الموسيقى الشعبية (الفولكلورية) زاوية لوصف ودراسة المشهد التاريخي للموسيقى بالبلاد التونسية، ويقترح في المقابل أن يطبّق هذا المنهج على مختلف أنواع الموسيقى العربية والإفريقية لإعادة كتابة تاريخها الموسيقي انطلاقاً من الفئات الاجتماعية البسيطة التي تملك الممارسة الموسيقية بعيداً عن كل بهرج ثقافي، وعن كل عوامل السياسة والتدخل الرّسمي، أي التي نجد فيها نسبة كبيرة من الصّدق والتّأقلم مع الواقع والتاريخ، التي لا تحظى في المقابل بالإجماع من حيث الأهميّة الثقافية الرسميّة. 
من هو عثمان الكعاك؟
ولد عثمان الكعاك بضاحية قمّرت بتونس العاصمة سنة 1903، وزاول تعلمه الثانوي بالمدرسة الصّادقيّة. وتحصّل على دبلومات في اللغات التالية: العربيّة والفارسيّة والحميريّة. كما يُحسن لغات عدّة منها: الفرنسيّة، الإنجليزية، الألمانيّة، الإيطاليّة، الإسبانيّة، البربريّة، الفارسيّة، التّركيّة، اليونانيّة، العبرانيّة. ودرّس بالخلدونيّة بداية من عام 1924، ثمّ انتقل عام 1926 ليتابع دراسته العليا بجامعة السّوربون في قسم اللغات الشرقية بالمعهد التطبيقي للدّراسات العليا، ثمّ بكوليج دي فرانس Collège de France. ومنذ عام 1928 انتقل للتدريس بالمدرسة العُليا للآداب واللغة العربيّة.
عموما، فإنّ التّرجمات المُخصّصة لهذا المؤرّخ الكبير قليلة ولا تليق بعراقة فكره وعمق أعماله وقيمتها الحقيقية على الرغم مما له من مساهمات في الحركة الثقافيّة والفكريّة بالبلاد العربيّة. واسمه غير مُدرج بالمرّة في قائمة من يُعتبر من المؤرّخين الموسيقيين، رغم كونه كتب بعمق عن الشأن الموسيقي بالبلاد التونسيّة.  
وهو في الحقيقة أحد أهمّ الباحثين التونسيين في تاريخ تونس بمراحله المختلفة وخاصة التاريخ القديم. له مقالات عدّة نشرت في المجلّة الزّيتونية العريقة، وبمجلات عربية مختصة، كما ذاع صيت محاضراته التي ألقاها في أطر مختلفة، وكانت جلّها تتمحور حول الفكر الإسلامي والمجتمعات العربية الإسلامية وثقافتها وتاريخها ولغتها وعمارتها، فنُشرت عام 1958 في القاهرة - كما يشير إلى ذلك الدكتور محمود قطاط- تحت عنوان «مراكز الثقافة»، في كتابٍ يحتوي على 134 صفحة. 
وقد شارك الكعاك في ملتقيات عالميّة وعربية عدّة ذات طابع ثقافي وتوفّي في إحداها بمدينة الجزائر في 16 يوليو  1976. كما صدر لعثمان الكعّاك في سلسلة «كتاب البعث» لسنة 1956 كتاب آخر مهمّ سمّاه «البربر»، توجد منه نسخة إلكترونيّة مماثلة لنسخة كتاب البعث. وكتب هذا المؤرّخ اللامع كذلك في المسألة الفلسفيّة في الإسلام، فصدر له بالدّار التّونسيّة للنّشر كتاب: «الفلسفة الإسلاميّة». كما نشر عملاً شائقاً حول بعض الجوانب الاجتماعية في تونس نجدها في كتابه: «التّقاليد والعادات التونسيّة» الذي سوف نأتي على بعض فقراته في ما سيتقدّم حول مسألة التّأريخ للموسيقى العربيّة بتونس.
تقديم كتاب التقاليد والعادات والتونسية
قسّم عثمان الكعّاك كتابه إلى مقدّمة وأربعة أبواب هي على التّوالي:
- الباب الأوّل:  مواضيع الفولكلور.
- الباب الثاني: الفولكلور التّونسي عبر التّاريخ.
- الباب الثالث: مصادر الفولكلور.
- الباب الرّابع: وسائل البحث عن الفولكلور.
وفي الحقيقة أنّ كلّ باب من هذه الأبواب له أهمّيّة من حيث إتيانه بجزئيّات الحياة الاجتماعيّة المادّيّة والعقليّة للشعب التّونسي، بعيداً عن الأحداث والحروب والفتوحات وقريباً في المقابل من نتائجها. وتُعتبر هذه الطّريقة في التّأريخ (أي التّأريخ انطلاقاً من عناصر الفولكلور) بابا شاسعاً يـُمكّن الباحث في مختلف الميادين من الانفتاح على سبل التعرّف على حقائق غير تلك التي قد يتوصّل إليها الواحد منّا فقط بتأويل النّصوص وإعادة قراءتها، (التي بدورها قد تُقدِّم لنا صورة من صور الواقع). 
ومصطلح «الفولكلور» – على أنّه كلمة لم تعد مستعملة بكثرة في الوسط العلمي- إلاّ أنّه يشير إلى أحد أهمّ أشكال التعبير الثقافي لدى المجموعات البشريّة، حضريّة كانت أو ريفيّة، وتضمّ أشكال هذا التعبير كلا من اللغة والموسيقى والرقص والألعاب والمعتقدات والأساطير والحرف بصورها العفويّة التي لا تتدخّل فيها ممارسات سياسية، وذلك داخل أطر مختلفة كالعائلة أو العمل أو الوطن أو القبيلة، تكتمل فيها صور هذا التعبير حسب متطلّبات الممارسة اليوميّة والأحداث الموسميّة.

قيمة الموسيقى الشعبية كعنصر من «الفولكلور» العام في بلورة تاريخ الشعوب 
أورد عثمان الكعّاك (1903-1976) إشارات عدّة حول ما يمكن أن يتعلّق بالمجتمع من عادات وتقاليد في مختلف مجالات الحياة العامّة كالمأكل والمشرب والعمل والدّين والموسيقى والرّقص، ممّا يجعل من الكتاب أثراً ذا أهمّيّة على مستوى التّأريخ الاجتماعي والفنّي. وفي ما يلي نورد الإشارات التي وردت عن الفولكلور الموسيقي (التراث الموسيقي الشعبي) بالبلاد التونسية في هذا الكتاب:
يذكر لنا عثمان الكعاك مجموعة من المصطلحات التي تنتمي للحقل الدّلالي للممارسة الموسيقية، وهي.
- الملزومة والعرف والمسدّس والقسيم
(الأزجال والتّواشيح والأوزان الشعبية)
- المالوف (موسيقى أندليسية)
- الفوندو والعرضاوي والجندوبي والمصمودي والصّالحي (الموسيقى الشعبية)
- سفينة مالوف طيبية أو سُلاميّة أو عيساويّة أو شاذليّة أو قادريّة (المالوف الذي في الجدّ)
فالواضح أنّ عثمان الكعاك يحاول اعتماد تصنيفات لممارسات موسيقية واردة في البلاد التونسية منذ عهد الموحّدين وما بعدهم، وهذه التصنيفات كانت تعتمد الأنماط الغنائيّة أو المنطقة الجغرافيّة (الأندلس) أو الفئة الاجتماعية (الموسيقى الشعبية) أو الإطار الديني أو الدنيوي (الذي في الجدّ).
وهذا التصنيف يوضّح في الحقيقة نوعيّة الممارسات الموسيقية التي تُلخّص في:
- المالوف الأندلسي.
- الأزجال والتواشيح والأوزان الشعبية.
- موسيقى مجالس الذكر الطرقي الصوفي.
من جهة أخرى يركّز الكعّاك على الموسيقى الشعبية فيقول ويكتب:
الموسيقى الشعبية:
ندرسها من حيث أشخاصها:
1 - بوسعديّة. 2 - مجالس الطـــــّرقيين. 3 - مجالس الحشاشين. 4 - جوقات المناسبات: الهلالو للختان، هزّان الفرش، تعليلة العروسة، التّصديرة. 5 - موسيقى المبيعات: باعة الغلال, «مشماش يا مشماش يا عذاب القايلة، تسني عليك بنت الجنّان والتّقريطة مايلة». باعة الزّهور، باعة المشروبات «صحلب شفا» 6 - الموسيقى الدّينيّة: المولديّة، المعراجيّة، الأختام، الآذان، التّحضير، السّمر بالصّوامع إلى غير ذلك. 7 - الموسيقى الكلاسيكيّة: (المالوف الأندلسي في الجدّ والهلس). 8 - الموسيقى المدنيّة: الفوندوات، الموشّحات، القصائد، العروبيّات، البشارف، موسيقى الصّناعات. 9 - الموسيقى القرويّة 10 - الموسيقى الريفيّة (بربريّة/عربية إلخ). 11 - المداح 12 – المُتسوّل. 13 - خلاّص الواحلين أو القوّال الشعبي. 14 - الرّبايبيّة النسائيّة.  15 - التّيجانيّة النّسائيّة». انتهى الاقتباس.
وهو بالتّالي يختار منهجاً يعمل على دراسة هذه الموسيقى من حيث:
- شخصيّاتها:  أي الرّموز البشريّة التي ارتبطت رؤيتها بممارسة موسيقى معيّنة (مثل «بوسعديّة»، تلك الشخصيّة الزنجيّة ذات اللباس الطّريف والتي ترقص وتحمل معها صنوجاً)، أو كلّ إنسان يمكن أن يساهم بعفويّة أو عن قصد باستغلال الممارسة الموسيقيّة في نشاطاته اليوميّة أو في المناسبات، ليضفي عليها جماليّة وحيويّة (مثل باعة الغلال والمــشـــروبـــــات/المتــــسوّل/القوّال الــــشعبي/المداح/ المتصوّف الطرقي).
- آلاتها: والمقصود مختلف الآلات الموسيقيّة المتداولة في تونس في مختلف الأوساط، في زمانه أو في ما مضى من القرون: ويذكر الكعّاك في هذا الباب آلات مختلفة يصنّفها إلى ثلاثة أقسام:
< الوتريّات: الكثيري، الرباب، العود، الكمان.
< آلات القرع: الدربوكة والطار والنقارات والطبل والبندير.
< آلات النفخ: الناي والقصبة والشبابة والفحل والسرناي.
- أصولها: يطرح الكعّاك من خلال هذا المصطلح قضيّة التّأثيرات المختلفة التي يمكن أن تخضع لها موسيقى البلاد التونسيّة بحكم التلاقح الحضاري الذي فُرض عليها بمنطق التوسّع والحروب تارة والوحدة العربيّة وما تخفيه من تنوّع تارة أخرى، وبالتالي فإنّ الموسيقى بتونس تعود إلى أصول متنوّعة بتنوّع الحضارات والشعوب التي سكنت المنطقة، لذلك هي - بصفة أو بأخرى - مزيج بين موسيقات:
«بربريّة، فينيقيّة، رومانيّة، عربيّة عبّاسيّة، فاطميّة، أندلسيّة، تركيّة، إفرنجيّة، مصريّة... إلخ».
- مجاميعها: هذا المصطلح منعدم الاستعمال في الوسط الموسيقي اليوم، والمقصود به المؤلفات المكتوبة الجامعة للشعر والأغاني التي كانت تغنّى في وقت مضى، أي هي كما جاء بقلم عثمان الكعّاك:
«السّفائن، الدّواوين، الحائك» (يقصد كنّش محمّد بن الحسن الحائك التطواني/القرن الثامن عشر الميلادي).
وقد جسّد الكعّاك جزءاً من الممارسة الموسيقية الشعبيّة (في تونس مثلا) في مناسبة العرس، إذ تتضح أهمّيّة «العرس» أو الزواج في تجلّي الظاهرة الموسيقية. وتتأكَّدُ أهمّيّة مثل هذه المناسبات عند أصحاب الطّرح الفقهي كذلك، منذ قرون. إذ إن «يحيى بن عمر الأندلسي التونسي» (القرن 3هـ /9م)  تحدّث في القرن التاسع الميلادي مثلاً عن بعض مواطن شرعيّة الممارسة الموسيقيّة في مناسبة العرس أو الختان. ويبدو أنّ عثمان الكعّاك يرجع بنا في طرحه إلى محور الحديث نفسه (لكن ليس من زاوية الفقه)، بحيث تتأكّد حقيقة علاقة عامّة الناس ومجالات احتكاكهم بالممارسة الموسيقية، وهي هنا الزفاف. وفي طقوسه المختلفة داخل العائلات، تتضح مواطن استغلال الموسيقى. 
وكأنّنا بعثمان الكعّاك هنا في موضع العالم الأثنولوجي أو الأثنوميزوكولوجي، إذ هو يعتمد منهجاً في التّأليف بعيداً عن الطّرح التّنظيري وأكثر استئناساً بالواقع الاجتماعي، بحيث تُدرس الموسيقى في هذا الطّرح داخل إطار عملي تطبيقي غير مُقنّن ويحمل خصوصيّات الموسيقى الشعبيّة بما فيها من عفويّة وتناقل شفهي. لذلك نرى هذا المؤرّخ يدافع بشدّة عن المادّة الفولكلوريّة عموماً فيردّ على كلّ محقّر من شأنها، قائلا:
«والحقيقة هي أنّ الفولكلور هو تراث الشعب المقدّس ومادّته العلميّة التي نعرف بها نفسيّته وأخلاقيّاته وعاداته، وهو جملة المميّزات التي تؤلف شخصيّته الوطنيّة. ولذلك قامت كلّ حركة قوميّة في أوربا والشرق وأمريكا على دراسة الفولكلور واعتباره المادّة الأولى في تحرير القوانين ومعرفة تاريخ الشعب ودراسة فنونه المميّزة له».