ليليات صلاح عبدالصبور

ليليات صلاح عبدالصبور

الليليات هي جمع النسبة إلى الليلي، من حيث ما يشير إليه الليل بوصفه دالاً متكرراً لافتاً للانتباه في شعر صلاح عبدالصبور، ولذلك تتعدد مدلولاته وتتكاثر على امتداد القصائد في دواوينه الستة التي هي حصيلة الإنجاز الإبداعي للشاعر في مجال القصيدة الغنائية. 

لا غرابة في أن يغدو الليل رمزاً من الرموز الأساسية في شعر صلاح عبدالصبور، لا يقاربه من حيث التكرار سوى دال الحزن الذي يتكرر في قصائد صلاح عبدالصبور فيجعل منها 
- كما سبق أن وصفت شعره - تأملات حكيم محزون، حكيم يعلن لقارئه أن الأيام الجهمة جعلته قلباً جهماً، سلبته نعمة الفرح وموهبة الحب، وأورثته كآبة الحزن المقيم؛ فالليل هو الحزن أو ذلك الامتداد الذي لا نرى فيه نوراً يبدو كأنه بصيص من أمل.
وينبسط دال الليل على حقول دلالية عديدة: أولها الوحدة والوحشة، وثانيها الرؤية الهولية، وثالثها العوالم الفانتازية التي يهيمن فيها الوهم على رؤى الخيال، دافعاً إياه إلى اختراع صور لا معقولة أو عبثية (Absurd)  لعالم بلا عقل ولا معنى ولا حتى منطق. ولا يكاد دال الليل أو رمزه يقترب من لحظات تشبه الفرح أو الألم المقترن بانبثاق الضوء إلا في الأحوال التي يشف فيها الليل وتصفو سماواته، فتهبط على الشاعر بوادر الإبداع ولوامعه كأنها العطايا الحدسية التي تهبط على الشاعر من علٍ، كأنها لحظات الكشف التي يرتقي إليها الصوفي مرتحلاً في نوع من المجاهدة، كي يستنزل الرؤى الرهيفة التي يعني الوصول إليها أو تحققها في الكلمات نوعاً من الظفر. ومن ظفر وصل أو اتصل فيما يقول الصوفية.
وقد كان عبدالصبور في بداية حياته الشعرية يؤمن أن رحلة الشعر هي رحلة المعنى إلى الشعر وليست رحلة الشاعر إلى الشعر. وكان ذلك طبيعياً مع رؤيته الرومانسية في بواكير نظرته الشعرية إلى العالم، خصوصاً سنة 1952. ويذكر عبدالصبور في كتابه «حياتي في الشعر» أنه عبر عن ذلك في قصيدته «الرحلة» التي كتبها سنة 1952، والتي نجدها في أعماله الكاملة (ص 202-201):
الصبح يدرج في طفولتــــــــه
والليل يحــــبو حبو منــــــــهزم
والبدر لملم فوق قريـــــــــــتنا
أستار أوبـته، ولم أنــــــــــــــم
جام وإبريق، وصومعــــــــــة
وسماء صيف ثرة النعـــــــــــم
قد كرمت أنفاسها رئتـــــــي
وتعطرت أنداؤها بفمــــــــــــي
ونجيمة تغفو بنافذتـــــــــــي
لحظت شرودي لحظ مبتســم
وصدى لموال يعاندنــــــــــي
وحفيف موسيقى من الســدم
ورؤى، أنضّرها وأقطفهـــــا
وألُمها، ويذّرها سأمـــــــــــي
وعرائس تختال في حلمـــي
بين الدفوف وضجة النغـــــم
وأطل مأخوذاً فتبسُم لــــي
تيجانها، ويهزني ضرمـــــــي
وترودها كفي فيفجعــــــني
حِسُ الدمى، وبرودة الصــنم
قممي تنكرُ لي مسالكهــــا
من بعد إلفي روعة القمــــــــم
يا رحلة المعنى على خلدي
قَرّي بجدبي، عانقي عدمــــي
وإذا دققنا الأمر في دلالات القصيدة السابقة لاحظنا على الفور أنها قصيدة ليلية، فهي تبدأ من حيث انتهى الليل، لكن لا لكي تتحدث عما يأتي بعده من صباح، وإنما لتتذكر ما كان فيه من أحداث تقترن برحلة الإلهام إلى الشاعر. ولذلك تتحدث القصيدة عن البدر الذي يجمع ثيابه وأستاره كي ينطلق عائداً إلى حيث يوجد، كي يأتي الفجر ولكن الشاعر يظل متيقظاً، مستدعياً أحداث الليلة الفائتة ورؤاها على السواء، واصفاً هذه الأحداث كما لو كان يصف أحداث مجلس شراب يجتمع فيه الإبريق والصومعة وسماء الصيف المنعمة التي كرمت أنفاسها، كي تصيب بعدواها العطرة كل رئة تستنشقها، وكل فم ينطق في أجوائها غير بعيد عن هذه النجمة الصغيرة التي تغفو قرب النافذة، أعني النافذة التي يجلس أمامها شاعر شارد اللب ينتظر مقدم الإلهام أو الوحي إليه أو سقوطه عليه بالندى، كما يسقط عليه ضوء النجمة الصغيرة التي تعلو في السماء. وما بين هذا وذاك أصداء لترجيع موال، وحفيف موسيقى الأفلاك، ورؤى حدسية متناثرة كأنها الزهور التي لا تملك أصابع الشاعر إلا أن تقطفها وتلمها وتنظمها في كلمات، تتراقص أمام عين الخيال كأنها عرائس تختال الحلم، أو تتراقص بين الدفوف وأصوات الأنغام. ويظل الشاعر مأخوذاً بها، وتعتادها كفهُ التي تحاول أن تمسك بهذه الرؤى الطيارة، لكن هيهات، فالشاعر أصغر من أن يمتلك تنظيم رؤاه المنفلتة والجامحة بحكم صباه وعرامة أول الشباب في وعيه البكر. ولذلك لا يلقى سوى الألم على عدم قدرته على امتلاك الرؤى وتنضيدها كما لو كان يسير على قمم تتنكر له مسالكها، بعد أن ألف روعة هذه القمم ومجال المشهد فيها والأفق اللامتناهي من المشاهد الساحرة التي كان يحمله إليها خياله البكر، ومن ثم لا يملك سوى إطلاق هذه الصرخة المرتبطة برحلة المعنى إلى خلده (أو وعيه) مستخدماً فعل الأمر الذي يطالب فيه رحلة المعنى بأن تشهد بضعف قدرته على الخلق، وكأنها نوع من الجدب أو كأنها نوع من العدم الذي لا يتحول إلى حضور كامل للرؤى التي تهبط كالمعنى على الوعي الشعري الذي ينطوي عليه. ولكن مع نضوج شعر صلاح عبدالصبور وتحوله من الرؤى الرومانسية الملازمة لمراحل البداية، وانتقاله إلى مراحل التأمل الرمزي، تنقلب الحال وتتحول رحلة المعنى إلى الشاعر التي هي أشبه بهبوط الوحي أو الإلهام على المبدعين، فتنقلب إلى النقيض وتصبح سعياً من المبدع بوجه عام أو الشاعر بوجه خاص وراء المعنى أو وراء القصيدة التي تراوغه كأنها لحظة الحدس التي لا تمنح نفسها على نحو سهل، فلا تتكشف إلا بعد نوع من المجاهدة، لا يختلف كثيراً عن المجاهدة الصوفية فيما يحدثنا صلاح عبدالصبور نفسه.
وما دمنا قد دخلنا إلى رحلة المجاهدة الصوفية ومكابدة الصوفي المرتحل للوصول إلى لحظة الحدس أو الإشراق، فيتحول معنى الرحلة إلى رمزية من نوع خاص هي رمزية الإبداع التي يخرج فيها الشاعر طالباً عطاء الشعر، بعد أن ينزع عن نفسه كل شارات الحياة المشتتة لانتباهه، متجرداً كتجرد الحاج إلى قدس الأقداس، حيث حضرة الشعر. 
هكذا نقرأ على المستوى الرمزي قصيدة: «أغنية ولاء» التي هي ولاء خالص للشعر، تمضي على النحو التالى:
صنعت لك 
عرشاً من الحرير... مخملي
نجرته من صندل 
ومسندين تتكي عليهما 
ولجة من الرخام، صخرها ألماس 
جلبت من سوق الرقيق قينتين 
قطرت من كرم الجنان جفنتين 
والكأس من بللور
أسرجت مصباحاً 
علقته في كوة في جانب الجدار 
ونوره المفضض المهيب 
وظله الغريب
في عالم يلتف في إزاره الشحيب 
والليل قد راحا 
وما قدمت - أنت - زائري الحبيب 
والولاء الذي يتحدث عنه الشاعر هنا هو ولاء الشاعر للشعر، وبحثه عنه وما يبذله في سبيله من جهد وما يقدمه من تضحيات وأعمال لكي يصفو له الشعر أو يمنحه عطية من عطاياه: القصيدة. 
هكذا يستعين الشاعر بلغة متصوفة تعتمد على الرمز والتمثيل، فيتحول الشاعر إلى حضور مقدس لا يمنح نفسه أو لا يُسفر عن ضوئه إلا لمن يقدم له القرابين أو لمن يتخلى في سبيله عن كل شيء كي يرضى عنه هذا السيد الأوحد.
وتأتي لغة الرمز متجسدة في استعارات متتابعة تعتمد على التشخيص والتجسيد بفضل ما فيها من ترشيح أو كناية، فنرى في الأسطر الأربعة الأولى المُريد الذي يتقدم إلى القطب بما يمكن أن يرضيه من عرش مخملي من الحرير، مصنوع من خشب الصندل، محاط بمسندين يتكئ عليهما سيده الأوحد، فضلاً عن أرض من الرخام تبدو كأنها البحر، تتخلله صخور من ألماس. ومع ذلك كله جلب جاريتين مغنيتين كي تقطرا لهذا السيد المهيب قطرات يبلل بها ريقه في كأس من البللور. ولكي يكتمل المشهد، نرى مصباحاً يعلق في كوة بجانب الجدار كي يلقي الضوء على عالم لا يبين إلا من وراء الرموز الذي تشف عنه، والزمان هو زمان الليل الممتد الذي يقترب من فجره، ولكن القطب الأكبر الذي أغوى تابعه الصغير بالحضور لم يحضر ولم يَشف عنه ضوء أو يبدو منه بعض ما ينم عنه حتى من وراء ستار، وعندئذ يدرك الساعي أن مسعاه الأول قد خاب، وأن الرحلة قد تاهت في الصحراء، وأن المجاهدة الأولى للرحلة قد فشلت. ولكن ليس في هذا المجال من سبيل إلى اليأس، وإنما إلى معاودة الرحلة مرة أخرى وتكرار المجاهدة بما يجعلنا نقرأ بقية القصيدة التي تقول:
هدمتُ ما بنيت 
أضعتُ ما اقتنيت 
خرجتُ لك 
علِّي أوافي محملك 
ومثلما ولدتُ - غير شملة الإحرام - قد خرجت لك 
أسائل الرواد 
عن أرضك الغريبة الرهيبة الأسرار 
في هدأة المساء، والظلام خيمة سوداء 
ضربت في الوديان التلاع والوهاد 
أسائل الرواد 
«ومن أراد أن يعيش فليمت شهيد عشق»
أنا هنا ملقى على الجدار 
وقد دفنتُ في الخيال قلبي الوديع 
وجسمي الصريع 
في مهمه الخيال قد دفنت قلبي الوديع 
يا أيها الحبيب
واضح من الأسطر السابقة أن الشاعر بعد أن أدرك فشل المجاهدة الأولى، يبدأ بالمجاهدة الثانية، ولكنه يعود إلى رمزية الرحلة مرة أخرى، تعبيراً عن السعي وراء الشعر، أو الحصول على الظفر من وراء المجاهدة، فيخرج معتمراً كما لو كان يذهب إلى الحج يسأل الشعراء السابقين عن أرض معبوده (الشعر) الغريبة، الرهيبة الأسرار. والمجاهدة تبدأ من هدأة المساء، عبر الامتداد المكاني لليل، حيث يبسط الظلام أستاره على الكون كله، فلا يبقى سوى التخبط في الظلام عبر الوديان والقلاع والوهاد، سائلاً الذين سبقوه في الرحلة عن علامات تدل على الطريق، دون أن يفقد الأمل أو الإرادة أو العزيمة، فمن أراد أن يعيش في عالم الشعر حقاً، فليمت شهيد عشق الشعر. وها هو الشاعر المرتحل إلى الشعر يدفع الثمن، فيبدو ملقى على جدار منهك، دافناً في الخيال قلبه الوديع، وجسمه قد أضناه الوجع بعد أن دفن قلبه في صحارى الخيال التي لا نهاية لها، لا يملك إلا أن يصرخ في فضاء عالمه الأوحد: الشعر. ونقرأ:
معذبي يا أيها الحبيب 
أليس لي في المجلس السني حبوة التبيع؟
فإنني مطيع 
وخادم سميع 
فإن أذنت، إنني النديم في الأسحار 
حكايتي غرائب لم يحوها كتاب 
طبائعي رقيقة كالخمر في الأكواب 
فإن لطفت هل إليّ رنوةُ الحنان؟ 
فإنني أدلُّ، بالهوى على الأخدان
أليس لي بقلبك العميق من مكان؟
وقد كسرت في هواك طينة الإنسان 
وليس ثمّ من رجوع....
ويبدأ القسم الأخير من القصيدة بابتهالات إلى الحبيب، هذا الرمز الذي استخدمه الصوفية كثيراً لكي يعبِّروا به عن الوجود المطلق، فينقله عنهم الشاعر المتأثر بهم كثيراً، الذي أحال مجاهداتهم إلى رمز من رموزه الأثيرة في تصويره رحلة الشاعر إلى المعنى أو مجاهدة الشاعر كي يصل إلى اللحظة التي تتكشف له فيها القصيدة كأنها الوجود الحق، أو الحقيقة التي تضيء للشاعر معنى الوجود أو تكسبه قيمة الحضور في العالم، ولذلك لا يتردد الشاعر في أن يبحث عما يجعل الشعر يحبوه به من عطاياه، بعد أن بايعه بكل ما يملك وما في مُكنته، مؤكداً أنه تابع مخلص وأنه خادم مطيع، فهو - إن أذن الشعر - نديمٌ في وقت السحر، يحكي حكايات عجيبة لم يحوها كتاب. وطبعه رقيق كالخمرة الصافية، وهذه صفة دالة على غيرها من الصفات التي قد تدفع السيد الأكبر أو الحبيب الأوحد إلى أن يفتح مكاناً في قلبه لطالب العطاء، بل ما يزيد على العطاء، فهو يطلب أن يفسح له السيد الأوحد مكاناً في قلبه العميق، خصوصاً أنه تخلى عن كل شيء في سبيل القرب من المحبوب، أو الوصول إلى الوجود المطلق لحضرته، وذلك دون ندم أو رجوع، فها هو الشاعر المتوحد، وحيداً مع السيد الأوحد الذي هو الشعر. والقصيدة كلها ليلية من مطلعها إلى خاتمتها، نرى علامات الليل في المصباح المفضض المهيب في قسمها الأول، ويبسط هذا المصباح نوره الرقيق على القصيدة إلى نهايتها، حيث هذا الإعلان الكامل بالولاء المطلق للشعر الذي لا يرضى لمن يمشي وراءه أن يبحث عن سيدين في وقت واحد، لا يتغير في كل الأحوال أو الأوقات. وبالفعل لا يبخل هذا السيد الواحد الأوحد على تابعه المخلص الذي يقول في المحطات الأخيرة من مجاهداته، هذا السطر الدال: «لم يسلم لي من سعي الخاسر إلا الشعر».
لكن ليل الإبداع الرمزي لا ينتهي عند هذا الحد، فإننا يمكن أن نراه في قصيدة «رحلة في الليل» التي تتصدر ديوانه الأول «الناس في بلادي» (يناير 1957)، وحضور الليل يفصح عن نفسه بوضوح في عنوان القصيدة التي سبق لي أن تناولتها بالتحليل في كتابي «رؤى العالم». 
ولكني أتوقف عندها من منظور ارتباط الليل بالإبداع، خصوصاً في اقترانه بمعنى الظلام، وأتوقف عند مقطع هذه القصيدة الذي يذكرنا عنوانه وهو «بحر الحداد» بشخصية السندباد المقترنة بمعاني الإبحار المتعددة في شعر صلاح عبدالصبور. 
ونقرأ في المقطع الأول:
الليل يا صديقتي ينفضني بلا ضمير
ويطلق الظنون في فراشي الصغير 
ويثقل الفؤاد بالسواد
ورحلة الضياع في بحر الحداد
فحين يقبل المساء، يقفر الطريق 
والظلام محنة الغريب
وهذ المقطع يبدو أنه بدء استهلالي للرحلة التي يمضي فيها المرتحل، تواجهه بالطبع صعوبات البداية في رحلة الإبداع، حيث يكون كل شيء بلا معنى، مظلماً كل الإظلام كالليل الذي يثقل الفؤاد بالسواد، فيبدو كأنه رحلة ضياع في بحر من الحداد، حيث لا يوجد سوى الموت الذي يخلو من الحياة. وعلى المستوى الآخر، تقفر الطرق، وتنفض مجالس السمر، ولا يبقى سوى الظلام الذي لا يرى فيه أحد، والذي هو - حقاً - محنة الغريب الذي لم يتعود على أي شيء بعد، كأنه الشاعر الذي يبدأ أولى مراحل المجاهدة بما يشبه الجهل المطلق الذي هو كالعمى المطلق في حلكة الظلام. ولكن إذا مضى هذا المرتحل، وصبر على المجاهدة فإنه يبحر في رحلة أشبه برحلة السندباد. والسندباد هو عنوان المقطع الرابع في القصيدة، حيث نقرأ:
في آخر المساء يمتلئ الوساد بالورق 
كوجه فأر ميت طلاسم الخطوط 
وينضح الجبين بالعرق 
ويلتوي الدخان أخطبوط 
فى آخر المساء عاد السندباد 
ليرسي السفين 
وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم
ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم
والدلالة لافتة في السطر الأول حيث نقترب من آخر الليل، فنرى هذا الورق الكثير الذي يملأ وسادة الشاعر أو مكتبه على السواء. وتبين خطوط الكتابة على الورق المتناثر في كل مكان الجهد الذي بذله الشاعر في الكتابة، 
وكيف نضح بالعرق والتوى دخان سجائره في أشكال مختلفة كأنها أخطبوط أو ما أشبه، وهي صورة تكشف عن أن السندباد خاض رحلة إبداع كالعذاب، أو خاض عذاباً ليلياً كأنه رحلة إبداع. ولا تنتهي الرحلة في بحر الإبداع إلا مع انتهاء الليل أو في آخر المساء، حيث ترسو السفينة. ويعرض الشاعر كالسندباد نتاج ما غنمه في إبحاره أو في رحلته على الندماء في مجالس الندم التي هي مجالس الحياة مع الأسف، فالوجود في الحياة نفسه وجود ثقيل على الشاعر الذي لا يعجبه العالم ولا يراه محققاً لأحلامه، ولذلك يجلس فيه مع أصدقائه كما لو كان يجلس في مجلس للندم. ولكن مجلس الندم هذا لا يعني أن يحكي الشاعر لأصحابه عن كل شيء، لأن الحلاج - وهو سندباد آخر - قد سقط بسبب زهوه، ولأنه أعلن للناس عن سر من أسرار علاقته بخالقه في تجلياته الصوفية، مفتخراً ومزهواً به. فكانت سقطته الكبرى، ولكن السندباد أو الشاعر من ناحية أخرى لا يمكن أن يبقى من دون معرفة، إنه جائع للمعرفة الجديدة، باحث عن آفاق لا تنتهي، جواب آفاق لا تخوم لها، ولذلك فهو كالسندباد، والسندباد كالإعصار، إن يهدأ يمت. ولكن السندباد أو الشاعر يبدو مقدوراً عليه ألا يكف عن السعي وراء الشعر كالسندباد الذي لا يكف عن الارتحال في دروب المعرفة، حتى لو كانت نتيجة هذا السعي - الذي لا يعطي ثماره في كل الأحوال - هي الموت.
ويتكرر مجلس السندباد الذي هو أحد أقنعة الشاعر - مرة أخيرة - في قصيدة «أغنية حب» التي هي وجه آخر من «أغنية ولاء»، حيث نقرأ:
صنعت مركباً من الدخان والمداد والورق
ربانها أمهر من قاد سفينًا في خضم
جبت الليالي باحثاً في جوفها عن لؤلؤة
وعدت في الجراب بضعة من المحار
وكومة من الحصى وقبضة من الجمار
وما وجدت اللؤلؤة
سيدتي، إليك قلبي، واغفري لي... أبيض كاللؤلؤة
والحديث في المقطع السابق عن رحلة للبحث عن اللؤلؤة التي هي القصيدة، وعندما لا يجد الباحث هذه اللؤلوة في البحر، فإنه يجدها في قلبه الذي يغدو كأنه القصيدة، أو تبدو القصيدة كأنها إياه.