الموروث الشعبي السوري... تعايش مضطرب مع غبار التاريخ

الموروث الشعبي السوري... تعايش مضطرب مع غبار التاريخ

يتميز الموروث الشعبي السوري بغنى تنويعاته التاريخية والاجتماعية وتقاليده العريقة، وتأتي هذه التنويعات في نسيج عتيق متجدد في المسافات المفتوحة بين المدن القديمة والصحراء والجبال والساحل وضفاف الأنهار العريقة (الفرات والخابور والعاصي والضفة اليمنى لنهر دجلة)، وفي البيئات الطبيعية المختلفة والمؤتلفة كلياً أو جزئياً، وبين المدن والأرياف وما فيها من لهجات متقاربة أو متباعدة نسبياً، حيث انطوت حضارات قديمة وتركت أطلالها المتناثرة في كل الاتجاهات، كما تسربت عبر قرون من العزلة والانزياحات والغزو الخارجي والحروب الداخلية، في ما يسمى «عصر الانحطاط».

مؤثرات واسعة انعكست على نمط حياة الغالبية العظمى من المكونات والطبقات الاجتماعية الفاعلة والمهمشة معاً، وهي مؤثرات متخلفة ماتزال ماثلة في سورية وغيرها حتى اليوم، مع كل ما يقال عن الانتماء إلى جذور الحضارات القديمة والتمدن الشكلي المستجد، الذي يتعايش مع غبار التاريخ والجغرافيا، ومع ألوان التزمت الموروث، وتحريم ما لم يكن محرماً، في ما نراه، مثلاً، من بدعة تغطية وجوه النساء وأيديهن عند خروجهن من المنازل في المدن الكبرى، ولا نراه في المدن الصغرى أو المناطق الريفية أو البدوية، وفي ظاهرة موروثة أخرى تبرز حمى الفساد الإداري، وسوء العلاقة بين غالبية الموظفين وعامة المواطنين، واختلاط ركام القوانين المرتجلة الناظمة، أو المعيقة، للنشاطات المختلفة في شتى المجالات، وعلى رأسها الزراعة والثقافة والصناعة والتجارة، ثم الاتكاء على الإعلام بديلاً للعلم، وهذا ما يذكّرنا بطرفة ذكية للفنانة الكبيرة أم كلثوم في دمشق، التي دهشت حين سمعت أن اسم  شهر يناير في سورية هو «كانون الثاني»، وأبدت استغرابها من  تسمية الشهر الأول في السنة «كانون الثاني»، ولو أن أم كلثوم  مددت إقامتها لاكتشفت مفارقات مخترعة أكثر غرابة من كانون الأول وكانون الثاني، وأبرز تلك المفارقات ترييف المدن، بدلاً من تمدين الريف، الذي أدى نقص الخدمات فيه إلى هجرة نسبة كبيرة من سكانه إلى المدن.
 
تقاليد وأزياء
تختلط الأزياء الغربية بالأزياء الموروثة في الشوارع والبيوت ومواقع العمل، وتختلف حسب اختلاف السلوك وتدرجات التحرر والتزمت في نمط الحياة  في المدن الكبرى، مثل دمشق وحلب وحمص، أو المدن المتوسطة، مثل اللاذقية وطرطوس والسويداء ودرعا وحماة وإدلب والرقة ودير الزور والحسكة، وتضم المدن السورية أكثر من ثلاثين متحفاً منوعاً، منها أربعة متاحف للفنون والتقاليد الشعبية والصناعات اليدوية، في كل من دمشق (قصر العظم) وحلب وحماة وتدمر، وفي أوائل ستينيات القرن الماضي هاجر عدد كبير من الحرفيين والصناعيين البارعين، بينما هاجر كبار تجار الأقمشة، واستقر أكثرهم في شارع دمشق في الكويت التي هاجرت إليها عناوين الصحف المؤممة وهاجر معها عدد من كبار الصحفيين، ولم يبق في الساحة سوى ثلاث صحف متشابهة وأعداد كبيرة من الصحفيين المتشابهين الذين يعزفون على وتر واحد.

فنون مرئية
ظهرت منذ نهاية ستينيات القرن الماضي نشاطات مسرحية وسينمائية وتلفزيونية متواصلة، من إنتاج القطاع الخاص في موازاة نشاطات القطاع العام، برزت فيها شخصيات ذات طابع شعبي خاص، مثل دريد لحام (غوار) ونهاد قلعي ومحمود جبر وناجي جبر (أبو عنتر) وياسين بقوش وإغراء وهدى شعراوي، في مسرحيات وأفلام كوميدية وعاطفية متواصلة، مع نوع من المغامرات، وتميزت بينها مسرحيتا «ضيعة تشرين» و«كاسك يا وطن» من تأليف محمد الماغوط وبطولة دريد لحام، لما فيهما من نقد اجتماعي وسياسي لاذع، وأسس المخرج هيثم حقي، في حزمة من مسلسلاته المتميزة، لتيار مؤثر  بأسلوب نقل اللغة السينمائية إلى الدراما التلفزيونية، ودافع عن هذه الفكرة بتفاصيل موسعة في كتابه «بين السينما والتلفزيون»، وأضيفت تجربة المخرج حاتم علي إلى هذا التيار بمسلسلات باهرة، وبعد صعود الدراما التلفزيونية وانحسار صالات السينما توقفت أفلام القطاع الخاص تدريجياً منذ ربع قرن. 

تجديد الموروث الغنائي
في نهاية العقد السادس من القرن العشرين، جرت عملية توثيق شامل للتراث الغنائي الشعبي السوري، بالتعاون بين خبراء روس ومحليين، بتدوين كل النصوص الدارجة  في المناطق السورية، و«تنويط» ألحانها بإشراف مدير الموسيقى في وزارة الثقافة آنذاك الكاتب نجاة قصاب حسن، الذي عرض ملفات التدوين على الأخوين رحباني وفيروز، فأطلقوا في مراحل متواصلة موجات من أغاني الحب وتنويعاتها في الغزل والحنين والوجد والعشق والهوى والغرام والهيام، مضافة إلى الموشحات الأندلسية والقدود الحلبية وتنويعات «الشروقي والعتابا والميجنا»، ومختارات من شعر النابغة اللبناني سعيد عقل، الذي أثار ضجة مدوية في ستينيات القرن الماضي حينما طرح مشروع الكتابة العربية بالحروف اللاتينية، على غرار ما فعل أتاتورك باللغة التركية.      

الحكواتي إذا حكى
ازدهرت حرفة الحكواتي بعد انتشار المقاهي في المدن الكبرى، دمشق وحلب وحمص، منذ نهايات القرن الثامن عشر، وكان على الحكواتي أن يجذب جمهوره بالتمثيل والصوت والحركة، وإجادة فن الإلقاء والتشويق، واستخدم بعض الحكواتية التلويح بالسيف أو العصا لإثارة مشاعر المستمعين، وكانت أهم المقاهي تتسابق في اختيار الحكواتي الأفضل، وانحسرت نشاطات الحكواتي مع انحسار عدد المقاهي وانتشار البث التلفزيوني منذ الستينيات. ومن آخر الأخبار الطريفة أن امرأة اقتحمت أسوار المهنة في دمشق، هي الحكواتية الشابة نورا عجيب، فرحب بها المستمعون من النساء والرجال، ولم يصدر أي تعليق عن أي حكواتي معروف.
وإذا كانت ولادة الحمامات أبعد بمئات السنين من ولادة المقاهي فهما يشتركان في حركة الصعود والهبوط، وتشير البيانات الأخيرة إلى أن عدد الحمامات في دمشق كان ثمانية وخمسين حماماً، بين القديم والجديد، والحمامات في حلب كانت اثنين وستين حماماً، وأن ما بقي منها في هاتين المدينتين لا يتعدى الثلث، وهذا ما ينسحب على أعداد المقاهي القديمة والجديدة.
  
فن شعبي مبتكر
في موازاة الحكواتي الدمشقي برزت ظاهرة فنية مثيرة تتمثل في الرسوم التي أبدعها الرسام الفطري أبوصبحي التيناوي  (1884-1972) الذي ورث عن أبيه دكاناً في باب الجابية  لبيع الأدوات المنزلية، من الزجاج والمعدن والفخار، فكان أبو صبحي في البداية يزّين بضاعته بصور الطيور والزهور قبل أن يحترف الرسم على الزجاج والقماش في موضوعات من حكايات السير  الشعبية التي يسردها الحكواتي في المقاهي في سهرات متواصلة، وهي تقترب قليلاً من المنمنمات الشرقية ورسوم الفنان يحيى الواسطي لكتاب «مقامات الحريري»، ومن الموضوعات الأثيرة التي رسمها التيناوي هي نفسها الأثيرة لدى الحكواتي والمستمعين المحيطين به في المقهى: تغريبة بني هلال، عنترة بن شداد وعبلة، الزير سالم، الظاهر بيبرس، حرب داحس والغبراء، جميل بثينة. وكان الأديب السوري زكريا تامر سبَّاقاً في اكتشاف موهبة التيناوي، فكتب عنه مقالاً في مجلة التضامن اللبنانية، كشف فيه عن تفرده بجاذبية أسلوبه وألوانه وموضوعاته، ونظم أحد المعجبين معرضاً لأعمال التيناوي في بيروت، وذاع صيته، وصار دكانه مقصداً لهواة الفن الفطري، من السوريين واللبنانيين والعرب والسياح الأجانب المولعين بما هو غير مألوف في الفن، واستقرت إحدى لوحاته في متحف اللوفر بباريس، وكان التيناوي يمنح شخصياته وخيولهم وجمالهم ألواناً بهيجة ويملأ الفراغات في اللوحة بالزهور وأوراق الأشجار، كما يكتب اسمه وعنوانه الكامل في المكان المناسب. وترك التيناوي تأثيراً واضحاً على بعض الفنانين الجدد ورسامي الكاريكاتور، وورثت أسلوبه حفيدته الفنانة نجاح التيناوي. 

البحث عن العشب
من بيوت الشَّعر إلى بيوت الطين والأسمنت، ومن الرعي إلى الفلاحة والزراعة، انتقلت حياة البدو السوريين الذين ينتمون إلى فروع من قبائل كبرى أو عشائر صغيرة متفرقة، لها عاداتها العريقة وأزياؤها المميزة بالعقال على رؤوس الرجال والملفع على رؤوس النساء، من دون تزمت، ومنذ بداية خمسينيات القرن الماضي أتيحت لهم فرص التعليم، قبل أن يغادروا بيوت الشعر، وعند رحيلهم في الربيع، كان المعلم يرحل معهم، بصحبة لوح الكتابة الأسود الكبير، متدلياً من ظهر البعير مع الأمتعة الضرورية. 
     
سوالف الحريم
برعت الباحثة الإيطالية ليديا بينيتي في تشريح موروث القص الشفهي لدى النساء البدويات في الجزيرة السورية في محافظة الحسكة، فسجلت أربعين «سالفة» موروثة باللهجة البدوية، ونشرتها، كما هي، في كتاب بعنوان «من سوالف الحريم في الجزيرة السورية العليا»، صدر عام  2009 في دمشق، مع مقدمة مطولة باللغة الفصحى.
واكتشفت الباحثة أنها فهمت كل الكلمات البدوية الغريبة في الأربعين نصاً، إلا أنها لم تفهم عبارة تتكرر على ألسنة النساء في أثناء السرد هي «أنتِ بنتي»، وفي لقاء معها حول مشروعها، طلبت مني تفسيراً لهذه العبارة، فقلت لها إنها عبارة مألوفة في السرد النسوي، تعني «أنتِ مثل بنتي» وهي جملة اعتراضية خارجة عن النص، هدفها تأكيد الثقة والمودة والمصداقية في التواصل معك، فدهشت لهذا التفسير، وتدور هذه السوالف حول العلاقات العائلية والحب والحكمة والوفاء والخيانة والثأر والجن والسعلاة والحنفيش، إضافة إلى قصص الحيوانات.

الصبي الغزال
في عام 1946 نشرت مجلة تايم الأميركية في عددها الصادر في 9 سبتمبر خبراً مصوراً يبدو وكأنه خارج من قمقم الأساطير الشعبية وتناقلته الصحف العالمية، عن مجموعة من الصيادين في الصحراء السورية رأوا صبياً في العاشرة من عمره، كان يركض برشاقة وقوة مع قطيع من الغزلان، ولم يتمكنوا من اللحاق به، فاستعانوا بسيارة «جيب» عراقية عابرة، وحملوه معهم وسلموه للسلطات في دمشق، التي أودعته في مصح يشبه السجن، ورفضت طلبات مراكز بحوث أمريكية وفرنسية لاستقباله، لكنه استطاع أن يهرب فأعيد إلى المصح، وهرب مرة أخرى، وعاش متشرداً في أزقة المدينة القديمة، يسابق الريح والسيارات، واختفى في ظروف غامضة عام 1955، وهذا يتناسب مع عقلية الذين سجنوه، ومنعوه من تلبية طلب العلماء الذين سيفتحون له آفاق حياة جديدة.