المأثورات الشعبية... النظرية والتأويل

المأثورات الشعبية...  النظرية والتأويل

تأخذ أبحاث الفولكلور  في اللغة العربية أهمية خاصة، لأسباب متعددة، أهمها ما نراه ماثلاً في حاضرنا من تعدد التقاليد واللهجات بتعدد المــناطق أو الأقـــطار العربية، وإن كانت في جذورها البعيدة تمتد إلى أصل واحد، والمزاوجة الخاصة بـين الثقافــتين العربــية والإسلامـــــيـــة بتنويعاتها المختلفة التي تشكلت وترسخت على مدى قرون، ثم الالتباس في المصطلحات والمسميات الخاصة بدراسة الفولكلور، وتحديد سماته في المجتمعات المعاصرة، والأفكار والنظريات المستجدة في أعمال المفكرين والباحثين، على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم.

هذه الموضوعات وغيرها، وما تطرحه من أسئلة، كانت مدار دراسة الباحثة الكويتية د. حصة سيد زيد الرفاعي، في كتابها «المأثورات الشعبية  - النظرية والتأويل» دار المدى، دمشق - (214 صفحة).
ويُعنى هذا الكتاب بثلاثة جوانب مهمة، هي البعد الزمني، الدراسة المقارنة، النماذج التطبيقية (العربية عامة والكويتية خاصة)، تقول المؤلفة: «.. ما يزال عدد كبير من المعنيين بدراسة المأثور الشعبي في العالم العربي يستخدمون في مؤلفاتهم ويرددون مصطلحات لم تعد مناسبة لدراسة الأنماط الشعبية في عصرنا الحاضر، سواء ما يتصل بالجماعة الشعبية، (الفولك)، أو ما يتعلق بالإبداع الشعبي (اللور)، فالفولك هم العامة، الفلاحون، الطبقة الدنيا في المجتمع، البسطاء من الناس غير المتعلمين، أما اللور فهو القديم، الموروث، الأدب العامي، أدب القرية، الفن الشعبي، بقايا الماضي التي يجب إحياؤها».
يتوزع الكتاب، بعد المقدمة، إلى مجموعة من العناوين العريضة، هي: الفولكلور وقضية المصطلح، الفولكلور والعلوم الإنسانية، الفولكلور في الوسائط الجماهيرية: مظاهر التأثير والتأثر بين فن الإعلام والثقافة الشعبية، شعائر العبور في عادات وتقاليد الزواج التقليدي: نموذج من الكويت، الطب الشعبي، مفهومه وأنواعه وخصائصه.
إن مواكبة المتغيرات في دراسة الفولكلور، تعني مواكبة التطورات المختلفة للمجتمعات الإنسانية، كما أن تحديد المصطلح يعني الوقوف على أرضية صلبة لتشريح بنية هذه التطورات وصولاً إلى حقائق ونتائج واضحة وملموسة في الواقع الراهن.
في عام 1846م طرح الباحث الإنجليزي وليم جون ثومر مصطلح «الفولكلور» كبديل للمصطلح الشائع وقتذاك «الموروثات العامة» وظهرت بعد ذلك تفسيرات متعددة يحدد بعضها معنى طرفي المصطلح المركب: (فولك) ـ أي الشعب، (ولور) أي الإبداع.
وفي عام 1888م أُسست جمعية الفولكلور الأمريكية التي دأبت على دراسة وجمع موروثات الشعوب التي هاجرت إلى أمريكا الشمالية، واستعرضت الباحثة الأفكار المستجدة في دراسة الجماعات الشعبية وتحولاتها في القرنين التاسع عشر والعشرين.

الفولكلور والعلوم الإنسانية
مع كل الخصوصية التي يتمتع بها علم الفولكلور، فإنه ليس معزولاً عن العلوم الإنسانية، تأثراً وتأثيراً، فهو منفتح على العلوم الإنسانية في مجال تطبيق النظريات المنجزة ومناهج البحث الميداني.
 وكان الأخوان غريم، اللذان درسا في النصف الأول من القرن التاسع عشر التراث الفلاحي في ألمانيا والخرافات والأساطير الألمانية، مختصين في علم اللغة وعلم التاريخ.
ويبدو أن علم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) هو الأقرب إلى الفولكلور، من بين العلوم الاجتماعية، وعدَّ بعض الأنثروبولوجيين الفولكلور فرعاً أسموه الأنثروبوجيا الثقافية، بينما تشابهت أكثر مناهج البحث الميداني بين هذين العلمين.
كذلك تفاعل علم الفولكلور مع الأدب، حيث يوظف الأدباء والشعراء الأساطير والحكايات والتقاليد الشعبية كدلالات رمزية، وفي الشعر العربي الحديث كان بدر شاكر السياب سبَّاقاً في هذا المجال، ويبدو هذا واضحاً في قصيدته المطولة «المومس العمياء» التي حشد فيها أساطير إغريقية وبابلية وعربية، وفي الأدب العالمي كان شكسبير من أهم الذين استلهموا العناصر الفولكلورية في أعمالهم المسرحية، وثمة علاقات متينة ومتداخلة بين الفولكلور وعلوم اللغة والتاريخ وعلم النفس.

الفولكلور في الوسائط الجماهيرية
كان للتطورات المتسارعة في تقنية وانتشار وسائط الاتصالات الجماهيرية تأثيرات إيجابية في الحفاظ على أنماط من المأثورات الشعبية وترويجها على نطاق واسع، مع بعض التأثيرات السلبية المتمثلة في استغلال المادة الشعبية وتزييفها لأغراض تجارية أو سياسية، كما أن وسائط الاتصال لم تقض على الإبداع الشفهي، وكان لها دور في عصرنة الإبداع الشعبي وعرضه في حلة جديدة تتلاءم وروح العصر، فثمة علاقة متبادلة بين الثقافتين الشعبية والجماهيرية من خلال مرونة الفولكلور في التكيف مع ظروف الحياة الجديدة، ويبدو هذا واضحاً في التأثير الذي تتركه أفلام الكارتون ومسرح الأطفال والرسوم المتحركة على الأطفال، وتعلقهم بأبطال الحكايات التي يشاهدونها.

شعائر العبور 
في عادات وتقاليد الزواج التقليدي
فرض التطور والتوسع في المجتمعات الصناعية الحديثة متغيرات شاملة على النظام الاجتماعي وبنية العائلة، وأدى ذلك إلى تبدلات في الممارسات والطقوس الدينية، حيث تحولت تلك الطقوس إلى ممارسات فردية، يتعايش فيها الفرد مع تحوله الطبيعي من مرحلة عمرية إلى أخرى بمعزل عن الآخرين، وتتمثل شعائر العبور وما يصاحبها من ممارسات طقسية، كما رآها الباحث الفرنسي أرنولد فان جنب، في ثلاثة أنواع: 
- شعائر الانفصال: تصاحب انفصال الفرد عن فئة عمرية وانضمامه إلى أخرى.
- شعائر الانتقال: تصاحب تأهيل الفرد للانضمام إلى الفئة العمرية الجديدة.
- شعائر الاندماج:  وهي مجموعة الممارسات التي تصاحب دمج الفرد في مرحلة عمرية جديدة، ومنها طقوس الزواج.
وفي مثال تطبيقي تختار المؤلفة أنموذجاً حياً من شعائر العبور في عادات وتقاليد الزواج التقليدي في الكويت، حيث يشكل الزواج حالة تغير كامل في حياة العروسين في نطاق العائلة والعشيرة والقبيلة والبيئة المحلية، ويشمل هذا التغير الانتقال إلى منزل جديد، ووضع الزوج أمام مسؤولية إدارة البيت والعائلة، ووضع الزوجة كربة منزل مسؤولة عن تدبيره. وترصد المؤلفة الخطوات الاحتفالية والتنظيمية التي تصاحب الخطوبة والزواج، والأغاني التي تردد في حفل الزواج.

الطب الشعبي
يتناول الفصل الأخير من الكتاب الطب الشعبي، مفهومه وأنواعه وخصائصه، فالطب الشعبي يمتد بجذوره إلى العصور القديمة، وهو يأخذ لدى كل شعب طقوساً ومعالجات متوارثة مختلفة، ويرتبط بأنماط المأثورات الشعبية بعلاقات تكاملية، وكثيراً ما تكون ممارسته مصحوبة بتقاليد ومعتقدات وخزعبلات تعطيه هويته الخاصة، وورث العرب أنماطاً من الطب الشعبي في الحضارات القديمة كالفرعونية والبابلية والآشورية والفينيقية، وصولاً إلى ما يسمى بالطب العربي والطب الإسلامي، وكان للأطباء العرب دور بارز في تطوير علم الطب والمداواة.
 أخيراً... يمكن توصيف كتاب «المأثورات الشعبية، النظرية والتأويل» بأنه مرجع مهم في علم الفولكلور، وإضافة متميزة إلى المكتبة العربية، اجتهدت فيه المؤلفة في رصد المحلي والعربي والعالمي، القديم والجديد، وأعطت آراء جريئة في ما هو ملتبس، أو مختلط، بأسلوب علمي سلس، يخلو من التعصب والتزمت والأحكام المسبقة التي نجدها في بعض عناوين الكتب العربية ومضامينها الخطابية العتيدة.