السيرة الهلالية والأداء الشعبي

السيرة الهلالية والأداء الشعبي

تعد السيرة الشعبية أحد فنون الفرجة الشعبية، التي ساهمت في التأسيس للمسرح العربي في العصر الحديث، من خلال الوسائل والتقنيات الأدائية التي يعتمدها المؤدي الشعبي على خشبة المسرح في أثناء تقديمه للنص السيري. فمخطئ من ينظر  إلى السيرة الشعبية على أنها مجرد نص يتناقله الناس جيلاً عن جيل؛ إذ إن جزءاً كبيراً من الأسباب التي ساعدت على المحافظة عليها طوال القرون الماضية، هو ارتباطها بالأداء التمثيلي المسرحي، فيما يُطلق عليه المسرح الشعبي، خاصة في غياب وسائل الإعلام التقليدية أو الحديثة، مثل التلفاز  والمذياع. 

ارتبط هذا الأداء التمثيلي للسيرة بالمقاهي لفترة طويلة، فكانت المقاهي العربية مجالاً رحباً، يعرض من خلالها المؤدي الشعبي نصه بوصفه عرضاً تمثيلياً مسلسلاً. وقد ارتبط هذا الأداء التمثيلي بفكرة البحث عن البطل المخلص، الذي تلتف حوله الجماعة الشعبية العربية؛ لإنقاذها مما حاق بها، بعد تقسيم المجتمع العربي إلى دويلات، وسقوط بغداد، وسيطرة المغول والتتار، ثم خضوع العرب لحكم الأتراك والمماليك. من هنا تشكلت فكرة البحث عن الخلاص من خلال البحث عن البطل الذي يثق به العرب، فيلتفون حوله، بعد أن ينسجوا حوله من الحكايات ما يرسخ لبطولته، مما يحمله من نسق قيمي يتماشى وظروف المجتمع العربي في فترة العصور الإسلامية الوسطى. ولقد كان فن السيرة الشعبية متماشياً، بوصفه فناً من فنون الفرجة الشعبية التمثيلية، مع هذه المتطلبات السياسية والاجتماعية. وكان هذا الجانب الأدائي التمثيلي هو عامل اعتمادها جماهيرياً. 

حلقات المقاهي
أما عن ارتباط هذا الفن الأدائي التمثيلي بالمقاهي، فإن «المقاهي» تمثل أحد الأشكال الاحترافية وأهمها في الماضي، التي كانت تؤدى فيها السيرة الشعبية، والتي حافظت على تناقلها بين الأجيال وبعضها البعض. 
فلقد كان الراوي (بحسب ما كان يُطلق عليه في مصر وبعض الدول العربية الأخرى) أو الحكواتي (بحسب ما يُطلق عليه في بلاد الشام) يقوم - في هذه المقاهي - مقام وسائل الإعلام الحديثة الآن؛ إذ كان يمتلك من المهارات الأدائية والتمثيلية ما يربط جمهور المقاهي به، الذي كان يتزايد على المقهى بسببه، مما يتسبب في زيادة دخل صاحبه. فلقد كان يقدم السيرة الشعبية على هيئة حلقات يومية متسلسلة، متعمداً التوقف عند مشهد مشوق، مما يزيد من ارتباط الجمهور بها، فيعمل على متابعتها في اليوم التالي؛ للتعرف على نتيجة المشهد الذي توقف عنده الشاعر في الحلقة السابقة.
 وكان الجمهور - مقابل ذلك - يدفع مقابلاً زهيداً من المال، وربما يكون المقابل مشروباً يتناوله هذا الشخص؛ لذلك كان صاحب المقهى يعطي الشاعر مبلغاً زهيداً من المال مقابل إنشاده السيرة.
 لذا كان أصحاب المقاهي يحسنون اختيار هؤلاء الرواة الشعبيين؛ ليضمنوا إقبالاً جماهيرياً على مقاهيهم.
 ويصف المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين طريقة أداء السيرة الشعبية في المقاهي في القرن التاسع عشر بقوله: «يجلس القاص فوق مقعد صغير في أعلى المصطبة، المقامة بطول واجهة المقهى، ويجلس بعض السامعين إلى جانبه، بينما يجلس البعض الآخر على مصاطب المنازل المقابلة في الشارع الضيق، والباقون على مقاعد من الجريد. وأكثرهم يدخن الشبك، وبعضهم يرتشف القهوة، وهم جميعاً يبتهجون أعظم الابتهاج بسماع القاص لقوة تمثيله، ولموضوع القصة» (لين، 1998، ج2، 65).
 أما عن الوقت المفضل الذي كان يُدعى فيه الشعراء إلى المقاهي، فكان شهر رمضان؛ حيث كان يقوم صاحب المقهى بالاتفاق مع أحد الشعراء لإحياء ليالي رمضان على مقهاه. فيقوم الشاعر بتقسيم السيرة إلى ثلاثين حلقة، هي عدد أيام الشهر، يحكي كل يوم جزءاً منها، ومع انتهاء الشهر يكون الشاعر قد انتهى من سرد أحداث السيرة. هذا الدور لعبته المقاهي مع السيرة الهلالية، ومع عدد من السير الشعبية النثرية الأخرى، مثل سيرة الظاهر بيبرس، وسيرة عنترة، والأميرة ذات الهمة، وسيف بن ذي يزن. وفي السنوات الأخيرة، اختفت معظم هذه السير الشعبية من الأداء الشفاهي، كما اختفى أداء الهلالية في المقاهي، وإن حل محله أداء الهلالية في بعض مؤسسات الثقافة الجماهيرية، مثل قصور الثقافة في شهر رمضان. هذا إلى جانب أدائها في مناسباتها الاجتماعية التقليدية، مثل مناسبات الزواج والختان.  

بين الهلالية المدونة والشفاهية
يمثل الحديث عن الأداء مصدر اختلاف بين الهلالية المدونة والشفاهية، حيث تعددت تعريفات الدارسين لمصطلح الأداء. وهي تعريفات تنطلق - في الغالب - من تعريف مصطلح الأداء بوصفه مصطلحاً عاماً، تاركة محاولة التوصل إلى وضع تعريفٍ خاصٍ له، إلى طبيعة النوع الأدبي الشعبي المدروس. والأداء- على حد قول Lauri Honko - «ليس مجرد مسألة إعادة إنتاج للنص المحفوظ كلمة كلمة... فالرواية - في الحقيقة - تولد من جديد مع كل أداء، خاصة تلك التي تُنْتج لتناسب مناسبات محددة» (Honko.1989. P.34). 
ويركز أحمد مرسي في تعريفه للأداء على الوضع الذي يتخذه المؤدي، فيعرفه بوصفه «وضعاً معيناً يتخذه الراوي أو المغني أمام الجمهور. هذا الوضع، يختلف بدرجات متفاوتة عن وضعه أو دوره في الحياة اليومية، وفي علاقاته مع الآخرين... ولكي يمكنه أداء أو تقديم حكايته أو أغنيته بالمعنى الذي نقصده، فإن عليه بالضرورة أن يتهيأ لذلك أو يتخذ الوضع الملائم الذي يتناسب مع غرضه... وبناء عليه تتحدد درجة الأداء وكفاءته» (مرسي، 1995، ص110). 
ويعرِّف محمد حافظ دياب أداء السيرة الشعبية بأنه: «فعل إبداعي، يقوم على استلهام تراث السيرة الشعبية، عبر تواصله الشفاهي، بوساطة التفاعل الحي بين مشاركيه، وبهدف تقوية إحساسهم بهويتهم ووحدتهم» (دياب، 2003، ج1، ص 81، 82).
 وهو تعريف لم يخرج عن دائرة التعميم ذاتها؛ إذ لم يلمس أي خصوصية من خصوصيات أداء السيرة الشعبية عامة، والهلالية خاصة. فالتعريف السابق يمكن أن نطبقه على أداء الحكاية الشعبية والأغنية الشعبية... إلخ. ولقد حاول دياب أن يلمس هذه الخصوصية في مواضع أخرى، خاصة عندما تحدث عن مكان الأداء وزمانه، وحين تحدث عن «الدِّكة» الخشبية أو الكرسي أو المقطورة، التي يتخذها الراوي مسرحاً له، وحين حدد فترة ما بين العشاء والفجر بأنها الوقت المناسب لأداء السيرة الشعبية (دياب، ص80). ولكي نتعرف على خصوصية أداء الهلالية، فلابد من الإشارة إلى أن أداء الهلالية المدونة يختلف عن الشفاهية، وأن أداء الهلالية عند المحترفين يختلف عن الهواة. فلقد انحصر أداء الهلالية المدونة في روايتها في المقاهي، في حين تعددت مناسبات أداء الهلالية الشفاهية ما بين أدائها في الحقول بين الفلاحين وقت الحصاد، أو في الموالد، أو الزواج أو الختان، على أن يكون هذا الأداء احترافياً مصحوباً بالآلات الموسيقية، فهذه هي مناسبات أدائها عند الشعراء المحترفين. في حين اقتصر أداؤها بين الرواة الهواة على حكيها داخل النطاق الأسري، أو النطاق الاجتماعي المحدود، كأن يحكيها الجد أو الجدة إلى الأحفاد، وذلك - بالطبع - من دون استخدام آلات موسيقية.

إنشاد وتمثيل أيضاً
وتنبغي الإشارة إلى أن أداء الشاعر لا يقتصر على الإنشاد فحسب، بل يقوم بالتمثيل على خشبة المسرح، وتجسيد أدوار الشخصيات المختلفة في السيرة، سواء كانت شخصية طفل أو امرأة، أو رجل كبير. وهو في ذلك يعتمد على جسده (اليدين والإشارات والإيماءات والعينين وتغيير نبرات صوته... إلخ)، أو من خلال الاعتماد على أحد أفراد فرقته الموسيقية، الذي قد يتقمص دور إحدى الشخصيات، أو من خلال الاعتماد على العصا التي يمسكها.     
إن أحد أسباب استمرارية السيرة الهلالية حتى وقتنا الراهن دون غيرها من السير الشعبية الأخرى، هو مرونتها وقدرتها على التعبير عن قضايا الواقع المعيش، هذا إلى جانب قدرة رواتها على الأداء التمثيلي الذي يؤدي إلى تزايد الإقبال الجماهيري عليها.
 ومما يدلل على مدى تمسك الجمهور بالسيرة الهلالية، نصا وأداء، تلك الحكاية التي حكاها لي الشاعر الشعبي الراحل سيد الضوي (1934 - 2016)، التي تذهب إلى أنه كان هناك شاعر في الصعيد يحكي قصة حرب الزناتي خليفة مع أبي زيد الهلالي. وكان هناك رجل فقير ينتمي إلى قبائل الأمارة، التي ينتمي إليها الزناتي خليفة، وذهب هذا الرجل إلى السوق ليبيع بقرته، آخر ما يملك، بسبب فقره الشديد. فعندما باع البقرة وذهب ليستمع إلى هذا الشاعر، وجده يحكي عن أسْر أبي زيد للزناتي خليفة، فما كان من هذا الرجل الذي يشجع الزناتي إلا أنْ أعطى كل ما معه للشاعر، متوسلاً إليه أن يفك أسر الزناتي خليفة. وبعد محاولات استجاب الشاعر وفك أسر الزناتي، فكانت فرحة الفقير غامرة. وعندما عاد هذا الرجل إلى زوجته، بلا نقود ولا طعام، وحكى لها عما حدث، راحت تزغرد وتهلل بالتصفيق فرحة بفك أسر الزناتي خليفة، حامدة لزوجــــها هذا الصنيع.